ثمن الغرور
قال الرواة: كانت بنو مُرة مربعة في شرق الجزيرة العربية في وقت كان الربيع على أوجه، والعشب كان من طوله في بعض الريضان يجلس فيه الرجل ولا يُرى، والأرض جميعها خضراء من فضل الله لا من فضل غيره، وكان الغيهبان المري، وهو فارس منهم مشهور، نازلاً وحدَه في روضٍ رَبَتْ فيه الأرض إلى حدٍّ في منتهى الروعة، وكان متزوجاً لتوّه امرأة قد صبّها الله أحسن صبّ، رائعة الجمال، بيضاء تسر الناظرين، وقد أغدق على زواجه منها مالاً كثيراً لم يكن ليُدفَعَ في غيرها.
وكان الغيهبان كل صباح يخرج على فرسه يتصيد الصيد، أو يكمي الكمأ، وربما أقام يوماً أو يومين من الأسبوع، أو يخرج لتفقد إبله. وذات يوم خرج مبكراً، وأوغل في هذه الأرض المربعة، التي يغطي العشب فيها قوائم الفرس، فلما عاد عند الظهر إلى منزله رأى بيته قد جرد من كل شيء، فصاح بأعلى صوته على زوجه، فخرجت إليه من تحت العشب من مكان ليس ببعيد، وسألها عن الخبر، فقالت وهي عارية من ملابسها: إنهم قوم غزو أغاروا بُعيد خروجك في الصباح، وأخذوا جميع ما في البيت حتى الإبل التي كانت ترعى حوله، فقال: وأنتِ ما الذي جعلك هكذا؟ فقالت: لا، لم يمسسني أحد منهم بسوء، عدا واحد منهم أعجبه ثوبي، فقال: حطي الثوب؛ أي: اخلعيه، واخلعي ملابسك، واذهبي عن وجهي، ففعلتُ، فأخذ الملابس على عجل، وتبع رفقاءه، هذا الذي فعل. وكان الناس لا يكذبون في الزمن السابق، بل يقولون الحقيقة حتى لو كانت عن الأعداء.
قال الراوي: فاستشاط غضباً وحنقاً على هذا الذي أخذ ثوب امرأته، ولم يستشط على أخذ إبله وما في بيته؛ لأن الفرسان يأخذ بعضهم بعضاً عند الغزو، أما النساء فلا أحد يتعرض لهن بسوء، وكان قلة من الفرسان يَسْبُون النساء في الغزو، لكن من دون تعريتهن، ويتزوجونهن.
قال: فقال لها: المهم كم عددهم؟ ومن أين جاؤوا؟ وأين اتجهوا بعد ذلك؟ قالت له: عددهم نحو خمسة عشر فارساً، وجاؤوا من الغرب، واتجهوا إليه، فهزّ رأسه وسكت. وقالت: إن قائدهم كان واقفاً ولم يشترك معهم، بل كان ينظر يَمْنةً ويَسْرةً؛ حتى لا يُغدر بهم. هز رأسه مرة أخرى، وقال: إن هؤلاء جاؤوا من مكان بعيد، الويل لهم. فذهب على فرسه تجري مع الريح بأثر القوم، وبعد ثلاث ساعات أدركهم، فلما شاهدوا عجاج فرسه تكربوا واستعدوا، فلربما كان طليعة فرسان آخرين، أما الواحد فإنه لا يحسب له حساب عندهم، ومعهم فارس مشهور كثير الغارات على العرب. فقال: أيها الفرسان استسلموا، ولم يقُل: ردوا ما معكم. فقال عقيدهم: ولِمَ نستسلم؟! كلَّا وألف كلَّا، ولن نعيد إليك مالك على كل حال، ابعد وإلا سنضحِّي بك؛ أي: نقتلك. فأقحم فرسه وسطهم بسرعة فائقة، واشتبك بعضهم معه، فخرج وقد قتل بعضهم، فاضطر عقيدهم إلى مبارزته، وما هي إلا دقائق حتى قتل العقيد، وفعل الفعل نفسه بسبعة من رفقائه، واستسلم ثمانية، وعاد يسوقهم مأسورين، فاتضح له أن عقيد القوم الذي قتل هو (ش. ع) المشهور بالبسالة، وبُعد الغارات، والفارس الفذ، وهذا ثمن الغرور في هذه الغزوة.
ولما عاد إلى منزله قال لزوجته: أيّ واحد من هؤلاء المأسورين الذي سلب ثوبك؟ فشهدتهم، وقالت: ليس هو بينهم، فقال: إذاً هو من المقتولين.