الفضائيات أضافت بلاغة لغوية جديدة
نشرت مجلة (الفيصل) في عددها المزدوج رقم 443- 444، الصادر لشهري الجماديين 1434هـ/ مارس- إبريل 2013م، مقالاً للأستاذ العياشي إدراوي من المغرب بعنوان: أزمة اللغة العربية في الإعلام المعاصر. وإذا كان الفتح الإعلامي -حسبما أطلق عليه الكاتب- ذا تأثيرات سلبية «انتهكت باسم الانفتاح وزيادة الانتشار حرمة اللسان العربي الفصيح»، و«مجيء العولمة بمطامحها الاستقطابية (التوحيدية) التنميطية، وثقافتها الاستهلاكية الفائقة، دخل عاملاً لغوياً جديداً إلى فضائنا الثقافي الإعلامي»؛ فهذا الرأي ليس عيباً، بل إنه مزية امتازت بها الفضائيات التي أضافت إلى اللغة العربية بلاغةً إعلاميةً لغويةً جديدةً تمثّلت في التقارير الإخبارية التي يقرؤها المراسلون، وتبدأ بمقدمة ثم جوهر الموضوع، وتنتهي بالفضلة أو الـBottom Line حسبما يُسمى في المصطلح الإخباري.
أما عن المصطلحات والتعبيرات الإنجليزية والفرنسية التي ينطق بها المذيعون حتى تداخلت مع العربية، وشكلت ما يُعرف بالهجين اللغوي، فهذا رأي صائب لابد من التصدي له والحد منه، لاسيما في الإعلان التجاري ولوحات المؤسسات التجارية الصغرى والكبرى على حدّ سواء. ويستخدم الباحث مصطلح (اللغة العامية)، والصحيح هو (اللهجة العامية)؛ فاللغة العربية واحدة، واللهجات متعددة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن كلمة (اللسان) هي الأفصح لغوياً كما ورد في القرآن الكريم.
وعند حديثه عن التداخل بين اللغة الفصيحة واللهجات العامية في الخطاب الإعلامي يذهب الكاتب إلى أن هذا التداخل «ليس بريئاً أو عفوياً، وإنما هو مقصود، الهدف منه عزل العربية الفصيحة… وإحلال العاميات محلها»، وهذا صحيح؛ إذ إن الشائع الآن هو -على سبيل المثال- إلغاء ألف الاثنين، ونون النسوة، وعدم تحقيق تاء التأنيث في الكتابة؛ لتصبح كهاء الغائب، وغير ذلك مما ينأى باللسان العربي عن قيمه ورموزه وعمقه التاريخي وبعده الفكري، ويصبح (النسق الدارج) -على حدّ تعبير الأستاذ إدراوي- هو الراسخ في مختلف وسائل الإعلام، وهذا معناه -كما يستطرد الكاتب- جعل العامية «لغةً تعليميةً أولاً، ثم لغةً إبداعيةً ينتج بها الفكر ثانياً». وبالنسبة إلى ثقافة الصورة (الثقافة البصرية) وهيمنتها، فقد شجّعت تراجع ثقافة الكلمة، ولا شكّ في ذلك على المستوى الجماهيري، وليس على مستوى الصفوة؛ فتجلّيات ثقافة الكلمة، لاسيما القرآنية منها، كانت -ولا تزال- مضيئةً لكلّ متدبر في كتاب الله عزّ وجلّ، وكذلك أدب الحديث النبوي الشريف؛ فمهما حاولت الأيدي الخفية أن تعبث باللسان العربي، وتحيله إلى عامية أو هجين، فإنه مرتبط بكتاب سماوي، واللغة العربية هي لغة أهل الجنة.
ولا ضير في أن يتواضع مقدمو البرامج الدينية من علماء الدين؛ فهم -أيضاً- يخاطبون جمهوراً عريضاً عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ويكتبون في الصحف اليومية، وليست المتخصّصة، وهذا لا يعني ألاّ يتحرّوا في خطابهم الدقة، لكن المهم هو اتباع أسلوب ما يسمى في البلاغة (السهل الممتنع)، أو (مراعاة مقتضى الحال)، ولنضرب مثالاً على ذلك الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- الذي كان يتبع أسلوب المجالس الأدبية أو (أدب الدعوة) إذا صحّ التعبير؛ لذا فقد لقي حديثه الرمضاني (على مائدة الإفطار) قبولاً جماهيرياً كبيراً، وكان حديث الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- حديثاً تأملياً في لغة القرآن؛ فهو يتبع مدرسة التفسير اللغوي، وكان له جمهوره من المثقفين. ويشبه الشيخ الطنطاوي حالياً الشيخ عبدالله المطلق في فتاواه؛ إذ ينطق الكاف سيناً على لهجة أهل نجد، وهذا ليس عيباً، بل إنه شيء يجيء حسب طبيعة اللسان نفسه.
أما ما تعرّض له الكاتب من علم القراءات والأصول فهناك قنوات اتصال للصفوة مرئية ومسموعة ومكتوبة، وجدير بالذكر أن الباحث لم يضرب أيّ مثل على حججه وأفكاره، ومال إلى التعميم أكثر منه إلى التخصيص(1).
كما أن مبدأ الغاية النفعية التوصيلية لا ضرر منه، ونتفق مع الكاتب في أنه لا يكون هذا المبدأ مقدماً على العناية بالضبط والإتقان اللذين يجب أن يتماشيا مع روح العصر؛ فعلى سبيل المثال: لو استخدمنا المجاز في الأخبار هكذا: «طار مندوبنا إلى القاهرة لتغطية مؤتمر القمة العربية»، فهذا المجاز حديث، ولم يكن مستخدماً في بلاغة الجاحظ الذي لو خرج من قبره لتصوّر أن المندوب ذو جناحين، لكنها البلاغة الإعلامية الجديدة التي أشرنا إليها آنفاً، والتي لا تتنافى مع فصاحة اللسان العربي، بل تضيف إليه وتثريه.
ونقف عند مصطلح (العمالة الإعلامية)، الذي وجده الأستاذ العياشي إدراوي في كتاب (إشكاليات العمل الإعلامي بين الثوابت والمعطيات العصرية) للدكتور محيي الدين عبدالحليم، ولا شكّ أن هذا المصطلح يحتاج إلى نقاش بعد الرجوع إلى مصدره، إضافةً إلى أنه يعدّ مصدراً قديماً صدر عام 1997م، مثل بقية مصادر الدراسة التي كتبها الباحث.