السنوات الرائعة
أعترفُ أنني قلتُ: صحن الكعك. أقرُّ كذلك بأنني أجبتُ موافقًا على سؤالِ الابنِ إن كانَ عليه أن يضع كاملَ الكعكةِ في الصحنِ. ولا أنكرُ أن الكعكة كانت تحتلُّ ثلاثة أرباع طاولة المطبخ.
إذن، أليس عليَّ توقُّع أن يدركَ طفل ذو عشر سنوات ما المقصود بصحن الكعك؟
راقبتُه حين غسل يديه ومن ثمّ خرجتُ لأرحِّبَ بأصدقائي الذين دعوتُهم لتناول «كعكة البطاطا»؛ فكعكة البطاطا الطازجة المصنوعة في مخبزِنا شهيَّة بحق. ولمّا عدتُ ثانيةً إلى المطبخِ، كان الابنُ جاثيًا أمام الطاولةِ، وعلى صحنٍ بالكادِ يزيدُ حجمًا عن «صحنِ الفنجان» كانَ قد صنعَ برجًا من شطائر البطاطا، سيبدو بجانبه برج بيزا المائل شديدَ الاستقامةِ. لم أتمالك نفسي، وصرختُ في وجهه هائجًا: ألا تجد أن الصحنَ صغيرٌ جدًّا بالنسبةِ للكعكةِ!
فاتكأ الولدُ على الطاولةِ واضعًا خده عليها، مراقبًا الصحنَ من زاويةِ نظر جديدة. الآنَ ينبغي أن تكون أدركتَ أن الصحن لا يُناسب هذه الكعكة، قلتُ. لكنَّها مناسبة! أجابني. كان قد أفرغَ الطبقَ الأول تمامًا وأسندَه إلى ساق الطاولة، والطبق الثاني كان على وشكِ أن يُفرغ بدوره. آنئذٍ رحتُ أتساءلُ بصوت عال: ماذا عساه أن يصبح كائنٌ يضعُ كعكةً تبلغ مترًا مربّعًا على صحن فنجان، دون أن يتردَّد لحظةً ويفكَّر بأنّها بالغة الصغر!
حينها كان أصدقائي قد دخلوا من البابِ وانتهى الصبي من تثبيت برجه. «ماذا يمكن أن يصبحَ الصبي؟» سألَ الأوّلُ، بعد أن سَمِعَ كلماتي. «لديه حاسَّة توازنٍ مذهلِة. فإمَّا سيدخلُ مجال السيرك، أو سيصبحُ بَنَّاءً».
تمشَّى الثاني حول «البرجِ» هازًّا رأْسَه. «أينَ عيناكَ بحقِّ السَّماء؟» سألني. وفي تلكَ الأثناء انتبهتُ إلى أن كلَّ قطعَةِ كعكٍ قسَّمتُها كانت بدورها مقسَّمةً إلى أربع قطعٍ، كما لو كنا عجائزَ بلا أسنان. ربطَ الصديقُ أمر الولد بسياقات أعمقَ وصلاتٍ أوسع؛ قائلًا: «ألا ترى الفنانَ الكامنَ في داخل هذا الصبيِّ؟»؛ «فالولدُ يمتلك شجاعة الإقدام على ما هو غير مألوف، شجاعة أن يفعلَ ما لم يُرَ بعد؛ إنَّه يربطُ الأشياءَ ببعضِها لدرجةِ الإدهاش. لديه قدرةٌ خلّاقة. ربَّما يصبحُ في المستقبل شاعرًا، من يدري».
«بل ربَّما يصبح جنديًّا مناسبًا، أو حتى جنديًّا عبقريًّا» قال الثالثُ، الذي قاطعته على الفور: «جندي؟ ولمَ يصبح جنديًّا» -سألتُه معرِّضًا نفسي لخطرِ ألا أتمكَّن فيما بعد من إزالةِ هذه المفردات من ذاكرة الولد، الخطر الذي كان متوقَّعًا حين أسهبَ الصديقُ في تذكُّرِ الزمن الذي قضاه في الجيشِ- فأجابَني: «جندي مناسب؛ لأنَّه قادرٌ على تنفيذِ أكثر الأوامر غباءً، وجندي عبقري؛ لأنَّه سينفِّذها بطريقة تجعلُ الشيءَ الغبي في الأمر جليًّا، باديًا للعِيَان. رجلٌ مثله يمكنه أن يكونَ نعمةً لفرقتِه بأسرها».
تمنّيتُ حينها ألا يكون الصبي قد فهمَ معظمَ ما قيل. وفي المساءِ جلس القرفصاء على السرير، عند قدَمَيْ شقيقته، سائلًا نصيحتَها لما ينبغي عليه أن يصبحَ في المستقبل: بهلوانًا، بَنَّاءً أم شاعرًا. لم يأخذ خيارَ أن يصبحَ جنديًّا في الحسبان، ربّما لأنه حينذاك سيتوجَّب عليه أن يكونَ مرؤوسًا، كما هو حاله مع أبيه.
مُذاك صرتُ أفكِّر جيِّدًا في الذين سيصبحون ضيوفنا، قبل أن أنتقدَ أحدًا من أبنائي.
نظام
الشابّاتُ والشبَّان الجالسون على مقعد في زاويةٍ من المحطةِ الفارغة عائدون لتوّهم من حفلة جاز. توقَّفوا سريعًا عن التحدُّث، وراح كلُّ واحد منهم يضعُ رأْسَه على كتفِ مَن بجانبِه، هكذا واحدًا بعد الآخر.
القطارُ الأوّل سينطلقُ في تمام الرابعة وست وأربعين دقيقة.
شرطيّان من شرطة النقل برفقةِ «كلب شبيرد» مربوطٍ بحبل، دخلا من البابِ متوجّهين نحو المقعد، وحين وصلا شدّا النائمين من سواعدِهم: «إمَّا تجلسون باستقامةٍ، أو تغادرون المحطّة، فالنظام هنا ضروريٌّ!».
«ولمَ النظام؟» سأل أحدُ الشبّان، بعد أن همَّ واقفًا: «فها أنتَ ترى أن كلَّ واحد منّا استردَّ رَأْسَه وعدّله على الفور».
«اسمع إن تواقحتَ فستختفي بلمح البصر، أتفهم؟» ومضى الشرطيَّان مبتعدين، فاستدار الشبّان متكئين على الجانبِ الآخر. بعد مضي عشر دقائق عادت الدوريةُ وطردتهم من المحطةِ.
في الخارجُ كان المطرُ ينهمرُ ناعمًا، ومؤشِّر الساعةِ الضخمة يهتزُّ عند الواحدةِ كالهراوة.
العصيان
• ماركوزه؟ أنت، لديك كتاب لماركوزه؟ آهٍ، أتعيرني إياه؟
• في هذا الكتاب يمحصُ ماركوزه الفلسفةَ منذ ست مئة سنة قبل الميلادِ حتى وقتنا الحاضر، قلتُ.
• لا عليك، لا تقلق حيال ذلك.
• لكنّ ألفين وخمس مئة سنة من الفلسفة، لَهُوَ أمرٌ جللٌ. قد يعوزُ شابَّةً في السادسة عشرة بعض الاطلاع حتى تتمكَّنَ من الأمرِ، أجبتُها.
• مع ذلك، يجب أن أقرأ هذا الكتابَ.
• أعطيتُها الكتابَ؛ قائلًا: سيؤسفني حقًّا إن وضعتِ الكتابَ جانبًا بعد الصفحة الثانية مُصمّمةً ألا ترجعي إليه ثانيةً أبدًا.
• آهٍ ماذا تقول! بالتأكيد لن يحدث ذلك، طالما أنَّه كتابٌ لماركوزه.
• لكنَّك تعرفين أنه ثمة اثنان يحملان ذاتَ الاسم، أي «ماركوزه»؟
• ما الذي تقصده؟ أليس هذا هو ماركوزه، الذي فجَّر انتفاضات الطلبةِ؟
• أنت تقصدين «هيربرت ماركوزه». لكن هذا هو «لودفيغ ماركوزه». إنَّه يعالج في هذا الكتاب الجوانب التي تجعلُ من البشرِ بشرًا.
• آه. أدارت نظرَها نحو مؤخرة الكتاب، مردفةً: حسنًا، إذا كان الأمر هكذا، فأنا لم أعد أحتاج الكتابَ.
مناشير
لنفترض، قالت لي: إنه بإمكانك أن تصنعَ منشورًا؛ ترى ماذا عساكَ كنتَ ستكتُب فيه؟
وأضافتْ، بعد أن رأتْ جبيني يتغضَّن:
«إنَّه مجرَّد سؤال لا أبتغي بطرحِه أيَّة بلاهةٍ. ثم أليسَ الأمر مثيرًا!».
• «ماذا سأكتبُ؟ لا شيء» قلتُ.
«ثمّة شيءٌ آخر غير الكتاباتِ يجب أن يوزَّع بين البشر».
• «وماذا عساه يكون هذا الشيء؟»
• «عليَّ أن أفكِّر في ذَلِكَ بدقَّةٍ».
• «إذًا فكِّر جيِّدًا»، أردفتْ.
ذو السنوات السبع
في كلتا يديه يحملُ مسدَّسًا دوَّارًا، وأمام صدرِه تتدلَّى لعبةُ الرشّاش.
• تُرى ما رأي والدتك بهذه الأسلحة التي بحوزتك؟
• هي مَن اشترتْها لي!
• ولمَ؟ ما الحاجة إليها؟
• من أجل الأشرار.
• ومن هو الخيِّرُ؟
• لينين.
• لينين؟ من يكون هذا؟
• يفكِّرُ بمشقَّة، لكنه لا يجد إجابةً..
• ألا تعرف من يكون لينين؟
• إنَّه القائد.
ذو السنوات الست
يطعنُ الجنودَ – الدُّمى بإبرةٍ.
يغرزُها في بطونِهم حتى يخرجَ رأسُها من ظهورهم.
يغرزها في ظهورهم إلى أن يخترقَ رأسُها صدورهم، فيسقطون أرضًا.
• ولمَ اخترتَ هؤلاء بالتحديد؟
• هؤلاء هم الآخرون.
هذه نصوص منتخبة من كتاب يحمل عنوانًا ساخرًا: «السنوات الرائعة»؛ يقصد بهذا الكاتب المولود سنة 1933م في مدينة صغيرةٍ في ولاية ساكسونيا، تلك السنوات «غير الرائعة» التي عاشها في «جمهورية ألمانيا الديمقراطية». يلقي كونتسه في هذا الكتاب الضوء على الأحوال الحياتيّة العصيبة التي مرَّ بها سكان ألمانيا الشرقية الواقعة تحت سطوة الأيديولوجيا، والغارقة في وحل الاستبداد طوال عقودٍ من الحرب الباردة. هذه النصوص مستلهمة من تجارب حقيقيّة عاشها الكاتب فدوّنها في كتاب لاقى بدوره نجاحًا باهرًا.