الثقافة سبيلًا إلى تمتين عُرَى الصداقة مع العالم حاجز نفسي يحول دون بناء المهاجر العربي صداقات مع الغربي
تأتي علاقات التعارف والصداقة بين الناس في مجملها عفوية، حين يتمّ التواصل داخل الحاضنة الحضارية الجامعة، وهو ما يعفي المرء من أسئلة عديدة بشأن الهوية، التي غالبًا ما تُرافق عملية التقارب مع الآخر خارج تلك الحاضنة الجامعة. في الواقع ما كانت تخطر ببالي قبل الهجرة إلى بلد غربي، أن الغرب معنيّ بالهويات الدينية، أو بأعراق المأتى، أو بالتمايزات الحضارية. كانت علاقات الصداقة في مجتمعٍ عربي تأتي عفوية، في حين بات النّبش في تجاويف الهوية يصاحب بداية كلّ علاقة جديدة في الغرب، متضمّنًا أسئلة متكرّرة على غرار: هل أنت مسلم؟ هل أنت ممارس للشعائر؟ من أيّ أصول تتحدّر؟ وإلى أي طائفة أو مذهب تنتمي؟ وهي أسئلة روتينية مستوحاة من مخيال غربي يضع العربي ضمن إطار تصوّري محدّد. البيّن أنّ ثمة ملمحًا عامًّا لشخصية العربي كامنًا في المخيال الجمْعي الغربي، يحصل في ذهن الغربي نوعٌ من الارتباك كلّما اعترى ذلك المثال نقصٌ أو ثلمٌ، وكأنّ العربي محكوم بصورة بدئية أو نموذج أصلي، كما يقول كارل غوستاف يونغ.
ملامح أصدقاء العرب
للإلمام بأصول تصادق الغربي والعربي حريّ أن نضعَ الأمور في نصابها. يطفح الغرب بتوجهات سياسية وأيديولوجية ودينية شتى، وغالبًا ما تكون الشرائح اليسارية من هذا الفيض أكثر انعتاقًا وانفتاحًا في نسج علاقات مع الآخر، وأقلّ إسقاطًا لتهويمات العقل الجمعي، ولا أبالغ إذا قلتُ: أقرب مودّة إلى القضايا العربية، مثل الحق الفلسطيني، أو تفهّم مسألة صنع إسرائيل من قِبل القوى الغربية، أو الآثار المدمِّرة للاستعمار الغربي لبلدان الجنوب، فيسهل من هذا الباب نسج صداقة مع تلك الأطراف لوجود قاسم مشترك؛ وأمّا نقيضتها من الشرائح اليمينية والمحافظة، ولا سيما ذات المنزع الكَنَسي والشوفيني، فغالبًا ما تحوم ريبة لديها من الآخر مشفوعة بعلوّ حضاري، يحول كلاهما دون التوادد مع الوافد أو التصادق معه بيُسر. فالأمور تتغير تغيّرًا كلّيًّا، ولكن بمعزل عن التوصيفات اليمينية واليسارية المشار إليها آنفًا، يبقى أكثر الناس حرصًا على خوض معارج الإيلاف مع العربي هم من العلمانيين الخُلّص، ومن غير المتديّنين، ومن الغنوصيين، ومن المهمَّشين أيضًا، فتلك الشرائح عادة لا تتقصّى كثيرًا بشأن الهوية، وهي تتعامل معك ضمن إطار إنساني رحب. فلدى هؤلاء من رحابة الصدر ما لا يجده المرء عند غيرهم من ذوي التوجهات اليمينية أو الميولات الدينية أو النزعات المحافظة، وهذا ما يفاجئ العربي حديث الهجرة إلى الغرب. ولو تمعنّا الشقّ الأخير -الشرائح اليمينية المحافظة- نصادف تصوّرًا غالبًا ما يشيع في أوساط هؤلاء، أن الآخرين المهاجرين هم غزاة، قدموا من بعيد تحفزهم تطلعات دفينة للغزو، بهدف زعزعة أركان الحضارة الغربية وقِيمها العتيدة، ذلك ما عبّر عنه بشكل صريح الكاتب الفرنسي ميشال أونفراي في كتابه: «الانهيار.. صعود الحضارة اليهودية المسيحية وأفولها»(1)، عبْر تهجّمه الفاضح على المكوّن الحضاري العربي في الغرب.
منغّصات الوئام
من هذا الباب لا يعني نيْلُ المهاجر العربي جنسية البلد الغربي المضيف حصولًا على اندماج لا مشروط، فغالبًا ما ترتفع حواجز شفّافة وعراقيل صامتة تحول دون الاندماج الحقيقي، ولا سيما إذا كانت تلك العراقيل تتلخّص في حيف اجتماعي، قوامه العزل المقصود في الشغل، والاستبعاد على وجه العمد من مواقع النفوذ. ولعلّ أخطر مستويات التضييق حين تصدر من أعلى، وتكون مدعومة بقرار مؤسساتي عميق على حدّ تعبير الباحثة الإيطالية أليساندرا ماركي(2).
ضمن هذه الأجواء لا يخفى انتصاب حاجز نفسي يقف حائلًا دون بناء المهاجر صداقات عفوية وعلاقات متينة مع أبناء البلد من أرومة غربية، يدفع أحيانًا إلى الانطواء داخل ما يشبه الجزر في حيز المدن الكبرى. وما يُعرف بـ«تشايْنا تاون» داخل الدول الغربية، ومثيلاتها من تجمعات المغاربة والبنغاليين والهنود والأفارقة والغجر وغيرهم، هي في الواقع جزرٌ اجتماعية معزولة لحشودٍ شبه مهمَّشة دحرتها المجتمعات الطاردة. ممّا ألجأ تلك التجمّعات إلى خلقِ حيزٍ معيشي وبناء روابط اقتصادية واجتماعية وتعليمية تَهوينًا من ذلك الضغط واتّقاءً لعنف المجتمع المحيط. لا تخصّ هذه الحالة المهاجرين العرب وحدهم، بل تتوزّع بالتساوي بين جلّ الوافدين الآسيوين والعرب والأفارقة. فغالبًا ما يتحوّل بأس المجتمعات الطاردة إلى تعويل الجماعات العرقية على مقدرات ذاتية تشمل السكن والشغل وتدبير الحال.
حين أعيد النظر في علاقات الصداقة التي نسجتُها مع غربيين، بعد ما يناهز ربع القرن من الإقامة في مجتمع كاثوليكي، أقصد المجتمع الإيطالي، أجد جلَّ تلك العلاقات ثقافية وأكاديمية، نُسِجت مع شرائح مثقّفة منشغلة بعالم الأفكار والمعاني والمفاهيم. وهذه الشرائح عمومًا هي على صلة بالثقافة العربية وبالمخزون الثقافي الشرقي بوجه عام، سواءٌ أكانوا كتّابًا أو صحافيين أو باحثين. فهناك وعيٌ مسبق لدى هؤلاء بهويتي، وبأوضاع العالم الذي أتحدّر منه، وبالمخزون الحضاري الذي أنتمي إليه، بما يعفي كلينا من الانطلاق من المربّع الأول في شرح الأمور مع كل تعارف جديد، وتجنّب الاتهامات المجانية التي سرعان ما يرمي بها الغربيُّ العربيَّ جزافًا، بوعي أو من دون وعي لوجود مناخ عام يدفع نحو ذلك.
وعطفًا على التهويمات التي تحكم النظر العربي للغربي، قد يُتَصوّر أن إقامة العربي المسيحي علاقة صداقة مع الغربي أيسر حالًا مقارنة بنظيره العربي المسلم، لما بينهما من أواصر دينية. وهو وهْمٌ لطالما استحكم برؤية العربي للغربي منذ تصوّرنا أن إخوتنا المسيحيين في البلاد العربية هم سفراؤنا إلى العالم الغربي «المسيحي» لشرح مطالب العرب وعرض قضية فلسطين، وهم جسرنا لنيل حقوقنا ونسج علاقات مع الغرب. فالغربي بوجه عام سيان لديه المسيحي العربي أو المسلم العربي، فكلاهما مطبوع بتلك السمات الشرقية الغرائبية، وكأنّ هناك فروقات متأصلة تحكم الأعراق والأجناس. وبوجه عام تنبني الصداقات الفردية بين الناس بناءً على تشابه في الخُلق والطباع، ناهيك عمّا ترفدها من مصلحة ومنفعة؛ وأما الصداقات الحضارية فهي تتجاوز العنصر العقَدي إلى توافق وتقارب في وجهات النظر من القضايا الإنسانية والسياسية والوجودية.
سُبل تطوير الصداقات الثقافية
بموجب اشتغالي في وسط أكاديمي وانشغالي بالوقائع الثقافية ألحظ مسعى العديد من الدول الشرقية، مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وبدرجة أقل إيران وتركيا والهند، إلى الاستثمار في رصيدها الثقافي بنسج علاقات صداقة ثقافية مع الدارسين الإيطاليين المنشغلين بحضارة كل من تلك البلدان، والحرص على تمتين عرى التواصل مع الأوساط الثقافية الإيطالية ولا سِيما داخل الجامعات. من خلال إقامة الأنشطة وعقد الندوات المشتركة وتعزيز التعاون بين أقسام الدراسات والأبحاث والتشاور والتزاور بين الباحثين. في حين تبقى السياسة الثقافية العربية في هذا المجال ضعيفة جدًّا، وأغلب العلاقات الناشئة هي قائمة على مبادرات فردية وظرفية ولا ترتقي إلى مستوى العمل المؤسساتي الدوري والمعمّق. من هذا الجانب يغيب عنّا كعرب الاستثمار في رصيدنا الثقافي، فنحن مقصّرون في صنع الصداقات الثقافية، وفي مدّ جسور التواصل مع العالم. أحيانًا يسألني طلابي الإيطاليون في أقسام الدراسات الشرقية أو في أقسام الدراسات العربية: أين الحضور الثقافي العربي مقارنة بالحضور الصيني أو الياباني أو الكوري؟ فأبقى واجمًا.
فأن نصنع علاقات وطيدة مع المثقفين الغربيين ليس أمرًا نشازًا، أو وضاعة، أو مهانة؛ بل ذلك يندرج في كنف الهمّ الإنساني الواحد. وكعاملين في قطاعَيِ الثقافة والمعرفة ينبغي أن نبدأ بالمثقفين والدارسين مثلنا وهي أيسر الطرق. فمع التطورات الحاصلة في العقود الأخيرة باتت تقريبًا لا تخلو جامعة أوربية كبرى من قسمٍ للدراسات الشرقية أو الدراسات العربية، تتخلله دراسة اللغة والتاريخ والسياسة والاجتماع والآثار. أتساءل هل تربط الأوساط الثقافية والأكاديمية العربية بهؤلاء علاقات وطيدة؟ هل ثمة تعاون وتثاقف ومتابعة وترجمة لما ينتجونه وانتفاع بذلك في البلاد العربية؟ الأمر محدود جدًّا، ثمة برزخٌ فاصل بين الطرفين لقلّة التواصل والمبادرة. والحال أنه في ظلّ فتور ذلك التواصل من الصعب بناء صداقات متينة بين الثقافات والحضارات. يشتكي لي العديد من الزملاء الغربيين في الجامعات الإيطالية ممن ينشغلون بالدراسات الشرقية من حالة العزلة التي يعانونها من زملائهم في البلاد العربية. مع أن الأمر ما كان على تلك الشاكلة في مطلع القرن الفائت، لو أخذنا على سبيل المثال التواصل الحاصل بين المستشرقين الإيطاليين والمثقفين العرب. في الواقع ثمة تفويت من جانب العرب لترويج منتوجهم الثقافي وإبلاغ صوتهم بوساطة هؤلاء السفراء المجانيين للثقافة العربية.
ثمة ألوف من الطلاب الغربيين يتعلّمون لغتَنا ويدرُسون حضارتنا وتاريخنا وأدبنا (في إيطاليا على سبيل المثال يناهز العدد ثلاثة آلاف طالب جامعي)، يدفعهم حماس فياض للتعمق والتخصص في الدراسات العربية. كان الأجدى بذل ما تيسّر لاحتضان هؤلاء ثقافيًّا، فبهذا الشكل تُصنع الصداقات الدائمة. فنحن لدينا رصيدٌ صداقيّ ثريّ في الغرب غير مستثمَر، وأكاد أقول: لدينا طوابير منتظرة تمدّ أيديها للصداقة، لا نبذل جهدًا في تقريبها إلينا عبْر إسداء المِنح وعبر ترسيخهم في العربية ولهجاتها.
لا شك أن ثمة صُنّاعًا للصداقة العربية الغربية وثمة صُنّاعًا للمشاحنة العربية الغربية لأجل تأبيد الصراع. ينبغي ألّا نغترّ بخطاب الأواخر فالعقلاء في الغرب يفوقون السفهاء عددًا بكثير، وأصحاب العقول النيِّرة وأنصار السِّلم الكونية هم الأكثر نفرًا. فلا يشكّل الاختلاف الديني أو الاختلاف الثقافي عائقًا لبناء علاقات الصداقة المتينة بين الأفراد والشعوب، ذلك أن العائق الرئيس يبقي الأحكام المسبقة التي تستحوذ على أذهان البعض فتسدّ منافذ التقارب. ولذلك كلّما تخطّى المرء تلك العوائق النفسية تنبَّهَ إلى أن ما يربط الإنسان بالإنسان هو أكبر من تلك الحواجز. صحيح يعيش العرب اليوم أزمات عويصة، وقد تكون مدعاة لنفور البعض منهم، ولكنَّ شقًّا واسعًا من الغربيين يرى العرب أصحاب حضارة عريقة ودور في التاريخ، وهو ما يملي على الغربي احترام هؤلاء القوم وإن ظهرت نتوءات في ذلك المسار.
في التاريخ الراهن غلبت صورة قاتمة على العلاقات الإسلامية الغربية بفعل جملة من العوامل السياسية، استطاعت أن تطمس تاريخًا حافلًا بين حضارتين، وأن تختزل مسارًا طويلًا في عنصر الصراع الدائم. تبدو تلك الصورة مجافية للصواب وتستدعي نقدًا ومراجعة جادة. الأميركي ريتشارد بوليي أستاذ التاريخ الإسلامي يذهب في كتاب «الحضارة الإسلامية المسيحية» إلى أنه لا يمكن نفي وحدة التراث المسيحي الإسلامي وأربع عشرة دولة من جملة أربع وثلاثين تشكّل الفضاء الجغرافي الأوربي اليوم، كانت جزئيًّا أو كلّيًّا يسيّرها مسلمون لفترة لا تقلّ عن قرن(3). يبدو تاريخ التعايش مطموسًا ومغيبًا. من هذا الباب نقدّر أن تاريخ الوئام هو الأصل وتاريخ الصراع هو العارض والطارئ. فما هو ثابت، حتى في لحظات الحروب والصراع، أنّ الناس ينشدون التواصل والتعايش والتصادق مهما ساءت الأوضاع.
هوامش:
1) Michel Onfray, Decadenza.. Vita e morte della civiltà giudaico-cristiana, Ponte delle grazie, Milano 2017
2) Marchi Alessandra, «La Francia e l’islamofobia», Jura Gentium, Firenze 2010.
3) Richard W. Bulliet, La civiltà Islamico Cristiana. Una proposta, Editori Laterza, Roma-Bari 2005, p. 9