الثقافة والمدينة في المجتمع العربي كيف يمكن إحياء المدينة؟ ومن ثمة كيف السبيل لاسترداد روحها؟
يطرح التفكير في علاقة الثقافة والمدينة بمدننا العربية أسئلة كثيرة حول مبررات مثل هذا الجمع، هل في البدء نملك مدنًا تعزز الحاجة إلى الثقافة وتشجع عليها؟ هل مطلب الثقافة قوي وملحّ لهذه المدن؟ هل هو كذلك لصنّاع القرار فيها؟ ماذا عن المثقفين والنخب المتعلّمة؟ وبشكل أوضح هل هو مطلب كل الشرائح الاجتماعية؟ ثم هل ثقافتنا اليومية وذهنياتنا كما تترجم سلوكيًّا تعكس هذه الحاجة؟ أم أنها بالضد من ذلك مجرد ترف أو شيء نافل لا يطمح إليه؟ لا شك أن للموضوع أهميته وراهنيته، مساهمة في النقاش والتفكير حول شروط تجاوز الأعطاب التي تعانيها مدننا، والرفع من مكانة الثقافة وموقعها داخل فضاءاتنا الحضرية ومن ثمة تحويلها إلى سلوك يومي وحاجة يومية ملموسة. ففي الوقت الذي يتحدث العالم المتقدم عن «المدينة الذكية» المتسمة بالاستعمال المكثف لتقنيات الإعلام والتواصل، ما زالت المدن العربية تعاني معوقات كثيرة، بدءًا من نسب الأمية المرتفعة وصنوف الجهل، وصولًا إلى الجريمة وفوضى العمران…؛ من هنا فالرهان كبير وصعب أيضًا لتوطين موقع مهم للثقافة بالمدينة. لهذا نتساءل، من يؤسس الآخر؟
لئن كان العنوان أعلاه، قد أعطى الأولوية ترتيبًا للثقافة على المدينة في رسم العلاقة بينهما، فإن سؤال الأسبقية والتأسيس في نظرنا مشروع جدًّا؛ بل يبقى مشروعًا باستمرار: فهل الثقافة فعلًا هي التي تصنع المدينة أم العكس؟ أم أن العلاقة بينهما جدلية، يتبادلان فيها التأثير والتأثر؟ ثم ماذا عن علاقة الثقافة بالقرى والهوامش والأطراف القصية عن المدن؟ أمدينية هي الثقافة بالضرورة؟ إن الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي العميق حاضرة في المدن كما بالبوادي والأرياف، وحاضرة أيضًا لدى المتعلمين كما لدى الأميين على السواء. بل نؤكد أن أي مجتمع، تساهم مناطق مختلفة منه في بنائه الثقافي، فحيثما توجد تفاعلات بشرية مبنية بشكل قوي، حيث التواصل الإيجابي والبناء المشترك والإحساس بالانتماء والأهداف المشتركة، يمكن أن نتحدث عن إسهام ثقافي مهم، يضمن لهذا الفضاء هويته ومناعته ضد كل ما يمكن تهديدها. إنه الدرس الذي تمنحنا إياه الأنثروبولوجيا. لكن بأي معنى نتحدث عن المدينة؟ ووفقًا لأي منظور تحديدًا؟ قد يصح القول أنه لا أحد لا يعرف المدينة، غير أنها مع ذلك مفهوم صعب التحديد. ولئن تبنينا في تحديد الثقافة المعنى الأنثروبولوجي الذي يجعلها أوسع وأشمل من المعنى الذي يقصرها فيما هو فكري..، فإننا لا نتصور المدينة خارج هذا السياق، بما لا يجعلها مجرد تجمّع سكاني للمواطنين الذين يعيشون فيها أو يحملون عناوين تشير إلى مساكنهم بها، بل بما هي فضاء ثقافي وقيمي أيضًا. المدينة إذن أسلوب حياة خاص له ملامحه الكبرى التي تميّزه عن سواه؛ وبعيدًا من المعيار الإحصائي في تحديد المفهوم، فهي بدرجة أولى فضاء اجتماعي وثقافي لا ينفصل عن خصوصية المجتمع وتاريخه والحضارة التي ينتمي إليها.
إعادة تشكيل العالم
مقارنة بالقرية المدينة أكبر حجمًا، وحياتها التشاركية تستوعب مجموع الفوارق الحاصلة بين الأفراد، ولهذا عدّها الباحث الأميركي روبرت بارك: «أكثر محاولات الإنسان اتساقًا، وبشكل عام أكثرها نجاحًا في إعادة تشكيل العالم الذي نعيش فيه(…) وإذا كانت هي العالم الذي خلقه الإنسان، فهي بالتالي العالم الذي يتعيّن عليه العيش فيه». يسمح لنا هذا القول باستخلاص أن الإنسان لمّا أعاد صنع المدينة وإنتاجها فهو في ذلك أعاد تشكيل ذاته. من هنا، فإن سؤال «ما المدينة التي نريد؟» يمكن طرحه على النحو التالي: ما الإنسان الذي نريد؟ وما طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والقيمية التي نطمح إليها؟ ما شكل العلاقة التي سنقيمها أيضًا مع الطبيعة والبيئة التي سنقيم فيها؟ ما أسلوب الحياة التي نتوق إليه؟ ما القيم التي سننحاز إليها وسنختارها؟
وفقًا لهذا المعنى، ليس التفكير في المدينة قصرًا على المتخصصين في العمران والمهندسين…، بل شأنًا يهم أطرافًا أخرى، وبالطبع كل من موقعه: الساكنة، لجان الحي والجمعيات والتعاونيات السكنية والنقابات… إلخ. هكذا يمسي مفهوم المشاركة مفهومًا مفتاحًا ودالًّا في هذا الباب بين المقررين والمعماريين والمواطنين. يتعلق الأمر بالمشاركة المواطِنة (بكسر الطاء)، طالما أن الكل معنيّ ببناء مدينة جديدة تستحضر مطلب الثقافة، السلطات العمومية والمجالس المنتخبة والسياسات التنموية والمثقفون والفنّانون المتخصّصون والمعماريون. ولعله من المهم جدًّا أن نؤكد، أن مطلب الانسجام ملحّ جدًّا، فلا تتوقف المدينة الجيدة والمتوازنة على قرارات السلطات العمومية وقرارات الإدارة، بل على تدخل ضروري لأطراف أخرى في تحقيق التوازن والجودة المطلوبة. يتعلق الأمر إجمالًا بالحق في حياة حضرية جيدة ومتوازنة، وهو التصور الذي طرحه «هنري لوفيفر» في مؤلف يحمل العنوان نفسه «الحق في المدينة» (1968م) واستعاده بعد ذلك «دافيد هارفي» في مؤلف ينتقد فيه التصور الماركسي الكلاسيكي بعنوان: «مدن متمردة. من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر». (2013م). إن الحق في المدينة هاهنا لا يستقيم من دون الانتفاع الكامل والتام من المدينة واحترام التنوع الثقافي من غير إقصاء، وحماية التاريخ والهوية والثقافة. هي إطار عمل مشترك للمواطنين في تحديد تنمية البيئة الحضرية وتطويرها.
الحق في المدينة
يرى «هنري لوفيفر» وهو المشبع بالماركسية حتى النخاع، أن الثورة هي المدخل الملكي لإقامة الحق في المدينة، ولا أدل على ذلك من أن مؤلفه «الثورة الحضرية» (1970م)، سيأتي بعد مؤلفه «الحق في المدينة» بأقل من ثلاث سنوات. لكن نتساءل: أليس من الممكن اليوم أن ننحاز لاختيار آخر؟ ألا يمكن أن نتحدث عن إقامة الحق في المدينة عبر منظور إصلاحي ثقافي وتثقيفي، وأشير هنا إلى مفهوم المحولات الثقافية بالمعنى الفيبري، أو لمعنى الثورة الثقافية التي تقدم بدائل وأجوبة. لا شك أن التحول الكبير الحاصل، هو أن العمّال أو البروليتاريا بالعبارة الماركسية، لم يعودوا الفاعلين الأساسيين في صنع وإنتاج سكان الحواضر، بل فئة أخرى من الموظفين الإداريين هم الذي باتوا رقمًا مهمًّا في هذا الباب. ولئن كان لوفيفر قد عدّ المدينة كيانًا لم يعد بإمكاننا استعادته، بعد أن أضاعته الرأسمالية بنظامها الاستبدادي، معلنًا ضياع المدينة التي كنا نعرف، فإننا نرى أن المدينة ما زالت حية ومن الممكن استردادها. فهل حقًّا ماتت المدينة كما أعلن «لوفيفر»، أم بالضد من ذلك «تحيا المدينة» مثلما أعلن «هارفي» في مؤلفه «مدن متمردة»؟ لا شك أن السؤال الملحّ إذن هو: كيف يمكن إحياء المدينة؟ ومن ثمة كيف السبيل لاسترداد روحها؟ كيف السبيل لإبقائها حية، مدينة بروح وبذوق جمالي وفني، وغير بعيدة أو مفصولة عن الثقافة إنتاجًا واستهلاكًا.
لا شك أننا جميعًا معنيون بالاستجابة لهذا المطلب الحيوي المستعجل، بإعادة بناء وتشكيل صنف مختلف من المدن تعيد الاعتبار للإنسان بما هو كذلك، أو لنقل لمملكة الثقافة باختصار. بالعمل على ترجمة الحق في المدينة إلى حق في حياة حضرية تتمتع بقدر من الجودة ومصالحة مدننا مع الثقافة، معمارًا وهندسة وسلوكيات كذلك، في البيت وفي المؤسسات وفي الشوارع والفضاءات العمومية… إلخ. يقتضي ربح هذا الرهان إجمالًا، العمل على جعل الثقافة قلبًا نابضًا داخل المدينة، وفضاءً للفكر والفعل الثقافي ينتصر لآدمية الإنسان وكرامته وحريته ورفاهيته ورغباته الفنية والجمالية.