المدينة العربية.. إطلالة على العلاقات المتلاشية
في عالم يسمح لنا باللقاء بالآخرين، حيث هناك دائمًا مشاعر متضاربة بين الاندفاع والنفور، وحيث تظل الاختلافات التي يفرزها اقتصاد الرغبة في الاتصال وسياسة المشاعر في تدبير المسافات تنظم كل أشكال الاجتماع، يحصل أن ينشأ نسق يجمع أطرافًا متناقضة، تخرق مبدأ السببية البسيط، ليسأل الإنسان نفسه عن «أنس» الجوار المزعج، الأنس الذي يعطيك إحساسًا بأنك إنسان وسط غابة من الناس، تتساءل أحيانًا: «أين ذهب الناس؟ أين الذين كانوا يقلقون راحتي وينغصون عليَّ نومي ويحرمونني من قيلولتي؟ أين صراخ النساء وتعاركهن اليومي؟ أين جيراني الذين يتابعون حركات الناس اليومية وبالتفصيل؟» (شهرزاد صنهاجي، الأقحوان، 2017: 53).
يمنحنا تاريخ العلاقات تصورًا عن مد وجزر في خطوط التماس بين البشر، يمكننا من إدراك مبدأ الرؤية الاجتماعية التي تنبني عليها الاختيارات والميولات والتحيزات إزاء واقع «المعاناة»، وهو الذي يسمح لنا بمقابلة طرفي الفارق بين رؤية السائح الغريب ورؤية الرومانسي، فـ«السواح يصورون بآلاتهم، وأنا أصور بقلبي: بشر جعلتهم المعاناة لطفاء وأذكياء، ماذا يريدون أكثر من ذلك، العيش بسلام» (خليل النعيمي، مخيلة الأمكنة من نواكشوط إلى إستانبول، 2003م: 37). العلاقات هي ما يعطي لحضورنا في الحياة معنًى، لكن هذه العلاقات لا تولد لتستمر إلى الأبد، هكذا هي طبيعتها، فقد تقاوم لتعيد تجديد خلاياها بعد أن تصدمها تحولات الزمن، وقد تستسلم للتلاشي، لتعطي الفرصة لظهور أخرى أكثر قوة أو أكثر وحشية أحيانًا.
في نظام العلاقات التقليدية في المدينة العربية القديمة كان لعلاقات الجيرة سلطان يكاد لا يوازيه أي سلطان، نظرًا للقيمة الأخلاقية الموروثة عن «الجار» و«حقوق الجار» التي أكد عليها النظام الروحي والرمزي للمجتمع وقبله النظام القبلي والعشائري، ومع هذا السلطان تتوارى الحدود الفاصلة بين «الِملْكيات» و«الأنانيات»، فيعيش المجتمع في مساحة أوسع من المشترك الذي ينهل منه كل ذي حاجة، بل إن لسلطان الجوار قدرة على فتح المجال لتدخل «الكل» في شؤون «الكل» من دون تحفظ يُذكر ما دامت الحدود غير واضحة تمامًا لكنها اليوم بفعل «الذاتيات المستعلية» و«اللامبالاة» سياسة ترسيم «الحدود» التي أنشبت أظافرها في حياتنا العصرية جعلت «اجتماعنا» لا أحد فيه يكترث بأحد أو يهتم به في الغالب.
كانت علاقات الجيرة مقدسة قبل أن تتحول سطحية باردة، كانت بمنزلة الخيوط التي تربط وتوثق العلاقات الاجتماعية وتمتنها، كانت تشكل أُسَرًا خلفية موسعة تضاهي الأسر الطبيعية بل تفوقها من حيث التنوع والامتداد والاتجاه، تمنع الأفراد من أن يندلقوا خارج «النسق»، تمسكهم بقيم «الواجب» و«المعروف» و«الإكرام» و«التعاون»، كانت في النهاية تشكل إطارًا أوسع للتماسك الاجتماعي، فإذا انضافت إليها روابط القرابة زادت قوتها، لكن هذه الوضعية التي لا تخلو من دفء وحميمية وتراصية، سوف تأخذ طريقها إلى الاندثار والتحلل، فقد تخلت الأسر عن «دوائر الجيرة والقرابة كمرجعيات للقيم والعلاقات، وشاركت بدلًا من ذلك في تجمعات النوادي والرحلات والإطار المهني، وجميعها تستند إلى علاقات ذات طبيعة فردية، لا تشكل بأي حال مقدمة للتماسك الاجتماعي» (علي ليلة، النظرية الاجتماعية وقضايا المجتمع: آليات التماسك الاجتماعي، 2015م: 38)
أشكال التعايش
تخبرنا التجربة المعيشية لسكان المدينة العربية القديمة بأشكال من التعايش والتساكن بين الأفراد والطوائف والمذاهب، كانت هي القاعدة، ولم تكن المناوشات والخصومات والحروب إلا استثناءات في العصور الحضارية الذهبية، كان السنة والشيعة والدروز والإباضية وغيرهم من المذاهب متساكنين، وكان اليهود يعيشون قريبين في «مَلَّاحاتهم» من المسلمين، وفي بعض الأحيان داخل أحياء المسلمين، وتجري بينهم معاملات ومقايضات وكل أشكال تدبير العيش المشترك، واليوم أصبحت الروح الطائفية تنفث نارها في أرجاء المدينة، باتت خبزًا يوميًّا، وبات الاقتتال ولغة التمييز العنصري والمذهبي والطائفي غالبة، وانعكس ذلك على العمران، بما يشبه تطييف العمران، ففي مدن عربية تعيش اضطرابات وحروبًا طائفية على سبيل المثال «أشارت مختلف الأسر إلى التهديدات المباشرة للحياة، وأعمال العنف بشكل عام، كأبرز الأسباب التي تدفعهم للفرار إلى المناطق المأهولة بسكان من نفس الديانة أو الطائفة؛ مما ساهم في تعزيز شعورهم بالأمان، إلا أن هذه العملية قد أدت لتأجيج الاختلافات الاجتماعية، بالإضافة إلى تقسيم المناطق السكنية وفقًا للمذاهب والانقسامات الطائفية» (حالة المدن العربية، تحديات التحول الحضري 2012م، تقرير برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، (الموئل): 49).
قديمًا، الناس كانوا دائمًا قريبين من بعضهم وباستمرار في المدينة العتيقة (وهو دليل التماسك الاجتماعي)، يأكلون من طعام بعضهم «بحرارة» ويتبادلون المنافع والحاجات بلا قيود طبقية أو ثقافية أو طائفية، ولا يمكن أن يتصور أن يعيش الإنسان حالات «الوحدة»، فالمجتمع لا يترك فردًا من أفراده لـ«الوحدة» لتفترسه أو تنال منه، ولم يكن سبب اجتماع الناس أو لقاؤهم مناسباتيًّا، بل كان كل حدث بسيط وتافه كافيًا ليجمع الناس ليسألوا عن بعضهم ويتدخلوا في أخص خصوصيات بعضهم ليشعر الفرد بقيمة «التساند» ومعها قدر من «الفضول» الذي قد يزيد أو ينقص بحسب الظروف والملابسات، وليمنعوا بذلك عنهم أسباب اليأس والعزلة القاتلة.. كانت الأولوية للاجتماعي وللمشترك قبل أن يغزو طوفان الفردانية العقول والنفوس والمساحات.
في سردية «مطر حزيران» لجبور الدويهي نقرأ استرسالًا يحكي عن جانب درامي من العلاقات التقليدية الناظمة للأفراد وما بات يتهددها من مخاطر في المدينة الحديثة، «حزينة أمي أيضًا بسبب الفسحة الواسعة أمام بابهم، ربما يسكن مكانهم من يحرم الجيران منها. ربما يؤجرون البيت عن قصد لمن يعرفونه خسيسًا يُسيّج الفسحة ويزرعها، فسحة تسبب بها تراجع غير مفهوم للبناء بضعة أمتار عن الطريق بينما فضل أصحاب المنازل الأخرى «أخذ حدهم» كاملًا وبالتالي فتح أبوابهم مباشرة على الشارع العام، «سهلة» بيت أبو جميل كانت ملعب الحارة الوحيد، قطعة الأرض «البور» هذه ملكهم لكنهم لم يتصرفوا يومًا كأنهم أصحابها، فبقيت ملعبًا للجميع، كان والدي يقول دائمًا: إن في إمكانهم تسييجها ومنع أي كان من المرور فيها، لكنهم لم يفعلوا».
«لم يفعلوا» لأنهم مؤمنون «بقيم الجوار» و«بحقوق الجوار»، «لم يفعلوا» ببساطة لأنهم يحملون تاريخًا للصداقة والقرب ويجسدون قيم التقاسم والمشترك المجالي الذي يساهم فيه كل واحد بنصيب من أجل أن يلتقي الإنسان بالإنسان، ويساعد الإنسان جاره بسعادة غامرة، فاشتراك الجيران في مواجهة بعض الاحتياجات يؤدي إلى تدعيم العلاقات الإنسانية، كما أنه كلما زادت فرص التجاور المكاني بين الناس زادت معدلات تدعيم علاقات الجوار.
وتفيد الدراسات والأبحاث التي اهتمت بسوسيولوجيا الجيرة في المدينة وتأثيراتها وتأثراتها؛ بأن منطق «الحاجة» و«التعارف» هو الذي يحكم علاقات «الجوار» في الفضاءات التقليدية، ولهذا تكون قيمة الجوار أكثر وظيفية ووضوحًا في الفضاءات الشعبية، حيث يحتاج الناس لبعضهم، وتزداد هذه القناعة رسوخًا، «إذا ما عايَنَّا غيابها الكُلِّي في الأحياء «البرجوازية»، التي تبدو كأنها في غنًى عن مثل هذه القيم الاجتماعية، وهو ما يعني أنها قيم مرتبطة بالحاجة وتتولد عنها، فساكن الحي «البرجوازي» لا يعرف هوية جاره بصرف النظر عن مدة إقامته إلى جواره، أي جهل تام بمن لا يفصله عنه سوى جدار» (محسن بوعزيزي، السيميولوجيا الاجتماعية، 2010م: 182).
شارع المعز بالقاهرة
تراجع مفهوم الجوار
مع مفهوم التجمعات الخاصة والمغلقة في المدينة العربية، والبوابات المحروسة والمراقبة، تراجع مفهوم «الجوار» و«الجيران» التقليدي بما يحمله من امتداد اجتماعي للعلاقات الاجتماعية يتجاوز حدود المنازل المتصلة بحاجاتها وأسرارها وأفراحها وأتراحها ويفتحها بعضها على بعض، ولهذا فقدت جماعات الجوار كما يقول عالم الاجتماع الأميركي إزرا بارك في البيئة الحضرية الجديدة ما كان لها من مغزى في الأشكال البسيطة والتقليدية للمجتمع، كما أن «الحضرية» أضعفت ما كان للجوار وباقي العلاقات الوثيقة من قوة التي كانت تسم الجماعات الأولية، كما قضت على النظام الأخلاقي الذي كان يدعمها (Robert, Ezra Park.The City ; Suggestions for Investigation of Human Behavior in The Urban Environment,p p6).
يؤكد بارك أنه إذا رجعنا إلى «المدينة نجد أن مصطلح الجوار يكاد يحمل معنى واحدًا هو التقارب الفيزيائي في معظم الأحيان؛ لأن طبيعة العلاقات الحضرية التي تكتسي الصبغة الشخصية والسطحية في الأحياء المأهولة، راجع بالأساس إلى خصوصية الحياة الحضرية والتي تفرض هذا الضرب من العلاقات». اهتم علم الاجتماع أول أمره بملاحظة التغيرات التي طالت علاقات الجوار و«الجيرة» The neighborhood بالانتقال من مجتمع صغير إلى مجتمع كبير، ومن ريفي إلى حضري، ومن ما قبل صناعي إلى صناعي، وتمثلت هذه الثنائية عند عالم الاجتماع الألماني فيردناند تونيز من الجماعة إلى المجتمع، وعند إميل دوركايم في ثنائية التضامن الآلي والتضامن العضوي، وعند جارلس كولي من خلال ثنائية الجماعة الأولية والثانوية.
النمط الجديد من التحضر الذي ارتبط بدخول زمن «الصناعة» و«المجتمع الصناعي»، هو من يقف وراء التحولات الرهيبة في مجال العلاقات، بحيث جرى «استبدال العلاقات الأولية بعلاقات ثانوية وإضعاف القرابة وتدهور الأهمية الاجتماعية للأسرة واضمحلال الجيرة وتقوض الأسس التقليدية للتضامن الاجتماعي» (Louis Wirth, On Cities and Social Life; 1964; p80).
في الواقع هذا الانتقال، لم يكن سوى عملية محو قسري للخطوط القديمة للإنسان الذي بدأ تاريخه بمعرفة الإنسان والاقتراب منه ليصنع منه صورته.. جاره..