في إحياء الأسطورة العربية نار جلجامش في مصباح زرقاء اليمامة
إن كان الإسلام قد فرض ما يشبه الرقابة على وصول الشعر الجاهلي إلينا، فإن السردية الإسلامية ما كان لها أن تقوم إلا على تفتيت السردية الجاهلية المتمثلة بالأساطير الوثنية التي اعتقدها العرب قديمًا. ومصطلح التفتيت لا يعني المسح والإلغاء (وإن مُسِحَ الكثير من السرديات الجاهلية) بل هو لا يعدو عملية تفكيك للسرديات المسيطرة أوانذاك وإعادة إنتاجها ضمن سياقات جديدة تؤدي وظائف تخدم الدين؛ فأسطورة الطوفان التي نجدها في جل الكتابات المقدسة للشعوب أُعِيدتْ صياغتها وإنتاجها ضمن النص الديني بعد تجريدها من الإضافات والخيالات الإنسانيّة، وهناك أساطير أُعِيدَ ترويجُها لتعزيز فكرة العقاب مع سلبها دلالاتها الأسطورية والدينية كأسطورة إساف ونائلة التي أُنتِجَتِ اعتمادًا على مقولة السيدة عائشة: «ما زلنا نسمع أنّ إسافًا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جُرْهُم، أحدثا في الكعبة، فمسخهم الله تعالى حجرين. والله أعلم»(1) وكلام السيدة عائشة واضح «ما زلنا نسمع» و«الله أعلم» فهي لم تحمِّل نفسَها مسؤوليةَ اليقين، ومع ذلك فقد انحرفت بالأسطورة من مسارها الطقوسي «طقوس البغاء المقدس» إلى مسار الحكاية الدينية التي تحذر من العقاب والعبث.
وهناك أساطير أُدرِجتْ ضمن سياق الخبر التاريخي والحكائي مثل حكاية زرقاء اليمامة التي ستشكل المثال المرتكز عليه في هذه المقالة؛ وإذا أردنا الحديثَ انطلاقًا من أرضيّة صلبة فعلينا أن نستدعي أساطيرَ الأمم الأخرى والاستناد عليها في إعادة بناء الأسطورة العربية، وذلك في ظل غياب الأسطورة العربية في صيغتها النصيّة الأولى قبل أن تخضعَ لإعادة الصياغة والتجميل. وكمثال تطبيقي سنقارب بين ملحمة جلجامش وحكاية زرقاء اليمامة في محاولة لإعادة الأخيرة إلى إطارها الأسطوري، مع التنبيه على أنه قد لا يكون هناك علاقة بين الأسطورتين لكن أساطير الأمم تتشابه وتتخذ لها المبنى نفسه:
أولًا- حكاية زرقاء اليمامة(2)
كان عملوق، زعيمُ قبيلة طَسْم، ملكًا على قبيلتَيْ طسم وجَدِيس، وقد طغى عملوق في جَدِيس وأذلهم… فيُحكَى أن امرأة من جَدِيس اشتكت إلى عملوق زوجها الذي أخذ ابنها منها، فقدَّم كلٌّ من المرأة والرجل حجتَه عن أحقيته في الغلام فحكم عملوق أن يؤخذ الغلام في غلمانه؛ فحزنت المرأة وهجت عملوقَ… فلما بلغ عملوقَ شعرُها غضب غضبًا شديدًا، وأمر ألَّا تُزَفَّ فتاةٌ من جَدِيس حتى تُعرَض عليه فيَفتَرِعَها قبل زوجها. وقد خضعت فتيات جَدِيس لهذا الطقس مدة من الزمن إلى أن جاء دور عفيرة أخت زعيم جَدِيس (الأسود بن غفار)، فمضى بها زوجها إلى عملوق فافترعها ثم أخلى سبيلها… فخرجت إلى أهلها تشق الثوب وتهجو قومها على ذلهم وخنوعهم، فلما سمع الأسود كلامها استشاط غضبًا، وأقسم على قومه أن يقتل نفسه إن لم يساعدوه على الثأر من عملوق… فاتفقوا على دعوة طسم إلى وليمة، تُقام على شرف عملوق، وأن يدفنوا سيوفهم في التراب، فإذا شرعَ عملوق وقومه في الأكل استلُّوا سيوفهم وانقضُّوا على القوم… وقد رفضت عفيرة هذه الحيلة وحذرت أخاها من الغدر، وطلبت منهم أن يقاتلوا قتال الرجال وجهًا لوجه، غير أنّ الأسود مضى في خطته ونفذها بحذافيرها، ولم ينجُ من طسم إلا شخص واحد اسمه رباح بن مرة (وهو شقيق زرقاء اليمامة المتزوجة في جَدِيس) هرب إلى اليمن واستجار بملكها حسان بن تبع الذي أرسل معه جيشًا لتأديب جَدِيس. وعندما يخرج الجيش يخبر رباح الملك أنّ له أختًا متزوجة في جَدِيس، وأنها ترى من مسافات بعيدة، ويخاف أن تشي بهم وطلب منه أن يأمر الجنود بالتخفي بأغصان الشجر.
ولكن هذه الحيلة لا تنطلي على اليمامة؛ فتحذر قومها ولكن بلا جدوى فلا أحد يصدق أن الشجر يتحرك. فيدخل الجيش ويذبح جَدِيسَ ويسبي نساءها… ويأمر الملك بقلع عينَيِ اليمامة وبصلبها. ولا تزال المنطقة تحمل اسم اليمامة إلى اليوم.
ثانيًا- جلجامش ملكًا(3)
هو الملك الذي قهرَ الأبطال؛ ثلثاه إله وثلثه بشر، طوله أحد عشر ذراعًا وعرض صدره تسعة أشبار، وفتكُ سلاحه لا يضاهيه ويصده شيء. وقد قهر الأبطال فلازموا حجراتهم مقهورين، هو الملك الطاغية الذي لم يترك ابنًا طليقًا لأبيه ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار، ولم يترك عذراء لأمها ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل… وكان جلجامش مثل عملوق يفترع العروس قبل زوجها، وهذا ما نفهمه من الرجل الغاضب وهو يشتكي أفعال جلجامش لأنكيدو «… إلى جلجامش، ملك أوروك، ذات الأسواق يخصصون الطبل ليختار العرائس قبل أزواجهن فيكون هو العريس قبل زوجها وهم يقولون: لقد أراد له الآلهة هذا الأمر وقدروه له منذ أن قطع حبل سرته». وعندما يسمع أنكيدو هذا الكلام يمتقع وجهه غضبًا ويعزم أمره على صد جلجامش ومنعه بالقوة من افتراع فتيات المدينة، لكن بغي المعبد تحذر أنكيدو وتحاول ثنيه عن مواجهة جلجامش فهذا الأخير محمي من الآلهة. غير أن أنكيدو يرفض الاستماع لها… وعندما يهيأ الفراش لطقوس الزواج المقدس الخاصة بالبطل جلجامش؛ يقف أنكيدو في وجهه ويسد الطريق عليه ويدخلان في صراع، وتكون الغلبة لجلجامش المحمي، ولكنه يعفو عن أنكيدو ويتخذه خلًّا له.
ثالثًا- جلجامش يوقد مصباح اليمامة
سبق قولنا: إن السردية الإسلامية فتتت الأساطير واستخدمت بعضها في الحكاية والخبر، ونحن لا نجزم بحرفية هذه المقولة فقد تكون بعض الأساطير علقت بأذهان الناس وتعذر إلغاؤها فعادت إلينا ضمن السياقات الجديدة على شكل خبر تاريخي أو حكاية لطيفة بعد خضوعها لإضافات وتزويقات مصطنعة، ولمعرفة الإضافات في أسطورة زرقاء اليمامة سنقوم بإسقاطها على ملحمة جلجامش ونقارن بين النصين:
أولًا- جلجامش كان ملكًا طاغية يفتض بكارة العرائس قبل أزواجهن ويأخذ الغلمان من أحضان عائلاتهم/ عملوق ملك طاغية أيضًا يفتض بكارة فتيات جَدِيس قبل أزاوجهن ويأخذ الغلمان من عائلاتهم.
ثانيًا- جلجامش كان عملاقًا طوله أحد عشر ذراعًا وعرض صدره تسعة أشبار وثلثاه إله وثلثه بشر/ عملوق اسم يدل على الضخامة والقوة وهو ينسب إلى قوم عاد المشهورين بضخامة أجسادهم.
ثالثًا- الرجل كان سببًا في تحريض أنكيدو على التصدي لجلجامش/ عفيرة هي التي حرّضت أخاها وقومها على التصدي لعملوق.
رابعًا- البغي حذرت أنكيدو من تحدي جلجامش بداعي أنه محمي من الآلهة وفعله بالفتيات خاضع لمباركتها/ عفيرة حذرت قومها من حرب عملوق احتجاجًا على الوسيلة (الغدر بعد إعطاء الأمان).
خامسًا- طقوس الزواج المقدس: عندما تزف العروس إلى جلجامش ترافقها القيان وبغايا المعبد ضمن طقس غنائي/ عندما زفت عفيرة رافقتها القيان ضمن طقس غنائي.
ما أود قوله: إن قصة المرأة وزوجها اللذين احتكما إلى عملوق في قضية ابنهما هي قصة مضافة لإيجاد مدخل يبرر فعل عملوق بفتيات جَدِيس، والمرجح أنه يفعل ذلك بحجة الأمر الإلهي وليس بفعل الغضب. وبناء على ذلك فإن عفيرة حاولت منع أخيها من قتل عملوق ليس بحجة استفظاع الغدر وإنما خوفًا من تحدي الأمر الإلهي.
رابعًا- زرقاء اليمامة تنزع ثوبَها
سنحاول نزع ثوب الحكاية عن زرقاء اليمامة وإلباسها ثوب الأسطورة: «كان عملوق ملكًا في طسم وجَدِيس، ثلثاه إله وثلثه بشر، وقد قهر الأبطال والرجال ولم يترك ابنًا لأبيه ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل. وكانت كل فتاة تزف إلى عملوق ليفترعها فيكون هو العريس الأول قبل زوجها… حتى جاء دور عفيرة أخت زعيم جَدِيس فمضى زوجها بها إلى عملوق ترافقها القيان وبغايا المعبد ضمن طقوس الزواج المقدس، وعندما رأى الأسود أخته ملطخة بدماء بكارتها غضب وتمرد على الأمر الإلهي؛ فحرَّضَ قومه واتفقوا على دعوة عملوق إلى الطعام وكمن له، ودفنوا سيوفهم في الرمل وعندما شرع عملوق في الأكل استلَّ القوم سيوفهم وقتلوا عملوقَ وقومه… فاستحقت جَدِيسُ غضبَ الآلهة فأمر الإله رباحٌ ملكَ اليمن بتحريك جيشه لتأديب جَدِيسَ، فتعاطفت زرقاء اليمامة (ربما هي إلهة أو نصف إلهة) مع جَدِيسَ… وللتحايل عليها أمر رباحٌ جيشَ اليمن بالتخفي بأغصان الشجر غير أن الحيلة لا تنطلي على اليمامة، فتحذر جَدِيس المغترة بنصرها، فتسخر من تحذيراتها ولا تحملها محمل الجد… يجيء الجيش وينزل العقاب الإلهي بجَدِيس وتعاقب اليمامة؛ لأنها أفشت سر الآلهة بقلع عينيها وتحويلها إلى أرض تحمل الناس دون أن تراهم!».
هوامش:
1 - ابن هشام، سيرة ابن هشام ، دار إحياء التراث العربي، ج1، ص85.
2 – اعتمدت على الخبر الوارد في مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي، ج2، المكتبة العصرية ، ص(106_109).
3 – انظر: طه باقر، ملحمة جلجامش وقصص أخرى عن جلجامش والطوفان، دار المدى، طبعة خاصة 2007م ، دمشق، سلسلة الكتاب للجميع، ص91-94.