بواسطة ترجمة: محمد الحبيب بنشيخ - مترجم مغربي | يوليو 1, 2023 | فضاءات
إن الموضوع يتطلب حوارًا حتى بين «الأنوف» أنفسهم. فهل هم فنانون في أوج التفتّح؟ أيمكن لنشاطهم أن يرتقي إلى مرتبة الفنون الجميلة؟ بحث عن وسط غريب، اقتربنا فيه بحماسة من قانون الفنان مع نسج علاقات حافزة بالفن الحديث والمعاصر… لقد احتقر الفيلسوف دائمًا صانع العطور. وقد سبق لأرسطو أن أخرج العطر من دائرة الجمال. أما كانط فحكم عليه بأنه غير نافع وكريه، وأرجعه إلى صف جمالية الممتع l,agréable وليس إلى الجميل le beau بحجة أن حاسة الشمّ، الحاسة المألوفة، لن تكون قادرة على إثارة التأمّل أو أحلام اليقظة (يشاطر هيغل كانط هذا الرأي). «سيكون من الصعب ذكر مؤلَّف فلسفي واحد يدور حول قدرة الشم هذه. ويبدو أن ثيو فراست الذي كتب بحثًا عن العطور في العصور الوسطى، حالة استثنائية. ولكن من يقول هذا اليوم؟»، تتساءل شانتال جاكي في كتابها «فلسفة الشمّ» (المنشورات الجامعية الفرنسية، 2010م). ومع ذلك فقد عمل العطر كل ما في وسعه ليظهر شيئًا آخر غير فن بسيط للمتعة.
لقد كان لصانع العطور، ولزمن طويل، نوع من القرابة مع الصيدلي وعالِم النبات: لم يكن سوى مجمِّع، يخلط المكوّنات، يطبق بحكمة وصفات موروثة عن القدماء. ولكن في عام 1810م، صدر مرسوم نابليون الإمبراطوري الذي أفضى إلى استقلالية صناعة العطور مُرْغِمًا صانع العطور على التخلي عن التوصية العلاجية الوحيدة لتركيبته. لم يعد العطر مادة للعلاج بل أصبح بإمكانه أن يفرض نفسه موضوعًا جماليًّا.
المرحلة الثانية، والحاسمة على الأقل، في هذا التحوّل تتمثل في اكتشاف ذرات تركيب أواسط القرن التاسع عشر. إن الطاقة التعبيرية لعطورية تتصف بالهذيان، ترفض حدود الخيال وذلك بتحرير العطور من الرجوع إلى الطبيعة. وبفضل هذه الذرات الكيميائية، لم يعد صانع العطور مقلِّدًا ماهرًا فحسب، بل أصبح بإمكانه أن يصير مكتشفًا عالمًا، وفنّانًا ذا مكانة عالية… «لقد سمح التركيب لصانع العطور بالتفكير في العطور بطريقة مختلفة» كما يؤكد ذلك جون كلود إللينا، الأنف المشهور الذي عمل لمدة طويلة ضمن دار Hermès. لقد بدأ النظر إلى هذا الفنّ يتغير بدقّة. «مع Jaky (1889)، استُقبِل عطر Guerlain، مع «التشويه» الذي أحدثته مواد التركيب وكأنه عمل فنّي»، تتابع Annick Le Guerere، مؤرخة العطور.
وكأن العطر يطمح فجأة إلى أن يصبح شيئًا عظيمًا. وعلى منوال خيال أدبي أو شعري، فإنه تخلى حتى عن وصف (ماء الألف زهرة) ليفضل أوصافًا شاعرية أو داعية إلى السفر. إن شيئًا ما قد تغير في النظر إلى صانع العطور، كما يشهد على ذلك أدب العصر. «لقد كان صانع العطور، مع بداية القرن التاسع عشر، بطل رواية بلزاك، سيزار بيروتو (1837م): بائع، لا يهتم بالجمال، كما تقول المؤرخة أوجيني بريوت. ومع نهاية القرن، بدأت صورة صانع العطور تتجسّد في صورة جان دي سينتس، الشخصية العُصابية لرواية «À rebours» لـHuysmans، الذي يضاعف تجاربه الشمية. لقد تأكّد أن صانع العطور، في الخيال، باعتباره فنانًا».
وسيغيّر شخص النظرة إلى صناعة العطور نهائيًّا. Edmond Roudnitska (1905– 1996م) صانع العطور الجمالي الأول، مركّب رائحة Femme لـ Rochas، أو عطر Diorissimo وعطر Eau sauvage لـ Dior، وسيطالب بقوة بصفة فنّان. إنه لا «يفكر» في العطر ويتخيّل شبكة للقراءة للحكم على أصالته أو جودته (البساطة التي تبهر معيار من معاييره)، ولكنه يرفعه أيضًا إلى أعلى مستوى الجمالية. وعندما اخترع عطر Diorissimo بخطة مفهومية ورزينة، أورد قصة تتجاوز صناعة العطور، قصة زنبق الوادي من ولادته إلى مماته. ففي كتابه « l’Esthetique en question» (1977م) يبيّن كيف أن «حظوة العطور الشهيرة، مثل حظوة الموسيقا الجميلة، حظوة كونية»، وأن المعطيات الجوهرية للشم تسمح بتأسيس جمالية شمية. ويحاول صانع العطور فيها إعطاء تعريف للعطر الشهير: «تركيب تكون فيه النِّسب فرحة والشكل أصيلًا». وإجمالًا، هندسة رائعة.
إبراز عطر جمالي
ما دام أن حاسّة الشم لا بدّ أن تُهذَّب وتثقَّف، فبإمكانها أن تقدِّم حكمًا ذوقيًّا أصيلًا- نشر Roudnitska بعض المؤلفات العالمة وفي أغلب الأحيان الصعبة، ولكنه نشر أيضًا كتابًا في سلسلة «ما أعرف Que sais-je,» بعنوان «العطر»- وتقدِّم نقدًا حقيقيًّا، مثلما تنتقد جميع أشكال الفنّ. وعلى خطى المعلِّم، الذي تُوفّي سنة 1996م، حرّرت جماعة كوليزي، وهي تجمُّع شهير لصانعي العطور يقوده بيير بوردون، موريس روسيل، وألبيرتو مورياس، عام 1988م، بيانًا قصيرًا: قضايا صناعة العطور– دراسات في فنّ الإبداع العِطري. كان طموحهم هو التعريف بإبداع الروائح وكأنها عمل فني أصيل.
وكان الموقعون على البيان يهدفون إلى إبراز صناعة عطور فنية، ويبجِّلون تركيبًا مخترعًا، عادِّين أن «الصورة الشمية المجرَّدة أو الخيالية تسجِّل بلا شك المستوى الأعلى للفكر الخلّاق». إنهم متطوعون وحالمون، يشجعون صانع العطور على الخروج من الظل ويقوم بدوره كاملًا. وسيحصل هذا، عام 2000م عندما ستشغّل الدور الكبرى مركبي العطور من جديد (كارتيي، ديور، هيرميس) لتجسيد الحاجة إلى الإبداع.
بعد أن أُبعِد صانع العطور إلى مرتبة الحِرَفي الماهر، فهل يستطيع اليوم إذن أن يطمح إلى أن تكون له صفة فنان؟ ما زال الشك قائمًا لدى المركِّبين أنفسهم. تتذكّر Daniela Andrier، مخترعة عطر infusion d’iris، وصولها وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، إلى مكاتب Roure، الدار الشهيرة التي أسست في القرن 19: «قال لي جون أميك المدير: صناعة العطور ليست هي هنري ماتيس! أراد أن يقول لي: لا تحلمي كثيرًا! هناك واقع الحرفة، ما هو عاجل، العوارض التجارية». محاولة غريبة لقص جناحي صانع العطور ولجعله في وضعية أقل من وضعية عامل وصانع جيّد. حتى إن أقرّت دانييلا أندرييه بأن بعض الإبداعات مثل عطر l’Heure bleue تأثرت باللطافة، فإنها تجد صعوبة في عدّ صانع العطور فنانًا. أما الآخرون، وعلى العكس من ذلك، فإنهم يطالبون دائمًا بهذه الوضعية.
إنها حالة ماتيلدا لوران من دار كارتيي. إنها تحب أن تتحدث عن «العطور العالية» عندما يتعلق الأمر بإبداعاتها، عبارة أخذها آخرون ليصفوا تركيباتهم الاستثنائية بأنها غير مخصّصة للبيع، في مجموعات البريستيج في طبعة محدودة (عطر Hermès و les Exclusifs). «في عملي، أتبع بحثي الإبداعي، أخترع دائمًا، أكتشف الطرق الجديدة، وأقابل بين صناعة العطور والفن في كل أشكاله. أنا شغوفة بالإبداع وكلّ ما يمكن أن يقدّمه للروح!».
تحب ماتيلدا لوران أن تذكّر دائمًا أن وراء العطر فكرة وتساؤل عن تاريخه. إنها تندرج في هذه النقطة ضمن منهج فنّي واختارت ألا تعلن أبدًا عن المكوّنات التي تحتوي عليها إنجازاتها. في أي فنّ آخر نصف العمل الفنّي بمكوِّناته؟ «إن الفنان يعلن: «زيت على قُماش»، وإذن أنا أقبل أن أكتب «عطر مركَّز على كحول». وهذا كل شيء». تقول مازحة.
إن صانع عطر لدى Givaudin ،Quentin Bisch آتٍ من عالم المسرح، حالة وآلات منفصلة تمامًا عن عالم تسيطر عليه الكيمياء. «كان لدي شك، كانت لدي صورة عن صانع العطور، صارم بلا إحساس، مرتديًا وِزْرَة. ثم بعد ذلك لاحظت أن هذا العمل مرتبط بالحدس تمامًا. أشعر بأني فنان تمامًا: أخلق شيئًا جميلًا وإحساسًا». وحسب جون- كلود إللينا، فالأمر يتعلّق بالتزام شخصي: لصانع العطور القدرة على أن يكون فنانًا إذا هو قرّر أن يكون كذلك. «حتى إن كنت أول من يقول بأني أركِّب بعقلي، فإن فكرتي تتطوّر باستمرار وأجهل إلى أين ستقودني». ولنوضِّح تعريفه: «إن الفنّان هو من يبحث عن إدراك الروائح فيما وراء مظاهرها». فإذا كان صانع العطور يتصوّر نفسه فنانًا، فعلى الماركة التي يعمل لديها أيضًا أن تشاطره هذه النظرة وهذا الطموح. ومن السهل جدًّا لصانع عطور أن يتصرف كأنه فنان، يشجعه ويؤازره تراث وتاريخ رائع وجرأة دار فاخرة، سبب وجودها هو الإبداع الفني.
لقد كانت كرستين ناجيل، عن دار هيرمس، تتباهى دائمًا بقدرات جرمين سيليي، المصممة لعطر «الريح الخضراء» Vent vert (1945م)؛ لأنه كان يستعمل جرعات زائدة من المواد الأولية. إنها تقارن طواعية هذه الجرأة في الإفراط بعدم تناسب الأيدي والأرجل في منحوتات Rodin. ويبقى عطر Vent vert في نظرها منارة ومَعلَمًا. «هذا العمل الفني الذي يستحق أن يُعرَض في متحف يحفزني ويمنحني الرغبة في أن أتجاوز نفسي».
عطر Air de Paris لـ Marcel Duchamp
لا يمرّ شهر من دون أن يهتم رواق أو متحف بعطر ما بصورة أو بأخرى. من يستطيع أن يستغني عنه؟ ومع ذلك، فالأمر يتعلق بفن الشمّ وليس بعطر بوصفه فنًّا. إن الفارق مهم. فعندما يُفرِغ مارسيل دوشان أنبوبة صيدلية ليملأها بعطر Air de Paris (1919م)، فإنه بكل تأكيد، يعطي قيمة لحضور الروائح في الفن. ومنذ عهد قريب، شكّلت Sissel Tolaas، وهي فنّانة كيميائية نورويجية، مقيمة في برلين، من جديد رائحة الحرب العالمية الأولى، استجابة لطلب المتحف التاريخي العسكري في Dresde. ولكنها عرضت روائح من الواقع، ولم تعرض العطر.
إدمون رودنيتسكا
الشيء نفسه، يقال عن الفنان التشكيلي Antoine Renard الذي جمع بين النحت والروائح وأقام معرضًا برواق نتالي أوباديا في باريس، 27 راقصة باليه من السيراميك مستوحاة من «الراقصة الصغيرة ذات الأربع عشرة سنة» لـ Degas، وكلها معطّرة بعنايته (نسجل هنا أننا أمام تطوّر ما دمنا أمام عطور مرَكَّبَة). ولكن أين يُعرض عطر Femme؟ لم يعرض في أي مكان أو تقريبًا.
ومع ذلك، فتجربة العطر هي التي ستوصل في يوم ما صناعة العطر، الفن سريع الزوال والمنشِّط لحاسّة أخرى غير العين، إلى مرتبة الموسيقا، إلى مرتبة الفنون الرائدة في التقليد الأكاديمي الغربي. ولهذا، فلا بدّ من اختراع خطة لعرض العطور. «إن جسمًا مضمَّخًا يمكنه أن يسير بين الزائرين للمتحف». كما تقترح ذلك ساندرا بارّي مندوبة عرض Odore- الفن، الرائحة والمقدَّس، في رواق بولين باسفيك بباريس، شهر يناير الماضي. نهج لا بد من تقليده.
عندما يصبح للفنانين أنوف
منذ التسعينيات والفنانون التشكيليون يتّخذون من كلّ أنواع الروائح مادة لأعمالهم، ويتخيّلون علاقات جديدة بين أعمالهم والجمهور. فهل سيصبح الفن شمّيًّا؟ لا يمكن لعطور دخيلة ومرتبطة بالحسّ الذي يعدّ الأقل نُبْلًا وبالحدوس الأولية للبشرية، إلا أن تفتن الفنانين الطلائعيين، مثل مارسيل دوشان، والسورياليين الذين اتخذوا منها مادة أساسية لخيالاتهم في موضوعاتهم الشعرية وفي إخراجهم المسرحي الهاذي. وستستمرّ المغامرة في شريان راديكالي مع نشأة الأعمال المسرحية happenings والأداء، حيث استعاد الجسد حقوقه، والعمل الفني والروائح ميدانًا للتجارب القصوى. ولكن لا بد من انتظار 1990م ليقرّر الفنانون اتخاذ الروائح وسيطًا حقيقيًّا، في إطار التركيب أو في الأعمال المستقلّة، مثل Sophie Calle التي تصورت عام 2003م ما سيكون عليه عطر الفضة
مع أنف Francis Kurdjian.
وبعضها متعدّد الحواسّ (أعمال فنية منظورة مرتبطة بحاسّة الشم أو السمع)، مثل سلسلة المنحوتات من السيراميك لأنطوان رونار، المستوحاة من تمثال «الراقصة الصغيرة ذات الأربع عشرة سنة» لـDegas، التي تركت أثرًا عميقًا في قصر طوكيو عام 2019م، في علاقة بأبحاث الفنان عن الأعشاب الطبية بأمازون البيرو. وبعض آخر شمّي خالص، على غرار لوحة La chasse (2014) لـ Julie C Fortier، حائط مغطّى بمسحات عطرية وهي تنشر روائح حشائش مقطَّعَة وفرو حيوان أو دم. مَرْج واسع، فرو مُغَطٍّ أو شكل عُضوي: إن إدراك العمل الفنّي يتغيّر حسب الرائحة التي تصل إلى أنف مشاهدها. «إن الفهم الجديد للشمّ يسمح للفنانين بطرح أسئلة غير مسبوقة»، كما توضح ذلك ساندرا بارّي مؤلفة كتاب «رائحة الفنّ– بانوراما فنّ الشم» l’Odeur de l’art– un panorama de l’art olfactif. وباستعمال الفنانين الرائحة في إبداعاتهم، فإنهم يسائلون المادة التي يتصورها كل واحد منهم ويشعر بحياته اليومية. إن الإحساس بمحيطنا يرجع إلى كوننا نعيشه ونختبره بداخلنا؛ لأن الجزئيات المتعلقة بالشم تخترق اللحم وتأتي لتعشّش في قاع الجلود.
لقد تدخلت العطور المثيرة والفاتنة في المجال الثقافي كله. ولقد طلب رواق بيروتان من دار Givaudan صنع عطر خاص لفضاءاته المختلفة، مثل توقيع شمي، قابل لتحقيق هويته في الحال سواء كنا في باريس، نيويورك، هونغ كونغ أو طوكيو. ثم إن «السفر إلى نانت»، التظاهرة الفنية الصيفية، طلبت من المخترع Bertrand Duchaufour أن يتخيّل عطرًا يجسّد طاقة المدينة المرفئية. وأخيرًا، وداخل دار البيع فليبس، استطعنا أن نكتشف Profile by، المجموعة الأولى للأعمال الفنية الشمية، التي تجمع بين فنان تشكيلي وأنف، من أجل منحوتات تكشف عن عطر غير مسبوق…
أما المتاحف التي قبضت أنوفها طويلًا، فإنها بدأت تهتم بالأمر. ففي عام 2020م، دشن متحف الفنون والديزاين بنيويورك مديرية للفنون الشمية، وفي عام 2015م، لم يتردّد متحف Bâle في تخصيص 1200 متر مربع من فضاءاته لعرض أطلق عليه «نَفَسٌ جيّد– رائحة الفنBelle Haleine – L’odeur de l’art». وهذه ليست سوى بداية: لقد أطلق الاتحاد الأوربي هذه السنة تكوين موسوعة عطور الماضي ترجع إلى القرن 16، تحت اسم «عطر أوربا»، ولمدة ثلاث سنوات، استطاعت هذه المجموعة أن تقيم معارض عدة في مختلف المدن الأوربية. إن فن الشم، الذي يتعذر إدراكه، والذي هو بلا حدود أو تخوم، يعد بفتح آفاق جديدة في العلاقات التي يبحث المخترعون عن نسجها بين الجمهور ما دام أن «الرائحة تغيّر العلاقة بالفضاء وخصوصًا تلك التي تربط المشاهد بالعمل الفني؛ لأن الرائحة كلما فاحت، اختفى الفراغ»، كما تؤكد ذلك ساندرا بارّي.
منحوتات لزجاجات العطر
لقد تطلب العطر وبروح هشّة وغالبًا غير ثابتة، منذ بداياته الأولى، تجهيزًا مكوَّنًا من مواد باردة، جافة وطبيعية؛ مرمر، عقيق يمني، خزف مزخرف، خزف صيني، عاج، نحاس مرصّع متعدِّد الألوان طين مطبوخ وكل المعادن النفيسة، حتى الذهب المُطَرَّق أو الحجر الصلب المسمى «حجر النيل». هذا حتى ظهور الزجاج المتأخر الذي افتتن به الرومان للحفاظ على عطورهم المفضلة. وبعد زجاج البندقية لـ Murano، جاء الزجاج البوهيمي ثم البلّور المنحوت طبيعيًّا. ومع مرور الوقت، سيثَبَّت العطر ويُعرض في الهواء بجلود إسبانيا المُشرَبة، القُفّازات والمِرْوَحات، وسيتطلب نقله إيجاد ما هو ضروري من خشب الورد، الجلد، جلد السمك، أو البرنيق الصيني ذي الزخارف المجَنَّحَة.
أما مبدأ القارورة الزجاجية المُقَوْلَبَة التي تحمل علامة فيعود إلى عام 1820م. وستتحوّل صيدليات صانعي العطور بجرار الماء المركَّب والمصَنَّع، ومرورًا من الخيمياء إلى الكيمياء، إلى مؤسسات حقيقية مزدهرة. وابتداء من عام 1825م ستُعْقَدُ اتفاقيات بين صانعي العطور الباريسيين مثل Lubin، Bourgeois أو Guerlain، ومصانع الزجاج وتشجعها على المدى البعيد المعارض العالمية والأشكال التي ابتكرتها مواهب من حجم هيكتور غيمار. إن مصنع البلّور لـ Baccarat، لم يراهن على القارورة، المتشابهة في الغالب، ولكنه راهن على السدادة. وبأكثر من 130 زبونًا، سيعرف بكارا ازدهارًا غريبًا ما بين 1900م و 1930م. الزجاج أو البلّور: القارورة بشفافيتها مَعْلَم بين المظهر الخارجي والعالم الشمي الذي يحتوي عليه. فكلما كان بسيطًا، كان بليغًا.
ولهذا يبقى عطر N5 لشانيل الذي ابتكره صانع العطور Ernest Beaux عام 1921م طبيعيًّا بقارورته البسيطة والأكثر ذكورية، التي أنجزها مصنع البلّور سانت لويس. ولكن الفضل في اختراع قارورة ممهورة، يعود إلى فرانسوا كوتي. وفعلًا، ابتداءً من عام 1910م، سيقيم صانع العطور مع روني لاليك جمعية إبداعية فريدة كان رسمها الأوّلي قارورة Effleurt. إن Coty الذي يعدّ «مبدع صناعة العطور المعاصرة»، هو أوّل من ربط بين الروائح الطبيعية والعطور الاصطناعية. ويأتي بعده Caron و Lancôme.
نجاح باهر: لقد أكد جمهور النساء هذا الاقتران الشفاف الذي ارتقى إلى صفّ الثورة الجمالية والتجارية، التي ما زالت صالحة حتى أيامنا هاته. إن فن الخياطة الباريسي لا يتصوّر أبدًا أن يتقدم من غير عطره الموقّع. كما أن صانعي العطور يضمون الخيال إلى الآثار الشمية ويعتقدون أن العطر لا يمكن أن يكون إلا باريسيًّا ومنتجًا فاخرًا، مع Joy لـ Patou كقاطرة. أما عن ضمانة التصميم المثالي، فإنهم يركزون اهتمامهم بالطبع على السدادة، ولكل دار عطر معيّن تختصّ به.
المصدر: مجلة Beaux Arts Magazine عدد ديسمبر 2021م
إعداد: Daphné Bétard ،Pierre Léonforte ،Lionel Paillès
بواسطة ترجمة: محمد الحبيب بنشيخ - مترجم مغربي | يناير 1, 2019 | فضاءات
ما القاسم المشترك بين الانجذاب للآخر، والحجاب الإسلامي، والبغاء، والجراحة التجميلية، والوشم، وتغيير الجنس الأصلي، أو مجاوزة النوع البشري؟ إن الجسد السمين، النحيل، الطويل، القصير، الشاب أو الشيخ، المذكر أو المؤنث، السليم أو المريض، هو اليوم رهان أغلب النقاشات التي تهز مجتمعنا. الجسد- الرغبة، الجسد- اللذة، الجسد- العمل، الجسد- الغذاء، الجسد- الصورة، الجسد- السياسة، الجسد- الملاذ، الجسد- المرض، الجسد- القربان…: يوجد الجسد في كل مكان. مسلَّمة، بداهة، ما دام أننا لا نساوي شيئًا من دونه. طبيعي إذن أن يكون موضوع كل اهتماماتنا، همّنا الأول. صحيح أننا نخصص له مالا كثيرًا لنغذيه، لنعالجه، لنكسوه، لنحافظ عليه ونزينه… إلخ. ومع ذلك، فالنتيجة لم تكن كما ينبغي: إننا نهمله، نسيء تغذيته، نغذيه كثيرًا أو ليس بما يكفي، ننهكه، نبتر أعضاءه، نقايضه. إنه أداتنا، تحفتنا، استثمارنا، ضحيتنا. نحبه كثيرًا، نضرّ به، إلى درجة تجاهله. لماذا؟ هذا ما أردنا فهمه. من هنا هذا العدد من مجلة لوبوان Le Point، الذي يعرض لنا، من الكتاب المقدس إلى جوديث باتلر، مرورًا بالقرآن، وأفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وطبعًا أبقراط، كيف كان يفكّر في الجسد عبر العصور: صراعه مع الروح ثم العقل، توازن اللاشعور والاندفاعات الغريزية، مقارنته بالآلة، وعلاقاته بالثقافة والمجتمع…تاريخ طويل، لم يكن مستقيمًا قط، يقودنا من الغرب إلى الصين مرورًا بإفريقيا، ويبين لنا بدهشة، لسبب أو لآخر، كيف أن الجسد كان دائمًا مشتبهًا فيه، قليلا، أو كثيرًا. وكأن الإنسان يجد صعوبة في أن يسلّم بأنه من لحم ودم، جسد على العقل أن يحترمه ليحترم هو نفسه. أمر غريب حقًّا.
مجلة «لوبوان»
الجسد دون أعضاء
كاترين كوليو
عند خروج أنتونين أرتو (١٨٩٦- ١٩٤٨م) من مستشفى المجانين لروديز يوم ١٣ يناير ١٩٤٧م، محطم الجسد والروح بسبب الصدمات الكهربائية ومثوله على خشبة مسرح Vieux Colombier، حثت كل باريز الثقافية الخطى لترى وتسمع من يبدو كأنه راجع من الجحيم. جون بولهان، أندريه جيد، أندريه برويتون، مارسيل كامو، بابلو بيكاسو، يشاهدون إذن إنجازًا سيطبع القرن: قاذفًا، نافثًا كلمات ومقاطع، مازجًا صراخًا وضجيجًا ، فإن «أرتو المومو»، كما يسمي نفسه، قد خلخل الأصناف الأدبية والفلسفية. ألم يعلنه الدكتور لاكان مع ذلك منذ «١٩٣٩م «مكرسًا نفسه» وهائمًا بالأدب؟ لا بد أيضًا ومن دون شك إعادة النظر في مقولات الطب النفسي.
قميص المجانين
إن أنتونين أرتو يفرض علينا بالفعل تأملًا عميقًا في نظام الجسد والمعاملات التي يفرضها المجتمع عليه. «جسدي لي أنا، لا أريد أن يتصرف فيه أحد»، إنه يرفض أن يوضع في حجرة ضيقة، وأن يحصر في قميص دار المجانين، ويغلق عليه في مستشفى المجانين. غير أن آخرين يريدون هذا. لماذا؟ إن الأطباء ليسوا في نظره سوى تجسيد لقانون مفروض. إنهم لا يرغبون في شيء بقدر ما يرغبون في القضاء على كل بذرة إبداع لهذه الكائنات الخلاقة التي يسميها «مرضى». ولكن الأمر مفروغ منه للمريض أرتو ليتخلى عن توقّده النادر وجنونه النبيل! إذا كان الجسد البشري، كما يؤكد في نصه الأول «بطارية كهربائية، أخصينا لديه التفريغات وكبتناها»، فالأمر يتعلق بإيجاد إمكانياته العليا جدًّا مع مساءلة المنطق العضوي، وحرفيًّا العضو المنظم، ثم فتح الطريق لثورة متفجرة لتحريره وجعله يرقص، مع جعل أعضائه وبمعنى دقيق تترنح يَمنةً ويَسرةً.
لعبة الاندفاعات الغريزية
إن صناعة جسد يرقص بتشجيع لعبة الغرائز التي تكوّنه، كان هو طموح نيتشه. لقد أخذ فيلسوف آخر، جيل دولوز (١٩٢٥- ١٩٩٥م) عن أرسطو مفهوم «الجسد دون أعضاء» ليجعل منه تصورًا أساسيًّا لفلسفته الخاصة. وصحبة المحلل النفسي فيليكس غيتاري (١٩٣٠- ١٩٩٢م) الذي اشترك معه في كثير من مؤلفاته، فإنه نظّر بالفعل، عقب أحداث مايو ٦٨، لصراع ما سمياه معًا «الآلات الراغبة» و«الجسد دون أعضاء». إن الحديث عن «الآلة الراغبة»، كما يفعلان هنا، هو قبل كل شيء، القطع مع المفهوم القديم للروح وفهم الاقتصاد «النفسي» انطلاقًا من فكرة الإنتاج. إن اللاشعور مصنع للرغبة، وهو نفسه منتج للآثار. إننا جسد ولا شيء آخر، جسد راغب وعلى طريقة أي آلة، وفي علاقة مع أي آلة أخرى، هو نفسه يجري سلسلة من العمليات الميكانيكية: «إنه يتنفس، ويأكل، ويتغوط، وينكح» كما يقول دولوز وغيتاري بفظاظة. ولكن هل نقتصر على هذا التنظيم الآلي الذي يجعل منا آلات متحركة؟ إن احتفال أرتو بجسد قد «لا يكون في حاجة إلى أعضاء» يفتح إمكانية كمال متعلق بحرمان أقلّ منه بتعطيل إكراهات التنظيم، يتعلق الأمر بتجريب لا يخلو فضلًا عن ذلك من مخاطر: إن الفصامي، وهو في صراع مع أعضائه، سيدفع ثمن تمرده غاليًا… ولكن السؤال يبقى مطروحًا، ألا يمكن لجسدنا أن يكون غير مجموعة من «السدادات، المصافي، الحواجز، الأقداح، أو أوعية مترابطة؟ جسد مائع حيث تتحرك القوى بحرية – على طريقة بيضة – كما يوحي بذلك دولوز وغيتاري، قبل ظهور الأعضاء، تفاضلها، وتدرجها، جسد غير منتج، «دون مسمار في لحمه»، دون عذاب.
فتحي بن سلامة:
لا يمكن تصور الجسد خارج نطاق الجنس
حاورته كــاتـريـن كـوليـو
ليس الجسد ملكًا للفرد وحده، فهو في ملكية السلالة العائلية كذلك. ومن هنا كان يتوجب حمايته عند الاقتضاء بفضل التمارين الرياضية، والحمية الغذائية، والانضباط السلوكي. إن العناية التي نوليها للآخر جسدًا وروحًا، هي عمل سياسي واجتماعي تلعب النساء فيه دورًا كبيرًا وهو الذي تنظر له فلسفة العناية بالجسـد. هنا ثلاثة حوارات تتناول الجسد من زوايا مختلفة: مع فتحي بن سلامة أستاذ العلاج النفسي بجامعة باريس ديدرو، ورومـان كـرزيـانـي، أستـاذ الـدراسـات الصينيـة بـالمـدرسـة الـوطنيـة العليا بليـون، وفابييـن بـروجـر: فيلسوفة، تدرس بجامعة باريز 8.
• هل يوجد للإسلام تصور خاص للجسد مقارنة مع الديانات التوحيدية الأخرى؟
– أعتقد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو عن أي إسلام نتحدث. عن الدين بمعناه الضيق، أم عن الدين بمعناه الحضاري. إذا كان الأمر يتعلق بهذا الأخير، فالأمور إذن واضحة. لا يوجد تصور موحد للجسد ما دام أن الديانة الإسلامية جاءت لتضاف إلى ثقافات مختلفة جدًّا. من المغرب إلى إندونيسيا. ومن السنوات الأولى لتأسيس الإسلام، إلى القرن السابع، إلى الآن، لا يمكننا بداهة إبراز تصور منسجم ودائم في الإسلام بوصفه دنيا، وفي المقابل، يوجد تفكير في الجسد، بل حتى في لغة خاصة بـه.
• ومــا هي؟
– لا توجد في اللغة العربية، التي هي لغة القرآن، كلمة وحيدة تختصر الجسد، وعلى عكس الفرنسية، التي وحدت مجموع الحقائق الجسدية في كلمة واحدة، ومن اللاتينية «Corps» جسد التي تعني اشتقاقيًّا «جثـة». وهكذا فالجسم المستعمل بكثرة في الفلسفة وعلوم الدين، يعني الكتلة، المادة اللحمية، الصورة والمادة الموجودتين في الفضاء؛ بدن تحيل على حالات الجسد المختلفة، «هزيل»، «سمين» «هرم»،… إلخ، جسد هو الجسد الجمالي، اللذة، المتعة. نقول: إن امرأة تملك جسدًا جميلًا، فهذا جسد. وفيما يتعلق بالجثة، فهي الجسد المتحلل، بلا حياة. فالخطاب إذن يملك أربعة سجلات «للجسد» التي لا يمكن أن نخلط بينهما، ولكن لا يمكنها أن تحيل بأي حال من الأحوال، على النظرة التي يملكها الغربيون عن الجسد. لا يوجد إذن جسد «مطلق» ولا جسد للإله في الإسلام.
• مــاذا يكــون إذن الجسد؟
– حسب الميثولوجيا، هو خزفة من طين مليئة ثقبًا، خلقها الله. ومنذ خلقها، تسلل الشيطان عبر هذه الفتحات، ليبين أن الجسد البشري يمكن أن يخترقه هذا الكائن الناري الذي هو الشيطان نفسه. هذا التصور الشيطاني قريب من تصور الغرائز بوصفها طاقة. ولا يأمر الله النفس بالدخول إلى الجسد إلا في مرحلة ثانية. لقد حبست فيه رغمًا عنها، ومن هنا شعورها بأنها منفية داخل الجسد، ومن هنا أيضًا شعورها بالغربة تجاه جسدانيتنا. وعلى مستوى آخر، فالروح في العربية نَفْس. إنها مرتبطة جيدًا بالجسد التي هي صورته والنفس الحيوي، فالجسد لا يمكن أن يرفض، ما دام أنه لا يحيا إلا بالروح- النفس.
• غير أن الإسلام يقدم رواية أخرى…
– نعم. ورد في سورة المؤمنون : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14}. إنه تصور للخلق في عدة أطوار. تلاحظون ذكر «أنشأناه خلقًا آخر»؟ وهو ما يعطي الصورة الروحية للكائن البشري هو عندما تسكن الروح الهيكل الجسدي. فبأخذهم بعين الاعتبار هذا الأمر، استنتج العلماء المسلمون القانون الأخلاقي للجنين. إنه المرور من الحياة إلى الكائن الذي يتعلق الأمر به هنا.
• ما السبب في أن كل كتب الجنس من تأليف الفقهاء؟
– إن المتعة مقبولة في الإسلام، بل هي مطلوبة في هذه الكتب. لم يكن الجنس قط موضوع رفض.لا يُدان إلا إذا كان خارج إطار الشريعة، القانون، و ما هو القانون؟ إنه عقد يربط بين شخصين. يسمى الزواج عقد النكاح، وهو عقد المتعة الجنسية بين رجل وامرأة.
• هل مفاهيم النقاء أساسية؟
– إن الجسد في الإسلام طاهر ونجس في الآن نفسه. وجسد المرأة هو الذي يعرف الدناسة أكثر بسبب الحيض. والمعروف أن متعتها يصعب ضبطها؛ لأنها لا تخضع للقوانين نفسها التي يخضع لها الرجل. ينظر إلى انتفاخ المرأة على أنه لغز وغير ثابت، وهذا ما تؤيده أحاديث كثيرة ترى أن المرأة حليف للشيطان.
«جسد خُلق لامتصاص كل الإمكانيات التائهة لما لا نهاية الفراغ»
أنتونين أرتو
أنتونين أرتو
الجسد البشري بطارية كهربائية، كبتنا فيه التفريعات. خلق حقيقة ليمتص بتحركاته الڤولتية كل الإمكانيات التائهة، لما لا نهاية الفراغ، لثقب الفراغ الشاسع أكثر فأكثر، لإمكانية عضوية لم تمتلئ قط. الجسد البشري في حاجة للأكل، ولكن لم يجرب قط بصورة أخرى سوى على مستوى الحياة الجنسية القدرات الضخمة للرغبات؟ أخيرًا اجعلوا الجسد البشري يرقص من الأعلى إلى الأسفل، من الوراء إلى الأمام ومن الأمام إلى الوراء، ولكن من الوراء إلى الوراء أكثر، فضلًا عن ذلك من الوراء إلى الأمام، ومشكل الندرة، المواد الغذائية، لن يحل؛ لأنه لن يوجد أبدًا، ولا أن يطرح، لقد جعلنا الجسد البشري يأكل، جعلناه يشرب، لنتنافس لجعله يرقص.
إن الآلات الراغبة تجعل منا نظامًا، ولكن داخل هذا الإنتاج، في إنتاجه نفسه، يعاني الجسد كونَه منظمًا بهذا الشكل، ومن كونه لا يملك تنظيمًا آخر، أو لا تنظيم البتة. «وضع غير مفهوم وغاية الاستقامة» وسط تطور كوقت ثالث «لا فم، لا لسان. لا أسنان.لا حنجرة. لا مريء. لا معدة. لا بطن. لا شرج». إن الآلات تتوقف وتسمح بصعود الكتلة غير المنظمة التي تحركها. إن الجسد الممتلئ من دون أعضاء هو اللامنتـج، العقيم، الذي لم يولد، اللامستهلك. لقد اكتشفه أنتونين أرتو هناك بلا صورة ولا شكل.غريزة الموت هذا هو اسمه. والموت ليس من دون نموذج؛ لأن الرغبة ترغب أيضًا في هذا الموت، لأن الجسد الممتلئ بالموت هو محركه الذي لا يتحرك، مثلما يرغب في الحياة، لأن أعضاء الحياة هي الآلات العاملة. بين الآلات الراغبة والجسد بلا أعضاء يقوم صراع واضح. لم يعد الجسد بلا أعضاء يحتمل كل اتصال للآلات، كل إنتاج للآلات، كل ضجيج للآلة. وتحت الأعضاء، يشعر باليرقات والديدان المنفّرة. (الجسد هو الجسد. إنه وحده وليس في حاجة إلى أعضاء. لم يكن الجسد يومًا نظامًا. الأنظمة هي أعداء الجسد).
مسامير كثيرة في جسده، عذابات كثيرة. إن الجسد بلا أعضاء يخالف بواجهته الملساء والغامضة والمشدودة الآلات – الأعضاء. والتدفقات المرتبطة، الموصولة والمتمفصلة، تخالف صفته المائعة عديمة الشكل وغير المميزة. ويخالف بأنفاسه وصيحاته التي هي كتل غير منطوقة الكلمات المصوّتة. نعتقد أن الكبت الذي نعدّه أصليًّا ليس له معنى آخر: ليس تركيزًا نفسيًّا، ولكن نفور الجسد بلا أعضاء هذا للآلات الراغبة.
إن الآلات الراغبة تجعل منا نظامًا، ولكن داخل هذا الإنتاج، في إنتاجه نفسه، يعاني الجسد كونَه منظمًا بهذا الشكل، ومن كونه لا يملك تنظيمًا آخر، أو لا تنظيم البتة. «وضع غير مفهوم وغاية الاستقامة» وسط تطور كوقت ثالث «لا فم، لا لسان. لا أسنان.لا حنجرة. لا مريء. لا معدة. لا بطن. لا شرج». إن الآلات تتوقف وتسمح بصعود الكتلة غير المنظمة التي تحركها. إن الجسد الممتلئ من دون أعضاء هو اللامنتـج، العقيم، الذي لم يولد، اللامستهلك. لقد اكتشفه أنتونين أرتو هناك بلا صورة ولا شكل.غريزة الموت هذا هو اسمه. والموت ليس من دون نموذج؛ لأن الرغبة ترغب أيضًا في هذا الموت، لأن الجسد الممتلئ بالموت هو محركه الذي لا يتحرك، مثلما يرغب في الحياة، لأن أعضاء الحياة هي الآلات العاملة. بين الآلات الراغبة والجسد بلا أعضاء يقوم صراع واضح. لم يعد الجسد بلا أعضاء يحتمل كل اتصال للآلات، كل إنتاج للآلات، كل ضجيج للآلة. وتحت الأعضاء، يشعر باليرقات والديدان المنفّرة. (الجسد هو الجسد. إنه وحده وليس في حاجة إلى أعضاء. لم يكن الجسد يومًا نظامًا. الأنظمة هي أعداء الجسد).
مسامير كثيرة في جسده، عذابات كثيرة. إن الجسد بلا أعضاء يخالف بواجهته الملساء والغامضة والمشدودة الآلات – الأعضاء. والتدفقات المرتبطة، الموصولة والمتمفصلة، تخالف صفته المائعة عديمة الشكل وغير المميزة. ويخالف بأنفاسه وصيحاته التي هي كتل غير منطوقة الكلمات المصوّتة. نعتقد أن الكبت الذي نعدّه أصليًّا ليس له معنى آخر: ليس تركيزًا نفسيًّا، ولكن نفور الجسد بلا أعضاء هذا للآلات الراغبة.
الجسد وأنتونين أرتو
جيل دلوز
إن الآلات الراغبة تجعل منا نظامًا، ولكن داخل هذا الإنتاج، في إنتاجه نفسه، يعاني الجسد كونَه منظمًا بهذا الشكل، ومن كونه لا يملك تنظيمًا آخر، أو لا تنظيم البتة. «وضع غير مفهوم وغاية الاستقامة» وسط تطور كوقت ثالث «لا فم، لا لسان. لا أسنان.لا حنجرة. لا مريء. لا معدة. لا بطن. لا شرج». إن الآلات تتوقف وتسمح بصعود الكتلة غير المنظمة التي تحركها. إن الجسد الممتلئ من دون أعضاء هو اللامنتـج، العقيم، الذي لم يولد، اللامستهلك. لقد اكتشفه أنتونين أرتو هناك بلا صورة ولا شكل.غريزة الموت هذا هو اسمه. والموت ليس من دون نموذج؛ لأن الرغبة ترغب أيضًا في هذا الموت، لأن الجسد الممتلئ بالموت هو محركه الذي لا يتحرك، مثلما يرغب في الحياة، لأن أعضاء الحياة هي الآلات العاملة. بين الآلات الراغبة والجسد بلا أعضاء يقوم صراع واضح. لم يعد الجسد بلا أعضاء يحتمل كل اتصال للآلات، كل إنتاج للآلات، كل ضجيج للآلة. وتحت الأعضاء، يشعر باليرقات والديدان المنفّرة. (الجسد هو الجسد. إنه وحده وليس في حاجة إلى أعضاء. لم يكن الجسد يومًا نظامًا. الأنظمة هي أعداء الجسد).
مسامير كثيرة في جسده، عذابات كثيرة. إن الجسد بلا أعضاء يخالف بواجهته الملساء والغامضة والمشدودة الآلات – الأعضاء. والتدفقات المرتبطة، الموصولة والمتمفصلة، تخالف صفته المائعة عديمة الشكل وغير المميزة. ويخالف بأنفاسه وصيحاته التي هي كتل غير منطوقة الكلمات المصوّتة. نعتقد أن الكبت الذي نعدّه أصليًّا ليس له معنى آخر: ليس تركيزًا نفسيًّا، ولكن نفور الجسد بلا أعضاء هذا للآلات الراغبة.
رومان كرزياني:
الاعتناء بالذات يـأخـذ بعـدًا وجوديًّا في التقليد الصيني
حاورته كــاتـريـن كـوليـو
• هل الجسد الصيني هو نفسه الجسد الغربي؟
– لا. إن النظرة إلى الجسد واستعمالاته، تجعل منه، في الغالب، واقعًا مختلفًا. يبدو الجسد في الصين، قبل كل شيء كمركز للطاقات من أصناف مختلفة يكون الإنسان مسؤولًا عنها.
• كيف تظهر هذه المسؤولية؟
– أولًا، من خلال الاهتمام بالعافية. على الإنسان أن يقي جسده من أي أذى. وحسب تصورات المفكرين الذين يسمون «طقوسيين»، والذين فرضوا أنفسهم في الصين ابتداءً من القرنين الرابع والثالث قبل عصرنا، فإن حادثًا جسديًّا يعد إساءة تصيب الجسد الأكبر الذي هو العائلة. في واقع الأمر، لقد منحنا آباؤنا أجسادنا، وعلينا أن نحافظ عليها سليمة لنخدمهم حتى في حياتهم التي يعيشونها بعد الممات.
• ولكن كيف نحافظ عليه؟
– بالقيام بكل ما يهذب مخزون الطاقة ومنابع الحياة التي يحتوي عليها التي هي مكون منها. وهذا يفترض التغذية الصحية، والقيام بالتمارين الرياضية، ومراقبة مستمرة لكل ما يخرج من بدنه وينحل إليه. هذا الاعتناء بالذات يأخذ بعدًا وجوديًّا في التقليد الصيني، ويغدو فنًّا للعيش يسميه الصينيون تقليديًّا «ثقافة الذات». لقد أعطت سجلًّا غنيًّا من الممارسات الجسدية القائمة على تمارين التنفس، والاستعراضات، والوضعيات أو الحركات الرياضية أو فنون الحرب أيضًا،… إلخ. لقد ظهرت نحو القرن الرابع السابق على عصرنا، في عصر الممالك المحاربة حيث أصبح من الضروري تعلم كيف نتوقى العنف الذي يمارس بطريقة قاسية على الجسد: وهكذا فنظام العقوبات يركز على عقوبات بتر الأعضاء. فهذا المبدأ المقدس للسلامة الجسدية والحفاظ على القوى الحيوية تفسر أيضًا جزئيًّا كيف أن لا بطولة في الإصابة في الحروب، ولا مجد في التهور في أثناء المعارك، وأن معطوب الحرب لا يتمتع بأية حظوة. إن ابنًا صالحًا يتلافى المخاطرة التي لا تجدي نفعًا، سيكون أنانيًّا من جهته.
• لقد أثرتم المفكرين الطقوسيين القدماء، ولكن هل الطاوية والكونفوشيوسية، التياران الروحيان الصينيان الكبيران يريان الجسد بالطريقة نفسها؟
– أبدًا. فالكونفوشيوسيون، الذين هم ورثة الطقوسيين يحثون على إخضاع الجسد للمعايير ولمراسيم شاقة. لا بد من ترويضه، تلقينه سجلًّا من المواقف تحددها الطقوس للوصول إلى نوع من الجسدانية الرشيقة، متحكم فيها وغير متروكة أبدًا إلى الارتجالية الذاتية. إن الجسد إليهم مرآة الفضائل، ومن ثم هذا المثل الأعلى لجسد يمثل روح الاستقامة والتأديب. وهكذا ففي القرن الرابع قبل الميلاد، كان منسيوس Mencius الكونفوشيوسي الكبير يجتهد في وصف الرجل الخير، النبيل، بمدح نقاء بشرته المرمرية، القوة التي تصدر عن جسمه، المهابة والشعور بالقوة الصادرة عن شخصيته كلها، غير أن ما يؤخذ في الطاوية، هو الحفاظ المتزن للقوة الحيوية من دون استعراضها على الإطلاق. لا بد من إخفاء مصادرنا وقوانا في ذاتنا، وعدم استعراض مؤهلاتنا ونقط قوتنا.
• يستعمل الأطباء الصينيون لغة منمقة للغاية ولكنها محيرة للإنسان الغربي.
– إن إدراكنا وتشخيصنا للجسد قائمان على المقاييس وتحديد الكمية، نبحث عن الاشتغال بأوزان عالمية ومعايير موضوعية. أما المعالج الصيني، فيعطي الأولوية إلى الإحساس وما يشعر به عندما يفحص المريض، سواء أتعلق الأمر بشعوره هو أم بشعور المريض، ويترجم هذا إلى لغة مجازية، وانطباعية تقريبًا، وغامضة جدًّا واستعارية في نظرنا. إن الجسد بوصفه متصورًا كعالم مصغر، فليس من المستغرب أن تكون مفاهيم علم الكونيات الكبيرة (Cosmologie) (اليين Yin واليان Yan، النار، الماء، المملوء، الفارغ) صالحة لوصف الجسد وحالاته المختلفة.
• ولكن كيف يشتغل الطبيب الصيني في الواقع؟
– لنأخذ مثال النبض، إن علم النبض في الصين لا يهدف إلى الإحساس بالنبض الشرياني، إنه يدرك حقيقة أكثر تعقيدًا، يمكن أن نقول: إنه يرتبط بالتيارات الحيوية التي تحدد حيوية الكائن الحي.
• كيف؟
– بالضغط قليلًا على النقطة المسماة تسوان (Ts’ouen) بالمعصم الأيمن، نعرف مثلًا حالة الأمعاء الغليظة، وعندما يضغط الأصبع أسفل على النقطة كـوان (Kouan)، فإنه يشخص المعدة، إلخ. وبالعمل على درجات الضغط، نصل إلى تيارات الطاقة. وهكذا يمكن أن نسبر مظاهر الطاقة عند الكائن الحي من دون الحاجة مثلًا، إلى الكشف عنه بالطرائق البصرية أو الخطية. إنها قبل كل شيء طريقة الجس والاستماع التي تسمح بتصوير أكثر دينامية للجسد ولعلاقة أكثر توازنًا في العلاج.
• أين يتجسد ذلك؟
– إن المريض ليس شيئًا مطاوعًا يسمع إليه الطبيب بالكاد وينظر إليه كقطعة تشريح. ولكن هل هو زكام في بدايته، متقدم، منته، نركز في الصين على مرحلة المرض لكي نلم بخصوصيتها. هل يسعل المريض سعالًا جافًّا أم سعالًا نخاميًّا؟ في أي وقت من اليوم؟ ما هو مهم هو ملاحظة، درجة تطور المرض لنعمد إلى أفضل الأسلحة.
• إنها خطة حربية.
– تمامًا المرض جيش نحاربه. والنموذج العسكري يستعمله الأطباء الصينيون كثيرًا. إن مصادر المناعية، وتطورات الدفاع تسمى وايتسي (Weits’i)، الأنفاس الدفاعية.
• هل يتصور الجسد بوصفه موضوع لذة، بطريقة مختلفة؟
– توجد ثابتة عامة في مجال الرغبة: حب الصور الجميلة، والبحث عن المتعة، ولكن في الصين، لن نجد أبدًا احتفالًا بالعري وبالجسد المحبوب، إنه مختفٍ دائمًا. إنه الرفض الجزئي المرتبط بالتأثير الكونفوشيوسي، الذي يرفض العري والقرب الجسدي. لقد وبخ مانسيوس زوجته لأنه وجد صدرها عاريًا بغرفتها. إن المحافظة على الطقوس يقتضي تلافي كل تلامس جسدي بين الرجل والمرأة غير المتزوجين.
• والحب المادي؟
– لقد حاولت الأوساط الطبية والطاويون أن يفكروا في تجارة الجسد كفرصة للرجال، لتدعيم طاقاتهم الحيوية باغترافهم من بوتقة الجسد الأنثوي طاقات يـن (Yin) التي كانت تنقصهم. إن الجماع، والمتعة، تعدّان ضياعًا خطيرًا للطاقة الحيوية. وهكذا فإذا كنا نريد طفلًا، فلا بد أن يكون هذا في حالة معينة، في ساعة معينة، في ليلة بدراء مع اتباع حمية مناسبة،… إلخ. ينظر إلى اللذة من أجل اللذة في التقليد الصيني، كباب مفتوح لكل الأمراض التي تقلل الدفاعات المناعية. إن التراث الإيروتيكي شاهد على ذلك: إنه ينهى خيال المرأة الذئبة التي تمتص طاقات الرجل.
• هل ما زالت هذه النظرة إلى الجسد موجودة إلى اليوم؟
– نعم. حتى في الأوساط الشعبية، كثير من الصينيين لديهم وسواس الصحة، ورهان فقدان الطاقة، وينصرفون إلى كل أنواع العناية بالصحة. إن ثقافة الحمية أكثر انتشارًا في الصين من الغرب. وهكذا يمكن تعريف المطبخ الصيني كفنِّ التوفيق بين الأذواق والمواد الغذائية بحيث نضبط الجسد، نتلافى أكل النيء في الشتاء ونستهلك الزنجبيل أكثر لنمنح الجسد حرارة. ومع ذلك فممارسة الاستهلاك هذه تتعايش مع دراسة السوق حول الفيتامينات التي يمكن الحصول عليها عوضًا عن الهدايا. وماكدونالز تزدهر بالصين.
فابيين بـروجـر:
لنكـن جميعًـا جســدًا ملتحمًـا
حـاورتهـا فيكتوريا غارين
• ماذا تقصدون بالعناية على وجه التحديد؟
– إنها فعل العناية بالذات، وبالآخرين. يمكن أن تكون ذات مضامين حيوية، كالاعتناء بمريض؛ اجتماعية: مثل الاهتمام بالمقصيين؛ أو بالبيئة: مثل احترام الطبيعة. وواقعيًّا هي بذل رعاية، والسماح بتنمية جسد، أو مداواته. إن العناية تعود إلى فلسفة «الاهتمام بالذات» التي كان يلقنها في العصور القديمة فلاسفة مثل سقراط أو أبكتيتوس. ولكن إذا كانت الفلسفة اليونانية للعصور القديمة قد أعطت بعدًا روحيًّا للاهتمام بالذات، فإن الحداثة تركز على أنشطة العناية بالجسد، التي تنطوي على المعاودة والخصوصية.
• يمكن أن يبدو هذا تحصيل حاصل، فكيف نشأت ضرورة التذكير به؟
– لقد نشأ المفهوم في الثمانينيات، بالولايات المتحدة على عهد رونالد ريغان والمملكة المتحدة على عهد مارغريت تاتشر عندما قللا من الخدمات الاجتماعية لتخفيض الضرائب أكثر. نشأت إذن إشكالية جديدة للمسألة الاجتماعية خصوصًا حول النصين الأميركيين اللذين أصبحا أساسيين: «حماية ذوي الهشاشة» لروبرت كودين، «وطريق مختلفة» لكارول جلليكن الذي تناول المسألة من وجهة نظر أخلاقية ونسوية. يوجد في المجتمع أشخاص يهتمون بالآخرين باسم الأخلاق العاطفية، وهن النساء على الخصوص. وتجاه دولة تتخلى عن التزاماتها، فالأمر يتعلق بفهم الأنشطة المرتبطة بالاهتمام بالآخرين وبتحايلهم أيضًا.
• لقد تطورت مجتمعاتنا على مدى ثلاثين سنة…
– لقد أكدت الأبحاث الاجتماعية حدوس كاليكان، كانت النساء خط الدفاع الأول عن الرعاية. وهذا ما نسميه «اليوم المزدوج»، فبعد عملها، تهتم المرأة بمنزلها، بالأطفال، بأبويها عندما يصبح هذا ضرورة… حتى وإن كانت الأمور تتطور شيئًا فشيئًا، وأصبحت الأعمال المنزلية والرعاية تتقاسم أكثر فأكثر بين الزوجين، فما زال «اليوم المزدوج» يهم أكثر من 80% من النساء العاملات. ما هو مهم هو أن أخلاق العناية تدعو إلى خلق أدوار جديدة، ليس فقط رجل- امرأة ولكن أيضًا أب- أم. ويهتم «الآباء الجدد» اليوم بالأطفال أكثر، وبالواجبات. إن العقليات تتغير تدريجيًّا، ولم نعد نعتبر هذه المهام نسوية خالصة، وهذا يحصل، على أي حال، في عدد من الدول.
• ولكن العناية أصبحت سياسية، متى حصل ذلك؟
– لا بد من انتظار «عالم هـش» لخوان ترنتو كي نشهد ولادة مقترح. إن التحليل النقدي للعناية لعالمة السياسة هذه أصبح ضروريًّا أكثر من أي وقت مضى. ففي أنظمتنا الرأسمالية، الإنتاجوية، فكل ما يتعلق بالعناية تبخس قيمته. وغالبًا ما يصبح غير مرئي، وتحديدًا لأنها دوائر حياة «غير منتجة». لقد بلورت ترنتو نموذجًا يعيد مهام الرعاية إلى قلب المجتمع. وهكذا يمكن اقتراح عدة حلول. فإما أن نبقى داخل مجتمع السوق وتصبح العناية فيه خدمة. والمشكل حينئذ تعميق الفجوة أكثر بين الأغنياء والفقراء. وإما أن نتوجه نحو صورة جديدة للنسوية، والالتزام السياسي قائم على تقسيم للعمل مختلف، كما ينادي بذلك الفيلسوف الأميركي نانسي فريزر من الممكن العمل أقل ولكن مع إمكانية التحرر من الالتزام بالوقت ]الذي نمنحه[ الآخرين. إن الحل الوحيد لفريزر بمفهوم السياسات العمومية هو التفكير في التعويض عن المهام، بحيث لن يصبح الأمر عمل النساء فقط.
• تبقى الشيخوخة والتبعية والهشاشة في مجتمعاتنا من التابوهات. كيف نتجاوز هذا الأمر؟
– إن هشاشتنا ترتد علينا منذ أحداث 11 سبتمبر 2001م، ومؤخرًا مع تضاعف الهجمات. ندمج فكرة أن الضحايا يمكن أن يكونوا أي واحد منا. زد على ذلك فهذا هو معنى «أنا شارلي». وكذلك الأمر فيما يتعلق بأزمة استقبال اللاجئين بأوربا. أما المتطوعون، والإنسانيون، وكل الأشخاص الذين يهتمون بالمهاجرين، هناك فكرة مفادها أن هذا يمكن أن يحصل لهم يومًا ما.
• غير أن «التدمير» يعم:
– إنه رهان الغد، ماذا نفعل بإنسانيتنا؟ ما قيمة الجسد البشري تجاه الجسد الآلي؟ من حسن الحظ أن جسدنا يملك تاريخًا، ذاكرة ورغبات. إن اللامتوقع والشعر خاصان ولا يمكن لأي سياسة أرقام أو الإحصائيات أن تحل محلهما أبدًا.
• هل يجب احترام جسدنا الخاص؟
– إن الفرنسيين يتعلمون هذا شيئًا فشيئًا. الكثيرون يعتقدون أنهم لا بد أن يعودوا إلى منازلهم ليعطوا قيمة بالمؤسسة. ولكن بعض الظواهر، مثل نجاح الجري، والولع باليوغا، تعيد المكانة إلى الحفاظ على الحياة وصيانة الجسد.
ولكن بعد أخذ كل هذا في الحسبان، فإن العناية تستتبع أيضًا بعدًا جماعيًّا… قطعًا. ولكن المرور من الجسد الفردي إلى الجسد الجماعي ليس أمرًا سهلًا. لا بد من المرور من منطق الجوهر الفرد إلى منطق التعاون، وأن نقتنع بأننا سنذهب بعيدًا بالتضامن فيما بيننا. إنها ثورة ثقافية صغيرة.