جاسم الكوفي.. رجل خشن ذو وجه أنهكه الزمن
كنت في بغداد في زيارة متابعة مع وكيل صخر في العراق يحيى جعفر، ابن وزير داخلية العراق في العهد الملكي، وفي عطلة نهاية الأسبوع رأيت أن أذهب لزيارة الكوفة مسقط رأس المتنبي ومدينة كربلاء حيث استشهد الحسين والنجف الشهيرة بموقعها الديني والأدبي. في الكوفة ذهبت راجلا لمسجد الإمام علي. هناك تجولت عيناي في ساحة المسجد الكبير. تتجول عيناي باحثًا عن طريقة أتعرف بها التاريخَ والطقوس، وسرعان ما تقدم نحوي شاب يضع عمامة خضراء على رأسه وعباءة على كتفيه وبلهجة باسمة وعينين صافيتين سألني بعد السلام إن كانت هذه أول زيارة لي للمرقد. طلبت دليلًا يدلني ويشرح لي، قال: أنا الدليل. بدأنا نسير معًا. رأيت أكوامًا من رجال ونساء يجلسون على الأرض مع معمّمين آخرين ربما كانوا مثلي يسألون عن الطقوس لكن الدليل أخبرني أن هؤلاء لديهم نذور يأتون ليدفعوا بها نقودًا وعدوا ربهم بدفعها لو تحققت أمنياتهم مثل امرأة إذا حبلت، أو شاب إذا عادت له الحبيبة، أو مزارع إذا باع محصوله بربح كبير، أو عجوز لو عاد له ابنه من الحرب وهم كثيرون.
دخلنا المرقد المحاط بسياج حديدي ضخم به أجزاء مدهونة باللون الذهبي وربما بماء الذهب وبشر لا يبدو عليهم اليسر مكتظون يتدافعون ويمدون أيديهم على السياج طالبين المغفرة عن ذنب أو ذنوب أو شفاعة عند رب العالمين وبعضهم تسيل على وجناتهم دموع. أخذ الدليل يشرح لي ما قرأناه عن مأساة آل البيت ونكباتهم واستشهاد الحسين ثم توقف عن الكلام فجأة ونظر نحوي «هل أنت سني؟» قلت: نعم.. كيف عرفت ذلك؟ قال: لأنك لا تبكي، قلت: لكن هذه المعلومات قرأناها مرارًا في كتب التاريخ، أشاح بوجهه عني كارهًا إجابتي. قال: «تعتبره تاريخًا فقط؟» قلت: أعرف كل هذه المعلومات وأعرف من دعوا الحسين للكوفة ومن خذلوه. أشاح بوجهه متأففًا وأظنني سمعته يهمس ضاحكًا ولم أتبين ما كان يهمس به. وحين توجهنا للخروج من المسجد توقف وسط باحة المسجد وأشار لي بعينيه الصافيتين قائلًا: الصحراويون يدفنون ويمشون، مات انتهى الموضوع، أليس كذلك!! ألا ترى المسيحيين يصلون ويبكون في الكنائس ويتذكرون صلب المسيح وآلامه؟ أولئك مؤمنون يعرفون معنى التضحية والآلام مثلنا وليس تاريخًا فقط.
أنتم لا تعرفون متعة العذاب.. إنه تطهير للروح عن نكبات الدنيا وإحباطاتها، وأضاف مبتسمًا أنت ربما ليس لديك إحباطات.. لا تحتاج للأمل؟ لم يكن لدي ما أجيبه وظللت أسير معه خافض الرأس. نظر لي مبتسمًا: أنتم لا تعرفون البكاء ولا الذكرى كله عندكم تاريخ، تاريخ فقط!
لا يوجد تمثال للمتنبي
طلبت منه أن يصحبني في جولة في مدينة الكوفة.. وعجبت من هذه المدينة وأهلها كيف لا يوجد بها مدرسة أو شارع أو تمثال لأهم شاعر عربي: «أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي»، قال هذه مدينة دينية والمتنبي لم يكن مؤمنًا ونحن أهل الشعر وكثير من أهلنا يقرضونه ويحفظون شعر المتنبي لكن لا يمكن أن نمجّده، لم يكن مؤمنًا، قلت له: الكوفة أسسها وخطط أحياءها عمر بن الخطاب. لم لا تعملون له تمثالًا أو متحفًا لخرائط تخطيط المدينة، نظر لي متأففًا وأشار بيده: لا لا.. نحن لا نعمل تماثيل.
أخذني إلى السوق الرئيسي، سوق مغطى سقفه ربما بخشب وربما بقطع حديد متآكلة، الأرض ترابية والدكاكين صغيرة ملتصق بعضها ببعض، وأصحابها يخيطون العباءات الرجالية وأنواع العقال الأسود والعقال المذهب الذي اختفى من الاستعمال. يزينون العباءات بخيوط الزري المذهبة الذي يجلبونها من الهند. يجلسون على الأرض بعضهم جنب بعض فوق سجادات قديمة مهترئة محنيي الظهور ينفذون غرزات التذهيب في أطراف العباءات باستغراق مهني يبدو لي مرهقًا. على الجانبين دكاكين تعمل الشيء نفسه دكان بعد دكان بعد دكان، لا شيء آخر في هذا السوق سوى خائطي العباءات وأشعات شمس تهبط من السقف بين فتحات السقف مثل دنانير المتنبي في شعب بوان. وفجأة ظهر لي دكان ذو واجهة زجاجية واسعة، نظرت داخله فرأيت لوحات خط عديدة.
دفعت الباب ودخلت الدكان. رجل ضخم يجلس في أقصى الدكان وأمامه طاولة خشبية مستطيلة. رحت أتمعن في اللوحات. لم يحرك الرجل ساكنًا. التفت نحوه سائلًا عن ثمن لوحة بخط الثلث واللون الأخضر الخفيف قال لي السعر وهو جالس في مكانه، ثم رأيت لوحة كما لو كانت كتابتها محروقة وبالخط الديواني، سألت عن ثمنها فرفع الرجل صوته «أنت تريد أن تتفرج أم تريد أن تشتري؟» قلت: أتفرج وأشتري! قام من كرسيه واتجه نحوي. شاربه كث والنظارة التي يلبسها ضخمة الزجاج ويبدو في لباسه بهيئة رجل خشن ذي وجه أنهَكَه الزمن. رحت أسأله عن هذه وتلك من اللوحات، قال لي متأففًا: ألم تعجبك ولا لوحة واحدة؟ قلت: بالعكس كلها أعجبتني، ضحك مازحًا وربما هازئًا: إذن اشترها كلها. قلت: ليس كلها، اقترب مني متفحصًا: أنت من أي بلد؟ قلت: من الكويت، قال هازئًا: شيء جيد أنتم عندكم فلوس، نظرت له مستغربًا: لماذا هذا الاستعلاء وشيء من الغطرسة والهزء، وأنا زبون يريد أن يشتري منه بضاعته! قال: هل عندك فلوس؟ قلت: طبعًا كيف أشتري من دون فلوس! ضحك فرأيت أسنانًا بيضاء عريضة، قال: أقصد معك فلوس، قلت: نعم، قال: الآن الفلوس معك؟ قلت: نعم، بدت فرحته على وجهه واصطبغ الوجه المتغضن الأسمر بحمرة خفيفة. قال: سأعطيك خصمًا لو اشتريت ثلاث لوحات. كان في الدكان تسع لوحات أو عشر لوحات، قلت أريد هذه وهذه، والتفت يسارًا وهذه، ثم يمينًا وهذه وهذه، وهو يذكر لي الأسعار، قال: تريد كل هذه اللوحات؟ قلت: نعم، قال: المبلغ صار كبيرًا حوالي ثلاثة آلاف دينار ولو أخذت باقي اللوحات أعطيك خصمًا مئتي دينار، قلت: لكنني لا أريدها، قال: خذهما باقي لوحتين فقط سوف تحبهما فيما بعد، خذهما وسأقفل الدكان وأنسى هذا المكان، قلت: توكل على الله. قال: نتوكل على الله!! ويبدو أنه لاحظ وجود الشاب المعمم يسير جيئة وذهابًا خارج زجاج الدكان. اتجه نحوه ولا أدري ماذا قال له لكن الدليل غادر المكان ولم أره ثانية. عاد نحوي قائلًا: أكان هذا معك؟ قلت: نعم، كان دليلًا في الضريح وطلبت منه مرافقتي في السوق، قال: طردته. قلت: لماذا؟ قال: هؤلاء كذابون لا يعرفون شيئًا من التاريخ، يقولون كلامًا تبكي منه النساء والفلاحون، أنت الظاهر عليك متعلم، ماذا يمكن أن تتعلم منه، قلت: لكنه ساعدني وأردت أن أجازيه على مساعدتي، قال: لا يهمك إذا اشتريت هذه اللوحات، أنا أعرفه، سأجده وأعطيه مئة دينار إكرامًا منك.
لا أحد يهتم بالخط هنا
عاد إلى مكتبه ودعاني إلى أن أجلس. الكرسي الخشبي صلد وربما كانت قوائمه غير متساوية. لاحظ الاهتزاز في جلستي، قال: بعد قليل ستأخذ راحتك ويأخذ الكرسي موقعه دون اهتزاز. جلست وهو يكتب أسماء اللوحات وأثمانها وأعطاني فاتورة كتب فوقها «الخطاط جاسم الكوفي» سألني: متى سآخذ اللوحات؛ يقصد «متى أدفع الفلوس؟»، قلت ليس في جيبي الآن المبلغ كاملًا سأعطيك مقدمًا ألف دينار وسيأتيك السائق فيما بعد بباقي المبلغ ويأخذ اللوحات. هممت بالمغادرة لكنه قام قليلًا من كرسيه قائلًا: إلى أين؟ اجلس اشرب شايًا معي. مدَّ يده تحت المكتب وأخرج إناء الشاي، وصب لي كأس شاي شديد السواد. ذقته مليئًا بالسكر، قال: الألف معك الآن، قلت: نعم، قال: أكنت ستغادر قبل أن تعطيها لي؟ مددت يدي إلى جيبي وسحبت ألف دينار أعطيتها له. استلمها غير مصدق، أخذ ينظر لي من وراء زجاج النظارة السميكة ووجهه يتهلل نشوة، رفع الفلوس إلى فمه وقبلها مرارًا، ثم رفعها نحو جبهته وقال لي: سأعطيك هدية، ضحكت فرحًا، مدّ يده إلى أحد أدراج المكتب وأخرج نايًا، قام وقفل باب الدكان وعاد إلى كرسيه وأخذ يعزف بالناي باندماج رباني أنغامًا صافية فرحة متماوجة كنسيمٍ صباحيّ بعد مطر خفيف. لم يكن نايًا حزينًا كألحان أهل الريف كان عزفًا مليئًا بالفرح والبهجة، زقزقة عصافير ورقصها وقفزها من غصن لآخر، هل سمع هذا الكوفي سوناتات باخ العديدة للناي! شكرته وقمت مستأذنًا، قال: لا يمكن أنا طردت الدليل وسأكون دليلك اليوم في الكوفة، وماذا في الكوفة؟ ماذا يمكن أن ترى في الكوفة، صناعة العباءات والتطريز في هذا السوق والمرقد الذي زرته قبل قليل مع الدليل الجاهل. معممون في كل مكان، تطريز عباءات وشرب شاي وغبار في أيام كثيرة. لا أدري ما الحكمة في خلقي أنا في هذه المدينة بهذه الموهبة. أنا موهوب لماذا أولد في مدينة تطريز لعباءات وجمع الفلوس بإبكاء الناس المساكين. لدي إجازة بالخط من الأستاذ هاشم الخطاط، كم خطاط لديه إجازة من الأستاذ؟ عشرة… عشرون! المهم أنا آخر واحد، لماذا لم أكن خياط عباءات؟ لا أحد يهتم بالخط هنا. لو أخذت أنت هذه اللوحات فسأقفل الدكان ستة أشهر على الأقل لكي أخط لوحات جديدة..
خرجنا من الدكان الذي له باب حديدي مشبك يغطي الزجاج وأخرج من جيبه مجموعة مفاتيح غليظة وأغلق الأقفال وجربها للتأكد من أنها مقفلة جيدًا قائلًا: لا أريد مشاكل الآن.. لا أريد أن أفقد أيًّا منها وقد بعتها كلها..
أخذني من يدي، أتدري أين أريد أن آخذك الآن؟ سآخذك للغداء. نتغدى معًا عندي في البيت. شعرت بتردد قلت: لا داعي فوضع يدًا على كتفي أنت أمضيت عندي أكثر من ساعة ونصف والآن وقت الغداء ولا يوجد مطاعم جيدة هنا، كلها لهؤلاء الفلاحين، في البيت الأكل أحسن، قلت: ربما يكون بذلك إزعاج لأهل البيت، قال: ستأكل مثلما نأكل. سنأكل الموجود.
تلك الطرق الترابية والشمس غير الرحيمة وزخات من غبار. أزقة طويلة متعرجة وضيقة. بيوت طينية ذات طابق واحد تلاصق بعضها بعضًا ورائحة الطبخ تفوح من كل بيت. وصلنا البيت، دفع بيده الباب فهبت رائحة نفاذة. رائحة ورد يسمونه رازقي. شجرة واحدة في المدخل تغطي أجزاء من الحائط الداخلي بخضرة ناصعة وورد أبيض صغير ورائحة لا يمكن أن تشم أحسن منها. المدخل صغير ونظيف. لم أتوقع ذلك لكني رأيت لدهشتي بجانب الجدار الداخلي وردًا أحمر وأصفر وبنفسجيًّا. المدخل روضة صغيرة والرائحة من روائح الجنة، وامتداد أوراق شجرة الرازقي على الحائط الترابي المليء نتوءات ترسم لوحة تشكيلية ذات ميول وانحناءات ورائحة عبقة، الورود البيضاء الصغيرة كأنما ترقص وتندس بين منحنيات الجدار المطلي بجبس أبيض به حفر بعضها يغطيها تراب يجعل الأخضر أكثر عمقًا. اندهشت وارتعش قلبي. هذا الذوق الرفيع داخل البيت مع تلك الخشونة في الدكان. قلت مستحسنًا: «ذوق رفيع». ضحك: «هذا كل ما أملك».
جلسنا على الأرض فوق بساط محلي به المربعات والمثلثات الحمراء والصفراء المتشابكة كما في الطرز الشعبية، وأتى ابناه محمد وكريم بين العاشرة والثامنة أخذا يدي للسلام وقبلاها، ثم افترشا مسرعين بساطًا مشمعًا وضعاه كسفرة للأكل ثم جاء الطعام، أرز أبيض ومرقة بازلاء بيضاء يسمونها «اليابسة». أكلنا نحن الأربعة معًا وضحكنا وشربنا شايًا أسود وقلنا كلامًا كثيرًا والابنان يصبان الماء على يدي بعد الأكل وتبدو فرحة تغمر المكان لعلها مستمدة من فرحة الوالد وربما كانت من وجود ضيف لم يتوقعاه ولا يشبه زوارهم المعتادين.
ألوان الموت والحزن
وصلت اللوحات للكويت. فن الخط العربي الأصيل والألوان الإسلامية، الأخضر الشفاف والأرجواني والأزرق اللين، ألوان تريح البال وتبسط الطمأنينة، الشذري والفستقي والقرمزي. وأتذكر في الكنائس والكاتدرائيات ألوان الشبابيك الزجاجية باللون الأحمر الغامق والأزرق المعتم.. ألوان الموت والحزن، ستكون لوحات الكوفي إضافة إلى ما لدي من لوحات خط أخرى، أسماء الله الحسنى للياباني هوندا، توكلت على الله للصيني هوانج سو، وفن الخط الفارسي الحديث للخطاط الإيراني برويز، هناك فروق كثيرة، جودة الخط في أصالته وصلابته واللون دون زخرفة يأخذ رونقه من دون تهليل أو تزويق. الحروفية أشكال وأنواع وتزيين اللوحات وتذهيبها إبداع عظيم شغل بلاطه والصكار والعيسوي مثلًا. لكن يبقى للخط التقليدي جلال وصلابة وتماسك يعطي للعين تداعيات وهدوءًا نفسيًّا وارتياحًا وجمالًا أعمق من أي زخرفة أو تزويق، صلابةً وعمقًا روحيًّا ورهبنةً.
بعد أكثر من ستة أشهر اتصل بي وكيل صخر ببغداد «يحيى جعفر» يخبرني أن الخطاط جاسم يريدني أن أتصل به هاتفيًّا، قال جاسم بالتلفون: عملت لك هدية، بنفسي ذهبت للشمال واشتريت قطعتي رخام حفرتهما باسمك، واحدة بالطغرائي، حفر الطغرائي بالرخام صعب سوف ترى، والأخرى رقش بالألوان الإسلامية الأصلية، وأضاف هذه هدية مني لك لكن فقط أريدك أن تدفع ثمن الرخام سبعمئة وخمسين فلسًا، قل لصديقك في بغداد يبعثها لي ويستلم الهدية، لا أريد أجرًا على عملي إنه هدية مني لك.
وصلت الهدية في صندوقين خشبيين ثقيلين، تركتهما في مخزن بشاليه في منطقة بنيدر البحرية، ريثما أجد مكانًا مناسبًا لتعليقهما. بعد سنة أو أكثر غزت الجيوش الكويت وتشردنا لاجئين. وبعد خروج الجيوش الغازية من الكويت ذهبنا بعد أشهر للشاليه الذي أُزيلت الألغام من نواحيه ووجدنا كل شيء محروقًا، كل شيء مكتبتي وأسطواناتي الموسيقية وألبومات العائلة وديوان شعر مخطوط للوالد، ورسالتين متبادلتين للوالدة مع هدى شعراوي في الثلاثينيات، ربما أحرقوها للتدفئة. ومن حسن الحظ وجدت الصندوقين الخشبيين ما زالا على وضعهما في المخزن ربما لأنهما ثقيلان لم يستطع الجند تحريكهما.
انتهت الحرب وتمزق العراق وخرج آلاف العراقيين شبه فارين كل صوب، ومن عمان جاءني صوت جاسم. صوت مرعد أجش غاضب وحزين مسرعًا كزخات رصاص: تمزق العراق، أنا في عمان الآن، ليس لدي فلوس، كل شيء غالٍ هنا، أبحث عن عمل، ابعث لي ألفين أو ثلاثة آلاف دولار وبسرعة، أريد أن يأتي أهلي معي.
بعد سبع سنين أو ثمانٍ، الظهر قبل الغداء سمعنا طرقًا على الباب ثم دلف شاب دون العشرين. كنت واقفًا في صالة الاستقبال، لا أعرفه يرتدي ثوبًا أبيض نظيفًا. عينان سوداوان واسعتان وشارب خفيف، وحذاء أسود كبير مغبرّ كأحذية جنود مهزومين. مترددًا مد يده للسلام: أنت لا تتذكرني؟ أنا محمد بن الخطاط جاسم الكوفي. مسترسلًا في الكلام، وشفاهه ترتجف ولاحظت أنه يعرق وكفاه ضخمتان مثل يدي أبيه، توفي والدي في عمان. كان يريدنا أن نأتيه لكنه توفي ولا ندري أين دفن ومن دفنه هز رأسه وغشاوة غطت عينيه مثل كل الناس. بدا مضطربًا وهو يكمل كلامه ونحن واقفان، وبدأ وجهه يتغضن وتعاريج مستقيمة ومتنافرة تظهر على جبهته كقلق على مستقبل الأيام، أمي قالت لي: اذهب لصديق والدك الكويتي يمكن يساعدك، ثم مدّ يده نحو جيبه، وقال: أتيت لك بهدية. أنت تحب الرازقي، أنا جمعته لك يوم زرت بيتنا ووضعته في جيبك. أخرج مظروفًا فتحه بعناية وأخرج منديلًا أبيض شفافًا به تطريز بخيط أبيض منه، وفتح الخيوط التي تربط المنديل بعناية شديدة. فتح المنديل وفاحت في الصالة رائحة الرازقي. رائحة من روائح الجنة.