بواسطة حسن حنفى - مفكر مصري | يوليو 1, 2020 | مقالات
لا أدرى أيهما أصدق «الوجود والعدم» أم «اليأس والأمل». الأولى قاسية على النفس وضد منطق التاريخ. فكم من المآسي مرت بالعرب منذ تفككهم الأول إلى دويلات، وخروجهم من الأندلس، وغزوات التتار والمغول شرقًا، والصليبيين والاستعمار الأوربي الحديث غربًا. وما زال احتلال إسرائيل لفلسطين قلب الأمة العربية. ومع ذلك ظل العرب باقين. والإسلام ينتشر بالرغم من اتهامه بالإرهاب. لذلك كانت الثانية «اليأس والأمل» أقرب إلى مسار التاريخ. فكم من اللحظات تعرض فيها العرب إلى اليأس. ثم تحول اليأس إلى أمل. كان آخرها احتلال الأقطار العربية بعد تقسيمها. ثم استطاع العرب القيام بحركة تحرر وطني نالوا بها استقلالهم. ثم بدأت الدولة الوطنية تتسرب من بين أيديهم بفعل الاستبداد والفساد حتى تفتت إلى أجزاء يحارب بعضها بعضا كما يحدث الآن في سوريا والعراق واليمن وليبيا. وتحول الربيع العربي إلى شتاء عربي قارس. والآن يحوط بهم الحظر الصحي بعد أزمة كورونا التي جعلت العالم كله يجثو على قدميه. ويدرك أن حضارته وعولمته كانت هشة ﴿إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ جكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. تكفيها جرثومة صغيرة لا تُرَى كي تقضي عليها من أساسها. ومع ذلك، لا يستطيع العرب الاستسلام لليأس. ويكون التحدي إذن أين بصيص النور الجديد؟ أين وهج الشمعة قبل أن تنطفئ؟ وقد تكون الإجابة: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَصلے قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾.
غياب الطموح العربي
إن كثيرًا من العرب الآن ينعون حظهم. ويبكون على ما وصل إليهم حالهم بعد أن كان صوتهم عاليًا في الستينيات. يجمعون حولهم أصوات العالم الثالث كله في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وبعض آخر صامتون. لا يتكلمون ولا يبكون. إنما يشكون لأنفسهم أحزانهم. وينقلبون إلى أعماقهم إذا استحال التعبير خارج عقولهم. وفريق ثالث اكتفى بالسعي وراء لقمة العيش. يكفيه أنه لم يمت جوعًا هو ومن يعول. وغاب الطموح العربي عند الجميع، طموح عبدالرحمن الداخل، الأمير الأموي الذي خرج من دمشق إلى مصر ثم إلى الأندلس وأراد أن يعود إلى دمشق من جديد من طريق جنوب أوربا، فيصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة عربية إسلامية، شرقه دمشق، وغربه قرطبة، وشماله صقلية وجنوبه مصر. والعرب بحكم موقعهم الجغرافي يربطون بين إفريقيا وآسيا عبر البحر الأحمر. فضفته الغربية في إفريقيا، والشرقية في آسيا، كما ربط العرب من قبل بين إفريقيا وأوربا عبر المتوسط. فجنوبه المغرب العربي وشماله أوربا. فالعرب يحتلون المضايق القديمة؛ باب المندب الذي يؤدي إلى المحيط الهندي، ومضيق جبل طارق الذي يفتح على المحيط الأطلسي. يحمي نفسه بنفسه من طريق بحيرتيه، المتوسط والأحمر ضد أي قوى جديدة ناشئة عبر الأطلنطي.
التحدي الآن هو: هل ينهض العرب من جديد بعد أن نهضوا في تاريخهم الحديث لينالوا الحرية والاستقلال؟ لقد استطاع العرب أن يقوموا بثورات شعبية عدة مثل ثورة 1919م في مصر وثورات الربيع العربي 2011م. وانتهت الثورة الأولى إلى الوقوع في يد الإقطاع والقصر والإنجليز. وانتهت الثانية إلى الصراع على السلطة بين العسكريين والإسلاميين كما حدث في مصر أو إلى التفتيت والتجزئة بين القوى المتصارعة على السلطة. وقامت ثورات بفعل النخبة العسكرية مثل ثورة عرابي 1882م، وحسني الزعيم في سوريا 1949م، وثورة الضباط الأحرار في مصر 1952م بعد هزيمة الجيوش العربية في فلسطين 1948م. فضاع نصفها كما ضاع النصف الثاني بعد هزيمة 1967م. فماذا بقي من النخب الثورية في الوطن العربي؟ هل تستطيع النخب المثقفة أن تعطي العرب أملًا في مستقبل أفضل، قولًا وعملًا؟ هل يستطيع المجتمع المدني أن تشرق على يديه شمس عربية جديدة تنير الآفاق كما حدث أخيرًا في السودان والجزائر ولبنان ضد النخب العسكرية والقبلية والطائفية؟ أم إن العرب يتجهون إلى المجهول الذي يعلمونه، ولا يفكرون في البحث عن بديل له ينير لهم الطريق؟ على الأقل كي يعرف العرب هل هم في نقطة النهاية لقوس ينحدر منذ أكثر من نصف قرن أم إنهم في نقطة بداية جديدة يرتفع فيها القوس من جديد؟
هل سيظل العرب بين الإقدام والإحجام، بين إحراز التقدم والانتهاء إلى التخلف، خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف، ولا يتعلمون من تجارب التاريخ؟ هل ستنطبق على العرب الآية الكريمة: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ ولا يعرفون أن: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؟ هل يستطيع العرب أن يقدموا إلى البشرية الجديد بعد أن أثبت عالم ما بعد كورونا أن أسس الحضارة البشرية في العقل والعلم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة والصعود إلى القمر والسير عليه، واستئناف الرحلة العلمية إلى المريخ وإلى بقية الكواكب بعد أن لم تكتفِ بالأرض ومن عليها؟
بداية بديلة
لقد وحّد الإسلام القبائل العربية وحولهم إلى أمة ذات رسالة خالدة. واستطاعوا وراثة إمبراطوريتي الفرس شرقًا والروم غربًا بعد أن احتالت عليهم الرأسمالية غربًا والشيوعية شرقًا في عصرهم الحديث. وقد تساءل خالد محمد خالد من قبل: «من أين نبدأ؟». هل هناك بداية بديلة جديدة غير العقل والعلم والإنسان، وهي بدايات الحضارة الغربية في عصرها الحديث وفي حداثتها التي كانت تعتز بها حتى عصر ما قبل كورونا؟ هل يستطيع العرب أن يقدموا للعالم بداية جديدة مثل العدل بعد أن طلبنا الرحمة فلم نجدها؟ قد يعطي ذلك العربَ أملًا جديدًا في البقاء. ولا يشعرون بالعدم ونهاية العالم التي يشعر بها الغرب حاليًّا؛ ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِصلے إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
لقد نهضت مصر في تاريخها الحديث في الوقت نفسه الذي نهضت فيه الهند وكوريا الجنوبية واليابان وذلك في الأربعينيات من القرن الماضي. كما حددت ماليزيا برنامجًا تنمويًّا ينتهي في 2020م وقد تم ذلك. فالهند مليار نسمة ولا تقترض كي تنمي نفسها، ولا تستورد غذاءً من غيرها. وكوريا الجنوبية أصبحت رائدة في صناعة السيارات؛ تصدرها للعالم أجمع بما في ذلك الوطن العربي. واليابان أصبحت نموذجًا للتقدم الصناعي والتكنولوجي. وطبقت سمعتها الآفاق. وماليزيا حققت مشاريع تنميتها في الموعد المحدد بفضل مهارة وحزم محمد مهاتير رئيس وزرائها. وتركيا أصبحت نموذجًا للنهضة الحديثة في الصناعة والزراعة. وإيران على وشك امتلاك السلاح النووي. والعرب يتفتتون ويعتمدون على الخارج. وأصبحوا لقمة سائغة في فم الاستعمار الجديد بالقواعد والأحلاف. والعرب لديهم العقول التي تفكر للخارج وليس للداخل، والسواعد التي تبني لغيرها وليس لذاتها، والمواد الأولية التي تصدرها من دون أن تستثمرها.
ما ينقص العرب هي الحرية في القول، والتعددية السياسية والديمقراطية. وهي ليست بعيدة المنال اتباعًا لقول عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص: «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» أو استشهاد أحمد عرابي وهو على حصانه في قصر عابدين في مواجهة الخديو توفيق بقول الأفغاني: «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا. والله لا نستعبد بعد اليوم». وقد سبق القرآن ذلك كله في آيتيه الكريمتين: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾. ولم يقع العرب في الاستبداد إلا أن ثقافتهم قد وقعت في حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم، وهو افتراق الأمة ثلاثًا وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. وهو ما يجعل فرقة واحدة في القصر وبقية الفرق في المعتقلات. فإذا ما حدث انقلاب، انتقل مَنْ في القصر إلى المعتقل، وخرج مَنْ في المعتقل إلى القصر، وهكذا على التوالي من دون أن يحكم كلا الطرفين حكمًا ائتلافيًّا طبقًا لمبدأ الشورى. فالجميع أحرار. الكل في القصر، ولا أحد في المعتقل. هكذا كان الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول لعمر: «يا عمر اصعد قليلًا» نظرًا لارتباطه بمصالح الناس. وكان يقول لأبي بكر: «يا أبا بكر انزل قليلًا» نظرًا لارتباطه بالنص. ويكون التحدي أمام العرب اليوم الجمعَ بين النصِّ والمصلحة؛ أي بين السلفيين والعلمانيين في حوار وطني جامع.
بواسطة حسن حنفى - مفكر مصري | مايو 1, 2020 | الملف
كنا ونحن صغار نسمع عن الصراع بين الشرق والغرب أنه صراع عسكري؛ تفوق أميركا بالطائرات، وروسيا بالصواريخ العابرة للقارات للهجوم، والمضادة للطائرات للدفاع. ولما كانت أميركا مع إسرائيل تعطيها كل شيء، فإننا كنا مع روسيا لتزويدنا بالسلاح. ثم أدركنا أنه ليس صراعًا عسكريًّا فقط بل هو أيضًا منافسة اقتصادية. يتفوق فيها الشرق لاستيراد ما نحتاجه من القمح. وروسيا تستورد منا القطن طويل التيلة الذي اشتهر به القطن المصري.
وعندما دخلنا الجامعة أدركنا أنه أيضًا صراع سياسي حول مناطق النفوذ في إفريقيا وأميركا اللاتينية، وتوسيع مناطق الأحلاف وانتشار القواعد العسكرية. ولما تخرجنا من الجامعة أدركنا أنه صراع ثقافي بين الكتلة الشرقية والحضارة الغربية. الأولى تعطي الأولوية للمجتمع على الفرد. والثانية تعطي الأولوية للفرد على المجتمع. وهو الصراع الأيديولوجي الشهير بين الشيوعية والرأسمالية، بين الحرية والخبز. وهو الصراع الذي انعكس لدينا في الوطن العربي. وآثرنا الخبز على الحرية بعد الثورات العربية الأخيرة منذ الخمسينيات في القرن الماضي بداية بالثورة المصرية في يوليو 1952م.
وبرزت الصين منذ الأربعينيات بعد المسيرة الطويلة من الغرب إلى الشرق وهزيمة شيانغ كاي تشيك، وانسحابه من الصين- القارة إلى جزيرة فورموزا. وظهر ماو تسي تونغ الزعيم الصيني العظيم قائدًا شعبيًّا، ماركسيًّا لينينيًّا، صلبًا لا يهادن. ووزعت الأرض على الفلاحين. وقامت بأكبر نهضة زراعية صناعية تجارية في تاريخ الصين، من شعب تجاوز الآن مليار نسمة أي سدس سكان العالم. وقد أدت ماركسية الصين إلى تقوية الشرق بالنسبة للغرب. ثم انضمت إلى الصين كوريا الشمالية، وفيتنام الشمالية، ثم الجنوبية فيما بعد، بعد هزيمة الغرب فيها، فرنسا ثم أميركا. ثم انضمت أوربا الشرقية إلى هذا المعسكر الاشتراكي الجديد. ولم تعد حلقة الوصل بين آسيا وأوربا، بين الشيوعية والرأسمالية.
ثم تقدمت الصين اقتصاديًّا، وغطت صادراتها كل آسيا، في الخليج خاصة، وإفريقيا. وصنـّعت كل ما كان الغرب يصنعه بأرخص الأثمان. فأصبحت الصين تغطي كل صادرات العالم حتى أوربا مهْد الرأسمالية. وبدأت الشركات الصينية للتنمية الزراعية والصناعية تَسُود كلَّ أرجاء الشرق في آسيا، والجنوب في إفريقيا. وأصبحت كل المنتجات الصينية تملأ الأسواق العربية بعد أن كانت أوربية ثم أميركية ثم ماليزية وإندونيسية وهندية أو جنوب إفريقية. وامتدت الثورة الاشتراكية إلى أميركا اللاتينية، إلى كوبا. وأصبحت أسماء كاسترو وجيفارا على كل لسان. والآن أميركا تخطب ودَّ كوريا الشمالية من أجل السيطرة على الصواريخ النووية العابرة للقارات والمحيطات التي يمكن إذا انطلقت أن تدمر أميركا في لحظات.
وسقط الستار الحديدي في أوربا الشرقية. وسقطت الاشتراكية التقليدية في الاتحاد السوفييتي. وجاءت أخرى أكثر تعاونًا مع الغرب الرأسمالي. وأصبح العالم ذا قطب واحد بدلًا من قطبين. وظهرت العولمة بوصفها الشكل الاقتصادي الوحيد الممكن للعالم. وهي شكل جديد من أشكال الرأسمالية القادرة على احتواء الآخر. وانقلب الوطن العربي مرة أخرى من الرأسمالية القديمة إلى الاشتراكية، ثم من الاشتراكية إلى العولمة حتى لا ينعزل بنفطه وتنميته عن نظام العالم الجديد.
وبدت الصين منعزلة عن كل هذه التغيرات. وبدا لها أن الغرب الأوربي والأميركي يعدّل من نفسه اقتصاديًّا وسياسيًّا ولكنه بقي ثقافيًّا رأسماليًّا. فأرادت أن تكسب الجولة بطريقة أخرى، بطريقة ضرب اليابان للأسطول الأميركي في بيرل هاربر في القطب الشمالي، وأميركا لا تتوقع ذلك، وضرب أميركا اليابان، هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية، واليابان لا تتوقع. وقد أدى ذلك إلى استسلام اليابان التام، وإغراق أسطولها الجوي في المحيط الهادي، وانتحار قادته رمزًا للبطولة والفداء.
الصين وفيروس كورونا
ثم خرج من الصين فيروس كورونا يمثل 1/1000 من الفيروسات العادية. لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. ينتقل من حيث لا يدري المريض، أمن الهواء أم من لمس الأشياء أم من تنفس الآخرين؟
وانتشر بسرعة البرق من الصين إلى أوربا ثم إلى أميركا ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ﴾. ولم تنفع أساليب الوقاية ﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾. ولم ينفع معه علاج إلا الحجر الصحي، وعزلة الإنسان عن أخيه الإنسان. جذوره في الصين وفروعه في آسيا وأوربا وأميركا اللاتينية. نبْتُه في الصين وأُكُلهُ خارج الصين. وقد يكون غزوًا كونيًّا للأرض كلها. فلا مفر من الموت، يأتيكم من حيث لا تعلمون. وتتبادر أمثلة شعبية إلى الأذهان مثل: «يوضع سره في أضعف خلقه»، و«إن معظم النار من مستصغر الشرر». ووصل الفيروس اللعين لرؤساء الوزراء في ألمانيا، وإلى الوزراء في إيطاليا وإنجلترا وإلى بقية الشعوب في إيطاليا وألمانيا وإنجلترا وإسبانيا.
وأخيرًا ضرب الولايات المتحدة التي أصبحت الأولى في عدد الإصابات والوفيات التي تُقدَّر بالآلاف. ووقف الطب عاجزًا عن أن يفعل شيئًا. ولم يستطع حتى الآن إيجاد مصل لإيقاف هذا الغزو الميكروسكوبي. وأصبح الغرب الذي كان نموذجًا للحداثة التي كانت تقلدها الحضارات غير الأوربية نموذجًا للانهيار والوقوع في أية لحظة من دون استعمال الأسلحة النووية أو الهيدروجينية.
انتهى كل شيء في غمضة عين إلا من البقاء في المنازل ﴿وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ﴾. فتحول الرجال إلى نساء. وسقط العلم الذي كانت تفخر به أوربا وأميركا. وانهارت الحداثة التي ظل الغرب يبنيها على مدى خمسة قرون، منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، والدفاع عن الإنسان في القرن السادس عشر، وعن العقل في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم في التاسع عشر. ثم بدأ الغرب يهدم حداثته بنفسه في التيارات المعادية للعقل والعلم والإنسان فيما بعد الحداثة، نظرًا لنهاية الحضارة الغربية بعد أن سادها الموت والعدم والقلق والهم ثم الانتحار. فجاء كورونا ليُساعِدهم على ما هم فيه.
الوطن العربي بين قطبين
وماذا عن الوطن العربي الذي يقع بين الشرق والغرب؟ لقد أصابه الوباء، ولكنه بصورة أقل فيما يبدو، نظرًا للإجراءات الوقائية الصارمة التي فرضتها الحكومات العربية على شعوبها مثل عدم الخروج من المنازل، وعدم لمس الأشخاص الغرباء أو الأشياء من دون تطهير. وضرورة لبس الكمامات لعدم استنشاق أي هواء غير نظيف، وارتداء قفازات اليد. وقد أُجِّلت الدراسة في المدارس والجامعات، وأُلغِيتْ كل التجمعات الثقافية في المكتبات والمراكز الثقافية. ومُنعت التجمعات الاجتماعية في النوادي والفنادق ومراكز التجمعات حتى لا تنتقل العدوى من شخص إلى آخر نظرًا للقرب الشديد بين الحاضرين، والقبلات والأحضان، والسلامات والأشواق. وبعد أن ظل الشعب المصري مطيعًا لهذه الإجراءات انتابه الملل. فخرج إلى الشرفات يغني بل يرقص جماعيًّا ليروح عن نفسه. فالبلاد النامية في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والبعيدة من مركز الحضارة في أوربا وأميركا مثل أستراليا ونيوزيلاندا هي أقل المناطق إصابة بالوباء. قد تكون الأرقام التي تعلنها الحكومات العربية لحالات الإصابة والوفاة غير صحيحة، أو أقل من الواقع، ولكن أرقام منظمة الصحة العالمية تفيد الشيء نفسه، أن الوطن العربي أقل إصابة من أوربا وأميركا، ربما لخوف الشعب العربي من حكوماته.
وقد يفسر بعضهم هذه الظاهرة بأن غضبًا إلهيًّا قد حل بالصين وبالغرب نظرًا لبعدهما من الدين. أما أمة محمد فهي ما زالت بخير بخلاف القلة التي قلدت الغرب أو الشرق في كل شيء؛ لذلك أصيب الغرب بعدوى الكورونا أكثر بكثير مما أصاب الأمة الإسلامية. وهي خير أمة أُخْرِجَتْ للناس. تأمُر بالمعروف وتَنهَى عن المنكر. على الرغم من أنها أغلقت المساجد في صلوات الجماعة. وأولها صلاة الجمعة. ومنعت العمرة خشية العدوى. وأغلقت بيت الله الحرام. ورمضان، الشهر الكريم، قادم. فماذا ستفعل الأمة في هذا الشهر الذي فيه موائد الرحمن للفقراء، وصلوات التراويح، والتهجد والتعبد ليلة نزول القرآن. وفيه العادات الشعبية الجماعية من الزيارات المتبادلة والأعياد والتراحم. وفيه التزاحم على شراء مستلزمات رمضان للإفطار والسحور.
ويقول المؤمنون المتفائلون: ستنتهي هذه الغمة قبل حلول الشهر الكريم. ويعود الناس إلى حياتهم اليومية في العمل لجلب الرزق. ويقول العلماء والأطباء ووزارات الصحة المسؤولة في الدول: قد يبقى الوباء شهرًا أو شهرين، والأكثر تشاؤمًا: سنة أو سنتين. فنحن ما زلنا في البداية.
ما حدث هو مجرد نذير لما سيأتي، جرس إنذار بأن الحياة الإنسانية هشة، وأن الحضارة الغربية أكثر هشاشة. ويقول فريق ثالث: سيتعود الناس على الوباء. كما تعودوا على الفقر والقهر، وغلاء الأسعار، وصعوبة الحياة اليومية، والاعتقال والاختفاء القسري. ولسان حالهم يقول: ما أراد الله وما شاء فعل، حسبي الله ونعم الوكيل، ويوكلون أمرهم لله. وهو المنتقم الجبار من الظالمين. وهو الرحيم الغفور للمؤمنين.
بواسطة حسن حنفى - مفكر مصري | مارس 1, 2020 | الملف
منذ عقد من الزمان يئس العرب من ماضيهم وحاضرهم. فقد استمر ماضيهم منذ الانقلاب على الناصرية منذ 1971م أو ما سمي بثورة التصحيح بعد أن أعد ناصر لحرب الاستنزاف في 1968-1969م التي أجهدت الجيش الإسرائيلي وعلمته أن الجيش المصري لا يهزم في ساعات ست، كما حدث في هزيمة 1967م. ودرب ناصر جيش مصر على عبور القناة وحرب الصواريخ قبل أن ينتقل إلى رحمة الله. وقد ظهر أداؤه العسكري في أكتوبر 1973م وهو ما أزاح آثار هزيمة يونيو 1967م. وقد انتقل الأداء العسكري إلى الأداء السياسي بطريقة أقل. فإعداد شعب للقتال أصعب من إعداد جيش. وظلت آثار هزيمة 1967م للجيش باقية في نفوس الشعب. ولم تظهر آثاره في سلوك الحياة اليومية أو تنظيمها. وظلت الأغاني الشعبية للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم تسخر من هزيمة 1967م. وتزيد أشعار من بيان أن حرية الشعب من المستبد الداخلي تسبق تحرره من المستعمر الخارجي مثلما قال زين العابدين فؤاد:
اتجمعوا العشاق في سجن القلعة اتجمعوا العشاق في باب الخلق
والشمس غنوة من الزنازن طالعة ومصر غنوة مفرعة في الحلق
اتجمعوا العشاق بالزنزانة مهما يطول السجن مهما القهر
مهما يزيد الفجر بالسجانة مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر
وواكب رد الفعل العسكري والسياسي والشعبي، رد فعل ثقافي عند مجموعة من النخبة المثقفة التي تدعي التفلسف فى مشاريع فلسفية نظرية معاصرة مثل: «نقد العقل العربي» بجزأيه و«بنية العقل العربي» و«تطور العقل العربي»، وهو ما يوحي بثلاثية كانط في الفكر الغربي في القرن الثامن عشر في ألمانيا و«نقد العقل الخالص»، و«نقد العقل العملي»، و«نقد ملكة الحكم». الأول لنظرية المعرفة، والثاني لنظرية الواجب، والثالث للحكم الجمالي والحكم الغائي. الأول والثاني معروفان، ما هو واقع، وما ينبغى أن يكون. أما الثالث فيتردد في الربط بين النظر والعمل عن طريق الجمال أو الغائية ليضع أسس مدرستين في الفن: الواقعية والمثالية. والعقل الأخلاقي ليس جزءًا بل مبدأ. وقد يُضاف العقل الأخلاقي. وقد تضاف مقدمة في التراث لتحديد موقفنا من التراث، وخاتمة عن تفسير القرآن الكريم، تفسيرًا طوليًّا كما فعل القدماء. ومن ثم تبخر المنهجان، الأول البنيوي السائد في الجزء الأول، والماركسي السائد في الجزء الثاني. وقد انتهى المنهجان إلى تماثل البنية: الخطابة، والبيان، والعرفان مع الثاني: البيان، والبرهان، والعرفان. وفي مشروع آخر «نقد العقل اللساني» تجاوز المفكر العربي محمد أركون العقل النظري والعقل العملي إلى العقل اللساني. فلا يوجد فكر بلا لغة. ويعلن طيب تيزيني أن مشروعه «من التراث إلى الثورة» يتكون من أحد عشر جزءًا مستعملًا المنهج التاريخي أي الماركسي وماسًّا الأجزاء الأربعة الأولى في المنهج التاريخي، من الفكر الإسلامي حتى الفكر بعد الإسلام. ولما استنفد المنهج الماركسي أغراضه انتقل إلى المنهج البنيوي في دراسة أهم التصورات الإسلامية. وهو ما حدث لعبدالله العروي أيضًا عندما بدأ ماركسيًّا وانتهى بنيويًّا لدراسة مفاهيم «الدولة»، و«الحرية»، و«التاريخ».
شعارات الثورة المضادة
وخرجت النخبة المثقفة من الإخوان والشيوعيين للدفاع عن بورسعيد وبورفؤاد ضد جنود المظلات الفرنسيين والبريطانيين وعادوا إلى السجن مرة أخرى، وهو ما دفع ناصرًا إلى التمصير عام 1957م، وتبني القومية العربية بالوحدة مع سوريا 1958-1960م. وقامت الثورة في العراق 1958م، ثم في ليبيا في 1959م واليمنية في 1962م بعد حرب ضروس بين الإمامية والضباط الأحرار حتى جاءت هزيمة 1967م لتضع حاجزًا أمام المد الثوري الذي انتهى بوفاة ناصر في 1970م. وبدأت الثورة المضادة بعدة شعارات مثل: «الرأسمالية ليست جريمة» بدلًا من «الإصلاح الزراعي»، و«التأميم»، و«التمصير»، و«الإسكان الشعبي»، وشعارات مثل: «الاتحاد، والنظام، والعمل»، و«تحديد إيجار المساكن»، و«العمل قوة»، و«العمل حياة»، و«القطاع العام»، و«الصناعة»، و«التنمية بالاعتماد على الذات». ووصفت انتفاضة يناير 1977م بأنها انتفاضة حرامية! وانتفاضة الأمن المركزي في يناير 1986م كذلك.
واشتدت الانتفاضات ضد الغزو الأميركي لبغداد 1993م. وما إن قامت الثورة الإسلامية فى إيران حتى نسب إلى الخميني قوله «الله أكبر الخميني هربر» أي قائد وليس أكبر من الله. وفي العام نفسه الذي قامت فيه الثورة الإسلامية فبراير 1979م انطلق الرئيس المصري إلى تل أبيب في نوفمبر وبعد مظاهرات يناير 1977م مطالبًا إسرائيل بالسلام، الأرض في مقابل السلام للانسحاب من سيناء مقابل السلام مع إسرائيل في معاهدة كامب ديفيد 1978م، ومعاهدة السلام مع إسرائيل في مارس 1979م. فلا استدعت إسرائيل هذه المعاهدات بالانسحاب من الأراضي المحتلة كلها، بل إن أميركا أعلنت أن حدود إسرائيل هي حدود 5 يونيو 1967م. وأصبحت إسرائيل صديقًا وإيران عدوًّا. وكشف الشرق الأوسط الجديد عن حلف. وأصبح العدو صديقًا، والصديق عدوًّا. وأصبحت التجارة علنية وسرية بما في ذلك تجارة السلاح. وأصبح العرب وإسرائيل حزامًا واقيًا للأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط فى مواجهة إيران وتركيا.
كبوة الثلاثين عامًا
وبالرغم من امتداد الثورة المضادة إلى نحو ستين عامًا، وبالرغم من الكبوة، ثلاثين إلى الداخل، وثلاثين إلى الخارج فإنها مدة لا تخلو من انتفاضات واعتصامات وإضرابات وتجمعت كلها في ثورة الشعب في الربيع العربي في 25 يناير 2011م. وهو عيد الشرطة الذي صمدت فيه شرطة السويس أمام جنود الاحتلال البريطاني على ضفاف القناة. ثم بدأت المطالبة بانسحاب جنود الاحتلال. ولما زاد التجمهر، وظهر الشعب المصري في كتلته الحيوية مطالبًا باستقالة الرئيس نفسه 11-12 فبراير. وقد حدث ذلك عندما رفض عمر سليمان نائب الرئيس أن يستمر فى منصبه وكذلك عندما رفض الجيش التدخل ضد الشعب لصالح الرئيس، وعندما رفضت أيضًا أميركا التدخل لإنقاذ النظام. فتهاوى النظام كورقة التوت. وتعود ثورة 1919م بعد مئة عام دون سعد زغلول ودون حزب الوفد. وإذا كانت مصر قد استنفدت الثورة الشعبية مرتين: ثورة 1919م، وثورة 2011م، وثورة العسكريين مرتين: محمد علي 1800م، وأحفاده ثورة 1952م وخلفائها فإنه لم يبق من آليات الثورة إلا المثقفون أي المفكرون الأحرار كما هو الحال في الثورة الفرنسية.
وارتبك العقل الجسدي على مدى ثلاث سنوات 2011-2013م في محاولة الإجابة عن أسئلة عدة: هل يوضع الدستور قبل الانتخابات حتى يعرفه الناس؟ واستقر الأمر على الانتخابات أولًا والدستور ثانيًا. والانتخابات الرئاسية أولًا قبل وضع الدستور. ولأول مرة انسحب الجيش من المعارك السياسية. ولأول مرة استقر النظام السياسي لمدة عام واحد بانتخاب الإسلاميين ولهم الأغلبية في البرلمان، وانتخاب رئيس إسلامي بنسبة ضئيلة. وعاشت البلاد مرحلة استقرار بالرغم من سيطرة مكتب الإرشاد على الحكم وكأنه كان كثيرًا على مصر حكم إسلامي دستوري، وقامت القوات المسلحة بانقلاب 30 يونيو 2013م باسم الجيش برئاسة وزير الدفاع للتخلص من النظام الواحد. وأصبح الجيش هو الذي يدير كل شيء. جاءت عسكرة الدولة ضد أخونة الدولة، أنت تحكم دوني، وأنا أحكم دونك. وما أسهل من قيام حكم ائتلافي. فلا يتحكم أحد في أحد، ولا أحد في المعتقل. وهذا هو معنى الحكم الائتلافي ﴿وشاورهم في الأمر﴾، ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾. الله وحده هو الذي يستطيع أن يرى كل شيء. أما الإنسان فإنه ستتكامل لديه جميع الآراء. وكلاهما ليس له خبرة في الحكم. الأول الحكم للعسكر. والثاني الحاكمية لله. ولا العسكر، ولا الله يحكمان مباشرة إلا من خلال الشعب والمصالح العامة. الحكم لشعب برلماني، دستوري، ديمقراطي، قضائي.
ويبحث المثقفون عن شرارة لتوقظ الرماد الخامد. ويبحث الملحنون عن صوت يوقظ الأصوات الخافتة. ويبحث المتفائلون عن نقطة أمل يتشبثون بها. ويظن الكثير أن الجسد انتهى إلى غير رجعة. بل إن نهر النيل أكثر يقظة منه. والخوف أن تعود الدورة من جديد، دورة 1952-2011م، أن تأتى اليقظة من القوات المسلحة. فعين مصر الخافتة لا تنام. وشرارة مصر الكامنة لا تنطفئ. وهذا هو سر بقائها آلاف السنين.
بواسطة حسن حنفى - مفكر مصري | نوفمبر 1, 2019 | الملف
انقلبت العصور الحديثة على نفسها مئة وثمانين درجة، من النقيض إلى النقيض، كما انقلبت هي على عصرها الوسيط من النقيض إلى النقيض، وعادت إلى عصر وسيط جديد. وانتهت قصة سبع مئة عام من التحرر بداية بالعودة إلى الآداب القديمة في القرن الرابع عشر إلى عصر الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر إلى عصر النهضة في السادس عشر إلى العقلانية في السابع عشر إلى التنوير في الثامن عشر إلى الثورة الصناعية في التاسع عشر إلى أزمة القرن العشرين، حربان عالميتان طاحنتان في أقل من خمسين عامًا. ويبدو أن دورة الحداثة الغربية قد اكتملت على مدى سبعة قرون لتبدأ دورة أخرى، العصر الوسيط الجديد. في حين تبدأ دورة الحداثة في حضارة أخرى مثل الحضارة العربية الإسلامية تحاول أن تغلق عصر الوسيط منذ قرنين من الزمان بعد أن مرت بالإصلاح الديني وبعصر الإحياء وتحاول الانتقال إلى النهضة الشاملة.
بدأت الحداثة الأوربية عنيفة نافية هدامة، من النقيض إلى النقيض في عصر الإحياء في الرابع عشر بدءًا بإيثار الآداب القديمة اليونانية والرومانية على الآداب الوسيطة أوغسطين وبويثيوس. والأدب الوثني. برومثيوس يسرق النار من الآلهة. وأوليس وزيوس أفضل من الأدب المسيحي حول الأب والابن والروح القدس الذي أخذ وظائف الآلهة اليونانية وأعطاها لآلهة بني إسرائيل التي تقلل من قيمة الإنسان، تخيفه وترعبه، وتوعده بالعقاب والحرق في الجحيم. ثم بدأ الإصلاح عنيفًا ضد الكنيسة والتوسط بين الإنسان والله واحتكار تفسير الكتاب المقدس لصالح حرية الفهم الذاتي، وضد صكوك الغفران لصالح التوبة الصادقة، وضد العصمة البابوية لصالح الخطيئة البشرية، وضد الشعائر والطقوس الخارجية والمراءاة والتظاهر والنفاق الديني لصالح الإيمان الخالص والتقوى الصادقة، وضد الهيمنة الرومانية باسم المسيحية على باقي الشعوب لصالح استقلال الشعوب واللغات القومية.
ثم استأنف عصر النهضة قوة الرفض للقديم لصالح الجديد، وضد النقل لصالح العقل، وبعيدًا من البحث عن الروح للبحث في الجسد واكتشاف الدورة الدموية، وضد تقليد القدماء من أجل إبداع المحدثين، وضد التصور المركزي الإلهي للعالم من أجل التصور الإنساني المركزي للعالم. ثم بدأ القرن السابع عشر بإيثار المنهج على الموضوع، المنهج العقلي عند ديكارت، ألا أقبل شيئًا على أنه حق إن لم يبد للعقل أنه كذلك، وأن وجود الإنسان يثبت بفكره «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، وأن المعرفة العقلية اليقينية خير من المعرفة اللاهوتية الظنية. ووضع بيكون المنهج الآخر، المنهج التجريبي، ألا يقبل شيء أنه حق إن لم تصدقه التجربة بعد التخلص من أوهام المسرح والسوق والكهف وما تعود عليه الناس على أنه صحيح. فاستبعدت المعجزات وخوارق العادات. واشتد الرفض العقلاني عند إسبينوزا برفضه الاستثناءات الديكارتية من المنهج العقلي، العقائد والنظم السياسية والعادات والتقاليد وإثبات أن حرية الفكر ليست خطرًا على الإيمان ولا على سلامة الدولة بل إن القضاء على حرية الفكر فيه قضاء على الإيمان الصحيح وأمن الدولة. ثم تفجر العقل في المجتمع في القرن الثامن عشر فاندلعت الثورة الفرنسية للقضاء على النظام الملكي والفصل بين الكنيسة، كما صاح فولتير «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس». وأصبحت مبادئ الثورة الفرنسية، الحرية والإخاء والمساواة، إنجيلًا بديلًا للغرب وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن وليس لحقوق الله. ثم جاءت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر لتفجر العقل في الآلة، وتبدع الثورة التكنولوجية الأولى ثم الثانية. عرفت قوة البخار ثم الكهرباء ثم المغناطيسية ثم الإلكترونية. وأصبح الإنسان سيد الطبيعة. وآمن الغرب بالتقدم اللامحدود. وخلد ذلك في المعرض الصناعي الذي شيد من أجله برج إيفل. وانتصر الإنسان على كل شيء على الكنيسة وأرسطو وبطليموس. وانتقل الغرب من العصر الوسيط إلى العصر الحديث، رد فعل على الكنيسة، العقل ضد الإيمان، والعلم ضد الميتافيزيقا، والإنسان ضد الله، والتاريخ ضد العناية الإلهية.
نموذج الحداثة
وفي إطار هذا الرد العنيف ألقى الغرب الطفل مع الماء في طقس العماد طبقًا للتشبيه الشائع. ونقلت عنه الشعوب الأخرى، ومنها الشعب العربي، النموذج. وتحولت الحالة الخاصة إلى حالة عامة. وأصبح تقليد الغرب هو نموذج الحداثة وسبيل التقدم: العقلانية، العلمانية، العلمية، الإنسانية، الاشتراكية. وكلها ضد الدين. وكلما اشتد تغريب النخبة قويت محافظة الجماهير. وانشقت الأمة إلى فريقين، علمانيين وسلفيين، وكلاهما يتصارع على السلطة إذا ما ضعفت الدولة، والدولة تضرب فريقًا بفريق طبقًا لمظانّ الخطر. وما زالت الحرب بين الإخوة الأعداء على أشدها.
أقامت الحداثة الأوربية قاعدتها على المحاولة والخطأ والتجريب بعد رفض النظريات الكلية والمذاهب الشاملة والعقائد الدينية. جربت مختلف الرؤى والنظريات. فلما بان أنها أحادية النظرة جربت الرؤى والنظريات النقيضة. فلما ظهر أيضًا أنها أحادية الرؤية جربت نظريات وسيطة تجمع بين النقيضين. فتوالدت المذاهب بعضها من البعض الآخر طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل، من العقلانية إلى التجريبية إلى العقلانية الجديدة أو التجريبية الجديدة، من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى الكلاسيكية الجديدة أو الرومانسية الجديدة، من الصورية إلى المادية إلى الصورة الجديدة أو المادية الجديدة، من المثالية إلى الواقعية إلى المثالية النقدية أو الواقعية بلا ضفاف. وظل الوعي الأوربي حائرًا بين هذه الاختيارات الثلاثة حتى انتهى إلى النسبية أو الشك أو اللاأدرية أو العدمية. الحقيقة أمامه ولا يستطيع التصويب إليها، كالمشلول الذي يضع يده باستمرار بجانب الشيء وليس عليه ليمسك به؛ لذلك صاح نيتشه في أواخر القرن التاسع عشر «إن الله قد مات» وعاش الإنسان. ثم أعلن رولان بارت في منتصف القرن الماضي موت المؤلف، والكتابة في درجة الصفر.
وجاءت تيارات ما بعد الحداثة لتعلن نهاية الحداثة، والمذاهب الكبرى، والروايات الشاملة. مهمتها التفكيك وليس التحليل. التفكيك من أجل التفكيك في حين أن التحليل من أجل اكتشاف الوحدات الأولى وإعادة التركيب. واتهم العقل بأنه «لوجو ماخوس». وتحول الفكر إلى كتابة، والمعاني إلى وحدات كتابية كما يقول دريدا في «الجرماتولوجيا». وأصبح العالم متشظّيًا لا يجمعه جامع حتى يسهل على العولمة ابتلاعه جزءًا جزءًا. وتنبأ فلاسفة التاريخ في الغرب بأزمة الوعي الأوربي، وبأنه قد تخلى عن حداثته التي طالما ضحى من أجلها بشهداء الفكر مثل جيوردانو برونو الذي حُرق علنًا في روما، وإسبينوزا الذي تمت محاولة اغتياله من الطائفة اليهودية، وجاليليو الذي سُجن، ودانتون الذي وضع تحت المقصلة وغيرهم. فأعلن هوسرل «أزمة العلوم الأوربية» وأنها استبدلت الواقع بالماهية أو وقعت في الموازاة بين الظاهرتين النفسية والجسمية. ورأى ماكس شيلر «قلب القيم» عندما أصبح الحق باطلاً والباطل حقًّا، والواقعُ قيمةً، والقيمةُ واقعًا بعد فصل الوعي الأوربي بين حكم الواقع وحكم القيمة بدعوى العلم والموضوعية والحياد. ولخص برجسون الحضارة الغربية في أنها مجرد آلة لصنع آلهة جديدة. وتحدث سولوفييف عن «أزمة الفلسفة الغربية» وضياعها بين الدين والعلم والوضعية. وكتب بول آزار «أزمة الوعي الأوربي» كاشفًا عن جذوره في القرن التاسع عشر. وكتب راسل «محاكمة الحضارة الغربية».
وكتب شبنغلر من قبلُ «أفول الغرب» متنبئًا بنهايته إن لم تنبت فيه دوافع جديدة رآها البعض في النازية والعنصرية والقوة والغزو، والأسطورة والدين، دماء أوربية جديدة بعد أن صفيت الدماء الأولى في تجارب الحداثة. وإذا كانت الحداثة قد تخلَّت عن الدين لصالح العلم فإن نقد الحداثة يتخلى عن العلم لصالح الوثنية الجديدة. فملكوت السماء وَهْمٌ سواءٌ كان الدين القديم أو البديل الجديد في العقل والعلم. ولا يوجد إلا ملكوت الأرض. تخلى الوعي الأوربي عن مسيحيته، وعاودته يهوديته. وتخلى عن يونانيته في العقل، وعاودته رومانيته في القوة. وأصبح الوعي الغربي يهوديًّا رومانيًّا يؤمن بالاختيار والتفوق والقوة والهيمنة أكثر منه مسيحيًّا يونانيًّا يؤمن بالفضائل المسيحية وفي مقدمتها حب الجار والتواضع أو العقل اليوناني والتمسك بالمثال الأفلاطوني أو المنطق الأرسطي أو الأخلاق الرواقية والعيش وفقًا للعقل كما عاش الحكيم.
بدأ الوعي الأوربي حلًّا لأزمته البحث عن البديل، فعاد إلى الدين في صورته المحافظة، عقائد الخلاص والإيمان والألوهية والرسالة والاختيار مزجًا بين المسيحية واليهودية في المسيحية الصهيونية التي تؤمن بالمعاد وتحقيق الوعد وتأسيس الدولة اليهودية في فلسطين، وإعادة بناء هيكل سليمان. لم تسيطر الصهيونية فقط على مراكز المال والاقتصاد بالولايات المتحدة بل أيضًا على العقيدة والفكر والأيديولوجيا بعد أن سقطت المنظومة الاشتراكية في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي. وأرادت الرأسمالية أن تجدد نفسها من مجرد نظرية في الاقتصاد إلى نظرية في العالم والتاريخ والبشر. عاد الدين كما كان في العصور الوسطى قبل العصور الحديثة، محركًا للسياسة ودافعًا عليها دون نقد أو تحليل. لم يعد الصراع بين الكنيسة والدولة قائمًا كما كان في بداية العصور الحديثة بل تعاون الاثنان. الرئيس الأميركي يصلي في الكنيسة، والقسيس داعية في البيت الأبيض، ومبررًا لسياسات الرئيس.
تفسير محافظ للدين
واختفت الليبرالية السياسية، والتعددية الفكرية لصالح تفسير محافظ للدين وأحادية النظرة له كما هو الحال في معظم الاتجاهات السلفية. بل تجاوز العود إلى المسيحية الصهيونية إلى الديانات الشرقية الآسيوية وبخاصة الهندية والبوذية. وظهرت جماعات كرشنا تلبس المسوح الصفراء، وتحلق الرؤوس، وتصفق بالأيدي، وتدق الأجراس، وتسير في الطرقات، وتقف على محطات المترو وفي الميادين العامة تصدح كمؤشر على البديل من شباب جديد ملتزم بعيدًا من الحياة الدنيا والانغماس في رأس المال. كما ظهرت ديانات صوفية جديدة تخلق مجتمعات بديلة. يعيش المؤمنون بها في كميونات عيشة جماعية يمارسون العبادة الجماعية والجنس الجماعي. كما اكتشف آخرون التصوف الإسلامي، وكونوا جماعات المولوية لجلال الدين الرومي، يرقصون ويدورون على أنفسهم والطربوش مائلًا على الرأس. والرداء مملوءًا بالهواء، والعباءة تطير فوق الرؤوس زاهية الألوان. وانتشرت كتب التصوف الفارسي. وأصبحت بديلًا عن الإسلام أو هي الإسلام ذاته. كما انتشرت كتب السحر والخرافة والخيال العلمي، وكما وضح أخيرًا في رواية «هاري بوتر» التي وزعت منها الملايين. وأصبحت مؤلِّفتُها بطلةً قوميةً. والبعض الآخر يمارس العنف ويقتل على الهوية، ويقضي على فصل دراسي بالكامل أو يصعد سطح أحد المنازل أو المدارس ليطلق النار على المارّة والطلاب. فهو غاضب من عدم الانتماء. ويحتاج إلى بطولة حتى لو كانت زائفة. يظهر في الإعلام. ويتصدر عناوين الصحف والأخبار. ويؤكد ذاته عن طريق البطولة الجوفاء حتى لو سماها المجتمع والقانون جريمة. وتظهر جماعات اليمين من الشباب لقتل المهاجرين أو الملونين دفاعًا عن الهوية البيضاء الخالصة، والتخلص من الآخر الغريب، قتلًا وحرقًا وغرقًا لتصفية المجتمع من الدخيل.
انقلبت العصور الحديثة إلى غير ما انتهت إليه ودافعت عنه. وضحت من أجل العقل والعلم والإنسان والحرية والمساواة والتقدم. وظهرت فلسفات مناهضة للعقل، كل الفلسفات الوجودية تقريبًا باستثناء ياسبرز وسارتر وميرلوبونتي. فالعقل عاجز عن إدراك كل تناقضات الوجود الإنساني. العقل للأنساق والوجود تناقض. وأرخ لوكاش لكل التيارات المناهضة للعقل في «هدم العقل». وجعل برجسون العقل لا يدرك إلا الظاهر والشكل الخارجي والساكن والكمي. والحياة قوة واندفاع وحركة من طبيعة الدين. وأصبحت الفلسفات الوجودية ضد العلم لأن الوجود ليس شيئًا كميًّا موضوعيًّا بل هو ذاتية لا يمكن تحويلها إلى موضوع كمي. العلم للمادة، والوجود ليس مادة. العقل والعلم من نفس الطبيعة الخارجية الكمية الثابتة. والإنسان هو الفرد المنعزل الذي لا هدف له ولا غاية. لا يشارك أحدًا ولا يشاركه أحد. والآخر هو الجحيم عند سارتر. والوجود عدم لا يقوم على شيء، فراغ لا ملاء، وتجويف لا بروز. والإنسان واقف في محله لا يتحرك، لا مسار أمامه ولا تاريخ وراءه. دمرت الحداثة نفسها بنفسها، وقضت على مكتسباتها. فلم يبقَ بديلًا إلا الدين والخرافة والعنصرية واليهودية الرافضة لغيرها.
كانت الحداثة خارجية، لم تخترق وجدان الوعي الأوربي. كان دافعها المصلحة والكسب والمنفعة. وتقوم على الأنانية والغرور والرغبة في القوة والسيطرة. وارتبطت بالعرق والجنس فنشأت النزعات القومية وصراع الإمبراطوريات داخل الغرب مئات السنين. ثم خرجت خارج حدودها إلى إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لتجد مجالًا حيويًّا لها. فنشأت مستعمرات فرنسية وإنجليزية وبلجيكية وهولندية وإيطالية وإسبانية خارج أوربا. بل استولت أوربا على نصف الكرة الغربي بعد أن حط كولومبوس عليها. وقضى المهاجرون الجدد الباحثون عن الذهب على أربعين مليونًا من السكان الأصليين. ونشأ صراع بين التكنولوجيا والأيديولوجيا. فالتكنولوجيا قادرة على حل الخلافات الأيديولوجية. فالعبرة بالتقدم العلمي والتكنولوجي وليس بالولاء الأيديولوجي. ثم عادت الأيديولوجيا لتنازع التكنولوجيا عَرْشَها. فالدول والمعسكرات والأحلاف انتماءات أيديولوجية مثل العالم الحر، المعسكر الديموقراطي وأخيرًا الدين والاختيار الإلهي للرؤساء ورثة الأنبياء. فالدين يعطي الإحساس باليقين بعد تردد الحداثة وشكها في كل بديل. وعندما يتعب الشعور الحضاري ويترهل ولا يعود قادرًا على البحث فإنه يرتكن إلى أي يقين. واليقين الأكثر مباشرة هو اليقين الديني.
وإذا كانت الحضارة الغربية قد أكملت دورتها الثالثة في عصورها الحديثة، الأولى الدورة الكلاسيكية اليونانية الرومانية، والثانية الدورة المسيحية في العصور الوسطى، والثالثة هي دورة العصور الحديثة، كل منها سبعة قرون فقد تبدأ حضارات أخرى دورات جديدة في الصين أو الهند أو الحضارة العربية الإسلامية التي أكملت دورتها في عصرها الذهبي الأول في القرون السبعة الأولى حتى ابن خلدون على مدى سبعة قرون. ثم تحاول أن تكمل دورتها الثانية الوسيطة منذ فجر النهضة العربية منذ مئتي عام، سبعة قرون أخرى. فقد تكون الآن على أعتاب دورة ثالثة، عصورها الحديثة وهو ما يكشف عنه الصراع الدائر الحالي بين القديم والجديد، وبين التقليد والاجتهاد، وبين النقل والإبداع، «تلك الأيام نداولها بين الناس».
بواسطة حسن حنفى - مفكر مصري | سبتمبر 1, 2019 | مقالات
يدخل هذا الموضوع في «السنن الكونية»: «سنة الله في خلق الإنسان». ويمكن تصور الموضوع ككل بإعادة تنظيم محاوره ونقاطه فيصبح «الإنسان في العالم» أي الإنسان بين عالمين، عالم العقل وعالم الحس، القبلي والبعدي عند كانط، عالَم ديكارت وعالَم بيكون.
والألفاظ أسماء وصفات. معظمها مفرد وجمع. والصفات الجمع تتبع الأسماء الجمع. الأسماء المفردة: مفهوم، التاريخ، الله، خلقه، تراث، علم، الكتاب، السنة. والجمع: قوانين، السنن، الأكوان، الألوان، طبائع، أقسام، مصادر إدراك، تتبع الصفات: إلهية، كونية. الجمع: الأكوان، طبائع، أقسام، مصادر إدراك. ولا يعني تحليل اللغة تحليل معاني الألفاط بل أيضًا ربط مضمون بعضها ببعض لتكوين صورة أو إشارة أو لحن أو فحوى كما هو الحال في علم أصول الفقه. بل يعني أيضا المجاز والتشبيه لتكوين الصورة كما هو الحال في الظاهريات. فمعنى اللفظ لا يحدُّه حدّ كما هو الحال في المعاجم اللغوية.
بل هو أقرب إلى الشعر أو نص مقدس مثل الإنجيل أو القرآن. والغالب على الموضوع منهج تحليل الألفاظ مثل: الله، السنن، القوانين. وهي جزء من منهج علم أصول الفقه: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المُحْكَم والمتشابه، المُجمَل والمبيّن، الخاص والعام. وهو ما يقابل تحليل الألفاظ في المنهج الظاهرياتي في الفلسفة الغربية المعاصرة. «سنن الله في خلقه» تعني تحكم هذا العالم أي الخلق. فهذا العالم لم يخلق هباء. فالعالم لا يكون من دون إله. والله بلا عالم كخالق بلا مخلوق. من يخلق؟ كما تساءل الصوفية السؤال نفسه عن إله بلا عالم. لذلك قالوا بوَحْدة الوجود أي وَحْدة العالمين، الخالق والمخلوق. فلا خالق بلا مخلوق. ولا مخلوق بلا خالق. يوجد شيء واحد، خالق ومخلوق. والإنسان موجود في العالم كما يقول الوجوديون «وجود في العالم». فلا يسأل عن أصليهما. الوجود يسبق الماهية. والماهية أصلها العجز عن المعرفة يعطي «الله أعلم»، والعجز عن الفعل فيعطي «الله قادر». فإذا ازداد العجز في الإحساس وكان الإنسان أطرشَ أعمى، والنقص والإرادة أعطي الشخص النقيض السمع والبصر والكلام والإرادة، وهكذا تنتقى الأسماء التسعة والتسعون، من النقيض إلى النقيض؛ النقص الإنساني إلى الكمال الإلهي. وسنن الله في خلقه تعني ربط العالم بمجموعة من القوانين بعد خلقه. فالله هو الخالق. والعالم هو المخلوق. ولا يترك العالم بعد الخلق سُدى. ويَعْني خلق الله العالم أن العالم له أصل، ضدّ ما يقوله الوجوديون المحدثون بأنه لا أصل له. فإذا كانت البداية هو الخلق فإن النهاية هو البعث. فالعالم له أصل وله غاية. الخلق من أجل العمل الصالح، والبعث من أجل الموازنة بين (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات). فالعالم ميدان فعل. والفعل عطاء وليس كسبًا، مالًا أو ولدًا. فالخلق هو العالم الذي يعيش الإنسان فيه. فالإنسان «وجود في العالم» كما يقول الوجوديون. يعيش فيه ويموت. لا يعرف الخلق والبعث.
بل يعرف الحياة والموت وما بينهما الزمن المحدد. ولا يعرفه الإنسان. لذلك كان الخلق والبعث من العقائد بديليْنِ من الحياة والموت.«سنن الله في خلقه» هو التعبير القديم عن «الحرية الإنسانية»، و«حقوق الإنسان» التعبير الحديث. فالأصالة القديمة تأصيل للمطالب الحديثة. فإلى أي حد تدخل أفعال الإنسان الجزئية في إطار السنة الإلهية العامة؟ وإلى أي حد تعمّ سنة الله الكونية حرية الإنسان الفردية؟ وهل المطلق يعم النسبي؟ أليست الحرية كالنبوة تعتبر مُلْتَقى المطلق والنسبي، الإلهي والإنساني؟ ويرجع السبب في ذلك إلى استبعاد لفظ «سنن». وهو لفظ متشابه؛ إذ يطلق على القوانين الطبيعية أو الكونية والقوانين الرياضية على الرغم من اختلاف نسبة درجة اليقين في كل منهما. أما الأفعال الإنسانية فإنها لا تخضع لسنن أو قوانين نظرًا لوجود الحرية فيها. فهي تقوم على الحرية. تعني «سنن الله في خلقه» العالم الموضوعي. فالسنن قوانين موضوعية في حين أن القوانين من اكتشاف الإنسان وهمومه. والطبيعة واعية. بها قدر من الوعي حتى يستطيع الإنسان أن يتعامل معها. وهي طبيعة مائية وطبيعة نباتية. وتضم أيضًا الحيوان. وتضم أيضًا الحشرات. والطير مثل الهدهد والزواحف مثل الحية. والإنسان قمة الوعي الطبيعي. والسنن الإلهية هي السنن الكونية. فالكتاب والسنة مصدران لمعرفة السنن. ومن أحد مصادرها المعرفة بالاستنباط، من الوحي إلى الواقع. والاستقراء، المنهج الثاني في تعليل السنن الإلهية. أما الله فهو القوة الفاعلة. هو واضع السنن والقوانين. فالتشخيص تيسير على الفهم. الله قوة فعَّالة تحوِّل السنن إلى قوانين طبيعية. فالأكوان هي الطبائع الجماد والنبات والحيوان. وإذا كانت الأكوان قد تكون من الطبائع فإنها الجماد والنبات والحيوان والإنسان. فالإنسان ظاهرة طبيعية، نعم ولا. نعم تنطبق عليه القوانين الطبيعية، ولا، لا تنطبق عليه هذه القوانين؛ نظرًا لوجود الحرية الإنسانية. والأكوان هي الخلق. والخلق هو الطبيعة. والطبيعة هي ما تحت فلك القمر وما فوق فلك القمر. هي: النجوم والكواكب والمجموعة الشمسية وباقي المجموعات غير الشمسية. وهي موضوع علم الفلك. والطبيعة الأرضية هي الجبال والتلال والهضاب والصحراء والبحار والمحيطات والأنهار والبحيرات والآبار. ثم النبات مثل كل ما هو أخضر كالأشجار والنخيل والأعشاب. والحيوان مثل الزواحف والأسود والنمور، والزرافى والأفيال والأرانب والجمال والقطط والكلاب، والإنسان الذي لا يصنف طبقًا للون البشرة كما يفعل العنصريون.
والإنسان قسَّمَه الفلاسفة إلى حس وعقل وروح. فالحس للإدراك، والعقل للتفكير، والروح للحياة. والروح هو أساس الحياة في العقل والحس. وأضاف الصوفية إلى العقل الذوق لإدراك ما لا يدركه العقل. وقد تنوعت أسماء الذوق إلى الروحي. والأفق ظاهرة جغرافية، انطباق السماء على الأرض. وعند الفلاسفة الاستمالة، وعند الشعراء حامل النجوم والكواكب. وهو والقمر للفلكيين حساب، وعند الرياضيين حساب. كل ذلك يقوم به الفلكيون أو الرياضيون وهو ما اشتهر به العرب نظرًا لحساب مواقيت الصلوات والشهور العربية وشهر رمضان ومواقيت الحج في الظاهر. وفي الباطن الإحساس بالزمان وأداء الأعمال في أوقاتها وهو ما يثاب عليه الأوربيون وبخاصة الألمان، وما يعاب على العرب المسلمين. وفي الأمثال الأوربية Time is money الوقت هو المال أي المكسب والربح. والفعل المقصود في المثل هو الفعل الاقتصادي والفعل السياسي ولكن أيضًا الفعل الأخلاقي والفعل الاجتماعي مثل المساعدة في شفاء المرضى وإطعام الجوعى، وإسكان وإلباس العاري (لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا).
وسنن الله في التاريخ تعني قوانين التاريخ وسقوط المجتمعات وانهيار الحضارات إذا ما رصدت الأنبياء. فالنبوة تقدم في التاريخ، ودفع له إلى الأمام، وإزالة عوائق التقدم مثل الانشغال بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا. ورصد مراحل التاريخ في ثلاث مراحل: الدين والفكر والعلم. وقد جعلها هيغل مثل ليسنغ اليهودية والمسيحية والإسلام. فالإسلام دين الإيمان والعقل والعلم. في الوقت نفسه الشريعة اليهودية السمحة، والمسيحية المتسامحة، والإسلام دين السماحة.
ليس هذا خروجًا على التراث بل تجديدًا له. فالتراث ليس من صنع رجل واحد أو عالم واحد أو فرقة واحدة بل هو من صنع كل الرجال وكل العصور وكل الاتجاهات بما فيها الفرق الضالة. فقد بدأ الغزالي منذ القرن الخامس في «الاقتصاد في الاعتقاد» كتابه عن علم أصول الدين أي علم الكلام ونصره الأشاعرة ضد المعتزلة، يضيف في آخر الكتاب حديث الفرق «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار» وتضيف بعض الصياغات «إلا واحدة» وإضافات أخرى «هي ما أنا عليه أنا وأصحابي» بحيث ضاق التفكير واتسع الأفق للإيمان. فالغزالي هو المسؤول عن جعل الفكر الإسلامي أشعريَّ الاتجاهِ، نمطيًّا.
والسنن أو القوانين الإلهية لا تستنبط أو تُرصد من الكتب بل تستقرى أيضًا من حوادث التاريخ كما يقول علماء أصول الفقه، التعليل ضرورة تطابق العلة المستنبطة لغويًّا من النص مع العلة المستقرأة تجريبيًّا من الواقع الخارجي لمنع تدخل الخيال الفني في الصياغة. فقصص نوح والسفينة وغرق ابنه بالرغم من وقوفه على أعلى قمة في الجبل، وقصة إبراهيم والحجارة التي تتكلم والنار التي لا تحرق، والكبش من السماء لذبحه فداء لإسماعيل، وموسى وقذفه في الماء من أمه طفلًا ودفعه حتى شاطئ قصر فرعون، وتربية امرأة فرعون له، وكبره، وظهور معجزاته وهو حي، من عصاه، تحولها إلى حية تأكل باقي حيات سحرة فرعون، وشق البحر بعصاه ليعبر ويغرق فرعون وجنوده، وتركه قومه في سيناء بعد أن عصوه وذهب ليتعبد، وأخذ يوشع بني إسرائيل قومه إلى أرض الميعاد فلسطين ومحاربة أهلها ليستوطن فيها.
ومع ذلك لم يؤمن بنو إسرائيل فأرسل الله لهم عيسى كبرى معجزاته، معجزته في ميلاده وحياته وموته. أحيا الموتى، وشفى المرضى، وأبصر الأعمى، وأنزل الله له مائدة من السماء كما طلب بنو إسرائيل. ومع ذلك لم يؤمن به كل اليهود بالرغم من كل المعجزات (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُون)، (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا). وأصبح الدليل على النبوة هو الفعل الحركي الأخلاقي كما هو الحال في الإسلام.