مستقبل ما بعد النسوية
مرت النسوية العالمية والعربية بمراحل وموجات متعددة اختلفت بمطالبها، وتدرجت في نقاشاتها من الموجة النسوية الأولى والثانية إلى الثالثة والرابعة. كانت جميع الحركات تطالب بالمساواة بين الجنسين في الحقوق المدنية مثل العمل والتعليم وحق التصويت والترشح في الانتخابات. كانت الموجة الأولى في طروحاتها المتعددة تحاول أن تفكك الكثير من المقولات النمطية حول الاختلافات البيولوجية التي تعطي الرجل حق السيادة وامتياز التفوق فيما توضع المرأة في وضعية دونية توارثتها على مر العصور. ذهبت الدراسات النسوية إلى مناقشة الفروق البيولوجية وتبيان كثير من المغالطات حولها. فيما نجد الموجة النسوية الثانية ذهبت إلى خطوة أبعد إذ بينت المفكرة النسوية سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الثاني» أن المرأة تمارس سلوكها الاجتماعي المفروض عليها بسبب العادات والتقاليد التي ترسم للمرأة والرجل الأدوار الاجتماعية المتوقعة منهم. تقول دي بوفوار:
«إن الفئة المهيمنة تحاول أن تبقي المرأة في المكان الذي تخصصه لها وتستقي الحجج من الوضع الذي خلقته هذه الفئة نفسها، وهذا يذكرنا بقول (برناردشو) في الزنوج: «إن الأميركي الأبيض يهبط بالزنجي إلى مستوى ماسح الأحذية؛ ليستنتج من ذلك أن الزنجي ليس صالحًا سوى لمسح الأحذية»».
أما فرجينا وولف، وهي رائدة من رائدات الموجة النسوية الثانية، فإنها ذهبت إلى جانب الكتابة الإبداعية، وناقشت سؤالًا مهمًّا: لماذا غابت المرأة على مر الأزمنة عن الكتابة الإبداعية؟ قوضت وولف التاريخ الذكوري للكتابة، وخلصت إلى أن المرأة حتى تصبح كاتبة، عليها أن تملك غرفة خاصة بها وأجرًا يمنعها من الخضوع للسلطة الذكورية التي تفرض عليها إملاءاتها واشتراطاتها، قائلة: «إن النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل ماديّ خاص بهن وإلى غرفة مستقلّة ينعزلن فيها للكتابة».
النساء بوصفهن تابعات
لم تكن النسوية العربية في بداياتها المبكرة بمنأى عن مثل هذا الطرح الجريء لوولف الذي أصبح بيان وشعار الكتابة النسوية لاحقًا بحيث نجد الأديبة المصرية اللبنانية مي زيادة تطرح قضايا المرأة الاجتماعية وقضية الحقوق المدنية في كثير من مقالاتها. أفردت زيادة كتبًا متخصصة في الكتابة الإبداعية النسوية، وتحدثت عن ثلاث شاعرات هن: ملك حفني ناصف، وردة اليازجي، وعائشة تيمور. بحثت زيادة في قضية مهمة وهي أسلوب المرأة الكتابي، ولماذا تأثر أسلوب هؤلاء الشاعرات بأسلوب الرجال من الشعراء، وأرجعت السبب إلى حداثة دخول المرأة لعالم الكتابة الإبداعية، وعدم تعودها وممارستها لفعل الكتابة، الذي يحتاج إلى ممارسة أكثر ودربة واختبار دقيق للأساليب التي تليق بالمرأة الكاتبة.
تأتي الموجة النسوية الثالثة نابعة من مرحلة ما بعد الحداثة وطروحاتها المتعددة، ونظرياتها المختلفة، تحت مسمى ما بعد النسوية متأثرة هذه الموجة بعدد من النظريات المهمة مثل ما بعد الاستعمار والتفكيكية والفوكوية، ونظريات النقد الثقافي أيضًا.
يعد اسم المفكرة الأميركية جوديث باتلر من أهم أسماء هذه المرحلة، التي طرحت في كتابها «مشكلة النوع» واحدًا من أهم المفاهيم في تحليل سلوك المرأة في العصور السابقة، وهو مفهوم التطبيع والأدائية، والمقصود به أن النساء على مر العصور السابقة كانت تؤدي الأدوار المنوطة بها، وأن هذه الأدوار أصبحت نتيجة لتكرار الممارسة جزءًا طبيعيًّا من تكوين المرأة. باتلر تقول باختصار: إن المرأة صنعت أدوارها كمؤدية لما يريده الرجل والمجتمع منها، ومن ثَمَّ فككت هذا عبر معطيات لغوية واجتماعية. وهذا الشيء قديم وله جذور تاريخية ومن ثم توارثته المرأة عبر العصور؛ وهو ما يعني أن ضعف المرأة وتخلفها خلال كل هذه القرون ليس طبيعيًّا بل مصنوعًا.
أما المفكرة التفكيكية الهندية سبيفاك في كتابها «هل يستطيع التابع أن يتحدث؟»، تحدثت عن النساء بوصفهن تابعات للثقافة المهيمنة، وحللت موضوعة الصمت المفروض على النساء، وقدرتهن الفعلية على الحديث، فإذا تكلمت المرأة هل سيوجد من يستمع إليها؟ ضاربة مثلًا من طقوس الساتي المفروضة على المرأة الهندية بعد وفاة زوجها.
النسوية في عصر وسائل التواصل
أما الموجة النسوية الرابعة فهي موجة من الموجات التي استفادت من الإعلام الرقمي وثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت ناشطة جدًّا وفعالة تجاه قضايا المرأة والدفاع عنها وشهدت دخول النسويات الصغيرات كمدافعات عن قضايا المرأة المستجدة والمستعجلة مثل العنف والقتل والاغتصاب، مع ارتباط هذه الحركة بالناشطين السياسيين ومنظمات حقوق الإنسان. وهذه الحركة لها العديد من الإيجابيات والسلبيات؛ فمن إيجابياتها، على سبيل المثال: سرعة وصول قضايا المرأة إلى الرأي العام، والدفاع عنها، وربما الاستجابة من متخذي القرار في حل بعض المسائل العاجلة، إضافة إلى اتصال النسويات بعضهن ببعض في الشرق والغرب؛ وهو ما يعطي هذه المطالب الإنسانية وهجًا وقوةً وحسن إدارة وتنظيم.
في المقابل هذا الأمر يطرح إشكاليات أخرى، وهي: هل كل النسويات لديهن قدرة على الدخول إلى وسائل التواصل الاجتماعي والتواصل عبرها؟ وهل يملكن القدر نفسه من حركية بعض الناشطات النسويات المتابعات للأحداث الواقعة للمرأة سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو مهنيًّا؟ وهو ما يعني أنه ليس كل ما يقدم عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمثل النسوية في المجال العام الأوسع سواء أكان أكاديميًّا أو غير أكاديمي. الأمر الثاني، إن بعض النسويات يقدمن آراء ويدافعن في بعض الأحيان عن قضايا لا تمثل جوهر مطالبات المرأة في فضاءات اجتماعية متنوعة ثقافيًّا ومتفاوتة في مستوى مطالباتها وتقدم إلى جماهير لا يملكون القدر ذاته من الأدوات النقدية، والأفق المرن المتسامح مع طرح الأفكار الجديدة.
أحيانًا تستعير بعض النسويات في الوطن العربي طروحات غربية بعيدة من ثقافتنا، ولا يستطيع الفضاء العام استقبالها حتى لو كان من باب الاستماع إلى الفكر المختلف مما يساهم في إثارة لغط وبلبلة في تلقي النسوية في الوطن العربي وفي المجتمع الخليجي تحديدًا. ثمة أمر آخر لا يقل أهمية عما سبق، وهو عدم قدرة النساء المهتمات بالنسوية على الدخول إلى وسائل التواصل الاجتماعي لمحظورات اجتماعية، وهو ما يعني تغييب نسبة كبيرة من النساء، وعدم قدرتهن على تمثيل آرائهن في الفضاء العام.
الموجة النسويَّة الرابعة في الخليج العربي
مثل أهداف النسوية الغربية، ظهرت النسوية في وسائل التواصل الاجتماعي في عام ٢٠١٢م مدافعة عن قضايا المرأة المتعددة، أهمها الاغتصاب والتحرش الجنسي والقتل والتغييب والتهميش وغيرها من الأمور المهمة. لم تترك النسويَّات في الوطن العربيّ فرصةً مثل فرصة الإعلام الرقميّ وكلّ الإمكانات الهائلة التي يتيحها لتدخل عبره للتعبير عن قضاياها، وكشفِ معاناة المرأة، وصوتها، وفكرها، وإثبات حضورها كمبدعة في مجالات متعدِّدة. وظهرت النسويَّات يدافعنَ عن عدد من القضايا المهمَّة، مثل التواصل مع العلماء وقادة الرأي للتأثير في آرائهم ومناقشتهم في قضاياها الحيويَّة، وتصحيح ومناقشة المفاهيم المغلوطة حول قضايا المرأة، إضافة إلى متابعة ما يعرض ويستجدّ من قضايا، والتعليق عليها.
دافعت المرأة عن موضوعات مهمَّة وحيويَّة. على نحو عامّ، عند البحث في طبيعة القضايا التي تشغل المرأة العربية اليوم، في طبيعة تمثيلها في الإعلام الرقميّ، تتضح صورة المرأة في الإعلام العربي بأنها كائن استهلاكي أكثر من كونها فردًا منتجًا، تهتمُّ بأمور الحياة المعيشة، كالتجميل والمطبخ والقصص العاطفيَّة، أكثر من الفكر وبناء الذات. تتضح صورة المرأة أيضًا، بخلاف الرجل إلى حدٍّ ما، بأنها بعيدة من التفكير العقلانيّ المنطقيّ، وتعرض نفسها أو تُعرَض بوصفها موضوعًا للمتعة الجسدية للرجل.(1)
صورة المرأة المشوَّهة تحيل إلى مفهوم المستمع (أو المشاهد) أو المستهلك الناكص، وهي جميعها تحيل إلى أنها تختبر وتختار السلعة الثقافية في حالة من «غياب التركيز»(2). لكن، هذه المرأة مستلبة الهوية هنا، تقوم بدور آخرَ أكثر خطورةً من غياب التركيز، وهو إدراك حقيقة الشيء والاستمرار في اقتنائه أو ممارسته، كما يقرِّر آلن هاو: «إنَّ إدراك حقيقة شيء ما ومواصلة شرائه هي إتاوة رديئة نؤدِّيها لقدرة صناعة الدعاية على استعمار مخيِّلاتنا؛ إذ نبتغي الأشياءَ على الرغم من علمنا أن معناها مصطنع تمامًا»(3).
وبالطبع، المرأة تنساق في خطاب التجهيل والتسليع العامّ، الذي تعانيه الثقافة العربية اليوم، لعدم وعيها الكافي، ولإحساسها بضآلتها وهامشيّتها، في مقابل سيطرة رغبات الرجُل، في ظل النظام الرأسمالي، وتسليع المرأة وإعادتها إلى دورها التقليدي عبر التاريخ؛ وهو ما أظهر لدينا الكثير من الآراء المضادة التي تحاول أن تحسن صور المجتمع والثقافة، وتخلط بين المطالب المشروعة وغير المشروعة، وتجرم وتحرم النسوية بدلًا من مناقشاتها.
النسوية والتفاوت الاجتماعي
لا أعلم لِمَ مثل هذه المبالغات! هل هو لم يقرأ للنسوية العربية بشكل عام، وهل هو أخذ ما يطبق غربيًّا واصمًا النسوية العربية به؟ لأننا لو فكرنا في كلامه، وحللناه، وحاولنا فهم هذه المغالطات، سنجد ما يلي: إن النسوية الغربية بشكل عام تنتمي لمرجعيات دينية غير إسلامية مسيحية أو يهودية، وكما نعلم أن هذه الأديان لا يحدث فيها الطلاق إلا برضا الطرفين، ونحن نعلم جيدًا أن الطلاق أبغض الحلال عند الله، ولا يوجد نص نسوي عربي منع الطلاق، بحسب علمي. أما تعدد الزوجات فهو حسب الأديان الأخرى لا يجوز، وهو ما يعني أن هذه المقولة مرجعها لنسويات من أديان أخرى ولا ينطبق هذا على النسويات المسلمات. ونعلم جميعًا أن تعدد الزوجات رغم وجوده في المجتمع إلا أن النساء جميعًا لا يوافقن عليه سواءٌ كُنَّ نسويات أو غير نسويات. وفيما يخص المساواة، فإن المساواة المقصودة هي مساواة في الحقوق المدنية وتكافؤ الفرص في الدولة بين النساء والرجال، وهذا لا يمنع وجود قلة من النسويات من ناقشن بعض المسائل الدينية المتعلقة بالمساواة وهذا من باب الاجتهاد. وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل الاجتهاد من حق العلماء الرجال فقط؟
يغيب كثيرًا عن المعادين للنسوية من النساء والرجال، أن تفعيل الدول ومؤسسات الحكم للقوانين التي تقف مع المرأة لا يعني أن المرأة قد حصلت على الكثير من حقوقها اجتماعيًّا، وأن هناك فئات اجتماعية كثيرة تقف ضد إعطاء المرأة حقوقها، مع تأكيد نسبية أخذ المرأة حقوقها المتوقفة على سخاء وكرم الرجل المانح لها ونسبة وعيه وقدرته على مواجهة المجتمع، وهذه قضية تزيد عند مكونات اجتماعية وتقل عند أخرى.
كما يجب التنويه أن النسوية بجميع موجاتها مهمة ولا تزال ضرورية؛ لأننا كمجتمعات لسنا متساوين في الاستجابة للمطالب الأساسية، فثمة مجتمعات لا تزال تعيش في الموجة الأولى والثانية؛ لحداثة تجربتها الديمقراطية على وجه الخصوص في احتوائها للمختلفين عنها من النساء والمهمشين. ولعل تجربة الثورات العربية الأخيرة بيّنت مدى حاجتنا للطروحات النسوية في الدفاع عن قضايا المرأة، وأن حقوق المرأة في هذه المجتمعات قد انتزعت منها مجددًا، وعدنا لنقطة ما قبل البداية.
من المهم القول: إن وجود نساء يدافعن عن قضايا هامشية، لا يعني أنهن يمثلن المظلة العامة للنسوية، وإن النسوية نسويات، من بينهن النسوية العربية والإسلامية التي تتقاطع مع كثير من أفكار الإسلام ولا تتعارض معها، وربما تناقش ممارسة المجتمع التي انحرفت عن مبادئ الإسلام.
أعتقد أن على مؤسسات المجتمع المدني القيام بدورها في دعم قضايا المرأة، وتصحيح الفهم الخاطئ للنسوية من قبل المتشددين الذين يتعمدون تضليل الرأي العام محاربة للنسوية. كما أرى أنه على النسويات والمثقفين الحقيقيين القيام بدورهم الحقيقي في مواجهة تيارات التجهيل المتعمد للمجتمع، لسلب النساء حقوقهن المكتسبة، وإعادتهن لدوائر لا تليق بمجتمعاتنا الإنسانية اليوم، فمن يحاول سلْبَ النساءِ اليوم حقوقَهن هو نفسه من يعادي أية فكرة من أفكار المحبة والتعايش والسلام وقبول المختلف دينيًّا وثقافيًّا ولغويًّا.
(1) طارق السيد، «الإعلام النسوي، وقضايا المرأة»، لها أونلاين، ٧ ديسمبر ٢٠١٧م:
http://www.lahaonline.com/articles/view/54341.htm
(2) آلن هاو، «النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت»، القاهرة: المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، ٢٠١٠م. ص: 129.
(3) السابق، ص: ١٢٩.