بواسطة مجيد طوبيا - كاتب مصري | نوفمبر 1, 2019 | مقالات
بعد انتحار كليوباترا، كانت في مصر قوات رومانية، آمن قادتهم بآلهة الفراعنة، وكانوا يقومون بطقوس الاستخارة في معابدهم، وبخاصة معبد زيوس آمون في سيوة، قبل توجههم إلى ميادين القتال، واتخذوا من الربة إيزيس رمزًا يتبركون به لتحميهم في الحرب، ويطلقون اسمها على معسكراتهم وحصونهم، وهو بر إيزيس أي بيت إيزيس.. فلما عادوا إلى روما أقاموا لها أكثر من معبد.
وعندما غزوا بلاد غرب أوربا، أقام قائد القوات معسكرًا في موقع إحدى القري على نهر السين، وأطلق عليه الاسم المعتاد، بر إيزيس الذي حُرِّفَ إلى اسم باريس، فالاسم في الأصل مصري وليس فرنسيًّا، أو لاتينيًّا.
هذا ما ذكره الدكتور سيد كريم في كتابه القاهرة عمرها 50 ألف عام.. وهذا يفسر لنا اسم قريتنا باريس في الوادي الجديد، حيث كان للرومان معسكر بها.
يؤكد ذلك ما جاء في معجم الحضارة المصرية القديمة من أن عبادة إيزيس انتشرت خارج مصر، على السواحل العربية واليونانية، ثم في أرجاء الإمبراطورية الرومانية.. وكانت باريس قرية صغيرة عندما غزاها قيصر، سرعان ما نمت لتصبح مدينة رومانية مهمة، وبعد قرون عديدة في عام 1687م أعلن كونت باريس، أي حاكم مقاطعة باريس نفسَه ملكًا على فرنسا لتصبح العاصمة القومية.
في القرن التاسع عشر قام المهندس «هوسمان» بتخطيط معظم باريس الحديثة.. وعندما تسلم الخديو «إسماعيل» الحكم كان الأجانب الذين زاروا القاهرة يقولون عنها: إنها عاصمة البعوض.. من يشرب من نيلها يعود إلى بلاده ليتداوى من مرض الملاريا أو النزلات المعوية!.. فاستدعى إسماعيل مهندسًا نمساويًّا، وطلب منه أن يقوم بإعادة تخطيط القاهرة على نسق تخطيط باريس، ولهذا سُمِّيت قاهرته المجددة باريس الشرق.
كان النيل يمر ببولاق الدكرور والدقي وإمبابة، فنُقِلَ مجراه ورُدِمَ المسار القديم، فنشأت الأرض التي عليها الآن جامعة القاهرة وأحياء الجيزة والدقي، كانت المستنقعات والبعوض) تملأ المساحة من العتبة إلى شاطئ النيل، فرُدِمَتْ لتصبح ما نُطلق عليه الآن وسط البلد، أقام كذلك أول مشروع مجارٍ، وأول شبكة إنارة بالغاز للشوارع والمساكن، وأول شبكة مياه نظيفة، وحدائق الأورمان والحيوانات والأزبكية والجزيرة، وأقام أول كوبري على مجرى النيل كله 1871م، ومكانه الآن كوبري قصر النيل الذي شيَّده الملك «فؤاد» سنة 1933م.. وأول دار كتب عام 1870م وأول مرصد بالعباسية، وأول دار أُُبِرَا في الشرق وإفريقيا عام 1869م.
كل هذا وغيره يدعونا إلى التحسر على قاهرة اليوم؛ من أحياء عشوائية إلى الباعة على الأرصفة، والضجيج والتلوث، وكان الدكتور سيد كريم يطالب بإقامة مدينة نصر بالصحراء، أُسوةً بمصر الجديدة التي شيدها البارون إمبان، لكن ولسنوات طويلة ظهرت أحياء خرسانية مثل المهندسين والإعلاميين وعلى جانبي طريق الهرم، ومعظم شبرا والجيزة وجوار كوبري القبة، وكانت هذه المناطق أراضي زراعية عالية الخصوبة تمدُّ سكان العاصمة بالخضر والفاكهة كل صباح، اختفت بفعل الغباء والجشع، وبعد أن خربوها تذكروا البناء في الصحراء!
أُقيمت الشوارع في قاهرة الخديو إسماعيل واسعة في زمن كانت فيه المواصلات نادرة، وكان تعداد القاهرة 350 ألف نسمة فقط، قفز سنة 1952م إلى أربعة ملايين، وكان المفروض علميًّا ألا يتجاوز سبعة ملايين لكن مع عشوائية الحكومات المتتالية، ومع حرمان الصعيد والدلتا من فرص العمل، والهجرة إليها بحثًا عن الرزق، تخطى عام 2000م 15 مليونًا، وأضحت القاهرة مدينة عشوائية مثل محافظيها!
وعقب احتلال الإنجليز مصر عملوا على تشويه صورة إسماعيل، واستمر ذلك بعد جلائهم، ذكروا العيوب دون المحاسن.. وعند إنشاء أول جامعة في مصر والمنطقة، كان لابنته الأميرة «فاطمة» فضل المساهمة بمعظم النفقات.
بواسطة مجيد طوبيا - كاتب مصري | نوفمبر 1, 2018 | مقالات
مجيد طوبيا
كاتب مصري
التاريخ له عينان ثاقبتان. لكنهما ليستا صائبتين. فعندما يكون أمام عينيه كاتب وشاعر مثل «لوبي دي فيغا» ولا يضعه في مصافّ العظماء أمثال شكسبير! وأرجوك لا تقل لي: إنه غير محظوظ أو إن الكاميرا لا تحبُّه!!
التاريخ يا سادة رجل دولة ودولة منتصرة! فالمنتصرون يأخذون كل شيء؛ المجد والغنائم والشهرة. عاصر شكسبير على الطرف الآخر من بحر المانش أو ما يسمى بالقناة الإنجليزية. وقال عنه أترابه إنه نظم الشعر قبل أن يتعلم القراءة والكتابة!
ساهمت مسرحياته المبتكرة والعميقة مع قصص «سرفانتس» في استكمال طرح التاريخ الإسباني وتصحيحه. بعد إغراق أسطول الأرمادا. تمطعت الجزيرة البريطانية وفردت ساقيها وعلت صيحات الإعجاب من مسرح شكسبير. وبينما تجتر إيزابيلا أحزانها وينزوي فرديناند في زوايا قصر الباشنيل تسلل الأشراف والنبلاء الإسبان في الظلام لسرقة أقوات الفلاحين. وظهر على السطح ما يسمى بأمراء الإقطاعيات.
تبنى «دي فيغا» الدعوة إلى تأكيد ضرورة سيادة السلطة المركزية المناوئة لهؤلاء اللصوص والحامية للفلاحين الفقراء.
أفتى أبٌ للكنيسة وقتها بجواز الثورة المسلحة ضد الحاكم الظالم. ولم يبيّن كيفية الطريق إلى ذلك! فجاء «دي فيغا» وأعطى مثالًا مفصلًا في مسرحية «فوينتي أوفيخونا».
نص يستند إلى واقعة حقيقية: قام أهالي إحدى القرى الإسبانية بثورة على حاكمهم الظالم ومعاونيه وقتلوهم، ثم اتفقوا فيما بينهم على توحّد ردودهم التي سيدلون بها أمام المحقق حتى لا ينزل بهم العقاب وتضيع القضية ودم الظالمين بينهم.
خرج النص ذكيًّا وعميقًا. أبطاله فلاحون عاديون قاموا بثورة خلدها مسرح «دي فيغا». احتفظ «دي فيغا» بمسرح يبعث الخيال في أذهان جمهوره. وكان دائمًا ما يصرح أنه ينشد سمع وبصر المُشاهد. لذا لم يستخدم ستارة أمامية للمسرح. فدخول وخروج الممثلين يحدث من طرفي المسرح. وتجلت براعته في التراجيكوميك وهو أول من ابتكر شخصية المهرج المرح. وكان صاحب إنتاج غزير وحبكة درامية تصل إلى حد الهوس بالنهايات غير المتوقعة.
قال ذات مرة لمؤرخ فني: أنا أعرف كل القواعد.. لكن إذا بدأت الكتابة أوصدت الباب على هذه الأصنام بستة أقفال. وكتبت طبقًا للفن الذي ابتكره المتلهفون على تصفيق الجمهور! وكان ينصح شباب المؤلفين بألّا يفصحوا عن الحل الأخير إلا في مشهد النهاية! لأن الجمهور إذا عرف الحل أو الانفراجة قبل ذلك «انصرف». التاريخ كان ملعب «دي فيغا» المحبب واستمد منه الأحداث واتكأ على شبه جزيرة إيبيريا كأنه فنان تشكيلي يُعيد تموضع الأحداث.
لوبي دي فيغا
شكسبير كان يكتب عن العظماء الذين يتهاوون من شاهق لعيب فيهم أو نقص. لكن «دي فيغا» كان مهمومًا بالفلاحين فجعلهم أبطال مسرحياته. في بطولة جماعية وضع الشعب قاطرة للأمة. وهذا ما حبب فيه وفي أعماله الشعب الروسي! لما شعروا بصدق ثورية وشفافية تأريخ.
في أعمال «دي فيغا» تجد الفلاح يقول: إنه ملك على أرضه.. رغم أنه يحب مليكه. وعندما يطلبه الملك في قصره نكتشف أن النص يقول: إن الملك يطلب معونة الفلاح وهذه في عرف الثورة البلشفية التي قامت 1917م حقيقة في غاية الذكاء السياسي.
ويكاد الآباء المؤسسون للثورة الروسية أن يكونوا حافظين لمسرحية «ثورة الفلاحين» عن ظهر قلب! فعندما ثاروا على حكامهم ومعاونيهم. قتلوهم ثم اتفقوا فيما بينهم على توحُّد ردودهم على غرار مسرحية «فوينتي أوفيخونا»!
وهذا هو أيضًا ما وجدتُ نفسي أنا مجيد طوبيا عند كتابة ملحمة «تغريبة بني حتحوت» منساقًا إلى الفعل الثوري نفسه في إحدى قرى «المنيا» ضد جابي الضرائب الذي يظلم الفلاحين لصالح سيده المملوك الغريب.
في روسيا استبدلوا بالفلاحين وصراعهم العمالَ ضد أصحاب رأس المال ونصّبوا الاشتراكية اللينينية ممثلة للعدالة الشعبية.
وجاء المشهد الذي تحض فيه بطلة المسرحية أهل القرية على الثورة. مشهد تقول فيه صارخة فيهم: «أنتم رخام جامد… لستم نمورًا؛ لأن الوحوش الكواسر تلاحق من يسرق أولادها وتقتل الصيادين. أنتم دواجن ترضون أن يتمتع الآخرون بنسائكم. يا نساء على المغازل… يا أشباه الرجال. من الغد تتخذون زينتنا وتضعون المساحيق وزينة الوجــوه! أنتم دواجن… ولستم إسبانيين».
هذا المشهد وهذا الحوار أثَّر فيَّ كثيرًا وجعلني أقول على لسان أحد شخصيات القرية في فِلم «حكاية من بلدنا» المأخوذ عن قصة «المكـــامير»: «يا بلد كلها فــراخ… فراخ» في حين كان الممثل الراحل «عبدالله غيث» يقلد بصوته نقنقة الدجاج ساخرًا من استكانة أهل القرية وخضوعهم لبطش العمدة الفاسد. نعود مرة أخرى إلى العبقري الذي لم ينل حقه من الشهرة مثل شكسبير وسرفانتس صاحب دون كيخوته وكالديرون.
أحب «دي فيغا» وتزوج وترمل عدة مرات… وكانت له فلسفة في الحب في غاية الطرافة عندما يُصرح بأن: «الله وحده يعلم كيف أستطيع العيش دون جسد المرأة وروحها… إنني عندما أفكر في تركها أشعر بأنني أموت غيرة من أن غيري سيخلفني في الاستمتاع بها»!
وأدت إحدى غزواته النسائية إلى النفي من البلاد بأمر ملكي. مع أنه كان متدينًا، وعندما جاوز الخمسين دخل الدير وترهبن. ولكنه ما إن رأى امرأة متزوجة أثارت فيه غريزته لحب الحياة، ترك العيشة القاسية الجافة للرهبان وسار خلفها. تزوجها وأنجب منها فتاة جميلة.
كل من أحب الحياة أحب «دي فيغا» وإسبانيا بطبيعتها محبة للحياة ودائمًا تردد أجمل مقولات «دي فيغا» «أنا في الحب كالبلبل… نصيب الصوت في غنائه أكثر من نصيب الجسد». في عام 1635م رحل صاحب الـ 73 عامًا على أكتاف أهل مدريد العاشقين لفنه وشعره ومسرحه. وأوصى بأن يُدفن جثمانه في بقعة ترى الشمس أغلب أيام السنة حتى ينعم بدفء الزوار.
رحل من دون أن يعلم أني أحببت المسرح والشعر والنساء بسببه.