الكاتب في خيمة العقيد!
كنت حينها قد خرجت للتو من السجن نهاية ثمانينيات القرن الماضي بعد سجن لسنوات عشر، وفي أيامي الأولى من الزواج، لمّا استُدعِيت ورفيق السجن الشاعر إدريس الطيب لمقابلة العقيد معمر القذافي. كنا نقيم في مدينة بنغازي واللقاء في طرابلس الغرب، وبينهما أكثر من ألف كلم ذهبنا إلى المطار من دون تذاكر، وفي ظننا أن هناك من سيقوم بمهمة إجراءات سفرنا، خاب الظن ففتشنا الجيوب، ما جمعنا لم يكفل ثمن تذكرتين فاستلفنا من شخص معرفة بقية المبلغ، وفي طرابلس نزلنا في فندق درجة ثالثة مليء بالصراصير يقابل اتحاد الكتاب لأن من يديرونه يعرفوننا. ومن علم بالاستدعاء من أهلنا والأصدقاء والزملاء توجس خيفة علينا، فمقابلة القائد، كما يدعى، ليست آمنة وبخاصة لمن خرج توًّا من سجن بتهمة سياسية لمعارضته.
في الفندق حيث بقينا ليومين في انتظار من يتذكرنا ويأخذنا للمقابلة زارنا زملاء عدة من الكُتاب لمقابلتنا والاطمئنان علينا، وكان القائم بمهام اتحاد الكتاب حينها الكاتب (كامل عراب) يقوم بالاتصالات وإعلام القيادة بحضورنا حسبما الاستدعاء. في اليوم الثالث غادرت الحبس المفروض/ الفندق أسوح في المدينة، أين عدت وجدتهم في انتظاري فمقابلة القائد حانت، من ينتظرني وسيأخذنا للمقابلة (فوزية شلابي) الكاتبة والمسؤولة المقربة للقذافي برفقة حارسة شخصية له تدعى (فاطمة نافع) ذات صلة بالثقافة. حشرنا الأربعة مع السائق في سيارة صغيرة قديمة عند غروب الشمس والجو بارد وللعلاقة القديمة بالزميلة شلابي أخذنا حديث حميم.
توجه السائق إلى طريق المطار قبله بقليل انحرف إلى طريق ترابي بين غابة من الأشجار، ولمسافة قدرها عشر دقائق دخل سور مزرعة ثم توقف عند كثبان صغيرة من الرمال، تفحصتُ المكان بعين المندهش، عن بعد خيمة بدوية وأمامها نار تشتعل تبين أن وقودها حطب الغابة. تقدمت السيدتان فيما تأخرت، فصديقي يستخدم عكازًا فرجله مصابة بشلل الأطفال. كابدنا قطع المسافة القصيرة بسبب كثبان الرمال، لما وصلنا شاهدنا القذافي قادمًا إلينا من الخيمة، اتجه نحو صديقي قائلًا: السجناء يتأخرون عن ميعادهم، فقال صديقي: بل الأصحاء يعانون الوصول في مثل هذا الحال.
لما دخلنا الخيمة فوجئنا بوجود الكاتب الليبي المعروف (صادق النيهوم) جالسًا على كرسي أبيض من البلاستيك، قبالته الدكتور رجب بودبوس أستاذ الفلسفة بالجامعة الليبية ثم وزير الإعلام والثقافة، جلب لنا الحراس كراسي مماثلة لكن نقص واحد، وهو ما جعلنا نتدافع في التنازل عن كرسينا لإحدى السيدات التي رفضت وجلست على شيء يشبه صندوقًا، رحَّب بنا بأريحية النيهوم والقائد الذي غادرنا بعد قليل لأن ياسر عرفات ينتظره في خيمة قريبة، قالها القذافي أسفًا على هذا الاضطرار. إدريس الطيب من تربطه علاقة خاصة بالنيهوم دخل في حديث معه والآخرون كذلك، وكعادتي حين لا أعرف أحدًا أصاب بالصمت.
لم أفطن إلا والعقيد يعود لخيمته ويجلس على كرسي بلاستيك ويبدأ الحديث، غاب ما يقارب الثلث ساعة، وفوجئت به يتحدث عن لينين وجريدته إسكرا ـ الشرارة التي فجرت الثورة البلشفية وغيرت العالم، التهمة التي حُكم علينا بالمؤبد على أساسها أنا وإدريس وعشرة زملاء آخرون من الشعراء وكتاب القصة، التأسيس والانضمام لحزب شيوعي يستهدف إسقاط نظام الحكم والاستيلاء على السلطة كما وجهتها لنا نيابة الثورة، التهمة ملفقة لكن حديث القذافي ذكرني بها ولم أعرف دوافعه حينها.
ومن عادات القذافي أن يطرح فكرة ثم يذهب بعيدًا عنها أثناء حديثه، في تلك الجلسة رأيت بأم العين وسمعت صادق النيهوم وهو يدير الحديث مع القذافي وبديا كصديقين متشابهين فالنيهوم أيضًا يذهب بعيدًا بالحديث عما انطلق منه، لهذا وجدت نفسي أسبح في بحر تتلاطم أمواج أفكاره، لقد طفق كلاهما يسيح بنا في أفكار لم تُبيِّن مدعى اللقاء ولم تكن مشاركة الآخرين المحدودة لتضيف ضوءًا، لكن القذافي حوصل ذلكم بطريقة لم أتبينها فقد كنت مشدودًا لولعه بالنار وكل لحظة يزودها بالحطب رغم أنه يلبس ملابس غليظة، هذا جعلني أشعر أكثر بالبرد وشتت ذهني، رغم هذا توضح بشكل ضبابي أننا باستثناء (فاطمة نافع) التي غابت فجأة عن الجلسة مدعوون لتأسيس مجلة (إسكرا) ليبية.
ومن هذا دار حديث حول شؤون الساعة، حول مهمة المجلة التي يفترض أن تطرح الجديد، الجديد لم يتضح في الجلسة لكن النيهوم طفق يطرح أساليب تقنية للمجلة كأن يوزع مع عددها شريط فيديو حول مسألة تتناولها وأيضًا كاسيت وكتيبات توضيحية وما شابه، سرح خيالي مع هذا تصورت المجلة وعددها مرفقًا بفِلم ينتجه النيهوم، الذي دار نشره نفذت أشرطة وثائقية حرر مادتها حول الشعب المسلح وأنتجها مكتب التوجيه المعنوي للجيش الليبي.
بِذا بان لي الكاتب صادق النيهوم فيلسوف الشارع الليبي في الستينيات ومطلع السبعينيات في صورة صاحب الرأسمال الرمزي، بالنسبة لرجل صاحب الرأسمال السلطة. فالنيهوم زمام اللقاء رغم أن القائد العقيد معمر القذافي يمسك بالزمام ما لم يكن على وئام مع هكذا جلسة ولا ما تديره الرؤوس، بدا أن النيهوم طائر يسبح وحده وأن السماء ليست سماءه التي تعبرها طيور أخر.
بذا لم أسمع الكثير ولم أتكلم البتة في هذا اللقاء الأول، وأعقبه لقاءان، بجانبي شلابي وعلى يميني بودبوس من ظهر باهتا في هذا اللقاء كأنه يعاني بردًا رغم نار القذافي التي لا تنطفئ، أما إدريس فكأن الجلسة جلسته فقد التقى صديقًا قديمًا صادق النيهوم.
أما السلطة فكظلال النار ظلال خافتة تخيم أمام الخيمة تنبهني بين حين وآخر عند استرسال الحديث، (القائد) يجمعنا بتباين واختلاف وخلاف ما يجمعنا! سجناء أطلقهم فيما دعاه بيوم (أصبح الصبح) عندما ردد قصيدة الشاعر محمد الفيتوري: أصبح الصبح/ فلا السجن/ ولا السجن باق، كان ذلك ساعة هدم سور، وخطب فينا يوم إطلاق سراحنا في 3 مارس 1988م، وكنت باختلافي مع مريديه من جلاسه حينها أتوافق وحال النيهوم من يتململ من الجلسة، لكن ما شاب المكان أيضًا قلق ما يجتاح القذافي مسكوت عنه لكنه ينطق ما بين سطور القول، فالسلطة قلقة لما يحدث حينها في العالم من متغيرات وبخاصة تباشير الأفغان العرب من عاد منهم إلى ليبيا وأدخل السجون.
بدا كأن مشروع (المجلة) كما ظلال النار حضورها يستدعيه اللقاء، ما أربكني غربتي عن الجماعة والمكان لكن الأكثر القلق والتملص مما يرسل صادق النيهوم ساعتها، وكنت أعرف شيئًا ما عن علاقته بالعقيد معمر القذافي منذ ساعة انقلابه في أول سبتمبر 1969م.
من لا يعرف (صادق النيهوم) وعلاقته بالعقيد معمر القذافي، أذكر له أن مجلة (صن داي) البريطانية في عدد لها مطلع عام 1971م جعلت غلافها بورتريه صادق النيهوم والمانشيت: الهيبي الذي يقود ليبيا.
ساعة اللقاء الاتحاد السوفييتي في مخاض السقوط يقوده (ميخائيل غورباتشوف) بزمام نظرية (بيريسترويكا)، حتى إن (فوزية شلابي) بعد صدور المجلة تحت اسم (لا) في أول يناير 1991م ستكتب مقالة تحت عنوان: (البيريسترويكا الليبية)، أيضًا سيكتب النيهوم مقالته الوحيدة لهذه المجلة من وحي اللقاء حول دكتاتورية لينين وأجهزته الإعلامية الدوغمائية لكن المقالة لم تنشر، و(صادق النيهوم) الذي يعاني سرطانَ الرئة سيموت بعد هذا اللقاء بمُدة وجيزة.