نجيغو وا ثيونغو: الأنظمة القمعية لا تريدك أن تتخيل إمكانات عوالم مستقبلية مختلفة في السجن كتب أشهر رواياته على ورق المرحاض
في العام الماضي، عندما دخل الكاتب الكيني «نجيغو وا ثيونغو» قاعة محاضرات مكتظة عن آخرها في جامعة ويتواترسراند في جوهانسبرغ، قوبل بترحيب حار، فهتف الجمهور باسمه ولوحوا بأياديهم، فبعد أكثر من 50 عامًا من نشر روايته «لا تبكِ أيها الطفل» وهي أول رواية تنشر باللغة الإنجليزية من جانب كاتب من شرق إفريقيا، ما زال ذاك النجم الأدبي وصاحب الامتياز الدائم للظفر بجائزة نوبل للسلام. ولد نجيغو في أحضان عائلة كبيرة من الفلاحين في عام 1938م في ليميرو بكينيا، في ذروة ثورة الماو ماو. تلقى تعليمه في المدارس الابتدائية بكينيا، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة ماكيريري بأوغندا وجامعة ليدز بإنجلترا. نُشرت روايته الأولى، «لا تبك أيها الطفل» في عام 1964م، ووُزعت على نطاق واسع، وهي تؤرخ لانتفاضة الماو ماو. وسرعان ما ألَّف روايتيه الثانية والثالثة «النهر الذي يفصلنا» (1965م) و«حبة قمح» (1967م).
بعد غياب دام 10 سنوات، نشر نجيغو «بتلات من الدم» في عام 1977م، وألحقها بمسرحيته «سأتزوج عندما أريد» حول عدم المساواة والظلم في المجتمع الكيني، مكتوبة بلغته الأم الكيكيو، اعتقلته الحكومة وسجنته، واعتزل داخل السجن اللغة الإنجليزية كلغة أدبية والتزم الكتابة بالكيكيو، وكتب سرًّا، في زنزانته على الشيء الوحيد المتاح وهو قطع من ورق المرحاض، روايته «الشيطان فوق الصليب» سنة 1981م لتترجم في السنة اللاحقة إلى الإنجليزية. وبعد عودته من منفاه في كينيا سنة 1982م، ارتحل نجيغو إلى الولايات المتحدة، حيث أقام ودرَّس لأكثر من ثلاثة عقود، مشيدًا ذاته كمنتقد شرس للإمبريالية الغربية والليبرالية الجديدة. وتميز نجيغو في الثمانين من عمره بالدفء والبشاشة والسخاء. وأجريت محادثتنا هذه في جلستين، في مركز هابيتات الهندي في نيودلهي. جرى تنقيح المقابلة وإيجازها من أجل جلاء المعنى.
● في عام 1977م، قمتَ بنشر «بتلات من الدم» وهي رواية تدور أحداثها حول انتفاضة فلاح في المجتمع الكيني ما بعد الاستعمار. ومباشرة بعد ذلك، قمتَ بنشر مسرحية مثيرة للجدل «سأتزوج عندما أريد» بلغتك الأم الكيكيو. هل اخترت كتابة المسرحية بهذه اللغة بسبب فشل «بتلات من الدم» في التواصل مع الأشخاص الذين كتبت عنهم؟
■ هذا صحيح، هناك حقيقة لا مفر منها في إفريقيا، وهي أن تسعين بالمئة من السكان يتحدثون لغات مختلفة، وإذا ما وافقتني الرأي فهؤلاء هم محركات التغيير، وبالتالي فإن مسألة امتلاكهم المعلومة والمهارة مهم جدًّا. عندما تكتب رواية باللغة الإنجليزية – بغض النظر عن مدى رجعيتها أو تقدميتها- فإنها لا يمكن أن تصل إلى الناس إلا بطريقة مجزأة.
● هل ابتغيت اندلاع انتفاضة من نشرك للرواية؟
■ لا، على الإطلاق، فمن وجهة نظري أن الفن لا يعمل على التحريض بل يُعمل الخيال. الخيال يعبد طريق الممكن لكل ما نفعله كبشر، يمكننا تصور كل الإمكانات المتاحة ومحاولة تحقيقها في الواقع العملي. ما الذي يغذي الخيال؟ إنها في واقع الأمر الفنون والأغاني والثقافة. والمشكلة المتمثلة في الأنظمة القمعية هي أنها تكبح جماح الخيال. إنهم لا يريدونك أن تفكر أو تتخيل إمكانيات عوالم مستقبلية مختلفة. إنهم يريدونك أن تعتقد في أنك تعيش في أحد أفضل العوالم الممكنة، مثلما صرحت بذلك إحدى شخصيات فولتير في روايته «كانديد»: «أوه! إنه الأفضل من بين جميع العوالم الممكنة»، وهكذا اعتادت مؤسسات الرق أن تقنع الناس في أنه أفضل ما في جميع العوالم الممكنة. وبالتالي، فإن التأليف باللغة الإنجليزية أو تأكيد أن الآداب لا يمكن أن تزدهر إلا في ربوعها يسهم في كبح جماح الخيال عند غالبية الناس.
● في عام 1978م، بينما كنت سجينًا في سجن كاميتي مشدد الحراسة، كتبت أحد أشهر كتبك «الشيطان فوق الصليب» بلغة الكيكيو على ورق المرحاض، ما مدى صعوبة تأليف كتاب كامل على هذا النوع من الورق؟
■ لقد وُضِعت في السجن بسبب مسرحيتي «سأتزوج عندما أريد» التي نشرت بلغة الكيكيو ولعب الفلاحون أدوارها، أتذكر أنها صُودِرت في نوفمبر من عام 1977م، وفي 31 ديسمبر من عام 1977م وجدت نفسي ملقًى في سجن مشدد الحراسة، في تلك الآونة فكرت بجدية حول إشكالية اللغة، وأدركت وأنا أطالع تاريخ الاستعمار أن المستعمِر لا يكتفي فقط بفرض لغته بل يعمل على إنكار لغات المستعمَر ويبخسها ويستصغرها ويقمعها، لذا فإن ظروف تعلم اللغة الإنجليزية كانت هي ذاتها معوقات عدم تعلمنا لغتنا، التي امتدت عبر حقبة ما بعد الاستعمار. وقررت الكتابة بلغتي الوطنية التي سُجنت بسببها في سجن كاميتي من طرف حكومة إفريقية، كجزء من مقاومتي.
● هل كانت هذه هي لحظة الحقيقة لك؟
■ أجل…، لقد جعلني أشعر كأنني أقاوم. كان من الممتع أن أكتب بينما لم يتوافر لدي ورق للكتابة، كل ما كان متاحًا هو ورق المرحاض، وفي بعض الأحيان أحصل على قلم من سلطات السجن لادعائي أني أكتب نوعًا من الاعتراف – لا أعلم ما الذي كان عليَّ أن أعترف به.
● كيف تمكنت من إخفاء كتاباتك عن سلطات السجن؟
■ اعتدت على إخفائها في العراء، سُمح لنا بالآلاف من قطع أوراق المرحاض، التي كانت تقدم على شاكلة حزم، وكانت موجودة بوفرة. وفي إحدى المرات كدت أن أفقدها، وهو ما ذكرته في مذكراتي التي نُشرت في شهر مارس من هذه السنة تحت عنوان «مصارعة الشيطان».
● لقد وصفت اللغة بأنها «ساحة المعركة»، ووصفت نفسك بـ«محارب اللغة»، هل من الممكن أن تحدثنا باقتضاب عن ذلك؟
■ هناك أمثلة كثيرة مستقاة من أنظمة الاستعمار الحديثة تؤكد أن اكتساب لغة المستعمِر قائمة على ضمور لغات المستعمَر؛ ومنها ما عاشه الإيرلنديون في ظل الاستعمار البريطاني، وإذلال السكان الأميركيين الأصليين وبَخْس لغتهم والحط منها، ومنع الأفارقة التحدثَ بلغتهم، وفرض اللغة اليابانية على الكوريين؛ هكذا صارت اللغة ساحة معركة. أما في الهند، فقد كان ماكولاي صادقًا وبوحشية في التعبير عن رغبته في خلق طبقة من الهنود يتحدثون الإنجليزية، وتوظيفهم في استتباب الحكم على بقية السكان. وهو تمامًا ما يلاحَظ في إفريقيا وفي أي مكان طاله الاستعمار. سُلِّحت اللغات الإفريقية ضد الأفارقة. كانت اللغة سلاح حرب سواء كنا نتحدث عن الإسبانية أو البرتغالية في أميركا اللاتينية أم الفرنسية في إفريقيا وفييتنام. شكلت اللغة عنصرًا مهمًّا في غزو المستعمر وصيانة حكمه الاستعماري، وذلك عبر غسل أدمغة الطبقة الوسطى.
حلم المستعمر
● هل تعتقد أنه بمجرد أن تتقن لغة ما، فإنها تصبح ملكك، وأنه يمكنك ترويضها لتحرير نفسك حتى لو تعرضت للقمع من جانبها؟ في واحدة من الرسائل التي بعثها ف. س. نايبول إلى والده، وهو طالب شاب من جامعة أكسفورد أورد قائلًا: «أود أن أتخرج الأول في دفعتي، يجب علي أن أُظهِر لهؤلاء القوم أنني أستطيع هزيمتهم في عقر دارهم بإتقاني للغتهم».
■ هل كتبها نايبول حقًّا؟
● أكيد.
■ ولكن هذا هو حلم المستعمِر، وغالبًا ما يعبرون عن سعادتهم بقولهم: «لقد تبنوا لغتنا لدرجة أنهم باتوا ينافسوننا فيها» نايبول في الواقع يتقن اللغة الإنجليزية، وأنا شخصيًّا ليس لدي أي مشكلة في ذلك، وتعجبني رواياته، غير أنه ما يقلقني هو أننا بطريقة ما نمضي قدمًا بلغات الثقافات التي مارست علينا القمع، وهذا لا يجوز. إن ما فعله نايبول أو ما فعلته في روايتي «بتلات من الدم»، حقًّا هو إغناء اللغة الإنجليزية وتقويتها. لا ضير في أن نجعل من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية لغاتنا. يستطيع أي كاتب أن يتبنى لغة ما، ولكن لا يمكن أن تقنعني أن جوزيف كونراد، على سبيل المثال، كان بطريقة ما يغني اللغة البولندية (لغته الأصلية) بتبنيه الكتابة باللغة الإنجليزية.
● لقد أشرت إلى استخدام اللغة كسلاح من جانب المستعمِر، وفي السياق نفسه، هل تعتقد بإمكانية استخدام المستعمَر للإنجليزية كسلاح، مثلما أقر بذلك غينوا أتشيبي «كنموذج مضاد للاستعمار»؟
■ في روايته «أشياء تتداعى» شاهدنا إسهامه القوي في التوعية بقمع الثقافات. لا يجوز أن نغفل عن المساهمة الفعلية للكتاب والمثقفين من العالم الثالث الذين يكتبون بالإنجليزية أو الفرنسية أو ما إلى ذلك. لكن تلك الطفرة النوعية التي لا أتفق معها هي أنه بطريقة ما يسهمون في تقدم اللغات الأخرى أو أنهم يجعلون من الإنجليزية لغة الأفارقة، وهم الذين يملكون لغتهم الخاصة. وتقع المسؤولية على عاتق المثقفين الأفارقة في المضي قدمًا بلغتهم وتطويرها، وحينما يهجرها المثقف بامتهانه الكتابة بلغة غيره، فإنه يترك اللغة في أيادي غير أمينة.
● صرح ج. م. كوتزيه ذات يوم أن اللغة الإنجليزية حررته من نظرة اللغة الأفريكانية الضيقة للعالم، غير أنه، في الشهر الماضي، ارتد عما قاله في مهرجان هاي في كولومبيا، معبرًا عن خيبة أمله في أن «هيمنة اللغة الإنجليزية، وسيطرة كل من البريطانيين والأميركيين على مجال الأدب العالمي يجب أن تنتهي» وصرح أيضًا أن «الإنجليزية ليست لغته مثلما هي لغة شكسبير».
■ هل حقًّا قال هذا؟
● حتمًا.
■ إنه تحول مهم جدًّا. إذا كان من المفيد للمثقفين الأفارقة تطوير أعمالهم بلغاتهم الخاصة فلا ضرر إن كتب بعضهم بلغة أخرى. لم تؤثر كتابة كونراد باللغة الإنجليزية في كتلة المفكرين البولنديين الذين يكتبون باللغة البولندية، لكننا بصدد الحديث عن وضع تفشى فيه امتهان جماعة المثقفين الكتابة باللغتين الإنجليزية أو الفرنسية في مجالات متعددة ضمت الزراعة والطب، ومثلما أُعِيدتْ صياغة النظام القانوني بهاتين اللغتين، عندما يتواصل غالبية الناس بلغات مختلفة فإن ذلك يمثل مشكلة بالفعل.
● كتبتَ في مذكراتك «أحلام في زمن الحرب»: «دائمًا ما نلتفّ حول من يروي لنا حكاية، وصار أولئك الذين يجيدون سردها أبطالًا في أعيننا»، هل يمكن الحديث عن انجذابك نحو ثقافة الحكي وتأثرك بها في نشأتك؟
■ لكل مجتمع ثقافة الحكي الخاصة به. سواء كانت القصص حول المهابهارتا (واحدة من الملحمتين الكُبريين المكتوبتين باللغة السنسكريتية في الهند القديمة)، أو حتى بعض المناقشات الفلسفية لأفلاطون أو سقراط. أعتقد دائمًا أن أفضل الحكاة هو الشخص الذي يشعر بقلق التوقع ويشبعه؛ لأنه في غياب ذلك ستحل خيبة الأمل. كنت مستمعًا جيدًا لكني لم أجد الحكي. كنت دائما أرغب في الاستماع.
● وتدور أحداث الكتاب أيضًا عن سعيك الدؤوب للتعلم والدور الذي لعبته أمك في غرس قيم التعلم فيك.
■ لم تتمكن أمي من القراءة بسبب إفنائها حياتها كلها في العمل في الحقول، ولكنها صاحبة الفضل في إرسالي للمدرسة. واشترت لي أختي أول زوج من الأحذية لأتمكن من الذهاب إلى المدرسة، كما اعتادت على مساعدتي في إنجاز واجباتي المنزلية. لا أعرف كيف استطاعت فعل ذلك. وشيء آخر أتذكره أنه في كل مرة أبشر أمي بأني حصلت على نقطة (100/100) في امتحاناتي تبادرني بالسؤال: «هل كان ذلك الأفضل؟» كانت فكرة «الأفضل» ضمن سؤالها عن الذي أنجزته، كان ذلك مقياسها للنجاح.
● كيف قررتَ أن تتناول أدبَ المذكرات كنموذج في كتاباتك؟ هل كان التصوير الذاتي تحدِّيًا؟
■ منذ مدة طويلة، لم أستطع أن أكتب سيرة ذاتية عني، وذلك مردُّه أني كنت أدنو في رواياتي إلى إقحام تجاربي الخاصة. ما أعنيه أن رواية «لا تبكِ أيها الطفل» ليست مستقاة من سيرة ذاتية لكن من أحداث عايشتها. والآن صرتُ أبًا لعشرة أطفال وبات لزامًا عليَّ كما نبهتني زوجتي ذات يوم: «عليك حقًّا أن تخبر أطفالك بشيء عنك؛ لأنك لن تكون دائمًا موجودًا لتخبرهم بما حدث». لهذا قررت الكتابة عن طفولتي فقط، التي تضم ذهابي إلى الثانوية، وهو ما فعلته في روايتي «أحلام في زمن الحرب»؛ لأنني حقًّا ذهبت إلى المدرسة في أثناء الحرب ونشأت وأنا أتفاداها. وتدور أحداثها أيضًا حول قدرتنا أنا وأمي على الإبقاء على أحلامنا في أثناء الحرب.
● في قراءة نقدية لمذكراتك «ولادة حالم» كتبت الصحافية البريطانية ميشيلا رونغ في صحيفة نيويورك تايمز: «سيكون من المثير للاهتمام معرفة إذا ما ستتحلى مذكرات نجيغو التالية بالمشاكسة ذاتها في التطرق إلى مرحلة كينيا ما بعد الاستقلال. فبينما مثَّل الاستعمار هدفًا سهلًا للكتاب الأفارقة يبقى انتقاد السياسيين الأفارقة القابعين على الحكم وأنظمة حكمهم المعاصرة أكثر خطورة». هل تعتقد أن الاستعمار هدف سهل للكُتَّاب الأفارقة؟
■ بصراحة، لا أعلم ما الذي ترمي إليه الصحفية، غير أنه بالنظر إلى أعمال غيري من الكتّاب الأفارقة، فستلاحظ شدة انتقادهم ليس فقط للنظام الاستعماري بل لحكام ما بعد الاستعمار والحكم الدكتاتوري في إفريقيا. النزعة الاستعمارية نتيجة لمشاريع المستعمر، وليست أهدافًا سهلة. التزمت رواياتي دائمًا بانتقادها الوضع الاستعماري وما بعد الاستعماري، وستستمر ثابتة في ذلك. عليك أن تنظر إلى ما يؤثر في حياة البشر، التي تتأثر بدورها بقضايا تضم الثروة والسلطة والقيم في المجتمع – وهو ما يجعل المرء يقف مذهولًا أمام قدرة الناس على التواصل وتبادل أواصر المحبة في ظل عالم متأزم.
ندوب التاريخ
● هل تعتقد أن الكُتَّاب في مجتمعات ما بعد الاستعمار ملتزمون بالكتابة عن القمع السياسي والظلم التاريخي على عكس نظرائهم في المجتمعات الحرة والمتقدمة الذين لا يبتغون غير الفن في كتاباتهم؟ هل هذا استرقاق لكُتَّاب جنوب العالم؟
■ أنا شخصيًّا لا أصدق كاتبًا بقوله في تبجح: «أنا لا أكتب عن السياسة»؛ لأنهم حقًّا يفعلون، وهم يتبنون عن وعي أو عن غير وعي وجهة نظر محددة عن العالم. يتحتم على الكتاب أن يدركوا أنهم ليسوا أفرادًا محايدين، وأنهم نتاج لتاريخ معين أو طبقة اجتماعية معينة. من المستحيل أن تولد في مجتمع طاله تاريخ طويل من القمع، وتمتهن الكتابة كما لو لم يكن هناك اضطهاد، أو تكتب كما لو لم تكن هناك مقاومة؛ فندوب التاريخ موشومة على جبين كل كاتب. إن الكتابة عالم من الخيال الذي يسمح لك باستكشاف جميع العوالم والإمكانيات، وغالبًا ما يمنحك القدرة على تجاوز أحوال كتابتك وشروطها. الكتّاب جزء من ذاك التقليد النبوي، فهم إلى حد ما يشبهون الأنبياء الذين هاجروا إلى الصحارى للتقرب والعودة بأحاديث عن ظلم الحاضر وانفراجات المستقبل. لم يأتِ الأنبياء دائمًا من مجتمعات سادها الاضطهاد؛ إذ عاش بعض منهم حياة رغدة وشاهدوا تناقضات امتيازاتهم وواقع الحياة بشكل عام، والكتّاب جزء من هذا التقليد في ما يتيحه لهم خيالهم من تجاوز حدود تجاربهم الطبقية.
● تأثرت في بدايات حياتك بجوزيف كونراد، وكتبت مؤخرًا في صحيفة نيويورك تايمز أنك توقفت عن قراءة كتاباته في عام 1967م بعد أن نشرت رواية بعنوان «حبة القمح»، التي كتبتها بعد قراءتك لروايته «تحت عيون الغرب»، لكنك كتبت أيضًا أنه على الرغم من قبولك انتقاد أتشيبي لكونرد، فلا يمكنك أن تحتضن كليًّا نظرة أتشيبي السلبية حول رواية «قلب الظلام» أو حول كونراد بشكل عام.
■ شخصية كونراد تجربة كاتب عظيم ومثال على قدرة الفن على البوح بما يلج خاطرَ الكاتب من دون استئذانه، التي تشبه وضع آلة تصوير في الشارع من أجل التقاط صورة عن شيء معين لكنها تلتقط أشياء أخرى في الخلفية. ما عبّر عنه أتشيبي حول كونراد جعلني غير مرتاح. وسيوافقني الرأي أي شخص قرأ «قلب الظلام»، فعلى سبيل المثال، الكاتب استطاع بحنكة لا مثيل لها وصف الإمبريالية وانتقادها، التي تعني إجمالًا السرقة والقتل. لقد جسد كونراد التنوير الأوربي في شخصه، وصار أحد أولئك التنويريين الذين يناصرون نظرية التنوير. ما النهاية التي آل إليها الرجل؟! لقد انتهى به المطاف وهو محاط بندوب هذا التنوير ومآسيه. ألهمني كونراد كثيرًا إلى حد أني كنت أقرأ افتتاحية روايته «نوسترومو» كلما أصابتني «قفلة الكاتب» ونَضَبَتْ أفكاري، كانت بنية الجمل وجماليتها توقد فيَّ حس الكتابة، وهي التي تذكرني بافتتاحية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن.
● ما الدور الذي لعبته الجامعة في صناعة الأدب العالمي؟ خصوصًا في ظل منحى جديد يُمنح فيه الكتَّاب الجنوبيون المنفيون منزلًا في الجامعات الغربية.
■ أصبحت الجامعة مساوية للكفيل أو الراعي في العصور الوسطى التي وفرت لبعض الموسيقيين مأوى. الآن لدينا الجامعات التي توفر فرص العمل، وتمنحنا دخلًا وهو ما يوفر لنا الاستقرار من أجل الكتابة.
● هل تأثرت بأي كاتب من خارج إفريقيا أو الغرب؟
■ لقد تأثرت كثيرًا وأنا أكتب روايتي «لا تبكِ أيها الطفل» بقراءتي لرواية جورج لامنج «في قلعة ذاتي» ما فعله بالرواية واستكشافه لأخلاق ذاك الطفل كان مسلِّيًا جدًّا. لم أستطع أن أكتب بالطريقة ذاتها، لكن حقًّا حاولت. كما قرأت لبعض الكتاب الهنود آنذاك: مالك راج أناند و ر. ك. ناراين وراجا رايو، لم أقرأ للكثير من كتاب أميركا اللاتينية لكني أحب روايات غابرييل غارسيا ماركيز، وقرأت لليو تولستوي، وأنطون تشيخوف، كما أني اكتشفت مكسيم غوركي فيما بعد، ووجدت روايته «الأم» مثيرة للاهتمام.
● لقد كنتَ أحد أقوى المرشحين للفوز بجائزة نوبل منذ عدة سنوات، ما رأيك في ذلك؟
■ لقد طُرح عليَّ السؤال نفسه منذ سنوات مضت. أقدر حقًّا ما يكنه الكثير من الأشخاص لعملي وهم يعتقدون أنه جدير بالظفر بتلك الجائزة، وسأكون سعيدًا إذا ما حصلت عليها، لكنني لا أكتب من أجل الجوائز، بل أزداد سعادة حينما يردد الناس مرارًا وتكرارًا على مسامعي، «لقد تأثرت بعملك».
نشر الحوار في مجلة THE NATIONS عدد إبريل، 2018م.