قطعت الأزماتُ المُتلاحقة التي يعيشها العالَم، ولا سيّما وطننا العربيّ، هذا الشعور المكتشِف للحياة المُستمتِع بها، حيث يُغادرنا الناس ويُغادرنا الزَّمن وتُغادرنا الأمكنة التي هي في صلبها، بقدر ما نُغادرها. انكَفأْنا جميعنا بسبب «اختلال هذا العالَم» وموازينه تارة، وأمراضه تارةً أخرى، وآخرها وباء كورونا، وحروبه التي تعصف بأوطاننا ومُدننا، ما أفقدنا صُورَ أوطانِنا ومُدنِنا هذه ومثالاتها وما كنّا نسعى للوصول إليه فيها.
في خضمّ هذه المرارات كلّها، وأمرّ ما فيها الحروب الأيديولوجيّة أو الاقتصاديّة أو العسكريّة أو النفسيّة، تبقى الفنون عامّة، والفنّ الروائي خاصّة، من الأجناس الأدبيّة القابلة لمزيدٍ من الازدهار لما تنطوي عليه من خصائص تسمح بخلْق عوالِم تتهافت أمامنا فيما نحن نشهد دمارَها، ناهيك عن تهافُت أزمنةٍ أحببناها لم تعُد موجودة، وتغيُّر أمكنةٍ أو زوالها تمامًا عن خرائط عايشناها، وذلك في مدًى حرّ ورحب تبلغ لعبة التذكّر والتخييل فيه مداها. ولنا في كليلة ودمنة، تلك التحفة الأدبيّة الفنّية النثريّة التراثيّة، أكبر مثال على المبلغ الذي بلغه عمل نثريّ تخييليّ قبل نشأة الرواية، بمفهومها الحديث، في نقْد الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة السائدة، مُستعينًا بخيال طَلْق وإمكانات غير محدودة للتورية والتواري.
حَكَتِ الرواية العربيّة منذ نشأتها حكاية الاحتلالات العثمانيّة والفرنسيّة والبريطانيّة لبلداننا، كما حَكَتْ سيرورة الخروج من الريف إلى المدينة. حَكَتْ عن أحزمة الفقر وبيوت الصفيح، وعن وعودٍ وآمالٍ خاب مُعظمُها. حَكَتْ حكاية فلسطين ومأساة شعبها، حَكَتِ الكثير عن ظُلم المُجتمع للمرأة والحبّ المحرَّم والألق الحزبيّ والعدالة الاجتماعيّة والعروبة والهجرة… وصولًا إلى الزمن الراهن، وثورات الربيع العربيّ، والمُهمَّشين… وغيرها من الحكايات، التي تشي بعَظَمة الرواية في اختراق المسكوت عنه والتابوهات وبناء عوالِم مُوازية أكثر عدالة وإنصافًا وحبًّا.
وإذا كان من دَورٍ مهمّ للرواية في المرحلة الراهنة، فلا شكّ في أنّه ينهض من قدرتها على اختراق الزمن، لا انطلاقًا ممّا تسمح به خاصيّتها التركيبيّة والبنائيّة لجهة التجوُّل والسَّفر والذهاب والإياب بين الأزمنة فحسب، بل انطلاقًا من قدرتها على توليد زمنها الخاصّ المُناهِض للإيقاعات الزمنيّة الراهنة، المولودة من حركة لا تنقطع للتبادُلات المُعولَمة والسيطرة المُتزايدة للرأسمال الماليّ العالَميّ. تلك الإيقاعات الزمنيّة الراهنة التي تتميّز بقِصَرِ الفواصل بينها، والتي تُولِّد لدى الناس، بإجماع فلاسفة الزمن على اختلاف مَشاربهم، شعورًا بتسارُعه، وبانفلاته منهم، وكذلك إحساسًا دائمًا بضغط الوقت وضيقه، على الرغم من كلّ التسهيلات التي وفّرها التطوّر الحضاري وإنجازاته التكنولوجيّة التي تحقّقت منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن.
الزمن الخاصّ بالرواية قمينٌ بتعديل شعورنا بالزمن، أي بالديمومة البرغسونيّة، لقدرته على كبْح «تسارُع الزمن»، الذي تناوله الفيلسوف الألماني هارتموت روزا من منطلق إيقاعه وتأثيراته الضاغطة على المُجتمع عامّة، وذلك من خلال مُناهَضة سِمَتَيْن أساسيّتين للزمن الراهن؛ هُما «عنفه» و«دكتاتوريّته»، اللّتَيْن أفضتا إلى سيادة مَظاهر الطوارئ، والآنيّة، والفوريّة في المؤسّسة والمُجتمع بحسب نيكول أوبير.
ففي سياق السباق القائم على الفتْح والامتلاك، أصبح الطارئ أو المُلِحّ، الذي يحيل إلى زمنٍ اجتماعي مُختلّ، يضغطنا أو يضغط علينا من أجل التصرّف بسرعة أكبر بغية الاستفادة أكثر. وفي هذا الإطار تبقى الرواية، ومن خلال توليد أزمنتها الخاصّة، من أنجع الوسائل القمينة بمواجَهة هذا الزمن الطارئ أو المُلِحّ الذي يُمارِس عنفَه علينا، بعدما أضحت له أسبقيّة على الإنسان، الذي يُحاول جاهدًا، وأكثر من أيّ وقت مضى، الإمساك به أو كبْح جنوحه، في مناخات توتّرٍ مُعمَّمٍ، يُجبَر فيه الأفراد-بحسب نيكول أوبير- على إدارة وقتهم، ومن دون انقطاع، عبر الاهتمام بما هو الأكثر استعجالًا، وحيث يتغلّب الطارئ أو المُلِحّ على المهمّ، وزمن التصرّف أو العمل المباشر على زمن التأمّل.
على هذا تُسهم الرواية في تحريرنا من هذا العالَم المُضلِّل، الذي لم يُفضِ حقيقةً إلّا إلى وَهْم الحرّية. وقد توسّلت رواياتٌ عربيّة إبداعيّة في مسعاها التحريري مُحارَبة كلّ صنوف الاعتداء على الذاكرة في محاولةٍ دائمة ومتكرّرة لصياغة ذاكرة نقيضة وغير «معوَّقة»، أو انتشالها وإنقاذها من النسيان والتبدُّد؛ ذلك أنّ النصّ السردي هو أوّلًا وآخرًا، وبحسب بول ريكور «وساطة بين الإنسان والعالَم، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان ونفسه».
وباستنهاض الذاكرة وتفعيل سيرورة التذكُّر، تُمارِس الرواية وظيفة اجتماعيّة تُسهِم في تطوير الفكر وفي الارتقاء بالسلوك البشريّ والحضارة الإنسانيّة على حدّ تعبير الباحث الإيطالي نوتشيو أوردينه، والحؤول دون أن تكون الأجيال الطالِعة من البشر من دون ذاكرةٍ لا تَفْقَهُ للحياة، ولوجودِها في هذا العالَم؛ لذا ستستمرّ الرواية في إعادة تشكيل أُفق توقّعاتنا، وهي إذ تستمرّ بذلك تكون قد ضمنت لنفسها، كجنس أدبي فنّي، المُستقبل.
الإلهة «ننسون» العارِفة، أمّ جلجامش، بطل الملحمة البابليّة الخالدة، الذي يتألّف ثلثاه من مادّة الآلهة الخالدة وثلثه الباقي من مادّة البشر الفانية، فسّرت لابنها ذات مرّة حلمه مُنبِئة إيّاه بصداقةٍ آتية سينعم بها: «إنّه صاحبٌ لكَ قويّ يعين الصديق عند الضيق (…)؛ سيُلازِمك ولن يتخلّى عنك» (ملحمة كلكامش، ترجمة طه باقر، ص45). هذه النبوءة جاءت كبشرى سارّة حتّى بالنسبة إلى مثل هذا البطل الأسطوري، الذي يتمتّع بملوكيّة مقدَّسة على البشر، والذي حباه الإله السماوي «شمس» بحُسنٍ لا يُضاهى، وخصّه الإله «أدد» ببطولة فائقة. فعلى الرّغم من كلّ النِّعم التي نَعِم بها، ومنها الصورة «التامّة والكاملة» التي جعلته الآلهة العظيمة عليها، فإنّ النبوءة بصديق ٍقادمٍ حلّت في افتتاحيّة المَلحمة، بوصفها بشرى سارّة، مَنحت الصداقة مَوقِعًا رمزيًّا في النصّ، بجعْلها قيمة لا تضاهيها أيّ قيمة خَلقيّة («هيئة جسمه لا نظير لها»، و«فتك سلاحه لا يصدّه شيء»…) أو مادّية أخرى (مُلك/ سلطة/ بطولة/ غلبة…).
أمّا حين كانت البغي تُدجِّن أنكيدو وتدعوه للتخلّي عن تجواله في البريّة والرعي مع الحيوان ومرافقتها إلى «أوروك»، حيث جلجامش الذي سيُصبح خلّه الوفي، فقالت له: «أنتَ ستحبّه كما تحبّ نفسكَ» (ص46). وكأنّنا بهذه العبارات الثلاث: الصديق عند الضيق/ المُلازمة/ الحبّ غير المشروط، أمام مَضامين ثلاثة من المضامين الكثيرة والمتعدّدة لمعنى الصداقة، ومن بينها ما ذكره التوحيدي عن أبي سليمان محمّد بن طاهر السجستاني، في معرض سؤاله عن علاقته بصديقه وما فيها من «مُمازَجة نفسيّة، وصداقة عقليّة، ومُساعدة طبيعيّة، ومواتاة خلقيّة»، وقوله: «اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكونًا لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر(…) حتّى أنّا نلتقي كثيرًا في الإرادات، والاختيارات، والشهوات، والطلبات، وربّما تزاورنا فيحدّثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل، فأجدها شبيهة بأمور حدثت لي في ذلك الأوان حتّى كأنّها قسائم بيني وبينه، أو كأنّي هو فيها، أو هو أنا، وربّما حدّثته برؤيا فيحدّثني بأختها فنراها في ذلك الوقت أو قبله بقليل، أو بعده بقليل» (أبو حيّان التوحيدي، الصداقة والصديق، تحقيق وتعليق إبراهيم الكيلاني ص ص 2-3)».
هكذا احتلّت الصداقة كقيمة إنسانيّة أزليّة مكانةً محوريّة إلى جانب القضايا والقيَم الأخرى التي زخرت بها إحدى أقدم الملاحِم في التاريخ. ولئن اشتهرت ملحمة جلجامش بالمستوى الراقي في مُعالَجة مسألة الخلود، فإنّ مُعالَجتها مفهوم الصداقة لا يقلّ أهمّية أو قيمة على هذا الصعيد. فقد شغلت صداقة جلجامش وأنكيدو قسمًا كبيرًا من الملحمة، بحيث لازم كلٌّ منهما الآخر، ومضيا معًا إلى مغامراتهما الكثيرة، وأَخلَصَ أحدهما للآخر إخلاصًا يعكس بعضًا من معاني الصداقة ودلالاتها، مثل الوفاء والإخلاص وتقديم العون والحماية… إلخ. ففي إحدى مغامراتهما، وبعدما تردّد أنكيدو خوفًا قال له جلجامش:
«أيليق بصديقي أن يتخلّف ويحجم؟ كلّا يا صديقي علينا أن نتقدّم ونوغل في قلب الغابة، وسيحمي أحدنا الآخر» (ص58).
ولطالما عبَّر الواحد منهما عن شكواه وأحاسيسه وتوجّساته ومخاوفه للآخر، مُخاطبًا إيّاه «يا خلّي»، فيأسر هذا النداء القلوب لصدقيّته ولصدوره من أعماق الروح.
أمّا رثاء جلجامش لأنكيدو، المحمول على عاطفةٍ جيّاشة فائقة الشعريّة، فجاء بمثابة التتويج الدرامي لقضيّة الصداقة، حيث هَوَى هذا البطل الأسطوري، أمام مَرَض صديقه، هو الذي لم يكُن يقوَى أحدٌ على قهره:
«من أجل أنكيدو خلّي وصديقي أبكي وأنوح نواح الثكلى
إنّه الفأس التي في جنبي وقوس يدي
والخنجر الذي في حزامي، والمجن الذي يدرأ عنّي
وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي» (ص ص 72-73).
وأخذت الدموع تنهمر من عينيه مدرارًا/ وصار يمشي جيئة وذهابًا أمام الفراش وهو يطيل النظر إليه/ وينتف شعره المظفور ويرميه على الأرض/ خلع ثيابه الجميلة ومزّقها ورماها كأنّها أشياء نجسة/ وهامَ على وجهه في البراري وبكى بكاءً مرًّا… (ص ص67- 73).
كأنّنا بهذا الرثاء أمام تعريف إعرابيّ لكيف ينبغي أن يكون الصديق؟ وقوله: «مثل الروح لصاحبه، يحييه بالتنفّس، ويمتعه بالحياة ويريه من الدنيا نضارتها، ويوصل إليه نعيمها ولذّتها» (التوحيدي، ص116)، فإذا ما رحل، فقدنا مع رحيله بهجة الحياة ومتعتها ولذّتها.
«الأمير الصغير» وحكاية الصداقة الخالِدة
بالانتقال إلى النصوص الأدبيّة الحديثة، مثّلت رواية «الأمير الصغير» (1943م) للأديب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبري، نموذجًا آخر عن معاني الصداقة. فقد كَتب سانت إكزوبري قصّته بعد مرور سنوات على فراق صديقه المتخيَّل (الأمير الصغير)، خوفًا من نسيانه؛ إذ إنّه «من المؤسف أن ينسى الصديق صديقه، فالأصدقاء قليل، وقلّ من له صديق» (الأمير الصغير، ترجمة يوسف غصوب، ص9).
أمّا قصّة تلك الشخصيَّة المتخيَّلة نفسها (أي الأمير الصغير)، فهي قصّة «أمير صغير يقطن كوكبًا لا يزيد حجمه على حجم الأمير إلّا قليلًا. وكان بحاجة إلى صديق…» (ص9). وعلى الرّغم من تعدّد أبعاد الرواية، ومستوياتها الدلاليّة وما يوازيها من مستويات التأويل، فإن ثيمة الصداقة شكَّلت أحد أبرز العناصر التي قام عليها بنيان هذا النصّ الروائي الخالد. فالأمير الصغير الآتي من الكوكب رقم ب 612، حيث أودع زهرته/ صديقته، هجر كوكبه لأنّه لم يُحسن التعامل مع زهرته: «… كنتُ صغيرًا جدًّا ولم أحسن محبّتها» (ص9). وفي مسار تنقّله بين الكواكب، كان يفتّش عن أصدقاء، وقد أدرك من الثعلب معنى التدجين وهو «إنشاء العلائق» (ص37)، التي فسّرها له الثعلب كالآتي: «أنتَ حتّى الآن في نظري ولد شبيه بمئة ألف من الأولاد، لستَ بحاجة إليّ ولا أنا بحاجة إليك، وأنا في نظركَ ثعلب شبيه بمئة ألف من الثعالب. أمّا إذا «دجَّنتني»، أَصبح كلٌّ منّا بحاجة إلى صاحبه وأصبحتَ في نظري فريدًا في العالَم وأصبحتُ في نظرِكَ فريدًا في العالَم. قال الأمير الصغير: قد بدأتُ أدرك ما تعني… أعرف زهرة وأغلب ظنّي أنّها «دجّنتني» (ص37).
غير أنّ الحوار بين الأمير الصغير والثعلب يتعمّق، وكأنّنا أمام مضامين أكثر عُمقًا لمفهوم الصداقة في تجاوزها مستوى العلاقة، وبما يذكّرنا مرّة أخرى بالتوحيدي: «وقال أبو حيّان التوحيدي قلتُ لأبي سليمان المنطقي:… فما الفرق بين الصداقة والعلاقة؟ فقال: الصداقة أذهب في مَسالك العقل، وأدخل في باب المروءة، وأبعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأهداب السداد، وأبعد من عوارض الغرارة والحداثة» ( الصداقة والصديق، ص 37).
فلو دجَّنتني يقول الثعلب «لانقَشَعَتْ عنّي غيوم الكآبة، وأنارت الشمس حياتي، وميّزتُ وقْع الخطى فعرفتُ خطوك من خطى سائر الناس، فإذا أحسستُ خطًى غريبة اختفيتُ تحت الأرض، وإذا أحسستُ خطوكَ وقع في أذني وقوع الأنغام فهببتُ إليكَ من حجري. ثمّ أنظر إلى تلك الحقول: إنّها حقول ملأى بالقمح وأنا لا آكل الخبز، فما نفع لي بها ولا أذكر، بالنّظر إليها شيئًا، وهذا ممّا يثير الحزن والكآبة. فلو دجَّنتني لانقلبَتْ هذه الحقول إلى شيء عجيب، فالسنابل التي ترتدي لون الذهب تذكّرني بكَ وبشعركَ الذهبي، وإذا هبَّ نسيمٌ على الحقول أحببتُ خشخشته بين السنابل» (الأمير الصغير، ص38).
ولعلّ أروع ما في هذا الحوار الطويل الذي يدور بين الثعلب والأمير الصغير حول الصداقة هو أنّها لا تُشْرَى، «فما من باعة يبيعون الأصدقاء» (ص38)، وأنّها- أي الصداقة -نادرة وليست- على حدّ قول الجاحظ -ولو في سياقٍ آخر- مطروحة في الطريق، لذا قال شاعرٌ:
«وكنتُ إذا الصديق أراد غيظي
وأشرقني على حنق بريقي
عفوتُ ذنوبه وصفحتُ عنه
مخافة أن أعيش بلا صديق»
(عن الصداقة والصديق، ص13)؛
والصداقة تُحيي الإنسان كذلك، وتَجعله متفرِّدًا في نظر صديقه، فنرى الأمير الصغير، وقد أدركَ معنى التدجين، يقول للورد: «أنتنّ جميلات، غير أنّكنّ فارغات (…) قد يمرّ بعض الناس بزهرتي فيعتقد أنّها شبيهة بِكُنّ على أنّها فريدة وأعظم شأنًا منكُنَّ جميعًا» (ص40)؛ وأنّها نتيجة مَسار مُشترك وعِشْرة وأُلفة وصبر وتضحية ورعاية مُتبادَلة. فعمليّة التدجين تقتضي بحسب ما جاء على لسان الثعلب، «أن تكون صبورًا فتبدأ بالجلوس بعيدًا عنّي ولو قليلًا. فتكون بين الكلأ كما أنتَ الآن، وأنظر أنا إليكَ من طرف عيني وتلزم أنتَ الصمتَ فكثيرًا ما يؤدّي الكلام إلى سوء تفاهُم. ثمّ تأتي في اليوم التالي وتَجلس في مكانٍ يكون أدنى إليّ من المكان الأوّل. وهكذا دواليك… (ص38).
هذه العلاقة الروحيّة، وبقدر ما تُدخل السعادة والطمأنينة والسكون إلى قلوب الأصدقاء، فإنّها بالقدر عينه تَبعث على الشجن والحنين والبكاء. لعلّه ثمن الصداقة الحقيقيّة، التي لا تتحقَّق ولا تقوم من دون ثمن. بكى الثعلب لفراق صديقه الأمير الصغير، وحين سأله الأخير عن جدوى هذه الصداقة وبأيّ شيء تكون قد أفادته إذا كانت ستسبِّب الحزن والبكاء، قال الثعلب: «أفدتُ أنّ شعرك بلون السنابل، ثمّ أضاف قائلًا: عُد إلى الورود وانظر إليها فتعلم أنّ وردتكَ وحيدة بين الورود» (ص39). على أنّ المسؤوليّة التي يضطّلع بها كلّ صديق حيال صديقه تبقى إحدى الرسائل الأساسيّة التي أراد سانت إكزوبري إيصالها إلى العالَم: قال الثعلب للأمير الصغير: «إنّ ما صرفتَ من الوقت في سبيل زهرتكَ، جَعَلَ من تلك الزهرة شيئًا خطيرًا (…) ونسيَ الناس هذه الحقيقة فلا تَنْسَها أنتَ فإنّك مسؤول أبدًا عن كلّ شيء دجّنته وإنّك لمسؤول عن وردتكَ» (ص40).
لربّما بسبب تعريفها الفنّي للصداقة، تبوّأت هذه الرواية العالميّة مكانها بين الروايات الخالدة شأن خلود ملحمة جلجامش. فكلا النصَّين رفعا الصداقة إلى مصافّ الحقيقة الإنسانيّة الخالدة، لكنّها -أي الصداقة- وبخلاف حقيقتَي الولادة والموت، ليست قدرًا محتومًا، بل قدرًا قد نَنعم أو لا نَنعم به؛ لأنّه يحتاج إلى إدراكنا سرًّا خطيرًا مفاده، وكما جاء على لسان الثعلب: إنّ المرء لا يرى «رؤية صحيحة إلّا بقلبه، فإنّ العيون لا تدرك جوهر الأشياء».
الصداقة كثابِتة روائيّة
في المقابل، ولئن لم تشكِّل الصداقة في الرواية العربيّة الحديثة موضوعًا مستقلًّا، إلّا أنّها حضرت في النصوص بوصفها من طبيعة الأمور، كأيّ حقيقةٍ، أو مَعلمٍ أو واقعةٍ، طبيعيّة أو وجوديّة. في سيرتها الذاتيّة غير الروائيّة «رحلة جبليّة رحلة صعبة» (1985م)، تَذكر طوقان ما تشكّله الصداقة من مَكسب قائلة: «نعمتُ بصداقاتٍ جميلة لا يزال بعضها قائمًا راسخ الجذور رغم البُعد الجغرافي. إنّ للصداقة طعمًا حلوًا ودِفئًا يستكين له القلب، والصداقة الحقيقيّة انتصارٌ من انتصارات الحياة ومَكسب من مَكاسبها، لعلّها تفوق الحبّ فهي أطول عُمرًا». وقد تَرجَم عددٌ من الروايات العربيّة هذا المعنى العميق للصداقة عبر حكاية فرعيّة من حكاياتها الأساسيّة، أو عبر جملة معبِّرة وغزيرة المعنى، شأن تلك الجملة الكثيفة الدلالة عن الصداقة «الحقيقيّة» التي جَمعت بين محمّد محيي الدّين الفاخوري وابن عمّته شاهين عبدالجواد البارودي في سيرة مطوّلة عن مدينة بيروت لربيع جابر: «الولدان تبادَلا نظرات قصيرة، في لحظةٍ ما من هذه الحياة، ثمّ باشرا اللّعب معًا…» (من روايته بيروت مدينة العالَم، ج1، ط1، دار الآداب- المركز الثقافي العربي، ص192).
لقد تُرجِمت هذه الصداقة عمومًا عبر تنويعات سرديّة وتركيبيّة فنّية مُختلفة: عبر استذكارات تستحضر من خلالها الشخصيّاتُ الروائيّة أصدقاءَ الطفولة والصبا على مَوجاتٍ عالية من الحنين والشوق، أو عبر حوارات مع أصدقاء تبثّ فيها الشخصيّة لواعج قلبها وأسرارها وخفايا أفكارها التي ليس في وسعها بثّها لأحدٍ غير الصديق، ولكأنّنا بهذَين الصديقَين أمام الأنا و«أناها». هذا ما يتجلّى شكليًّا في بعض الروايات التي يتواتر الكلامُ فيها بين الأنا (الراوي/ة) والهو/ الهيَ (الآخر/ الصديق/ة) بحِجج مُختلفة، كحجّة نشر رسائل كَتبها هذا الآخر وائتُمِنت الأنا (الراوي/ة) على قراءتها وسردها، ومن الأمثلة على هذا النمط الكتابي رواية «في أروقة الذاكرة» (1995م) لهيفاء زنكنة، و«البيت الأخير» لربيع جابر (1996م) و«مصابيح أورشليم» (2006م) لعلي بدر… إلخ؛ وبالتالي، نسأل كم يحمل صكّ الأمانة هذا من ثقة فائقة بالصداقة والصديق حتّى لو لم يكُن الموضوع الأساسي للرواية يدور حول الصداقة؟
في المقابل، لم تخلُ الرواية العربيّة عمومًا من مجموعة أصدقاء تجاوزت علاقاتهم مستوى الزمالة، أو الرفقة، الرفقة في العقيدة والحزب السياسي والنضال من أجل قضيّة ما… إلخ، أو الرفقة النّاشئة عن قرابة فكريّة وعن شعور مُشترك بالتهميش وعدم قدرة مجموعة الرفاق هذه مثلًا على التعايش مع مجتمعهم، ومن ثمّة انكفائهم على ذواتهم كأصابع اليد الواحدة، وتشكيلهم كتلة عضويّة لا يفرّقها إلّا الموت أو الهجرة أو أيّ غيابٍ قسريّ. وأغلبيّة هذه الروايات عائدة لستينيات القرن الفائت وسبعينياته، تلك المرحلة الزاخرة بالآمال: الأمل بتحرير فلسطين، وبتحرير المجتمع العربيّ من كلّ عوامل التخلّف الاجتماعي والسياسي. نذكر على سبيل المثال لا الحصر روايات «أربعة أفراس حمر» (1964م) ليوسف حبشي الأشقر، و«المدينة الفارغة» (1966م) لليلى عسيران، و«الزمن الموحش» (1973م) لحيدر حيدر، و«شرخ في ليل طويل» (1979م) لهاني الراهب وغيرها الكثير من روايات تلك المرحلة العائدة لكبار الروائيّين والروائيّات العرب، مثل جبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف، وسحر خليفة، وليلى العثمان… وغيرهم.
وفي إطار زمنيّ راهِن ومختلف، وفي سياق توصيف أحوال جيلهنّ، عمد بعض الروائيّات الشابّات مثل جنى فوّاز الحسن في «أنا وهي والأخريات» (2012م) إلى بناء عالَم روائي قامت الصداقات بين شخصيّاته النسائيّة، انطلاقًا من واقعٍ مجتمعيّ قهريّ؛ فيما تقصّدت سحر مندور في رواية «32»، الصادرة في عام 2011م، تغييب اسم الراوية –وهي شخصيّة روائيّة- والاكتفاء بسرْد قصصٍ تتصادى فيها قصّة الراوية الشابّة مع قِصص صديقاتها، بغضّ النظر عن الأسماء؛ أرادت أن «تروي قصّةً تشفيهنّ من أمراضهنّ وأوجاعهنّ وسأمهنّ» (ط1، دار الآداب، ص154)، وكأنّنا أمام صداقات عمادها إذًا المرض والوجع والسأم أيضًا، شأن الصداقات التي جمعت، في أزمنة سابقة، شخصيّات روائيّة عربيّة كثيرة، في عوالِم كافكاويّة اتّحد فيها الأصدقاء في مُواجَهة عالَم بدا لهم وكأنّه مجرّد وهْم وعَبَث؛ تلك الصداقات التي سيستمرّ حضورها في النصوص الروائيّة، أيًّا كان حجم هذا الحضور أو أمزجة أبطاله وشخصيّاته وأحوالهم وأحوال العالَم المحيط بهم.