الفنون في السعودية .. الحياة بلا موسيقا
العددان 477 – 478 شوال – ذو القعدة 1437هـ / يوليو – أغسطس 2016م
ملف العدد
عن الفنون في السعودية: الحياة بلا موسيقا
إنه تاريخ طويل غير مدوّن للفنون في المملكة العربية السعودية؛ من الدراما والمسرح إلى التشكيل والفلكلور، لكن الفنون الموسيقية والغنائية وحدها مرت بأطوار لافتة، فقد تأسس لها في الستينيات الميلادية ما يشبه المؤسسات الرسمية عبر فرق الإذاعة والتلفزيون، وجمعيات الثقافة والفنون في وقت لاحق، وشهدت حركة فنية وتطورًا ملحوظًا لما يقرب من ثلاثة عقود، ثم غابت الرعاية، وتفرّق الفنانون، وتفككت الفرق الفنية.
والواقع أن ما مرت به الموسيقا ينسحب على مجمل ما مرت به قطاعات الثقافة؛ بسبب غياب جهة واحدة راعية للكتاب والمنتج الثقافي والإبداعي، واعتماد رعاية الثقافة وتمويلها على مبادرات مختلفة بين عدد من الجهات العامة والخاصة، مراحل كثيرة مرت.. وصولًا إلى إعادة هيكلة القطاعات الثقافية في المملكة التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.
وقد استبشر الموسيقيون والفنانون أخيرًا برؤية السعودية 2030م التي أعلنت ضمن برامجها الطموحة عن إنشاء مجمع ملكي للفنون، كما باشرت وزارة الثقافة والإعلام إعادة تأسيس فرقة موسيقية وطنية، يكون مقرها القناة الثقافية السعودية، وفي أثناء إعداد هذا الملف عن الموسيقا في المملكة ما زالت الأخبار تتوالى عن التفاتة جدية إلى الفنون والموسيقا التي جرى تناسيها مدة من الزمن، وكان لجوء الفنانين والموسيقيين إلى القطاع الخاص، أو المبادرات الفردية، أو الهجرة الفنية إلى دول الجوار؛ عاملًا مهمًّا في تأكيد إصرار الفنون على الحضور في المشهد الثقافي رغم كل العقبات.
«الفيصل» تخصص ملف هذا العدد لاستعادة الحديث عن الموسيقا في المملكة وجدلها من زوايا متعددة، وسيجد القارئ المشاركين في هذا الملف متعددي المشارب والتوجهات؛ تدوينًا لتاريخ الموسيقا، أو وصفًا لحاضرها، أو تطلعًا لمستقبلها..
منزلة الاختلاف الفقهي في الموسيقا بين الاعتبار وعدم الاعتبار فقهاء يبيحون الموسيقا ويضربون بالعود!
الشريف حاتم بن عارف العوني – أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى
لقد صاحب الجدلُ الفقهي آلاتِ المعازف (الموسيقية) منذ العصور الأولى، فصار خلافًا معهودًا مشهورًا، وما زال مستمرًّا حتى اليوم. على أنه جدلٌ يحتدّ أحيانًا، في أزمان وأعراف، ويلين أحيانًا أخرى.
فما هي حقيقة هذا الجدل؟ وكيف يمكن أن نفسره؟ وهل دوافعه وأسبابه واضحة عند المختلفين في الموسيقا قديمًا وحديثًا؟ أم انتابها من التشنج والتقليد ما جعلها خفيّة متوارية؟ وإلى أي حدٍّ يمكن أن يكون هذا الجدل مقبولًا وظاهرة علمية ثقافية مقبولة؟ أو لا يكون كذلك؟ لا شك أن تناول ذلك من جميع جوانبه أمرٌ مستحيل في مقال مختصر؛ لذلك سأكتفي بإشارات فقط: وأبدأ بالتنبيه إلى عدم ظهور مفسدة للموسيقا؛ إذ من المعلوم عند العلماء أن الأصل في جميع أحكام الشريعة –غير تلك التي علتها التعبد– أنها إنما جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها أو لدرء المفاسد وتقليلها، فهي أحكام معللة، مفهومة السبب. فتحريم الخمر كان لأجل تغييبه للعقل، وتحريم الربا جاء لكونه ظلمًا ودرءًا لمفاسده الاقتصادية، وتحريم الزنا جاء لحفظ العرض وبناء الأسر والنسل، وهكذا جميع الأحكام المتعلقة ببيان علاقة العبد بالمخلوقات وموقفه منها: أنها أحكامٌ مصلحية. وهنا يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا كانت الموسيقا حرامًا؟
لا يمكن أن يدعي أحد أن مفسدة الموسيقا مفسدة ظاهرة كالخمر والربا والزنا ونحوها؛ إذ أي مفسدة ظاهرة في الموسيقا الحزينة أو الحماسية أو الهادئة أو التي تشبه تناغم صوت البلابل وخرير الماء؟!
لن يستطيع أحدٌ أن يزعم ظهور مفسدة الموسيقا إلا بمصادرات على المطلوب، فيذكر أمورًا غيبية، إنما بناها على اعتقاده التحريم!
كأن يقول المحرمون: إنه ينبت النفاق في القلب (على ما جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه)، وعندها سيقول لهم المبيحون: هذا أمر غيبي غير مفهوم السبب، فإن صح معنى هذه العبارة فهي محمولة على الغناء الماجن الذي لا يبيحه أحد، لا على مجرد الموسيقا أو الغناء غير الماجن.
وكأن يقولوا ما قاله ابن قيم الجوزية (ت751هـ) في نونيته:
حُبُّ الكتاب وحب ألحان الغنا
في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعان
وعندها سيقول المبيحون: هذا قول بهذا الإطلاق دعوى باطلة لا دليل عليها، ويردها الواقع أقوى ردّ، فكم رأينا من كبار قرّاء القرآن -كالشيخ عبدالباسط عبد الصمد (رحمه الله)، وكبار العلماء قديمًا وحديثًا- من اجتمع في قلبه حب القرآن الكريم كأعظم الحب وحب الغناء!
الخلاصة: أن دعوى ظهور مفسدة الموسيقا يجب الإقرار بانتفائها، ويحق لمن كان قد رجّحَ التحريمَ أن يظن لها مفسدةً لا تُعلم (غيبية تعبدية)، وإنما دلّه التحريمُ الذي يرجحه هو على وجودها، لا غير.
فإن اتفقنا على أن مفسدة الموسيقا خفية غير ظاهرة، وأن وجود هذه المفسدة المدّعاة لا تصح إلا على اجتهاد من يرجح حرمة الموسيقا: يتضح أن التشنج في نقاش حكم الموسيقا لا مبرر له ولا معنى، وأنه يحق لمبيح الموسيقا أن يمنع من وجود مفسدة للموسيقا، ولا يكون بذلك مكابرًا ولا مخالفًا لأمر لا تصح مخالفته.
وخفاء هذه المفسدة –على التسليم بوجودها– يفيد في تحرير درجة حرمة الموسيقا عند من حرمها، أي: هل هي عنده من كبائر الذنوب أم من صغائرها؟ إذ لا يكاد يشك من ينظر في حدة النقاش المعاصر حول الموسيقا: أنها عند المحرِّمين من أكبر الكبائر؛ فهل هي حقًّا كذلك؟
إذ من استعرض كبائر الذنوب المتفق على كونها من الكبائر وجدها كلها مما تتضح مفسدتها أعظم وضوح، بل كل الكبائر مفسدته عظيمة غاية العظم؛ كالقتل والسرقة وعقوق الوالدين وشهادة الزور والفرار يوم الزحف ونحوها من الكبائر؛ حتى إن هذه الذنوب الكبائر لو لم يأتِ النص بتحريمها لدلّت الفطرة السوية على وجوب منعها وتعظيم خطرها.
لا مفسدة في الموسيقا
فإن أتينا إلى الموسيقا وجدناها بخلاف تلك الكبائر تمامًا، فهي لا تظهر لها أي مفسدة: لا كبيرة ولا صغيرة؛ إلا المفسدة التي هي محل النزاع بين المحرمين والمبيحين؛ لأنها مفسدة مبنية على القول بالتحريم فقط، لا على العلم بها بظاهر أمرها.
وقد استعرضت عامة كلام العلماء وكتبهم في الكبائر، منذ جيل الصحابة رضوان الله عليهم، إلى البرديجي (ت301هـ) صاحب أول كتاب مصنف في الكبائر يصل إلينا، فقد بلغ عدد الكبائر عنده ثلاث عشرة كبيرة فقط، وزاد عليه الضياء المقدسي (ت643هـ) في تذييله عليه، ثلاثًا فقط، ولم تكن الموسيقا والغناء من بين هذه الكبائر عندهما. وكذلك الحال مع ابن جرير الطبري (الذي حصر الكبائر في تسع كبائر فقط)، ثم أبي طالب المكي الذي حصرها في «قوت القلوب»، والغزالي في «إحياء علوم الدين»، والذهبي في كتابه الشهير «الكبائر»؛ وكلهم لم يعدّوا الموسيقا من الكبائر.
ولم يذكر الموسيقا ضمن الكبائر كل من الرافعي والنووي وابن الرِّفعة. بل إن الإمام الغزالي (ت505هـ) في «إحياء علوم الدين» –وهو ممن أباح النشيد الديني (السماع)، ولكنه رجح تحريم الموسيقا– يحكي الإجماع على أن الملاهي (الموسيقا) من الصغائر، حيث ذكرها مع غيرها من الذنوب، ثم قال: «ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر».
ولم تُعدّ الموسيقا من الكبائر؛ إلا عند بعض المتأخرين، وأول من أدرجها في الكبائر –بحسب ما وقفت عليه- هو أبو زكريا بن النحاس (ت814هـ)، في كتابه «تنبيه الغافلين»، دون أن يذكر دليلًا على عدّ الموسيقا في الكبائر، وإنما حكاه عن العراقيين، بخلاف عادته في غيرها، وكأنه فيها مجرد ناقل لقول لا يقره. كما أن ابن النحاس أحد المتوسعين في إحصاء الكبائر، فقد بلغت عنده (171) كبيرة.
ثم في القرن العاشر الهجري فما بعده ذكر غير واحد من العلماء الموسيقا ضمن الكبائر: كابن نُجيم الحنفي (ت970هـ)، وقبله ابن حجر المكي الهيثمي (ت947هـ)، فقد ذكر المعازف في الكبائر في كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر»، وهو من المتوسعين في الكبائر توسعًا مرفوضًا، حيث بلغت عنده (466) كبيرة! حتى كادت أن تكون عامة المعاصي عنده كبائر!! وهذا خلافٌ كبيرٌ منه لما جاء في النصوص، ولما عليه عامة العلماء ممن عدّ الكبائر، كما سبق.
وهكذا يلاحظ القارئ تزايد النفور تاريخيًّا من الموسيقا مع امتداد الزمن ومع تناقص العلم! ولا شك أن عدم ظهور مفسدة للموسيقا مما يرجح بقوة أنها ليست من الكبائر. كما أن عدم ظهور مفسدة للموسيقا مما يعين على معرفة درجة الاختلاف فيها: هل هو خلاف معتبر؟ أم غير معتبر؟
وتحديد منزلة الاختلاف هل هو معتبر أم لا: من أهم الأمور؛ لأن الاختلاف المعتبر يمنع من الإلزام بأحد القولين، ولا يُـجيز الإنكارَ من صاحب ترجيحٍ على من يخالفه. فلو تبيّن أن الاختلاف في الموسيقا خلافٌ معتبر لم يَـجُزْ للمحرِّمين الإنكارُ على المبيحين، ولم يَـجُزْ لهم إلزامُ مخالفِهم بعدم السماع. وتصبح حينئذٍ المسألة راجعةً إلى تدين الشخص ورقابته الذاتية على نفسه: فإن قاده الاجتهاد أو الاتباع والتقليد المنضبط إلى التحريم: التزم بذلك في نفسه، ولا يحق له إلزام المخالفين له في ذلك من المبيحين، ما داموا قد أباحوا الموسيقا اجتهادًا أو اتباعًا وتقليدًا لمن أباحها من العلماء.
وضوابط تمييز الاختلاف المعتبر من غيره قد فصّلت الكلام فيها في كتابي «اختلاف المفتين»، وبتطبيق تلك الضوابط القطعية يكون الاختلاف في الموسيقا اختلافًا معتبرًا، ويكون القول بإباحتها قولًا سائغًا لا يجوز إنكاره ولا التشنيع عليه، بل يجب احترام وجاهته؛ كما أن القول بالتحريم قولٌ سائغ معتبر مثله.
ماذا قال الأئمة عن إسحاق الموصلي؟
…. وتَوسُّعُ فقهاء المدينة المنورة في الموسيقا في جيل أتباع التابعين ثابت عنهم، وممن نسبه إليهم يحيى بن سعيد القطان -وهو من أئمة أتباع التابعين (ت198هـ)، ونسبه الإمام أحمد إلى فقهائهم أيضًا.
وفي هذا السياق أيضًا: انظر ماذا قال الأئمةُ عن أحد الـمُغَـنِّـين الموسيقيّين المشاهير، وهو إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي (ت235هـ). فمع أن صنعته كانت هي الغناء، حتى كان أشهرَ المغنين ببغداد؛ إلا أن العلماء قد وثّقوه؛ لتديّنه وقيامه بالفرائض وتحفُّظِه من الفواحش! ولذلك قال عنه إمام الحنابلة -في زمنه- إبراهيم الحربي (ت285هـ): «كان ثقةً صدوقًا عالمًا، وما سمعتُ منه شيئًا، ولَوَدِدْتُ أني سمعتُ منه، وما كان يفوتني منه شيءٌ لو أردتُه».
وبدأ الخطيبُ البغدادي (ت463هـ) ترجمة إسحاق الموصلي بقوله: «كتب الحديث عن سفيان بن عيينة، وهُشَيم بن بشير، وأبي معاوية الضرير، وطبقتهم. وأخذ الأدب عن أبي سعيد الأصمعي وأبي عبيدة ونحوهما، وبرع في علم الغناء، وغلب عليه، فنُسب إليه. وكان حسنَ المعرفة، حُلْوَ النادرة، مليحَ المحاضرة، جيد الشعر، مذكورًا بالسخاء، معظَّمًا عند الخلفاء. وهو صاحب كتاب الأغاني».
ثم أورد الخطيب توثيق إبراهيم الحربي له!
هذا هو موقف العلماء مع أشهر مغني بغداد، بل أشهر مغني المشرق الإسلامي في زمنه! ولمَ نذهبُ بعيدًا؟! فهذا الإمام ابن حزم (ت456هـ)، ومحمد بن طاهر المقدسي (ت507هـ)، وغيرهما من العلماء ممن أباحوا الموسيقا، هل نجد من جرحهم بهذا الاجتهاد؟! أو منع الصلاة خلفهم بسببه؟!
وبهذا يتضح أن واقع الاختلاف في حكم الموسيقا لدى عامة المعاصرين قد انحرف عن مساره الصحيح، وصار التعصب والتشنج والتخوين في الدين والتجهيل في العلم هو سمة عامة المحرِّمين تجاه المبيحين! وهذا خلل كبير، لا يقبله العلم، ولا يقره الدين. وفي مثل هذا الوسط غير الصحي يضعف التحرير العلمي؛ لأنه يخاف الخروج عن الصوت السائد، ويتردد صاحب الاجتهاد المختلف في إعلان اجتهاده ومناقشة المخالفين. فعلينا أن نسعى إلى معالجة هذا الواقع، إن أردنا أن نسمع في الموسيقا وغيرها رأيًا شرعيًّا متّزنًا؛ لأنه يعرف آداب الاختلاف ودرجاته، ويحترم الاجتهاد المعتبر، ولا يبغي على المخالِف.
دعاوى الإجماع المنقوضة في زعم التحريم
سوف يستغرب المتعجلون قليلو الفقه من هذا التنزيل للخلاف في الموسيقا، بسبب التشنج الذي صاحب الجدل الفقهي فيها، وبسبب دعاوى الإجماع المنقوضة وغير الصحيحة في زعم التحريم، وبسبب ضعف التدقيق في أدلة التحريم عند من حرم: هل كانت دلالة ظنية أم قطعية؟ وبسبب عدم النظر في أدلة المبيحين وردودهم على أدلة المحرِّمين.
ولما أن كان هذا المقال مقالًا مختصرًا فسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض ما يدل على سواغ الاختلاف في الموسيقا عند جمع من العلماء، أو إلى التعاطي الراقي لدى المحرّمين مع من اجتهد فأباحها، وأنهم لم يُسقطوا المبيحين، ولا حطوا من ديانتهم ولا من علمهم.
فهذا الإمام الذهبي (ت748هـ)، يذكر العالم الفقيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزهري (185هـ)، وكان ممن يبيح الموسيقا، فيقول: «من أئمة العلم، وثقات المدنيين. كان يُـجَوِّزُ سماعَ الملاهي، ولا يَـجِدُ دليلًا ناهِضًا على التحريم؛ فأدّاه اجتهادُه إلى الرُّخصة، فكان ماذا؟!!».
وهذا يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجِشون أبو سلمة الفقيه الثقة المدني (ت185ﻫ)، يوثقه الإمام يحيى بن معين، مع قوله عنه: «لا بأس به، كنا نأتيه فيحدثنا في بيت، وجواريه في بيت آخر له يضربن بمعزفة». ويقول مصعب الزبيري: «وكان الماجشون أول مَن علم الغناء مِن أهل المروءة بالمدينة».
ويقول الحافظ الخليلي (ت446ﻫـ) عنه: «ثقة… عُمِّرَ حتى سمع منه يحيى بن معين… هو وإخوته يُرخِّصون في السماع… (ثم أورد كلام ابن معين السابق، وقال:) وابن عمّه يُعرفون بذلك، وهم في الحديث ثقات، مخرَّجون في الصحاح».
ثم أورد الخليلي ترجمة عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجِشون (ت164ﻫ)، وهو الإمام الثقة الفقيه صاحب التصانيف، ومن كبار فقهاء المدينة، ومن أقران الإمام مالك في العلم والسن، حتى كان يُصاح في المدينة: «لا يُفتي الناسَ إلا مالكٌ وعبدُالعزيز بن أبي سلمة»، فقال الخليلي عنه: «مفتي المدينة، روى عنه الأئمة، مخرجٌ في الصحيحين، يرى التسميع، ويرخِّصُ في العُود».
فهذه أمثلةٌ فيها توثيق الأئمة وثناؤهم وإجلالهم لهؤلاء الأئمة، مع اعتقادهم فيهم أنهم كانوا يبيحون الغناء وآلات المعازف ويسمعونها، بل من هؤلاء الفقهاء من كان يضرب بالعود بنفسه!
الشيخ المغامسي:
من كتم علمًا ألجمه الله لجامًا من نار يوم القيامة
أكد إمام وخطيب مسجد قباء في المدينة المنورة الشيخ صالح المغامسي، أن ما قاله فيما يخص الموسيقا هو ما يدين به لله «في مقام سُئلت فيه»، موضحًا أنه لا يتوقع «أن يقبل الناس جميعًا ذلك تسليمًا؛ لأنه من المستحيل، لكن ما يحضني على ذلك أمانة الكلمة والعلم».
وقال الشيخ المغامسي لـ«الفيصل»: «لا أستطيع أنا أو غيري من المتأصلين شرعيًّا أن نحلل أو نحرم إلا ما حرمه الله أو ما حلله سبحانه وتعالى، فكيف بما ليس فيه دلالة صريحة كالموسيقا؟». وأضاف أنه حين قال ما قاله بخصوص الموسيقا، لم يكن مُلزمًا «ولم أكن أبحث عمن يجادلني أو يناقشني؛ لأني لن ألتفت إلى ذلك؛ فهو ليس ما أسعى إليه أو أرغب به، وإنما من باب حديث خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم: «من كتم علمًا ألجمه الله لجامًا من نار يوم القيامة».
يذكر أن الشيخ المغامسي أكد في برنامج تلفزيوني أواخر مايو الماضي أنه لا يوجد إجماع على تفسير «لهو الحديث» بأنه الموسيقا، مشددًا على أن الأمة في حاجة إلى خطاب تجديدي، وأن أمانة الدين تملي عليه أن يتكلم، الأمر الذي أثار جدلًا بين معارضين ومؤيدين.
الموسيقا والغناء في الحجاز
علي فقندش – ناقد فني
المعروف تاريخيًّا أن الإبداع الموسيقي والغنائي في الجزيرة العربية، وتحديدًا في الحجاز (مكة المكرمة والمدينة المنورة) له جانب اجتماعي وإنساني مهم في التركيبة السكانية للمنطقة التي شهدت إبداعا ثقافيًّا وفنيًّا على مر العصور، ومن هذا الإبداع الشعر الغزلي الأقرب للغناء… وفي كتابه «الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية» يقول الدكتور شوقي ضيف: من يقرأ في الشعر العربي، وينظر في نصوصه ونماذجه الكثيرة يجد صورتين متقابلتين منذ العصر الجاهلي؛ صورة تقليدية تعتمد على رسوم وتقاليد كثيرة، وصورة أغانٍ خالصة تعتمد على العزف والضرب على الآلات الموسيقية».
من هنا تتضح لنا أهمية الأغنية والموسيقا لدى أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة والحجاز بشكل عام؛ الأمر الذي سهّل مهام تطور هذا الجانب، ونقل صور فن وثقافة كل عربي في هذه المنطقة؛ مما أوجد أسماء عديدة في عالم الإنشاد والغناء في المنطقة، وكلنا يعرف كيف استُقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وصوله يثرب بالنشيد والأهزوجة الشهيرة والمنغمة، وهي الأغنية التي قيل: إن لبنات النجار في المدينة المنورة المحبات للفن والغناء دورًا كبيرًا في ذلك، وهذا ما سجّله وأورده كرم البستاني في كتابه «النساء العربيات»؛ إذ قال: إن بنات النجار كن في مقدمة أهل يثرب المرحبين بالمصطفى عليه الصلاة والسلام. أيضًا هناك عامل مهم آخر، وهو التأثير الكبير الذي يحدثه النشيد في الناس في هذه المنطقة في كل مناحي الحياة؛ إذ استثمر هذا العشقَ كثيرٌ من التجار باستخدام الشعراء والمنشدين للترويج لبضائعهم، ولعل في قصة الخمار الشهيرة بالمدينة المنورة التي أوردها أيضًا كرم البستاني خير دليل على تأثير الغناء في المجتمع.
فالمتتبع لخطا الفن والأغنية تحديدًا يعي أو يخلص إلى أن الثراء والترف قد ساهما في انتشار الغناء في المدينة المنورة أيام الأمويين عندما ظهر ابن سريج ومعبد كأبرز مغنيين آنذاك.
عمر كدرس حلقة وسيطة بين أجيال الموسيقا
سنحاول سرد كثير من هذه الألوان، لكن من خلال الحديث عن أبرز أساتذتها، وأبرز من قدمها واشتهر بها، أو ساهم في شهرتها وانتشارها، وتحويلها إلى قاعدة تنطلق منها أفكار كثير من الملحنين الذين وجدوا أمامهم في تراثنا الغنائي ما يمكن أن يكون عملًا فنيًّا ذا جذور، وليس نبتًا شيطانيًّا سيما إذا ما علمنا أن مدينة جدة وفنانيها كانوا أكثر من استفاد من التراث الفني الغنيّ في مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ إذ مورست هذه الفنون إلى جانب تراث جدة الموسيقي والغنائي الفعلي إلى جانب تلك الفنون المكية المدنية، وربما كان الموسيقار الراحل عمر كدرس علامة ودليلًا على ذلك لأسباب عدة؛ أهمها أن عمر كدرس كان الحلقة الوسيطة بين أجيال الأغنية السابقة الذين حفظ منهم ونقل عنهم، وبين الأغنية الحديثة التي يعدّ عرّابها وصانع مجد كثير من الملحنين والمطربين الذين أعرف وبصورة شخصية أنه لحّن لبعضهم ألحانهم، وكانوا بالفعل أهلًا لهذه المبادرات منه، فأصبحوا فنانين كبارًا في مجال التلحين وغيره. كذلك لأنه نبش تراث الموسيقا في المدن الثلاث: المدينة المنورة التي ولد وعاش طفولته فيها، ونهل من علمها وتراثها، ثم مكة المكرمة التي عاش فيها طويلًا، ثم جدة التي كانت مستقرًّا له طوال نصف القرن الأخير من حياته. وفي محاولات رصد للتعرف على أهم أسماء نجوم الغناء وحَفظة التراث الغنائي في مكة المكرمة والمدينة المنورة في القرن الماضي، التقيت بكثير من نجوم فنون التراث وكبار الملحنين مثل: سراج عمر، وجميل محمود، وأبي الأسرة الفنية الغنائية في المنطقة؛ إبراهيم خفاجي، وبعدد من حفظة التراث الغنائي بالمنطقة ومردديه مثل: حامد عبد ربه، وبكر مدني -رحمه الله- وحسن إسكندراني، والفنان الشعبي الكبير علي شيخ، وعلي صائغ -رحمهما الله- ودرويش صيرفي، والفنان مصطفى إسكندراني الذي بدأت معه. ففي محاولة لجرد أهم أسماء الجيلين الأول والثاني من فناني التراث الذين عاصرناهم ونعدهم افتراضًا من ساهم في إثراء الساحة الغنائية بدءًا من عام 1350هـ، وأنقل هنا عن الفنان مصطفى إسكندراني ما قاله لي: عاصرت كثيرًا من هؤلاء الفنانين الكبار أو لحقت بآخر من رحل منهم، وكانوا بالنسبة لي الأمل في تحقيق ما أصبو إليه في إثراء ذاكرتي الفنية، ومواصلة حفظ تراثنا الذي كان عرضة للاندثار، ومن هؤلاء حسن جاوة، وصالح حلواني، وسعيد أبو خشبة، وعثمان خميس، وعثمان كردوس، وحسن لبني، والسيد عبدالرحمن المؤذن الذي عرف بلقب «الأبلتين»، وأحمد مراد، وخليل رمل (جد المغني الذي احتجب بعد نجاحات جيدة في ساحة الغناء حسن يوسف رمل)، ومحمود مؤمنة، وعلي شيخ، وعرفة صالح، الذي سيتحدث عنه فيما يأتي الموسيقار الكبير سراج عمر الذي ارتبط به كثيرًا، ونهل من موسيقاه وغنائه وأساليبه كثيرًا، وأحمد عبدالفتاح، وعبدالقادر شولق، ودرويش جبل، ومحمد علي أخضر، ومحمد علي بوسطجي، ومحمود حلواني، الذي حفظ وقدم كثيرًا من ألوان أو أغنيات التراث في الحجاز والجزيرة العربية، كعواد من أبرز وأهم أصحاب المبادرات الأولى في نشر الأغنية السعودية، وكان من أوائل الفنانين الذين هاجروا إلى البحرين؛ من أجل نشر أغنية الحجاز، وأول من سجّل أسطوانات غنائية سعودية صالح لبني، ومحمد الريس عازف الكمان الشهير الذي صنع بدايات طلال مداح في الحفلات تحديدًا، وعبدالستار حضرة علي، وفؤاد بنتن، وفؤاد زكريا، وسعود زبيدي، وعثمان تنكل، وأسعد خوندنة، وعبدالرحمن خوندنة، وأبو حصة، ومحمد باموسى، وعبدالله مرشدي، الذي كان يرأس فرع جمعية الثقافة والفنون بالطائف، والراحل محمد علي سندي الناقل والحافظ الأمين لتراث الغناء الحجازي، وعبدالعزيز أبو سلامة، وأحمد شيخ، ورضا حسن نحاس، والملحن محمد النشار، وعمر باعشن، وعلي باعشن الذي عرف باسم رياض علي، وسبق له أن رأس فرقة موسيقا الإذاعة والتلفزيون، وإبراهيم المطلق، وخليل كتوري، ومعتوق يحيى، ومسفر القثامي، وإبراهيم الشرقي، ومحمد سيامك، وعبدالستار بخاري، وخالد زهدي.
مطربات في ذاكرة الغناء الحجازي
شهدت بدايات القرن العشرين في منطقة الحجاز عشرات المطربات اللائي أثرين الذائقة الفنية وحفرن في ذاكرة الغناء الحجازي وذاكرة الناس، وإذا استعرضنا أبرز الأسماء التي عرفت في القرن الماضي في مجال الغناء والموسيقا التراثية لمنطقة الحجاز، وتحديدًا في مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف، وهنا نلفت النظر إلى أن فن الإنشاد لم يكن حكرًا على الرجل، فهناك اتصال تاريخي بين ما أنشدته بنات النجار في المدينة المنورة عند استقبال يثرب الشهير للحبيب المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم، والتواصل الذي تشهده الأجيال في إنشاد المرأة تحديدًا الذي كان مزدهرًا بشكل كبير في هذه المنطقة في القرن الماضي.
وربما يعرف القارئ إبداع نساء شعبيات أثرين عواطفنا وعواطف من قبلنا من أجيال، مثل: توحة، والراحلة صالحة حمدية، وبنات شافية، وغيرهن، وإبتسام لطفي، وكان من هؤلاء الفنانات عازفات لآلات موسيقية، مثل: فاطمة، وعائشة زايدية –رحمهما الله- اللتان عرفتا بالعزف على مختلف الآلات الموسيقية مثل العود والكمان، ونجد أن أبرز مغنيات مكة المكرمة في القرن الماضي صفية لبانة، وكرامة صالح سلطان، وأمينة عدنية، وصالحة حمدية، وفاطمة حمدية، وزينب هندية، وزينب روشانة، وفاطمة عتيبية، وحجية المكاوية، وغربية المكاوية، وخميسة المكاوية، وخديجة نوارة، وخديجة عبدالله حماد، وفاطمة إبراهيم بشيت وهذه كانت أشهرهن وأكثرهن مقدرة حتى إن المغنية توحة كانت قد قالت لي في حديث قديم معها: إنها كانت أستاذتها في الغناء، بل كانت في طفولتها مغرمة بها، وكان لفاطمة بشيت اسم شهرة عُرفت به في كل أصقاع الحجاز وهو «كاكا» أو الخالة «كاكا»، وزهرة بنت سمر الدين، وعطية عبدالله الحضرمي، وفاطمة عمارة، وزينب دنقاشية، وحليمة بنت سرور، ومعتوقة بنت سعدالله، ومنسية بنت عبدالله، وصفا عيادة، وعائشة حوطية، وفاطمة حوطية. ونلاحظ من تكرار الأسماء أن موضوع العوائل والأسرة الفنية كان موجودًا بوضوح، فتأثر الفن بلا شك في أبناء الأسرة الواحدة، وفاطمة كزبرية، وكل هؤلاء من مغنيات مكة المكرمة الراحلات رحمهن الله جميعًا، وشوق الجداوية، وقمر الطاهرية، وفاطمة نجيدية وهن من مطربات جدة الراحلات، وتوحة مطربتنا الشعبية الكبيرة التي أثرت عالم الغناء النسائي المحلي، أطال الله في عمرها، وحضرت عهد الأسطوانات البلاستيكية، وسجلت العديد من الأعمال الغنائية للإذاعات المختلفة، واسمها الحقيقي فتحية حسن يحيى.
إبتسام لطفي تلتقي كبار نجوم الغناء العربي
هناك أيضًا نعمة دنياري، وليلى حسين، وإبتسام لطفي وهي بطبيعة الحال من أهم المطربات السعوديات اللاتي انطلقن للعربية، وكانت سببًا مباشرًا بما تمتلكه من إمكانيات لعصرنة الغناء النسائي، والخروج من ثوب التراث المقدم بصورة بسيطة إلى تسجيل الحضور في عالم الأغنية التراثية المطورة والأغنية الحديثة. كما أن إبتسام لطفي التقت كبار نجوم الغناء العربي مثل: أم كلثوم، وأحمد رامي الذي غنّت من كلماته، وحلمي أمين الذي لحّن لها وهو ملحن أغنية «عنابي» الشهيرة بصوت كارم محمود، وسيكون لنا معها وقفة مطولة عن دورها المؤثر والعظيم في تطوير الأغنية النسوية السعودية قبل احتجابها، وهو نفس الدور الذي قامت بإكماله سارة (إبتسام قزاز) التي انطلقت في منتصف السبعينيات من القاهرة مع محمد شفيق، وسراج عمر، وسامي إحسان وغيرهم من الملحنين، وقدمت أغنية سعودية غاية في الروعة، وهي صوت من أعذب وأجمل الأصوات لولا احتجابها عن الغناء بعد أن ملكت قلوب محبي الغناء في المملكة. ويمكن أن نذكر نجوى سلم (سمر)، وهي مطربة عذبة الصوت، جاءت من اليمن صغيرة في بداية السبعينيات الميلادية، وتعلمت الغناء واستفيد من صوتها الجميل تحت إشراف مصطفى إسكندراني، وعلي عبدالكريم سيد غناء التراث من جيله.
أما أشهر مطربات الطائف فهن: عطيفة الطائفية، ومريم الطائفية -رحمهما الله- ولطيفة مغربي. ومن مطربات المدينة المنورة كانت صفية شتيوي. من أشهر مطربات «ليلة الغمرة» في الأعراس في الحجاز كانت هناك أسماء كبيرة، وارتبطت بتأريخ الغناء في أعراس الحجاز منهن: فاطمة خصيفية، وسلطانة، ومستورة القريشية، ومنسية، وفاطمة بنت أبو حلاوة، وعايضة النفيعية.
فوزي محسون وعبدالله محمد ومحمد علي سندي حراس التراث
حفلت أوساط الغناء الرجالي في منطقة الحجاز بكثير من الأسماء التي ازدهر عطاؤها في القرن الماضي، وكان بعضهم أمينًا على العمل الفني الفلكلوري، وظل يحفظ هذا الإبداع متوارثًا بأمانة (أي يقدم هذه الألوان كما هي) من هؤلاء فناننا الراحل الكبير محمد علي سندي، الأمين الأول على عطاء التراث الغنائي الحجازي، والراحل محمد باجودة حافظ على التراث الغنائي الشهير. وهناك من ابتكر وابتدع كثيرًا من الألحان المبنية على التراث إلى جانب الإبداع الشخصي، ومن هؤلاء كان فناننا الكبير فوزي محسون وعبدالله محمد، ومحمود حلواني -رحمه الله- والفنان عبدالله مرشدي، وكذلك فؤاد بنتن -رحمهم الله جميعًا- ومصطفى إسكندراني وغيرهم. ولعلي أذكر أيضًا الفنان الشعبي محمد أحمد باجودة أحد أبرز مطربي ومؤدي الأغنية الحجازية؛ ولد بمكة المكرمة سنة 1335هـ – 1915م،
أطلق عليه الفنان محمد علي سندي لقب قائد قافلة التراث الغنائي؛ لاهتمامه بنقل التراث، وإلمامه بالمقامات، وعذوبة صوته. بدأ حياته الفنية سنة 1354هـ بممارسة العزف على العود، ثم جمعته الهواية مع مجموعة اهتمت بالتراث الغنائي؛ منهم: عرفة صالح، ومحمد الريس، وصالح لبني، ومحمد علي سندي، وعمر باعشن، وعلي باعشن. قدمت له الإذاعة العديد من الأغنيات الشعبية. وفي عام 1967م سجل له التلفزيون مجموعة كبيرة من هذه الأغنيات منها: «بالله تحل العقد المبهمة»، و«نسيم الصبا هب علينا»، و«فارج الهم»، وكانت هذه أول مجموعة غنائية شعبية يقدمها التلفزيون السعودي عند تأسيسه؛ إذ حرص على عقد جلسة أسبوعية للطرب ومراجعة وترديد الفنون الشعبية، وكثيرًا ما كان يحضرها فنانون كبار منهم: طارق عبدالحكيم، وعبدالله محمد، وفوزي محسون، وعمر كدرس، ومحمد عبده، وكثير من الفنانين الشباب مثل: محمد أمان وغيره، وذلك لحفظ الفن الشعبي السعودي.
مقام الحجاز نشأ في مكة وخرج منها إلى العالم
في مكة المكرمة تحديدًا كانت للثقافة جوانبها المهمة في كل ما يرتبط بالحياة اليومية والموسيقا والإنشاد، التي هي حب أهل الحجاز الأول وعشقهم حتى كان لهم «مقام الحجاز» الأساسي في مقامات الموسيقا الذي تُبنى عليه كثير من غنائياتهم. وأجمل من قدم ألحانًا عظيمة من هذا المقام كان السنباطي، وزكريا أحمد، والقصبجي وغيرهم. كذلك استخدمه محمد الموجي في مقطع « شوف القسوة بتعمل إيه » في أغنية «اسأل روحك» لأم كلثوم، كذلك فناننا الجميل جميل محمود في أغنية «خايف منك من حبك» لعبادي الجوهر في بداية طريقه مع الغناء، وطلال مداح -رحمه الله- في «انتظاري طال يا حلو التثني» و«ما دام معايا القمر» و«يقولوا لي قنع منك».
وللفائدة الأكبر حول مقام الحجاز وأصوله تحدث إليّ الفنان الكبير جميل محمود الذي قال: إن مقام الحجاز نشأ في مكة المكرمة، وخرج منها إلى العالم كله، يستخدمه العرب والغربيون؛ حيث تستخدمه العرب كمقام كامل، ويستخدمه الغربيون كجنس من مقام الحجاز، والجنس المقصود به هنا جزء من المقام؛ لأن معظم المقامات ثلاثة أجناس، يتزاوج بعضها مع بعض؛ لينتج المقام الموسيقي الكامل بنوتاته السبع، وقد استعمله الفنانون العرب في كل البقاع، وصوروا المقام في غير موقته، وسُمي بأسماء أخرى مختلفة لكنها بالنسبة للنوتة الموسيقية تعود إلى مقام الحجاز، ودليل ذلك أن المقامات العربية الموجودة والمستخدمة في العالم العربي يزيد عددها على 3000 مقام، وهي لم تستخدم كلها، لكن حينما أعيدت إلى أصولها أصبحت 99 مقامًا فقط؛ المستخدم منها أقل من نصف هذا العدد لصعوبة عزفها؛ لأن أبعاد المقامات على الآلات يميل إلى النقص والزيادة المعروفة بـ«البيمول» و«الدييز» بكل درجاتهما، ونزيد عليها في العالم العربي استخدام ربع التون. وقد اعتمد كل الملحنين في العالم العربي التلحين في مقام «الحجاز»؛ لثرائه وشجنه وفرحه وحزنه والإحساس العميق.
أما فن إيقاع الدانة فهو إيقاع مكي يستخدم مع أي مقام موسيقي حسب رغبة الملحن وتذوقه، ويعود تاريخه إلى ما قبل 870 عامًا وينسب هذه الإيقاع إلى يمن البيتي، المعروف بأبي جعفر يمن البيتي، وهو من سكان حارة الباب بمكة المكرمة؛ لذلك سُمي «الفن اليماني» بمكة المكرمة نسبة إلى يمن البيتي، وإيقاعاته تختلف بين «الدانة» الثقيلة المعروفة، وإيقاع الكف، وإيقاع الرودمان، والإيقاع الصنعاني، وهذه هي الإيقاعات القديمة المنسوبة إلى يمن البيتي. والدانات ألوان عديدة، يعتمد معظمها على القصائد المقفاة الموزونة، مثل: «قف بالطواف»، و«على شاطئ الوادي نظرت حمامة»، و«أهيم بروحي على الرابية» التي قدمها الموسيقار العميد طارق عبدالحكيم، وأغنية «ترفق عزولي»، كما أن معظم القصائد المغناة في الدانات القديمة هي القصائد العربية التي كتبت من المغرب إلى المشرق، ومن شمال الخريطة العربية والإسلامية، إضافة إلى حضور الدانة بوضوح في لحن التراث الذي قدمه محمد علي سندي «أراك عصي الدمع» لأبي فراس الحمداني وأحمد شوقي أمير الشعراء قدمت له «خدعوها بقولهم حسناء».
ومعظم نصوص الدانات من الشعر اليمني والحجازي الفصيح، ومن المعلقات المعروفة أيضًا؛ لأن الفن لا وطن له في مفهوم الفنانين القدامى، وفي مفهومنا نحن أيضًا. أما بالنسبة للفنون الموسيقية في مكة المكرمة فهي كثيرة، فمنها: «المزمار»، و«الطنبور» وكلاهما إفريقي الإيقاع ما عدا الغناء والألحان فهما حجازيان محض.
مسيرة الغناء السعودي.. تجارب ومراحل في إستراتيجية الذاكرة المستمرة
أحمد الواصل- أكاديمي وناقد سعودي
إن التراث الثقافي غير المادي –أي المعنوي- من ضمن ما يشمل فنون الأداء والقول والحركة، وفن الغناء يعد من الفنون الجماعية الحاوية لفن الأداء أي: صوت الحنجرة والآلة، والقول: أي النص الشعري، والحركة: أي الإيقاع واللعب أو الرقص المصاحب.
واستطاعت هذه الفنون الأدائية المختلفة أن تخلق قالب «الأغنية» الذي عبر عن القرن العشرين لكل المجتمعات في الكرة الأرضية، وشكلت أرشيفًا أعاد قراءة التراث وأضاف عناصر جديدة، وانقطع عن كل هذا إلى المجهول، ولكل مجتمع مزايا إما أن تجعله يقرأ المستقبل بمواهبه ومؤسساته، وإما أن تنتهي كل التجربة الثقافية إلى التبدد. فإذا ما لحظنا من الناحية الجغرافية شبه الجزيرة العربية وتنوعها البيئي، وفي المملكة العربية السعودية حيث تشكل مساحتها الكبيرة قوة في التنوع من حيث توزيع الأقاليم وتنوع ثقافاتها في تفاصيلها رغم اشتراكها في بعض تلك الفنون دون أن يغفل آثار الجوار سواء لأقاليم مشتركة الثقافة داخل شبه الجزيرة العربية أو من خارجها في القارتين الآسيوية والإفريقية:
أولًا- الإقليم الغربي أو الحجازي: مكة، والمدينة، والطائف، وينبع.
ثانيًا- الإقليم الأوسط أو النجدي: الرياض، وسدير، والقصيم.
ثالثًا- الإقليم الجنوبي: عسير، ونجران، وجازان.
رابعًا- الإقليم الشرقي: الأحساء، والقطيف.
خامسًا- الإقليم الشمالي: حائل، وتبوك، والجوف.
إذا كانت تشترك بعض الأقاليم في بعض الفنون سواء داخل المملكة أو خارجها مثل: فن السامري والشعر النبطي بين نجد والكويت والبحرين وقطر كذلك فن النهمة والشعر الزهيري بين الأحساء والكويت والبحرين وقطر، فإن فن الكسرة يتبع مدينة ينبع، والمجرور إلى الطائف، والزامل إلى نجران غير أن المجس مشترك بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وإذا كان فن المزمار حبشيًّا وافدًا إلى الحجاز، فإن فن الطنبورة فنٌّ صومالي وافد إلى الأحساء مثلما فن المرافع وافد إلى نجران، والصهبة والدور وافدان من مصر إلى مكة المكرمة، كذلك فن الدان وافد من اليمن إلى الحجاز. غير أن هذه الفنون الناشئة في كل إقليم متطورة عبر الزمن، كذلك الوافدة اتخذت صور الأداء والتواتر مندمجة في مكان معيشتها؛ ما يجعلها جزءًا من العناصر الثقافية والمكونات الحضارية.
الفنون الشعبية في الجزيرة العربية
وما بين تناقل فنون الأداء الموروثة عبر الذاكرة الشفوية بمختلف أنماطها وطرائق أدائها ورقصاتها المصاحبة إن لزم، وبين نشأة الأغنية بعناصرها الأساسية، ومن ثم نشأة صور الملحن المستقل عن المغني، وأساليب الأداء، واتجاهات التلحين، ومدارس الغناء المختلفة؛ ما يبني تاريخ فن الغناء في أي بلد عربي منذ القرن العشرين. أقول: وما بينها يمكن مطالعة تجمد بعض فنون الأداء والقول والحركة حين سجلت بوصفها نصوصًا من الشعر المغنى، ولا يمكن عزلها عن تقاليد تلزمها وطقوس تصاحبها في أدائها، ومن ثم التفاعل معها. ويمكن التذكير بموسوعتين –على سبيل المجاز- حفظتا في منطقتين هما أدعى إلى الشعور باكتساح قالب «الأغنية» الذي قطع بشكل نهائي مع أنماط فنون الأداء والقول والحركة، وهما اللتان مهدتا لأن يصدر كتاب «الفنون الشعبية في المملكة العربية السعودية» (1994م) الذي أشرنا إليه في المقدمة بوصفه يقدم مداخل لفنون من التراث غير المادي أقاليم المملكة.
ففي المؤلف الذي أعده محمد بن أحمد الثميري برواية محمد بن عيد الضويحي، وصدر بعنوان: «الفنون الشعبية في الجزيرة العربية» (1972م)، تبرير سبب تأليفه في مقدمته الموجزة:
«وأبصرنا الكثير من الشباب يحبون أن يغنوا ويسمروا في البر والسيارات في الطريق، وحاولنا أن يوجد لهم ما يسليهم، ويحفظ تراثهم، وكان الكثير من الشباب لا يحفظون من الأغاني الشعبية ما يريدونه، فكثيرًا ما تساءلوا عن قصائد الغناء فلا يجدون من يجيبهم، ومن هنا يتبين أن كل من أراد أن يصوّت بالغناء سيجد في هذا الكتاب طلبه».
جمع الكتاب أنماطًا من التراث غير المادي، فوضعه في قسمين: الأول- يعنى بنصوص من الشعر المغنى أو الشعر الملقى، مثل: الهجيني (غناء السفر)، والعرضة (غناء الفروسية)، والسامري (غناء السمر)، والمراد (مساجلات شعرية)، والمروبع (غناء راقص)، وجرّة ربابة، ومدائح وإخوانيات..
وأما القسم الثاني من الكتاب، فهو يحتوي على سوالف وقصائد (حكايات يتخللها شعر)، وتتنوع موضوعاتها ما بين حكايات بطولة وحكايات رمزية وأخلاقية، وبعض الألغاز. ويغطي الكتاب مناطق عدة من إقليم نجد حيث توجد هذه الأنماط وتتناقل فيما بينها، بل إنه يمتد بحسب توسع «التراث النجدي» ما بين الزبير والكويت، ويبرز من بين تلك المدوّنات من الشعر المغنى أسماء دائمة الذكر: محمد بن لعبون، وعبدالرحمن البواردي، وصالح السكيني وسواهم.
ومن نصوص محمد بن لعبون التي وضعها ضمن نمط «فن السامري»، ثم أعاد تلحينها يوسف المهنا –من مواليد الزبير وأبنائها- لطلال مداح عام 1962م:
«علامه ما ينابيني علامه
ويخفي ما بقلبه من غرامه»
وأما من القسم الثاني، فهذا نموذج لحكاية بين الشاعر حميدان الشويعر وابنته لطيفة:
«لطيفة بنت حميدان الشويعر». أحبّت لطيفة رجلًا من قومها لا تعرف اسمه، فخطبها من أبيها فأبى أن يزوجها له؛ لأنه يرى أنه ليس بكفء لها، ولما اتضحت محبتها له نزل على رغبتها، فتزوجها وكان فقيرًا، فلما كثر أولاده لم يستطع عولهم فهرب ليلًا ولم يعرف مكانه، فقال حميدان الشويعر:
«لا جا ثور يخطب بنتك
فاقرع قينه وقل له قف!»
وأما الكتاب الثاني، فهو «السفينة» (1983) لأنس محمد سعيد كمال، وعرف المؤلف مصطلح السفينة على العنوان بوصفه مجموعًا أدبيًّا من الشعر الملحون وبعض الفصيح للأغاني القديمة وبعض الحديثة.
ويذكر في مقدمة الكتاب التي توفرت على تعريف وربط تاريخي ووصف لبعض هذه الأنماط التي تنتمي إلى إقليم الحجاز، فيقول: «إذ كان بعض رجالنا يعتني بتدوين الشعر الملحون (الحميني) لدورانه على الألسنة ولذيوع فهمه بين كثير من الأوساط ولسهولته ورقته وانسجامه اتُّخِذ كثير منه للأغاني الشعبية حتى دُوِّن وجمع فيه بعض الناس ما يسمّى (السفينة) وهي كناية عن مجموع أدبي يختاره ذوو الذوق في الشعر لتسجيل هذه الأشعار، وكثير منها إن لم تكن كلها قد استحسنها الأدباء وذوو الأصوات الحسنة، لينشدوا بها فتزداد حسنًا إلى حسن، هذا ولا أكتم القارئ الكريم أن بعضًا من الأغاني الحجازية القديمة كانت يمنية في طابعها بالرغم مما أدخل عليها من إضافات وتحسينات حتى لقد اشتهر هذا الغناء المعروف (باليماني) ولكن بعد أن أضيف إليه حسن الأداء، وأدخل عليه تحسين في اللحن يتواءم مع البيئة الحجازية؛ لهذا نجد كثيرًا من القدامى يفضلون الأغاني اليمنية الحجازية على الأغاني الشامية أو المصرية، سيما إذا أجيد الأداء واختير حسن الصوت».
ويشير إلى مصادره، مثلما أورد الثميري راويه في صدارة الكتاب، وهي مجموعة من السفن المخطوطة التي اطلع عليها، ومنها سفينة درويش الحلواني (ت.1945م)، وسفينة عبدالرحمن الحلواني (ت. 1931م)، وسفينة نائب الحرم محمد بن عثمان التي اشتراها الشيخ محمد الكردي، وأضاف إليها نصوصًا أخرى عام 1918م، وسفينة أحمد بن منصور المنديلي، وسفينة هشام بن عثمان العمري.
وقد اعتمد على مختارات دون أن يسمي أنماطها أي الفنون الأدائية والحركية والقولية التي تمثلها، فهي مجموعة من نصوص الشعر المغنى، وإن كان أشار إلى فن المجرور منفردًا، غير أنه يُعرَف لتلك النصوص أنماط مثل: المجس، والدانة، ويماني الكف.
وتتنوع أسماء مبدعيها سواء من شعراء اليمن، بما يخص «الشعر الحميني»، مثل: ابن شرف الدين وأحمد الآنسي، وللمجرور شعراؤه مثل: الشريف أحمد بن يزيد، والشريف عبدالله بن هزاع، وكامل بن شحات، وعلي باشا، وأضاف إليها قصائد صوفية في المدائح النبوية والتوسلات الإلهية معروفة لكل من أبي بكر العيدروس وعبدالرحمي البرعي، وأضاف أغنيات وضعها طارق عبدالحكيم لنصوص كتبها شعراء جدد وقتها مثل: الأمير عبدالله الفيصل، وإبراهيم خفاجي، ومحمد الفهد العيسى، ومحمد طلعت.
ومن نماذج فن المجرور لعلي باشا:
«بنفسك على نفسك حبيبي ترجيت تسامح وتعفي
وإن كان لي ذنب فأنا قد تربيت وما زال يكفي».
ومن الأغاني الحديثة لطارق عبدالحكيم لحنًا وغناء، وهي من شعر طاهر زمخشري:
«أهيم بروحي على الرابية
وعند المطاف وفي المروتين
وأهفو إلى ذكر غالية
لدى البيت والخيف والأخشبين».
تقاليد وطقوس
وما بين النماذج الفائتة انتقلت فنون الأداء والقول والحركة من أنماطها ذات التقاليد والطقوس، مثل فن المجرور أو فن السامري، نحو قالب الأغنية الذي لم يكن في الأغنية السعودية، بل كان مترسخًا في مراكز الغناء العربي خلال القرن العشرين.
وفي القرن الحادي والعشرين دخلت المجتمعات حالة جديدة من تطور فن الغناء؛ إذ أتاحت وسائل نقل الأغنية وأجهزة تسجيلها صناعة أغنية لعصرها لا يمكن التنبؤ بمستقبلها، ولعلنا نجمل تاريخ الغناء السعودي خلال قرن كامل عبر مراحل تلخص لهذه التجربة الكبيرة:
المرحلة الأولى- الرحلة الفنية والتسجيلات الأولى
يحفظ التاريخ تسجيلات غنائية عام 1909م عن طريق موظفي القنصلية الهولندية في جدة، سجلوا نماذج من الأذان وتلبيات الحجاج من إندونيسيا، وأصوات مقرئين من زنجبار واليمن، وهي تسجيلات الهولندي سنوك هوروخورنيه، ويذكر الباحث محمود صباغ حكاية هذه التسجيلات في مدونته: «كان سنوك هوروخرونيه مسؤولًا رفيعًا في الدبلوماسية الهولندية عبر البحار في مواقع نفوذها في جزائر جاوى وجزر الهند الشرقية. كانت مهمته تنحصر في رصد واستشراف اتجاهات الفكر لدى السكان الجاويين المحليين، وكان ذلك باعث رحلته الأولى إلى مكة عام 1885م. لكن نزعات المعرفة والاستطلاع ستنمو لديه.. فاستغل درايته وقدراته اللوجستية في رفد حقلي اللسانيات والموسيقا الإثنيّة وفلكلور الشعوب بمواد رائدة عن مكة. وفي سبيل تنفيذ مشروعه أرسل سنوك الفونوغراف الخاص به إلى الحجاز عام 1906م عبر ترتيب يشرف عليه السيّد محمد سعيد تاج الدين أحد أقطاب نقل حجاج جنوب شرق آسيا بالسفن البخارية، مع القنصلية الهولندية في جدة وعبر مندوبه وشقيقه في الحجاز السيّد جمال الدين آل تاج الدين.
سُجل على تلك الأسطوانات قدر هائل من كل ما يمكن أن يخطر على البال، مما يخص الموروث الحجازي بين عامي 1906 و1909م: سور قصار من القرآن الكريم، وأذان الحرم المكي، وابتهالات دينية، وموشحات مديح نبوي وتزهيد، وغناء محكي، ودانات مكيّة مُغنّاة على آلة العود، وألوان من المجرور والحدري والفرعي، ومجسات على الأصول والفروع، وتسجيل لغناء جماعي في الحارات الشعبية كمقاطع من الصهباء المكيّة ويماني الكف، وغناء نسائي، وشعر بدوي، وغناء لنساء بيشة، ومقاطع من احتفالات الزواج، ومقاطع ترصد الأهازيج المغناة في الاحتفاليات العامة مثل: افتتاح محطة معان الحجازية ضمن سكة حديد الحجاز عام 1907.
لكن في سجلات شركة ميشيان الألمانية حفظ أكثر من عمل بين دانات ومجسّات سجلها الشريف هاشم العبدلي (ت.1926م) –على وجه التقريب- في العهد الهاشمي، فقد تغنى بمجس من شعر الملك عبدالله الأول بن الحسين (انظر ملحق: الشعر المغنى)، وحفظت تسجيلات أخرى في الخمسينيات لمغنية تحمل اسمًا مستعارًا «كوكب الحجاز» تدعى ليلى حسين.
ويعد من سجّل لهم هذه الفترة طبقة من رواة الغناء الحجازي التقليدي تشكل جيلين من أبرزهم: سعيد أبو خشبة وحسن جاوة –من عائلة باجنيد- وعبدالرحمن مؤذن شهير بالأبلاتين –من عائلة دحلان- وحسن لبني حتى من ورث ذلك الجيل محمود حلواني ومحمد علي سندي. وقد ارتحل بعض منهم إلى إسطنبول لدراسة الموسيقا مثل أحمد شيخ (اللهبي، 2009، ص: 24) وذاع صيته في الشام كما تحدثنا سابقًا. بينما ارتحل بعضهم إلى مصر لتسجيل أعمالهم.
إذا كان الشريف العبدلي ارتحل إلى مصر ليسجل أعماله، فإن مجموعة من فناني الأحساء والرياض ذهبت إلى البحرين والكويت لتسجيل أعمالها منذ منتصف الخمسينيات حتى ظهرت شركات الأسطوانات نهاية الخمسينيات، فتمكنت من توفير أجهزة تسجيل وإنشاء أستوديوهات في الرياض والأحساء لشركات مثل: الأسود فون، ونجدي فون والتلفون.
وقد حفظت لنا هذه الشركات أسماء مغنين منها: شادي القصيم (صالح الدوسري)، وشادي الرياض (سعد اليحيا)، وفرج الطلال، وفتى حائل (سالم الحويل)، ووحيد الجزيرة (فهد بن سعيد)، ومن الأحساء عبدالرحمن الهبة، وعايد عبدالله، وعبدالله العماني، وفرج المبروك، ومن الحجاز عبدالعزيز شحاته، ومحمود حلواني، ومحسن شلبي، ومن الجنوب علي عبدالله فقيه (بشير، 2009، ص67).
وقد نشأت في تلك الحقبة إذاعات أهلية لعل أشهرها «إذاعة طامي» في الرياض لصاحبها عبدالله الطامي (1921- 2000م)، وإذاعة في الدمام لعبدالله الشعلان، وعلى الرغم من أن إذاعة جدة قد أسّست عام 1949م إلا أن «إذاعة طامي» تمكّنت من نقل الأخبار السياسية والاجتماعية، وبث الأغنيات، وبخاصة تسجيلات الأسطوانات رغم منعها من البث في الإذاعة الرسمية قبل افتتاح إذاعة الرياض (1964م).
المرحلة الثانية- انطلاق الفنانين والإذاعة الرسمية
يشير أحد المؤرخين، محمد علي مغربي، في كتابه «ملامح من الحياة الاجتماعية في الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري» (1982م) إلى مسألة اجتماعية تختص بتحول في تقاليد تصاحب فنون الأداء والقول والحركة: «كان هناك من يمارس ذلك النوع من الترويح ولكن في السر وبعيدًا عن العيون والآذان في أقبية البيوت، أو في الأماكن المكتومة التي لا تظهر فيها أصوات آلات الطرب، أو في الخلاء بعيدًا عن العمران».
برغم أن جهاز الغرامافون (أو صندوق الغناء) أتيح نهاية الأربعينيات تهريبًا إلا أنه لم يسمح به رسميًّا حتى عام 1961م. ولعلنا نعد إنشاء وزارة الدفاع السعودية لمدرسة موسيقات الجيش العربي السعودي عام 1953م حدثًا بارزًا حين عاد من دراسته في القاهرة وترأسها طارق عبدالحكيم، وحددت أهدافها: أولًا- تقديم التحية العسكرية (السلام الملكي السعودي). ثانيًا- الترفيه عن الضباط وصف الضباط والجنود.
قيدت أنشطتها في المناسبات الوطنية والأعياد، وكلّف وزير الإعلام عبدالله بالخير عبد الحكيم أن يكوِّن فرقة الإذاعة عام 1961م لتكون نواة لعمل أستوديوهات الإذاعة ودعم الأغنية الناشئة آنذاك. خلال هذه الحقبة سوف تعرف أصوات كثيرة بعضها لأول مرة يظهر مثل غازي علي وطلال مداح وجميل محمود، وبعضها انتقل إليها من مرحلة الغناء في السهرات والأعراس، مثل: محمود حلواني، ومحمد علي سندي، وعبدالله محمد، وفوزي محسون. كما أنه وضع مؤلفات تعليمية تخص الموسيقا العسكرية، مثل: «دليل العازفين الموسيقيين العسكريين»، و«تاريخ الموسيقا العسكرية قديمًا وحديثًا».
وقد استطاع عبدالحكيم، الذي عرف ملحنًا ومغنيًا وراقصًا، من خلال أغنيات شهيرة: «يا ريم وادي ثقيف، عند النقا، يا لابس الإحرام»، أن يمنح الكثير من الأصوات العربية ألحانه حقبة الخمسينيات والستينيات مثل نجاح سلام، وسميرة توفيق، ووديع الصافي، كذلك منح جميل محمود ألحانه هيام يونس، وفي المقابل انتقل الشعر السعودي إلى الحناجر العربية بألحان عربية أيضًا؛ إذ لحن رياض السنباطي من قصائد الشاعر عبدالله الفيصل لأم كلثوم «ثورة الشك (1958م)، ومن أجل عينيك (1972م)» ولنازك «ليته يعرف الملل»، ولحن محمد محسن منها لنور الهدى واحدة من قصائده «حبي البكر».
ولا يمكن أن يغفل في هذه المرحلة الدور الكبير الآخر لسمير الوادي (1926-1982م) الاسم المستعار لمطلق الذيابي شاعرًا وملحنًا ومغنيًا، إضافة إلى عمله الإعلامي مذيعًا مبكرًا منذ عام 1955م. سجّل سمير الوادي أغنياته ما بين شركات الأسطوانات والإذاعة (منذ عام 1961م)، التي تجمع ما بين الطابع البدوي والتقليدي. وقدم مجموعة من الألحان لأصوات سعودية مثل: طلال مداح، ومحمد عبده، وإبتسام لطفي، وعبدالله السلوم، وخالد مدني. ومن الأصوات العربية: هيام يونس، وعايدة بوخريص، وسعد عبدالوهاب، ووديع الصافي، ومصطفى كريديه، وسعاد محمد، وشريفة فاضل، ونجاح سلام. وأنجز سمير الوادي 39 قطعة موسيقية خلال مدة عمله بالإذاعة، ولحق به المؤلف الموسيقي حامد عمر (1938- 2006م) الذي ألّف أول أعماله الموسيقية عام 1959م، وبلغ 20 قطعة موسيقية حتى توقف عام 1983م، فوضع بعض الألحان لفرقة الثلاثي المرح، وعلية التونسية، ووديع الصافي، وكتب في الصحافة معرفًا بالموسيقا الأوربية الكلاسيكية.
ويعد عبدالله محمد (1928 – 1998م) الأب الأول للغناء الشعبي، حيث أطلقت ألحانه حنجرة طلال مداح غير مرة، وأسهم فوزي محسون (1925 – 1987م) في غنائه وألحانه بروح حجازية مدنية الطابع، تنقل مزاج حارات جدة غير منقطعة من جذور مهاجريها وجذورهم القابعة وراء ذكرياتهم، ولا ينكر الدور الذي اضطلع به عمر كدرس (1933 – 2002م) في تطوير التراث الحجازي وبراعة ألحانه القليلة، وخدمة صوت محمد عبده بشكل احتكاري موجهًا وراعيًا حتى تقاعده ووفاته.
غير أن عبده نقلت صوته خارج البلاد الألحان الكويتية من يوسف المهنا وأحمد عبدالكريم، وألحان عبدالرب إدريس ذي الأصل اليمني ، حامل الجنسية السعودية.
المرحلة الثالثة- انتشار الأغنية السعودية
ونورد شهادة لعبدالرحمن اللهبي، عازف كمان هاو، أدرجها ضمن مذكراته «رجال الطرب الحجازي» (2009م)، فيقول عن الفنان طلال مداح أحد رموز هذه المرحلة:
«وخرج صاحبي في عام 1380هـ (1960م) في حفلة من الحفلات التي تقام للملك سعود، وغنى أولى أغانيه (وردك يا زارع الورد) وقد عمل على تلحينها عبدالله محمد والريس، وقد صاحبه الريس محمد على الكمان، وحامد فقيه على الإيقاع، وكانت ليلة انطلاقه وشهرته».
إذ شهدت هذه المرحلة تكريس انطلاقة الأغنية الجديدة من بعد المسرح والأسطوانات حين أسّس طلال مداح ولطفي زيني والشاعر المنتظر شركة «رياض فون» مطلع الستينيات، واستطاع مداح أن يقدم تجربة ملفتة في تطوير الأغنية السعودية، ووضعها على قدم المساواة والغناء العربي آنذاك في منافسة قوية في القاهرة وبيروت والكويت من خلال نقلات مهمة في تجربته «وردك يا زارع الورد» (1960م)، ثم بداية الأغنية الطلالية «عطني المحبة» (1968م)، ثم حقبة الرومانسية الجديدة أغاني مسلسل «الأصيل» (1973م)، وهي حقبة تعاونه مع الملحن سراج عمر، وتعزيزها بأعمال شهيرة بين عامي 1976 – 1978م «مقادير، وأغراب، والموعد الثاني، ولا تقول لا تقول» كما أسهم في هذه الانعطافة شعراء طوروا شكل الكتابة الشعرية الغنائية مثل: إبراهيم خفاجي، وبدر بن عبدالمحسن ومحمد العبدالله الفيصل.
شهدت هذه الحقبة انطلاقة محمد عبده، وسعد إبراهيم، وعودة سعيد، وقدم دعم طلال مداح من خلال شركته أسماء كثيرة مثل: عبادي الجوهر، وإبتسام لطفي، وعتاب، وحيدر فكري، وسلامة، ويسرى البدوية، وهدى مداح. إذ يشكل حضور المرأة في تأليف الأغاني والغناء والعزف ملفتًا بشكل متواز مع الرجل سواء عند ذوي المرجعية البدوية أو الحضرية. وقد عززت الإمكانيات الفنية والإعلامية والإنتاجية في الكويت دعم بدايات محمد عبده وعتاب وإبتسام لطفي؛ إذ أسهمت ألحان يوسف المهنا في تكريس محمد عبده في أغنيات شهيرة «ماكو فكة، وبعاد، والجو غيم» (انظر. ملحق: الشعر المغنى). كما أن إبتسام لطفي أفادت كثيرًا في تثمين أرشيفها الغنائي من الملحنين المصريين مثل: رياض السنباطي، وأحمد صدقي، ومحمد الموجي. إضافة إلى استمرار أصوات الغناء الشعبي مثل: فهد بن سعيد، وسلامة العبدالله، وحمد الطيار. وبدأت تظهر المؤلفات المتخصصة في الفنون الأدائية، بعضها وُضع لأغراض تعليمية في القواعد الموسيقية وتراجم الموسيقيين –كما عرفنا سابقًا- وضع معظمها طارق عبدالحكيم بينما يمكن أن يعد كتاب «الأنغام الخفية في الصحراء السعودية» (1971م) المعتنية بالفنون الأدائية، إضافة إلى نماذج جمعها مع محمد الزايدي في كتاب «شدو البلابل: أغاني عاطفية وأناشيد وطنية حماسية».
وقد أتاح تأسيس جمعية الثقافة والفنون عام 1973م فرصة جمع الفنانين في ملتقيات وتنظيم حفلات غنائية أطلقت ودعمت أسماء جديدة. إذ كُلّف طارق عبدالحكيم بتأسيس فرقة الفنون الشعبية تحت مظلة الرئاسة العامة لرعاية الشباب عام 1975م، وطافت بلاد عربية وأوربية وآسيوية تنشر فنون البلاد. وضع عبدالحكيم أكثر من مؤلف تعليمي ومؤلفات أخرى تؤرخ لفنون البلاد أصدرها عندما كان مديرًا لإدارة الفنون الشعبية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب، منها كتابه «أشهر الفلكلورات الشعبية» (1980م)، وألحقه نموذجين آخرين :«العرضة السعودية»، و«سامري عنيزة».
وبرغم أن جيلًا حاول الظهور متأثرًا بالمرحلة الانتشارية غير أنه لم يتجاوز بعض الظروف التي عرقلته بينما سهلت لآخرين، وهم مثل محروس الهاجري الذي انطلق مع الملحن عبدالرحمن الحمد والشاعر جواد الشيخ في أغنية «غدّار يا بحر» (1978م).
وبعد تقنين صناعة الكاسيت وتأسيس الشركات عام 1983م انطلقت مرحلة جديدة في الأغنية السعودية ظهرت فيها أسماء مثل: سارة قزاز -توقفت لاحقًا- ومحمد عمر، وعلي عبدالكريم، وأيوب خضر، وحسين قريش، وعبدالمجيد عبدالله، وطلال سلامة.
وقد أعاد الكرة عبدالمجيد عبدالله، مثل عبده ولطفي، مستفيدًا من ملحني جيله سواء من البحرين أو الكويت في تثبيت مسيرته الغنائية، على رأسهم خالد الشيخ وراشد الخضر وعبدالله الرميثان. كما أنه دعمت حناجر عربية بإنتاج الشركات السعودية، فنون الجزيرة وروتانا وفرسان، مثل: رباب، وعبدالكريم عبدالقادر، ونبيل شعيل، وعبدالله الرويشد، وسميرة سعيد، ورجاء بلمليح. نشطت الصحافة الفنية مخصّصة صفحاتها اليومية والأسبوعية بالمواد الصحفية، إضافة إلى الحروب الكلامية المؤججة في إثارة جماهير الفنانين، ومفاضلة أنماط فنية، ومسائل تخص القديم والمعاصر عكست أفكارًا ومواقف بعضها تجاوز الفن ودوره ما ترك آثارًا لدى الفنانين.
وقد صدر عن النادي الأدبي الثقافي بجدة ديوان سمير الوادي الأول «أطياف العذارى» (1981م)، ثم أصدر الشريف منصور بن سلطان كتابًا عن سمير الوادي «الذيابي: تاريخ وذكريات» (1983م)، وصدر له ديوان شعر آخر بعد وفاته «غناء الشادي» (1984م).
وأعقب هذا إصدار الصحافي أحمد المهندس أكثر من كتاب يوثق أسماء تحولت إلى رموز الأغنية السعودية: «أغاني في بحر الأماني: محمد عبده» (1985م)، و«الأصيل: طلال مداح» (1986م)، و«عبدالمجيد عبدالله: مشوار وأغنيات» (1989م)، وصدر عن دار النشر الخاصة به «فوزي محسون: متعدي وعابر سبيل» (1989م) لمحمد رجب. وأضاف أحمد صادق دياب إلى المكتبة الموسيقية كتاب «سفير الحزن: عبادي الجوهر» (1990م)، وهو الجزء الأول من سيرة ذاتية، ثم وضع الصحافي علي فقندش كتاب «الفنانون» (1993م)، وخص الملحنين سراج عمر والمغني محمد عمر بفصلين منفردين. كما وضع حمدان صدقة «آراء وأفكار» (1993م) أفرد قسمًا عن تجارب وقضايا غنائية مختلفة. ويمكن أن نتوج هذه المؤلفات بموسوعة مصغرة وضعتها هند باغفار بعنوان: «الأغاني الشعبية في المملكة العربية السعودية» (1994م).
المرحلة الرابعة- عولمة الغناء العربي
بدأت بوادر هذه المرحلة في النصف الثاني من التسعينيات (نهاية القرن العشرين)؛ إذ دخلت صناعة الكاسيت مرحلة النهاية بظهور الشبكة الإلكترونية، وخدمة تحميل وتداول الأعمال الفنية رقميًّا بوصفها مادة إعلامية بالرغم من ظهور صناعة الأسطوانة الرقمية إلا أنها لم تستطع أن تصمد.
غير أن الفضائيات شكلت فرصة كبيرة لتحقيق الانتشار لأي مغنٍّ أو مغنية. وأسهم تصوير الأغنيات أو نقل بث الحفلات في تكريس الأسماء الجديدة وإعادة تلميع الأسماء المخضرمة. وقد استطاع موقع اليوتيوب وما يماثله أو يعتمد على خدمته من مواقع أخرى أن يكسر سلطة جهاز التحكم عن بعد وسلطة نظام برامج الفضائيات وعناء الانتظار والتوقع مكرسًا طواعية مارد المصباح السحري، فأمسى حقيقة المصباح الإلكتروني. ظهرت هذه الحقبة أسماء جديدة مثل: راشد الماجد، وراشد الفارس، ووعد، وجواد العلي، وعباس إبراهيم، وأسيل العمران. ودعمت حناجر عربية في هذه المرحلة وبرز منهن أنغام وذكرى وأصالة ويارا ومنى أمرشة.
ويعد التحول الجديد ظهور غناء الهامش، وتقدمه إلى مصاف أمامية مع مغني الراب، وهي نسخ عربية لفن الهيب هوب، وبرز في هذا كلاش (محمد الغامدي) في فرقة حملت اسم «عيال الغربية»، وقصي خضر أحد الأعضاء البارزين في فرقة «أساطير جدة» (الواصل، 2010، ص: 63)، وقد طوّعوا هذا الفن لموضوعات النقد الاجتماعي بصورة الرفض والاحتجاج. ويوازي هذا الغناء في صورته النقدية الاجتماعية تجربة غير مكرسة لعبدالرحمن محمد من حيث اختياره نصوص «الشعر المغنى» المستقرة في ذاكرة الغناء الحجازي منذ القرنين التاسع عشر والعشرين -كان يؤدّى بعضها مجسات ودانات- (السيحاني، 2014، الرياض)، فأعاد تلحينها بروح تعبر عن «جماليات الحنين» تخلق مسار «رومانسية رقمية» في التعامل مع نص مقفل من التراث بقدر أنه لا يحاكي عصره غير أنه يعيد تمثيل صوتيات الانتماء والهوية العربية الإسلامية في نمط «الأغنية البديلة» التي تختبر طرائق الأداء العربية مع موروثات مشتركة سواء تركية أو شامية، بالنسبة لمرجعيات الغناء الحجازي المتقاطع مع المصري والشامي والتركي، وإعادة دمجها في غناء متوسطي يستثمر إيقاع «الروك البديل» وحساسية عزف الغيتار بروح متوسطية تجمع التراث الهجين والطابع الأندلسي والموريسكي والتروبادوري.
كأنما تجربة عبدالرحمن محمد تشير إلى أن افتتاح القرن العشرين بتسجيلات الشريف هاشم العبدلي بمجسات ودانات لنصوص شعرية من عصور الثقافة العربية، لا تقف عند فارس عبس عنترة بن شداد، ولا تنتهي عند الملك الهاشمي عبدالله بن الحسين، إنما يعاد تحريك الشعر المغنى بأصوات عصر آخر يتبع تيارات «الأغنية البديلة» (انظر. ملحق: الشعر المغنى).
خلال هذه الحقبة صدرت بعض المؤلفات بعضها يخص شخصيات فنية كأن يكون مغنيًا أو شاعرًا غنائيًّا أو ملحنًا، وبعضها ديوان نصوص شعرية غنائية ومنها: «بشير حمد شنان» (1998م) لحمد عبدالله شنان، و«إبراهيم خفاجي: إبداع له تاريخ» (1999م) هاني فيروزي، و«عميد الفن السعودي: الموسيقار طارق عبدالحكيم» (1999م) لإسماعيل حسناوي، وديوان «مشاوير الهوى» (2000م) صالح جلال، وأصدر الشاعر والمنتج علي القحطاني سير مغنيه وأعمالهم في ثلاثة مجلدات: مجلدان عن السيرة «عيسى الأحسائي: ذكريات فنان» (2001م)، والثالث عن أعماله الغنائية «عيسى الأحسائي: أغاني» (2004م)، وأصدر الصحافي علي فقندش موسوعة من خمسة مجلدات عن شخصيات عامة: «هم وأنا» (2001 – 2005م) احتوت سيرًا ذاتية لفنانين (مغنون، وموسيقيون، وشعراء أغنية، ومنتجون)، وموسوعة مشاهير الفنانين السعوديين» (2003م) لطارق عبدالحكيم وإسماعيل حسناوي.
ويمكن أن نشير إلى أنه وردت ترجمات لشخصيات من الفنانين السعوديين في موسوعات عربية؛ إذ نجد ترجمات لكل من حسن جاوة (1892 – 1964م)، وطلال مداح (1940 – 2000م)، وبشير شنان (1946 – 1974م) ومحمد عبده في كتاب «أشهر الملحنين في الموسيقا العربية» (2000م) للمؤرخ التونسي محمد بو ذينة.
ووردت ترجمة للشاعر عبدالله الفيصل (1923 – 2007م)، إضافة إلى طلال مداح ومحمد عبده في «موسوعة الغناء في مصر» (2006م) للمؤرخ والصحافي المصري محمد قابيل.
وأصدر الصحافي علي فقندش مع وديان قطان موسوعة «نساء من المملكة العربية السعودية» (2006م) احتوت سيرًا ذاتية لمغنيات وشاعرات أغنية. وفي مؤلفات عبدالله أبكر الموسوعية «صدى الأيام ماذا في حارات مكة» (2007م) أورد سيرًا لبعض مشاهير الإنشاد والغناء مثل: المنشد عباس مالكي، والمغني علي غسّال (1915 – 2004م)، والمغني عمر العيوني (ت.2006م).
كذلك وضع أبكر موسوعة أخرى: «صور من تراث مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري» (2009م) تحدّث فيها عن الفنون الغنائية المكية، وأصدر عبدالرحمن اللهبي كتاب «رجال الطرب الحجازي» (2009م)، وأصدر أبكر لاحقًا «الصهبة والموشحات الأندلسية في مكة المكرمة» (2013م). ولكن يواجه فن الغناء مصاعبًا أدت إلى انهيار الصناعة (وللسينما نصيب أيضًا)، وهذه ظاهرة عالمية، وتحاول شركات الإنتاج أن تعوض خسائرها وإيجاد فرص عمل للحناجر، بينما اتجه بعض من الفنانين إلى الإنتاج الذاتي.
وتكشف هذه الحقبة عن تحول في مسار التجربة الفنية من حيث إثبات الجدارة بمعايير تشابه صعوبات مطلع القرن العشرين، ولا تغفل التطور الفني وأساليبه بموازاة التطور التقني وسرعة ابتكاراته وتنوعها في الحجم والوظيفة والخدمة.
وعلى الرغم من أن أزمة الملحن دائمة في نقصانه مثل الشعراء المجددين غير أن الحناجر، مع شركات الإنتاج، تأخذها رغبة المنافسة في التفرد بأعمال ولو بمستويات متفاوتة دفعت إلى ضخ كمية من الألحان التي كانت تعبأ في أشرطة الكاسيت ما بين أربع أغنيات وعشر أغنيات، ثم انتقلت مع الأسطوانات الرقمية نحو خمس عشرة أغنية، ومن ثم خضعت لمنطق الوضع المتغير بإصدار أغنية منفردة، ولا تسلم من هدر الحقوق في النقل والتداول. ولكن تطور صناعة وسائل التداول (الأسطوانات البلاستيكية والنايلون، والكاسيت، والأسطوانة الرقمية) ووسائط النقل التقني (الجوال، اللاب توت، الآي بود، الآي باد، الآي تونز) ومواقع التداول المتنوعة مثل: (اليوتيوب، والساوند كلاود) دفع بعملية تسهيل الحصول على العمل الفني في أي لحظة، ونقله وحفظه مع خطورة هدر حقوق المؤلف (شاعرًا، وملحنًا، ومغنيًا وموزعًا ومنتجًا) في العالم العربي. وهو ما يسهم في تفاقم مشاكل ينبغي مواجهتها بالتعاون مع مختلف المعنيين بشكل جدي.
إستراتيجية الذاكرة المستمرة
يجب التنبه إلى ما يواجه الإنتاج الثقافي من مخاطر التلف والفقد، وتقديم مقترحات تتيح له مفعولًا أطول لتكوين ذاكرة الأجيال المستقبلية.
ويمكن أن نضع هذا السؤال: ما هي المشاكل التي تواجه التراث الموسيقي (أو الفنون الشعبية) وتاريخ الأغنية؟ أولًا- إهمال التوثيق والأرشفة والصيانة.
ثانيًا- انعدام التربية والتثقيف الموسيقي للداخل والخارج. ثالثًا- انعدام حفظ حقوق المؤلف عبر وسائل التداول التجاري. إذن لا بد من وضع ما أطلق عليه «إستراتيجية الذاكرة المستمرة» حيث تتمثل في دعم مشترك بين أكثر من جهة وقطاع، وهي مهمة وطنية واجبة تتصل بمهمة حضارية إنسانية شاملة؛ إذ يتوجب وفق المسؤولية الاجتماعية التنبه إلى الحفاظ على «التراث الوطني» –والفنون الأدائية فرع منه- بوصفه همًّا مجتمعيًّا يقوم على جهود الطبقات والفئات قبل المؤسسات والمنظمات وما في حكمهما:
الدعم الأساسي:
يمكن أن تدعم الفنون بإنشاء مؤسسات أو مراكز دراسات أو تأسيس أقسام بحثية في جمعيات الثقافة والفنون، وتشغيل لجان متعددة لحصر وتوثيق الفنون، وتطوير برامج تعليمية وتثقيفية، وتوفير صالات عروض، وبناء أستوديوهات تسجيل، وتأسيس فرق لكل إقليم بحسب الفنون ومناسباتها.
ويمكن حصر نقاط محددة للدعم الأساسي على النحو الآتي:
أولًا- مركز دراسات لفنون الأداء: الغناء والرقصات والنصوص والألبسة.
ثانيًا- إنشاء بيوت لأداء الفنون الشعبية في كل منطقة. ثالثًا- تأسيس متاحف لحفظ الأسطوانات والآلات الموسيقية. رابعًا- وضع موسوعة شاملة للفنون وتفعيلها إلكترونيًّا. خامسًا- تشجيع تأليف الكتب المتخصصة في الفنون والسير الذاتية لمبدعي الفنون.
سادسًا- إتاحة تسجيلات الإذاعة والتلفزيون للباحثين والدارسين والمؤرخين إلكترونيًّا. سابعًا، إصدار سلسلة ثابتة: كتب وأسطوانات.
وهي ممكنة حين تجدول حسب الإمكانيات والخطط ذات التدرج الزمني، مع استثمار خبرات القطاعات المختلفة تحت مظلة «المسؤولية الاجتماعية» التي تتضامن مع ذات الاختصاص. إن مشروع التحول الوطني لهو قادر على احتواء الاحتياجات الأساسية لإنشاء ودعم الذاكرة المستمرة، وهذا هو الأمل؛ لنعمل جهدنا ليتحقق.
الحاجة إلى ثقافة موسيقية فكرية فلسفية
خليل المويل – باحث في علم الصوت والموسيقا
جاء في الحديث «إن الله جميل يحب الجمال». لقد دعا الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى التدبر فيما يحيط به من بديع الخلق وجميل الصنع. ذلك أن مُنشئ هذا الإبداع والجمال وهذا الصنع والنظم هو الله عز وجل.
إن التعاليم السماوية تتلاءم مع الخصائص الجسدية والروحية للإنسان، وإن حب الجمال –بشهادة علماء النفس- يعدّ واحدًا من الأبعاد الروحية المودعة في الإنسان، والله هو الذي أودع في وجودنا حب الجمال لنستدل به عليه.
إن الموسيقا والإنشاد «الغناء» كلاهما أبرز وأكمل مصاديق الجمال ومظاهره؛ إذ تجد تأثيرهما العميق في كل إنسان أيًّا كان انتماؤه أو عقيدته، وأيًّا كان سنه وثقافته وجنسه، وبشكل لا يمكن إنكاره أو توصيفه.
والإسلام يحث على تلاوة القرآن الكريم بصوت حسن، كما ورد في الأحاديث.
على الرغم من ذلك، فإن السلاطين في العصور الماضية من الدولة الإسلامية، قد عمدوا إلى توظيف الغناء والموسيقا في مجالس اللهو؛ إذ كانوا ينفقون أموالًا طائلة على الموسيقيين والمطربين، وهذا ما يذكره الكثير من المؤرخين في كتبهم. وخصوصًا أبا الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» الذي يعدّ كتابًا خاصًّا بموضوع الغناء والعازفين والشعر والأدب.
وفي عصرنا الراهن يتم التعاطي مع مقولة الموسيقا والغناء بمختلف الأشكال والأهداف. وهذه الأنواع المختلفة تؤدي أحيانًا إلى تخدير روح الإنسان وجميع جوارحه، وتعمل على توظيفها واستخدامها في الأهواء والشهوات.
من هنا، ومن هذا الاختلاف جاءت ردود فعل في تحريم الموسيقا والغناء، واختلاف رجال الدين حول هذا الموضوع الحساس. فمنهم من رأى أن الموسيقا أداة كسائر الأدوات الأخرى كالحاسب الآلي، والراديو، والتلفاز، أو شبكة الإنترنت، لها أبعاد أخرى مختلفة ومتعددة. فيمكن توظيفها في إطار الأهداف الهدامة والمضلّة، وتسفيه الأحلام وإهدار طاقة الشباب الفاعلة في المجتمع. كما يمكن الاستفادة منها في بلوغ الأهداف السامية من قبيل ترويج العلم والفكر، وخلق الحوافز والدوافع الروحية والعاطفية في المسار الصحيح.
الموسيقا والأخلاق
كما يتفق مع هذا الرأي الفلاسفة القدماء؛ إذ كان الفيلسوف اليوناني أفلاطون يرى أن الموسيقا ينبغي أن تستخدم من أجل تحقيق الأخلاق الصالحة، وأكد التأثيرات الأخلاقية للموسيقا، ودعا إلى استبعاد بعض المقامات مثل: «lonian» و«Lydian» من الدولة؛ لأن فيهما ميوعة تبعث على الانحلال في الأخلاق. أما المقامان Dorian»» و«Phrygian» اللذان يتميزان بروح عسكرية فمن الواجب الحث على استخدامهما. فهو يرى أن للمقامات اليونانية صفات أخلاقية.
وتمسك أفلاطون بالرأي القائل: إن الموسيقا ينبغي أن تكون وسيلة من وسائل دعم الفضيلة والأخلاق، وكان يرى أن الموسيقا أرفع من الفنون الأخرى على أساس أن تأثير الإيقاع واللحن في الروح الباطنة للإنسان وفي حياته الانفعالية أقوى من تأثير العمارة أو النحت، وهكذا فإن الطفل الذي يستمع إلى المقامات الموسيقية المناسبة تنمو لديه من دون أن يشعر عادات وقدرات مرهفة تتيح له تمييز الخير من الشر.
وقد اتفق أرسطو مع أستاذه أفلاطون في هذا الرأي، وذهب إلى أن مفعول الموسيقا في إثارة الانفعالات النفسية يماثل الدواء في شفاء الجسد، ومن ثم أثار أرسطو أفكارًا انشغل بها فلاسفة الجمال المحدثون، حينما تساءل عن قدرة التعبير التي تنطوي في الأنغام والإيقاعات وتحدث هدوءًا واستقرارًا عجيبين في النفس.
من هنا نعتقد أن الصوت والموسيقا يرتبطان ارتباطًا قويًّا بأخلاق الفرد؛ لأنهما يؤثران في تصرفاته وفي أعصابه، فالإنسان مكون عصبي، يتأثر بما يسمع وبما يرى. قال روبرت شومان: «إذا أردت أن تعرف أخلاق الشعوب استمع إلى موسيقاها».
من هنا أعتقد أن علينا النظر إلى ما ننتج من موسيقا في بلادنا، وعلينا أن نهتم بنوعية الأعمال الموسيقية التي نقدمها لشعوبنا. فمنطقتنا عريقة بفنونها وفكرها وموروثها النغمي الذي يعكس ثقافة المجتمع عبر العصور.
ليس لدينا موسيقيون مثقفون
لدينا كم هائل من المهتمين في المجال الموسيقي، ولدينا كم هائل من المهتمين بتعلم العزف على الآلات الموسيقية، ولكن هل يوجد مثقفون موسيقيون؟ هل يوجد من هو مهتم بالفكر والفلسفة من وراء الموسيقا؟!
معرفتنا بالموسيقا سطحية جدًّا نستخدمها للترفيه والتسلية، ونعدّ الموسيقا للاستراحات وأغاني «الهشك بشك»؛ ما أدى إلى هذا الإنتاج الركيك في الأعمال الموسيقية والإنشادية والغنائية والفنية بشكل عام في شتى مجالات الفنون.
إن مشكلتنا الحقيقية تكمن في عدم وجود ثقافة موسيقية فكرية فلسفية علمية، تؤهلنا لتقديم موروثنا المحلي بطريقة تليق به، ونقدمه إلى العالم. لذلك نحتاج إلى دورات تثقيفية بهذا العلم وهذا الفن الجميل؛ كي نرفع من المستوى الفني للإنتاج الموسيقي. وذلك باستقطاب العلماء والمفكرين المختصين؛ كي يقودوا مسيرة الارتقاء بهذا الفن إلى مستويات عليا.
قال لي أحد الموسيقيين العراقيين، أستاذ موسيقي في النمسا: «نحن العرب متخلفون ٦٠٠ عام عما وصل إليه العالم في مجال علم الموسيقا».
فهل بالإمكان تقليل هذه الفجوة التاريخية.
لو تحدثت من خلال تجربتي الموسيقية كمنشد ديني عشق علم المقامات الموسيقية؛ إذ تعلمتها على أيدي موسيقيين كبار من وطننا العربي، وكباحث يدرس للطلاب، فسأقول: إن الكثير من هؤلاء الطلاب الذين أدرس لهم جاء ليتعلم وهو جازم أن الموسيقا ليست علمًا إنما فقط للتسلية، وأنها حرام سيتوب منها بعد ترك نزوته هذه. ولكن عندما يجلس معي بعض هؤلاء، وندخل في نقاش تتغير أفكاره تدريجيًّا، لأنه أصبح يرى الزاوية الأخرى من هذا العلم الجميل. وما حدث أن بعضهم ترك الاعتقاد بأنها فقط للهو والمجون، وبدأ يتعلم الموسيقا على أصولها العلمية الصحيحة، ثم أصبح «منشدًا» ينشد الألحان الوجدانية والتأملية التي تقربنا إلى خالق هذا الكون الرائع.
نهضة موسيقية في الستينيات
محمد العثيم – كاتب مسرحي
الموسيقا منذ القدم شيء أصيل في الجزيرة العربية وفي ثقافتها، وقبل أن نتحدث عن الموسيقا في المملكة يجب أن نعرف أن الموسيقا هي ميزة تجمع كل الشعوب، ومن يريد أن ينفي الموسيقا من حياة الشعب السعودي هو كمن ينفي حاجة أساسية في غريزة الإنسان والمجتمع الطبيعية.
لقد نشأنا على الموسيقا في طفولتنا، بل إن الحجاز والخليج كانا يحتضنان الموسيقا من العهد العباسي، وما زلنا نسمع هذه الإيقاعات حتى اليوم مثل السامري. لم تكن الموسيقا مرهونة في المملكة بعهد الستينيات من القرن الميلادي المنصرم فقط عندما ظهرت الأسطوانة، إنما كانت قبل ذلك بقرون متأصلة في تاريخ الجزيرة العربية.
كانت الموسيقا في المملكة خلال الستينيات تحظى ببيئة حاضنة لها، خصوصًا في مكة والرياض، وهي ما كانت تعرف بأسواق الأسطوانة، وكان هناك من يقتني هذا التسجيل الغنائي، ويتخذ منه مهنة أساسية له في ذلك الوقت، وعلى سبيل المثال تسجيلات «سلامة القديمة» وكانت تتداول وكان المجتمع آنذاك مثقفًا موسيقيًّا، فلقد كان أغلب الناس يعرفون النغم، ويعرفون الإيقاع، ويبدعون في ذلك إبداعًا كبيرًا، ولم يكن هناك أي حالة إنكار أو محاربة للموسيقا بل كانت أشبه بالظاهرة المعروفة لدى الجميع في المجتمع، ومن كان لا يريد الموسيقا كل ما عليه ألّا يستمع لها من دون أن يؤذي أحدًا.
أما الآن فأنت تريد الموسيقا والآخر لا يريد الموسيقا بسبب أيديولوجية فكرية معينة، ويفرض الآخر عليك ألّا تستمع بدلًا من أن يترك ذلك الخيار لك.
في حقبة الستينيات كانت صور كل من يغني تكسو الأسطوانات المباعة وواجهات المحلات. وعندما ظهر مسرح التلفزيون أتى للرياض شباب الحجاز الذين يمتهنون الغناء مثل: طلال مداح، ومحمد عبده، وحجاب بن نحيت، وطارق عبدالحكيم، وآخرون. وكانوا يتغنون على مسارح الرياض العامة، ولم يكن هناك أي مشكلة، ولم تكن هناك أية صعوبة في إعلانها.
الصحوة تمسك بزمام الأمور
لكن في حقبة الثمانينيات أخذت الصحوة زمام الأمور، ليبدأ رفض الموسيقا ينمو في داخل المشهد الاجتماعي حتى إننا ما زلنا نعانيه حتى الآن؛ بسبب تلك الأفكار التي تم تسريبها ولا تمتّ للمنطق ولا لحس الإنسان ورغبته في الجمال.
لقد أنشأت تلك الأفكار اعتقادًا لدى جيل بأكمله -بعد أن كانت الأجيال السابقة متصالحة معها- بأن الموسيقا حرام وبشكل قطعي لا يقبل الجدال، من دون معرفة أن هناك خلافًا، ومع ذلك فأولئك الذين روّجوا لرفض الموسيقا وهم الصحوة، استخدموا الموسيقا ومقاماتها كوسيلة لترويج أفكارهم مثل: الأناشيد القائمة في حقيقتها على المقامات الموسيقية.
للأسف لم يعرف العالم ثقافتنا؛ لأننا ظلمنا أهم جزء فيها وهو الموسيقا تحت اسم الخصوصية الثقافية، وكأن خصوصيتنا الثقافية تتعارض مع الموسيقا التي هي في حقيقتها مطلب بشري للجميع. لدينا تاريخ موسيقي تم تهميشه مثل «فرقة التلفزيون»، وعلى ما أعتقد أن مكتبة الملك عبدالعزيز بالرياض ما زالت تحتفظ ببعض أعمالها، وببعض الأسطوانات القديمة، كتدوين لتلك المرحلة التاريخية المهمة. باختصار الموسيقا في المملكة قديمًا كانت حاضرة بقوة أمام الجميع على مستوى أسواقها ومسارحها ومن يمتهنون الغناء. لقد كان عهد الستينيات هو عهد الموسيقا.
المواقف المتشددة من الموسيقا فجرت حالًا من التناقض
عبدالله الدحيلان – الدمام
في أغسطس عام 2000م استيقظت الساحة الغنائية والموسيقية في الوطن العربي على فقد هرم فني مخضرم هو الفنان طلال مداح، وذلك أثناء تأديته وصلة غنائية على مسرح المفتاحة في أبها جنوب السعودية. محبو الفنان وضعوا سرادقات العزاء وتهافتوا عليها من أجل المواساة، فطلال كان أبًا روحيًّا لهم ومعلمًا لأجيال متلاحقة في هذا المجال. وأطلق المعزون دعوة إلى تحويل اسم المسرح الذي شهد وفاته إلى «مسرح الفنان طلال مداح» تخليدًا لذكراه، فيما تضاءلت طموحات الآخرين بالدعوة إلى تسمية أحد الشوارع الرئيسية باسمه. وبعد مرور 16 عامًا من رحيله، لم يتحقق شيء من هاتين الأمنيتين.
في الضفة الأخرى من المجتمع، تحولت وفاة مغنٍّ وهو يحضن عوده على مسرح، إلى فرصة مناسبة لإصدار عشرات المحاضرات والخطب الوعظية، التي جعلت من تلك الوفاة «سوء خاتمة»؛ إذ تنظر تلك المجموعات إلى الفن والغناء على أنهما ضمن الممارسات المحرمة، ومن يمارسهما مرتكب لأثم يعاقب عليه. وشهدت تلك الحقبة تجديد الدعوة إلى تحريم الغناء، عبر إعادة نشر فتاوى التحريم من عدد من الشرعيين، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك وهو السعي إلى إيقاف إقامة المهرجانات الغنائية في السعودية.
ويرى مراقبون أن المثال في الأعلى يختصر المشهد الفني بمجمله في السعودية. فهناك فئة متعطشة للفنون وتسعى إلى استعادة أمجاد حقبة ما قبل نهاية السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، ولكن دائمًا ما يجدون أنفسهم يلاحقون سرابًا ووعدًا لا تجد من يوفيه. وهناك مجموعات متشددة أُعطيت المجال على مصراعيه فوجدت نفسها حارسة للتشريع.
عندما تكون تهمتك «موسيقا»
في أحد أزقة مخطط ثمانية، وهو أحد الأحياء القديمة في مدينة الدمام على ساحل الخليج العربي، يتحدث عبدالرحمن عن والده «حمد أبو راس» الذي رحل عن الحياة قبل تسع سنوات، ولم يكن ذائع الصيت أو شخصًا لافتًا للأنظار، ولكن ما تعرض له في نهاية عام 1997م جعله محط أنظار سكان الحي الذي سرعان ما هجره إلى مقر سكني آخر؛ إذ وقعت حادثة مؤلمة عندما كان الابن يبلغ من العمر سبع سنوات.
فبعد صلاة العشاء ذات يوم وجدت الأسرة الأب ملقى على باب بيتهم وهو مضمخ بدمائه بعد أن تعرض لضرب مبرح من أشخاص يجهل هويتهم، والذين حرصوا على أن يؤكدوا له أن الداعي لـ«تأديبه» بهذه الطريقة رأي أدلى به في عدد من المجالس، كان مختصر رأيه أن الأغاني حلال شرعًا وليست محرمة، وأن من يحرم الغناء جاهل وليس لديه أي علم أو فقه. يروي الابن عن أبيه أنه قال له بعد مضي سنوات: إنه تجادل مع أحدهم واحتدّ النقاش في أحد المجالس حول حرمة الغناء، وكانوا يرمقونه بنظرات كانت تنبئ بوجود نية لإيقاع الأذى به، ولكن لم يتوقع أن يصل بهم الأمر إلى أن يعتدوا عليه.
من وحي هذه القصة ننتقل إلى ميدان مفتين أباحوا الغناء في سنوات قريبة، وكيف أنهم أيضًا قوبلوا بهجوم حادّ وصل إلى مرحلة التشهير بهم والتنفير من مجالستهم، إضافة إلى التهديد بالتعرض لهم جسديًّا. أشهرهم على المستوى المحلي كان الشيخ عادل الكلباني، الذي كان إمامًا للمسجد الحرام؛ إذ ذكر في حوار صحافي معه أنه لا يوجد دليل في القرآن أو السنة النبوية يقضي بتحريم الغناء، معلنًا أن الغناء حلال جملة وتفصيلًا وبأي صوت كان حتى بالمعازف. ويأتي من بعده من ناحية تبني هذا الرأي وإحداث دوي بين أوساط الشرعيين قبل غيرهم، الرئيس السابق لفرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي، الذي ذكر أنها مسألة خلافية، وأن القائلين بالتحريم اعتمدوا على حديث ورد في صحيح البخاري، وجاء تحت عنوان «من يشرب الخمر ويسميها بغير اسمها»، وأن الرواية الواردة بذلك الحديث لم يؤيدها أحد من الثقات. كما أن راوي الحديث انفرد به، وجميع روايات الحديث المذكور مطعون بها، بحسب تصريح إعلامي له.
ويكاد يكون هذان الشيخان من أشهر الشخصيات ذات المنهج السلفي في شق العصا في هذه المسألة التي ظلت ردحًا من الزمن تابوهًا ممنوعًا نبش تفاصيله، حتى لا يتعرض هذا الشخص للإقصاء، وهذا ما جرى مع الكلباني والغامدي؛ إذ تعرضا لهجوم تم استثمار كافة المنصات المتاحة فيه، من فتاوى ومنابر المساجد وشبكات التواصل الاجتماعي، وتم القدح في شخصهما وأعراضهما، وأيضًا الدعوة إلى محاكمتهما وزجهما في السجون.
الباحث الاجتماعي التونسي مصطفى بو غدير يرى المشهد سوداويًّا؛ إذ يرى بو غدير أن «تكثيف الأطروحات التي تحرم الغناء والموسيقا، وكافة الفنون الجميلة، وأيضًا وضع إطار قانوني لهذا التحريم من خلال منح صلاحيات لجهة ما لمنع الناس، لا شك أن لذلك آثارًا سلبية ليست فقط من ناحية الممارسات الفردية، ولكن أيضًا من جهة خلق مناخ خانق تنعدم فيه الجماليات، بينما دور الآداب والفنون هو تهذيب النفوس وجعلها رطبة؛ وهي سلاح ضمن أسلحة المجتمعات لتخفيف من النزعة نحو العنف ومشاهد الدماء».
وعن النقاش الديني حول حرمة الغناء والموسيقا من عدمها، يذكر أن «هذا مؤشر على رغبة في دفع المجتمع إلى الانشغال بمساحة فردية، بدلًا من الانشغال بمشاريع تنموية كبرى، وهذا الواجب على المواطن العربي وبخاصة في ظل التحديات الحالية، فيما يترك موضوع الغناء والحجاب، وغيرهما، لاختيار الشخص المُكلف ما يناسبه».
استهلاك مرتفع رغم «القيود»
أمام الصورة في الأعلى، نجد صورة مختلفة ومليئة بالتناقضات؛ إذ إن الأرقام تشير إلى أن السعوديين من أكثر الشعوب العربية استهلاكًا للفنون، وهذا ما يتجلى في أرقام المبيعات والمشاهدات العالية للأغاني والمقطوعات الموسيقية. كما يلحظ المتابع ضخامة المشاركة من السعوديين في مسابقات الهواة في البرامج الكبرى، والتي للمفارقة تعود ملكيتها إلى رجال أعمال سعوديين.
يفسر الباحث محمد القحطاني هذه المسألة بأنها «التناقض في مطاردة الممنوع بأدوات المانع نفسه»، مشيرًا إلى أن «المهتمين بمجال الغناء والموسيقا يواجهون تحريمًا محليًّا عبر مؤسسات وظيفتها الحد من هذا التوجه، وحصره في تصور سيئ سيؤثر في النشء في تربيتهم ونظرتهم للحياة، وهذا ما يجعلهم منعزلين عن مجتمعهم في الغرف المغلقة»، مضيفًا «وهذا يوجد حالة انفصام بين وضع نظاميّ يتيح الصلاحية لمنع وتحريم الغناء، وفي المقابل يجد المشاهد نفسه أمام واقع تزدهر فيه الأغاني السعودية وتنتشر الموسيقا بين أيدي الجمهور».
ويذكر القحطاني أن مشكلة المنع في السعودية «ستبقى عصية على الأذهان، فيما الأصل في مثل هذه الحالات أن يكون هناك فضاء مفتوح يعبر به الكل عما يؤمن به، وعلى المتلقي أن يحدد ما يريده ويجد نفسه فيه، بدلًا من الإجبار على تحويل الفنون السمعية إلى جريمة»، داعيًا في الوقت نفسه إلى «عدم إتاحة المجال أمام أي طرف كي يفرض وجهة نظره عبر تشريعات نظامية على شريحة واسعة أخرى». وذكر أن تداول الموسيقا يتم كما لو أنها «بضاعة ممنوعة تعادل في بعض الحالات المخدرات؛ وذلك في حالة التوعية منها ومن أخطارها عبر المنشورات والتسجيلات والخطب والمحاضرات. وهذا بُعد قاصر ومجافٍ للحقيقة؛ إذ كيف تكون الفنون السمعية بهذا السوء وهي تستخدم محليًّا في النشيد الوطني وفي الفعاليات والمناسبات الوطنية، وتقدم أمام كبار الشخصيات والمسؤولين».
موسيقيون يواجهون من القبو
لفروع جمعيات الثقافة والفنون المنتشرة على مستوى المملكة قصص وحكايات مع الموسيقا، ففي الوقت الذي يفترض بها أن تكون جهة رسمية مرخصة لممارسة هذا النشاط، عبر تقديم الحفلات والدورات، نجد أن دورها انحصر حتى اختفى من فروع ولم يعد له وجود، فيما لا تزال فروع أخرى صامدة رغم الرياح العاتية التي تواجهها.
في قاعة الملحن الراحل صالح الشهري في فرع الجمعية في مدينة الدمام، صادفت زيارتنا وجود مجموعة من الهواة المهتمين بالعزف على العود وهم يتلقون درسًا من أحد الأساتذة من أجل إتقان أحد المقامات. ووسط اندماج العازفين اصطحب مشرف لجنة الموسيقا سلمان جهام شابًّا للاستماع إلى صوته، وقدم له في نهاية تلك الجلسة نصائح وطلب منه الانضمام إلى الفرقة، تمهيدًا لتقديمه في حفل الموهوبين الذي تقيمه اللجنة كل سنة.
أوضح جهام في بداية حديثنا ضرورة التفريق بين الحركة الغنائية والحركة الموسيقية في المجتمع السعودي؛ إذ رفض أن تكون هناك حركة موسيقية «نظرًا لغياب المؤلفين في مجال الموسيقا وبشكل خاص في مجال غير مرتبط بالغناء، وعلى النقيض هناك حراك غنائي نظرًا للاهتمام المفرط بتلحين القصائد الشعرية وغنائها». وذكر جهام أن «فروع الجمعية مرت عليها حالات ركود تمهيدًا للموت، وكان ذلك بدءًا من عام 1988م، الذي شهد صدور قرار بإيقاف أقسام الموسيقا في فروع الجمعية، بينما كان الطموح يتجه في حينه إلى تشكيل فرقة موسيقية وإعلان طفرة بهذا المجال». ويشير إلى أن هذا القرار جعل تلك الأقسام تمارس الموسيقا من القبو، «وهذا الأمر جعل من النشاط الموسيقي بلا فائدة تذكر؛ إذ كانت كافة الأقسام في فروع الجمعية تقدم حفلات ومناسبات جماهيرية، فيما باتت بقايا قسم الموسيقا تقتات على هامش فعاليات اللجان الأخرى كرديف في تقديم وصلاتها».
وبحسب جهام ظل الوضع على ما هو عليه حتى عام 2010م «إذ تسنى لنا الخروج من القبو، أو المشاركة بجوار فعاليات اللجان الأخرى، إلى تقديم أنفسنا على مسرح الجمعية في أول أمسية تم تقديمها وكانت في الذكرى العاشرة لرحيل الفنان طلال مداح، وتم في حينها تقديم وصلات غنائية وتسجيلية للراحل، وسط حضور جماهيري غفير أذهل الجميع»، مضيفًا «ولن أنسى في تلك الأمسية حضور رجل كبير من مسافة بعيدة مشيًا على الأقدام، وكيف هطلت دموعه وهو يستمع لأغاني طلال القديمة، وقد كانت هذه الصورة هي الأبرز عن الحفل في صفحات الجرائد في حينها». ومنذ ذلك التاريخ ولجنة الموسيقا تقدم الدورات والأمسيات الغنائية، على الرغم من هجمات المحتسبين المتفرقة التي تسعى إلى إفساد بعض تلك الفعاليات، إلا أن مساعيهم تقابل بالهزيمة في غالب تلك الغزوات.
جمعية الثقافة والفنون بجدة تحلم بالعودة إلى العصر الذهبي موسيقيًّا وفنيًّا
عبدالله التعزي – روائي ومدير الجمعية سابقًا
مثلت المدة التي اشتغلت خلالها في الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بجدة تجربة مختلفة، بها كثير من الأمور الجديدة عليّ شخصيًّا. بعضها يحمل الفرح وبعضها الآخر به بعض الألم، لكن في المجمل كانت تجربة جميلة، تعرفت خلالها إلى كثير من الشخصيات الفنية والإنسانية الرائعة.
خلال الثلاث سنوات والنصف التي عملت فيها في الجمعية، وإن كانت في الحقيقة سنتين فقط، فقد اضطرتني ظروفي الخاصة إلى السفر خارج المملكة والإشراف على إدارة الجمعية عن بعد إلى أن تقدمت باستقالتي في نهاية عام ٢٠١٤م من إدارة ال
فرع بناء على رغبة الإدارة العامة، وحاجة الجمعية للوجود المستمر للإدارة.
هنا سأقوم بعرض سريع لبعض الأنشطة التي نظمت خلال إدارتي، مع العلم أن هناك أنشطة لم تذكر هنا على الرغم من كونها أنشطة مميزة، مارست تأثيرًا قويًّا في الساحة الثقافية، مثل: أنشطة اللجنة الثقافية التي كان خالد الكديسي مشرفًا عليها، ومنها أمسيات قصصية وشعرية، إضافة إلى استضافة أسماء مهمة في المشهد الأدبي مثل: الشاعر عبدالله الصيخان، والقاص على حسون وآخرين، ومن الاحتفاليات التي نظمت في الجمعية احتفالية موقع سين الإلكتروني الشعرية مرتين على التوالي، واستقطبت مجموعة من الشعراء الشباب من داخل المملكة وخارجها، وكانت مميزة بكل المقاييس.
فن الصهبة يقاوم الاندثار
بعد الانتهاء من عمل بعض الترتيبات الإدارية كان الرمز الشعبي محمد سليم الشخص المهم والمحور الكبير في عمل لجنة الفنون، والتنسيق مع جميع الفرق الشعبية. وقد كان دور اللجنة غير مفعل، لكن بجهود سليم تم تفعيل الدور، وجعله أكثر تأثيرًا وعدل بما يتناسب وتراث جدة والمنطقة الحجازية بصورة عامة. كان تصريح الفرق الشعبية يحتاج إلى بعض الأمور الإدارية بالتنسيق مع محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز، من خلال وكيل المحافظ محمد الوافي الذي كان متعاونًا ولديه الرغبة في مدّ يد العون؛ لتكون الجمعية في الإطار النظامي حتى تقدم مدينة جدة وفنونها بالصورة المناسبة، إضافة إلى المحافظة على الفن الشعبي من التشويه غير المقصود من بعض الفرق.
وقد نظمت الجمعية أمسية لفن الصهبة الشعبي الحجازي في المنطقة التاريخية بالبلد وسط جدة، تقاطر إليها كل رجالات هذا الفن الأصيل، الذي يعد شبه مندثر، وتم توثيقه. وقد كان حضور الجمهور كبيرًا؛ إذ إنها المرة الأولى منذ مدة طويلة تقام أمسية في الهواء الطلق. وقد كان لمجهود عبدالله أبكر في التنسيق مع أهل هذا الفن وأساطينه أكبر الأثر في إنجاح الأمسية وإخراجها بالصورة الممتعة التي قدمت بها. ومن الأسماء المهمة التي أسهمت في العمل بلجنة الفنون خلال تلك المدة: محمد سليم، وعبدالله أبكر، وعمدة حارة الشام ملاك باعيسى، وكثير من رجالات حارات جدة المشهورين بنشاطهم الشعبي على مدى عقود سابقة من الزمن.
أمسيات وفاء لعبدالله محمد وفوزي محسون وسندي وكدرس
كان الطموح أن يكون جزء من نشاط الجمعية تدريبيًّا؛ ليكون المستقبل هو الأمل في إنتاج حس جمالي عالٍ لدى المهتمين بالفن، سواء كان موسيقا أم عزفًا أم فنونًا تشكيلية أم تصويرًا أم فنونًا شعبية.
بدأت أمسيات الوفاء في المقرّ القديم بحي المنار بجوار مطابع جريدة عكاظ، وقبل الانتقال إلى المقر الجديد في الكورنيش. فقد كانت هناك ميزانية مرصودة لعمل دورة موسيقية قصيرة، وكان حسين الأهدل وهو رئيس فرقة الإذاعة والتلفزيون قد نسق لقيام هذه الدورة، لكن لظروف خارجة عن إرادته لم يتم التنسيق في الوقت المناسب. واقتُرح أن تقام بميزانية الدورة نفسها أمسية فنية أطلق عليها حسين الأهدل «أمسية وفاء للفنان عبدالله محمد». وبهذا انطلقت أمسيات الوفاء للعديد من الفنانين الرموز في المسيرة الفنية السعودية. فقدمت أمسيات وفاء للفنان فوزي محسون، ومحمد علي سندي، وعمر كدرس رحمهم الله، كما قدمت أمسية وفاء للمونولوغست حسن دردير المشهور باسم «مشقاص»، وقدمت له الهدايا التذكارية اعترافًا بدوره الريادي في الحركة الفنية في المملكة.
لجنة الموسيقا يرأسها سامي إحسان وسراج عمر
في تلك المدة كانت اللجنة الموسيقية في حاجة إلى العودة إلى نشاطها الرائع الذي كان في بداياته. وقد ترأس اللجنة الموسيقية رموز الفن في المملكة؛ منهم: الفنان سامي إحسان وسراج عمر، وجرى من خلال الجمعية تقديم أصوات مهمة للساحة الفنية، فالفنان عبدالمجيد عبدالله أحد اكتشافات الموسيقار سامي إحسان من خلال جمعية الثقافة والفنون بجدة، وأيضًا الفنانون محمد عمر وعلي عبدالكريم وكثير من الموسيقيين الذين كانت الجمعية بالنسبة لهم نقطة انطلاق، مثل أهم عازف قانون في المملكة، إن لم يكن في العالم العربي، الفنان مدني عبادي، وعازف الكمان الدكتور محمد أمين قاري، وآخرين.
لقاء سامي إحسان
خدمتني الصدف بأن ألتقي رئيس اللجنة الموسيقية في الجمعية سابقًا الفنان سامي إحسان، كان ذلك في مقر العزاء بوفاة الفنان طارق عبدالحكيم، حينها تحدثنا باقتضاب بعد تأدية واجب العزاء. لم يكن الجو مناسبًا للحديث في كل شيء لكن افترقنا على أن نتقابل في وقت آخر للتحدث والتشاور. وقد كانت مفاجأة لي اهتمام الفنان سامي إحسان ومتابعته أمور الجمعية؛ إذ لم يستغرق التعارف وقتًا، فهو يعرف كل التفاصيل عن الجمعية وتغيراتها ونشاطاتها. ثم كان اللقاء الثاني في منزله وبحضور سهيل طاشكندي مسؤول العلاقات العامة والإعلام بالجمعية بجدة الذي رتّب اللقاء. وطاشكندي يتمتع بذائقة موسيقية جميلة، وعلاقاته في الساحة الفنية والموسيقية جيدة. وكانت نتيجة اللقاء عودة الفنان سامي إحسان إلى قسم الموسيقا بجمعية الثقافة والفنون بجدة مرة أخرى، بعد أن طلبته وألححت في طلبي عليه من أجل العودة.
في البداية كنت قد أدركت الإحباط العام لدى الساحة الفنية من خلال بعض الأشخاص الذين نقلوا إليّ شعورًا سلبيًّا نحو الجمعية، وما تستطيع أن تقدمه للفنانين. وقد كنت شبه متأكد أن هذا الشعور نفسه لدى الفنان سامي إحسان، إلا أنني في الوقت نفسه، كنت قد لمست التقدير الكبير للدور الذي لعبته الجمعية لأعوام طويلة في مرحلة الثمانينيات وبداية التسعينيات، وكان تقديرًا وشعورًا بالفخر يكتسي كل الذين اشتغلوا في الجمعية تلك الحقبة الفنية الذهبية، كما يسمونها في أوقات احتدام الحديث. عندما كنت أنظر إلى الفنان سامي إحسان كنت ألمس بعض هذا التقدير، وإن كان مغلفًا بالإحباط من دور الجمعية المفقود لاحقًا.
وفاة سامي إحسان تبدد آمالًا كبيرة
وافق سامي إحسان على العودة إلى الجمعية لكن بشرط واحد. قبل أن أعرف شرطه اعتراني خوف كبير، إلا أنه سرعان ما تلاشى، وتحول إلى تقدير هائل؛ إذ كان شرطه عدم أخذ أي مقابل مادي، مثل راتب أو مكافأة مالية مقطوعة من الجمعية، عندها شعرت بفرح كبير، وبالطبع باتفاقنا، ووعد الفنان سامي إحسان بأن يقوم بزيارة مقر الجمعية الجديد. وبالفعل بعد أسبوعين قام الفنان سامي إحسان بزيارة سريعة للمقر، وشاهد الإمكانيات المتوافرة في ذلك الوقت. وتم الاتفاق على أن يتم الترتيب مع حسين الأهدل من جانب الفنان سامي إحسان.
ومن ضمن النقاط التي ناقشناها مع الفنان سامي إحسان:
• مكان لجنة الموسيقا.
• الآلات الموسيقية وأماكنها.
• اختبارات الأداء للموسيقيين الراغبين في التعلم.
• تحديد مواعيد التعلم والتدريب.
• وضع نظام واضح للبروفات المشتركة مع فرقة الإذاعة والتلفزيون.
إضافة إلى نقاط أخرى، مثل: استضافة الفنانين المشهورين، والتنسيق مع التلفزيون والفضائيات.
ومع شديد الأسف تُوفي الفنان سامي إحسان بعد زيارته لفرع الجمعية بأسبوع. كانت وفاته صدمة شديدة لم أكن أتوقعها، فقد كانت صحته جيدة جدًّا، ولم تبدُ عليه أي علامات المرض، فقد جاء إلى مقر الجمعية في الكورنيش سائقًا سيارته بنفسه، وليس معه أحد من أبنائه. وجال في مقر الجمعية وهو ممتلئ صحةً وطموحًا وفنًّا. وبوفاته أسدل الستار على كثير من الطموحات الموسيقية، التي كانت من الممكن أن تختصر كثيرًا من الزمن في المسيرة الفنية في مدينة جدة، إن لم يكن في المملكة كلها.
تم الاتفاق مع نادي الطرب بقيادة الفنان فيصل العمري، وإدارة أحمد كابلي، على أن تقدم أنشطة النادي على مسرح الجمعية. وقدم النادي العديد من الحفلات الغنائية والموسيقية المميزة التي حركت الراكد في الساحة الموسيقية؛ إذ استقطبت المواهب والمهتمين بالفن وكثيرًا من المستمعين. وقد تسابقت القنوات الفضائية إلى عمل اللقاءات المباشرة مع الشباب في نادي الطرب، ودعمتهم، ومنحتهم الفرصة لشرح فكرة نادي الطرب وأهدافه الفنية الجميلة.
كما اشترك فرع الجمعية مع القنصلية الأميركية بجدة في تقديم حفلات موسيقية مشتركة بين فرق أميركية وموسيقيين سعوديين أنتجت بعض المقاطع المشتركة والمميزة، مما هو موجود على اليوتيوب في الإنترنت، يتداولها المتذوقون من وقت لآخر. ومن الأسماء المهمة التي أسهمت في العمل بلجنة الموسيقا في الجمعية، خلال تلك المدة، الفنانون حسين الأهدل، ومحمد خوتاني، وأحمد فلمبان، وسهيل طاشكندي (المسؤول الإعلامي للجمعية بجدة) وإشراف الفنان غازي علي، والفنان طلال باغر وآخرين.
موسيقيون شبان يجربون إيقاعات شرقية وغربية
نداء أبو علي – كاتبة سعودية
ما بين غياب مؤسساتي ورفض مجتمعي، يسقط الموسيقيون السعوديون في هوّة الاستنكار أو عدم التقدير؛ ما يفضي إلى إحباطات مستمرة، ومحاولات مستميتة تتطلب حفرًا بالأظافر في محاولة لإيجاد أي طريق نحو النجاح، من دون وجود ملامح تصلح لإعطاء أي قبس من الأمل بأن هناك مستقبلًا وتشجيعًا للفن والموسيقا. إنه بمثابة عزف في الظلام، أشبه بمن يصيح بأعلى صوته في فناء يرفض من بداخله الإنصات إلى أي صوت.
في كتاب المفكر والكاتب العراقي علي الشوك: «أسرار الموسيقا»، يقتبس مقولة جون بارو: «لقد وجدت حضارات بلا رياضيات، حضارات بلا رسم، حضارات حرمت من العجلة أو الكتابة، لكن لم توجد حضارة بلا موسيقا». وقد وجد علي الشوك أن الموسيقا ليست نتاج الطبيعة، بل هي من اجتراح الإنسان.
على الرغم من الضعف المؤسساتي في احتضان المواهب الموسيقية أو تعليم الموسيقا عبر المعاهد، يظهر قبس من الاهتمام، عبر جمعيات الثقافة والفنون، كتنظيم الجمعية في الرياض برامج تدريبية ودورات عن المقامات الموسيقية لأول مرة في عام 2012م، وذلك بعد خمس وعشرين سنة من حظر للموسيقا في الجمعية، يتم تعليم العزف على آلة العود والكمان، بهدف دعم المواهب الموسيقية.
بروفيسور أميركية توثق غناء الحجاز
الضعف المؤسساتي يمتد ليصل إلى الافتقار في توثيق ورصد الموسيقا وإبراز الموسيقيين، بدءًا بالتراث والموسيقا الشعبية بشكل أكاديمي دقيق، وانتهاء بالحقبة الحالية التي تكتنفها العشوائية؛ ما يضيع محاولات تتبع ودراسة التطور الموسيقي. في عام 2012م، قامت البروفيسور ليزا أركوفيتش المختصة بالتراث والموسيقا في جامعة بوسطن بزيارة لجمعية الثقافة والفنون بجدة لحضور فعالياتها، ومن ثم قامت بتوثيق للفلكلور الغنائي الحجازي؛ لوضعه في متحف للتراث العالمي في الولايات المتحدة الأميركية الذي يحوي أغلب التراث الإنساني الدولي.
وإذا كان محترفو الموسيقا في الآونة الأخيرة ماهرين في مواكبة العصر، سواء عبر استقاء تقنيات الموسيقا العالمية أو عبر استخدام أفضل الطرائق الإلكترونية للوصول إلى أكبر عدد من المتابعين، إلا أن ذلك لا ينفي حدوث تراجع وتدهور الذائقة للموسيقا، وغياب تلك المرحلة التي كان فيها استخدام الأغاني بالصور الشعرية الرفيعة المستوى. أصبحت الموسيقا تبحث عن استقطاب جماهيري كبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يمكّن أي شخص، وإن لم يكن يمتلك إبداعًا موسيقيًّا فعليًّا- لأن يصدح بالغناء للآخرين، ويجد من يسمعه، بدءًا من الفضاء الإلكتروني أو اقتصارًا عليه.
لقد ظهرت محاولات فردية لسد الفجوة المؤسساتية؛ كإنشاء موقع إلكتروني لرابطة الموسيقيين السعوديين؛ لمناقشة المقامات الشرقية والغربية والسلالم الموسيقية، لضمّ الموسيقيين في السعودية والتثقيف الموسيقي، إلا أن الموقع لم يستمر من دون توضيح الأسباب باستثناء وجود خلل فني في قاعدة البيانات؛ الأمر الذي أدى بالجيل الجديد من محترفي الموسيقا إلى الدراسة على حسابهم الخاص خارج الوطن، وهذا امتداد لما قام به الموسيقيون في السابق، أو الغوص في عوالم الإنترنت، وتلقي الدروس عبر برامج كاليوتيوب، أو التواصل مع الآخرين وبث الموسيقا إلكترونيًّا. أصبح الغناء والعزف عبارة عن اجتهادات فردية، يبرز من خلالها عدد من المحترفين في وسط يتفاوت ما بين إنكار تام للموسيقا، أو غياب للذائقة الموسيقية. أما الطراز الموسيقي فشديد التباين وإن كان هناك ميل نحو الموسيقا الغربية ودمجها بالموسيقا المحلية.
فرق موسيقية تدعو إلى السلام
في عام 2008م شهدنا تجربة فريدة لفرقة أطلقت على نفسها اسم «الفارابي» أسوة بالفيلسوف أبي نصر الفارابي الذي تضمنت رؤاه اعتقادًا بأن الإنسان استحدث الموسيقا تحقيقًا وإيفاء لفطرته التي تدعوه للتعبير عن أحواله وأن ينشد راحته. فرقة الفارابي التي نبعت من مدينة جدة جاءت نتيجة تجربة موسيقية ما بين مثنى عنبر وضياء عزوني، لتستخدم الموسيقا التجريبية مع اقتباس للأمثال والقصائد العربية القديمة لأبي نواس والمتنبي؛ لتمزج ما بين الموسيقا الشرقية والغربية. غناء هذه الفرقة بالفصحى يجعلك تستمع لأبيات من قصائد لأبي نواس مثلًا، فلا تتعجب من مثل: «سأعطيك الرضا، وأموت غمًّا / وأسكت لا أغمّك بالعتاب».
في الوقت الذي تتناغم فيه الكلمات مع موسيقا تحوي مزيجًا غرائبيًّا من أوتار العود الكهربائي والغيتار الكلاسيكي والبيانو، وذلك دلالة على التأثر بالتجربة الغربية التي جاءت نتيجة دراسة مثنى في نيو أورلينز وضياء في ليفربول. يظهر ذلك التأثر بالتغريب في نماذج سعودية عديدة كقصي خضر، وهو مغنٍّ سعودي مختص بالراب والهيب هوب، ابتدأ طريقه الغنائي حين سافر لاستكمال دراسته في الولايات المتحدة الأميركية، وتمكن بدءًا من هناك واستكمالًا في مدينة جدة من افتتاح أستوديو، وإنشاء فرقة موسيقية، وإصدار ألبوم موسيقي، فيما يهدف في أغانيه التي تميل للراب إلى نشر السلام.
ومن التجارب الفريدة تجربة الشاب علاء وردي، وهو من أصول إيرانية، ترعرع ودرس في السعودية، ثم انتقل للدراسة الجامعية إلى الأردن ليتعلم التأليف والموسيقا. وقد حاز شعبية في العالمين العربي والتركي، وفي السعودية على وجه الخصوص؛ لاحترافه فن «الأكابيلا» الذي يستعيض فيه عن الآلات الموسيقية بالصوت، كما غرق في العالم الإلكتروني؛ لينشر الموسيقا التي قام بتأليفها وعزفها.
من جهة أخرى، يبزغ محترفون للموسيقا العصرية بدؤوا بتطويرها واحترافها بقالب مختلف؛ كتجربة المنتج والموزع الموسيقي ومنسق الأغاني السعودي عمر باسعد الذي بدأ العزف على الغيتار منذ سن الثانية عشرة، وأكمل دراسته حتى حاز شهادة البكالوريوس في الهندسة الصوتية، وهو يمزج ما بين الموسيقا العربية والغربية الحديثة بطراز «التكنو»، وتم ترشيحه لجائزة «إم تي في» ليعد أول منتج سعودي وعربي يرشح لهذه الجائزة.
فيما ظهرت فرق هواة تسعى لترويج معانٍ إنسانية كالسلام عبر الموسيقا، كفرقة «نغمة السلام» أو «بيس تون باند»، وقد شاركت في مهرجان الفرق المسرحية في الرياض العاصمة في أكتوبر 2015م. هذه الفرقة تجسد الغرق في بيئة لا تقدر مجال الموسيقا؛ إذ تطرَّق قائد الفرقة علي الشيحة في تصاريح عدة لوسائل الإعلام إلى صعوبة التمرس في مجال الموسيقا في ظل عدم وجود عدد كبير من الفعاليات والمهرجانات الثقافية المرتبطة بالموسيقا. وشددت الفرقة على أزمة غياب المعاهد الموسيقية، واضطرارهم لتعلم دروس الموسيقا من خلال الإنترنت واليوتيوب.
هناك أصوات بدأت تصدح بالغناء في الفضاء الخارجي لتصل إلى النجومية عالميًّا، إلا أن المحاولات تعد فردية وأحيانًا عشوائية؛ لذلك هي في حاجة إلى تقنين كبير، ودعم مؤسساتي وتعليمي لاحتضانها؛ ليتمكن المجتمع من التفريق ما بين الجيد والرديء من الموسيقا، وزيادة الوعي وإدراك فحوى الموسيقا المعبرة، والكلمات العميقة التي تعبر عن الهوية المحلية.
الموسيقا السعودية تعود إلى «الحياة»
يحيى مفرح زريقان – ناقد فني
الحياة الفنية في المملكة العربية السعودية كانت موجودة قبل العهد السعودي الزاهر، وبخاصة في الإقليم الغربي من البلاد، وتحديدًا في الطائف وجدة ومكة والمدينة؛ إذ كانت تتوافر ملامح حقيقية للنشاط الفني بكامل خصائصه. واستمرت الحياة الفنية بعد ذلك بعد قيام الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- بإعلان دولته التي أمضى يناضل فيها 27 عامًا من أجل تكوينها. وإن كانت بصورة أقل مما كانت عليه من قبل.
وفي عام 1931م أعلن اسم المملكة العربية السعودية على كامل التراب الوطني، وبدأت رحلة العمل لبناء دولة حديثة من مؤسسات مدنية وقطاعات رسمية وأهلية، وهنا ضعفت الحياة الفنية لاعتبارات عدة؛ اقتصادية وسياسية واجتماعية، حتى أعلن تأسيس الإذاعة السعودية عام 1948م في جبل هندي بمكة المكرمة، وهنا بدأت الحياة الفنية تستعيد شيئًا من وهجها بعد أن تم تقديم بعض الأناشيد وإعداد نصوصها وألحانها في صور فنية بسيطة، ومع انتقال الإذاعة إلى جدة بدأت ملامح العمل الإعلامي تنضج وتتضح شيئًا فشيئًا؛ إذ أنتجت الإذاعة مسرح الإذاعة الغنائي وهو اللبنة الأولى في ولادة الموسيقا السعودية الحديثة.
أما في الرياض فلم يكن هناك حضور للموسيقا وإن كانت الفنون الشعبية التي تقدم في المناسبات الرسمية والخاصة هي الأوفر حظًّا بالاهتمام والذيوع والانتشار، وإن لم يخلُ الأمر من قدوم بعض الفنانين من الخليج العربي في زيارات متقطعة حتى تم تأسيس إذاعة الرياض عام 1964م، فبدأت الحياة الفنية تنمو في الرياض وتزدهر.
النهضة الفنية السعودية
انطلقت النهضة الفنية السعودية بكامل أطيافها في مطلع الستينيات الميلادية بصورة رسمية. وتعد أبرز المحطات التي مرت بها الحياة الفنية السعودية هي تأسيس فرقة موسيقا الجيش السعودي التي التحق منسوبوها بالإذاعة والتلفزيون فيما بعد، واستكملت الفرقة لتصبح أوركسترا بعد التعاقد مع عدد من الموسيقيين العرب من سوريا ولبنان ومصر آنذاك، لتنطلق هذه الفرقة إلى العمل بمسرح الإذاعة وإعداد وتأليف الفواصل الموسيقية، وتترات البرامج، وتنفيذ الأغاني السعودية مع الفنانين في أستوديو ومسرح الإذاعة، ثم أعقب ذلك انطلاق عربة النشاط الغنائي والموسيقي إلى سائر أرجاء المملكة، وبرزت الفرق الموسيقية، والفنانون، وازدهر الأمر بحضور ومشاركة العديد من الفنانين العرب مع نظرائهم السعوديين في تقديم أعمال مشتركة بعد انطلاق البث التلفزيوني.
ومن أبرز التحديات التي واجهت انطلاق النشاط الموسيقي والغنائي شحّ الموارد الاقتصادية لتوفير متطلبات القيام بالأنشطة المجدولة، والنظرة الاجتماعية السلبية تجاه النشاط الموسيقي والغنائي، وعدم توافر المعاهد الموسيقية التي يلتحق بها الهواة وذوو الميول.
وقد أولت الحكومة السعودية اهتمامًا مبكرًا بهذا الملمح الحضاري منذ بداية التأسيس، وسنّت النظم والتشريعات له ليواكب حاجة البلاد والشعب إلى إنتاج المحتوى المطلوب؛ لتشكيل ثقافة ووعي وذوق أبناء الشعب، بيد أن ثقافة المجتمع كانت منقسمة، وإن لم تكن بارزة النزعة السلبية آنذاك في بدايات النشاط الغنائي والموسيقي في ظل تقديم وإنتاج مسرح التلفزيون والإذاعة والبرامج المشابهة له، وتنظيم المحافل الفنية في الأندية وفي مصيف البلاد الأول الطائف الذي كان يعد مهد النشاط الفني السعودي. وفي وقت من الأوقات كانت الطائف أشبه بهوليوود السعودية؛ إذ كانت تتبارى أحياء وحارات الطائف في إقامة الحفلات الغنائية حتى نهاية السبعينيات عندما قام جهيمان العتيبي بحركته المعروفة في بيت الله الحرام، وبعد القضاء على حركته التمردية وإعدامه انطفأت شعلة الحياة الفنية لدينا المتمثلة في الغناء والمسرح والسينما.
حركة فنية مشلولة
شلت الحركة الفنية السعودية بالكامل وبخاصة الموسيقا، بعد أن كانت توجد في جدة أربع فرق موسيقية، ومثلها في الرياض، وواحدة في الأحساء، وأخرى في الدمام. وأذكر أن فرقة الإذاعة والتلفزيون بالرياض تم إيقافها ونقل بعض موظفيها إلى جدة، وبعضهم تم تحويله إلى وظائف إدارية، وبعضهم تم الاستغناء عن خدماته. ومن المؤسف اليوم أنه لا توجد فرقة موسيقية في البلاد تقوم بممارسة عملها مثل أي قطاع آخر في الحياة يؤدي رسالته؛ ما دفع فنانينا إلى أن هاجروا بأعمالهم لتنفيذها في الخارج.
ومن المخرجات لهذا الأمر المغيب عن حياتنا بفعل فاعل أن النهضة والتنمية طالتا جوانب الحياة في البلاد، وبلغتا مرحلة متقدمة جدًّا من الازدهار إلا قطاع الفنون؛ الأمر الذي أفضى لأن يلتحق الشباب بالتنظيمات الإرهابية التي احتضنتهم، ووظفتهم لتنفيذ أجنداتها بكل أسف.
وعلى الرغم مما تم الإشارة إليه فإن الأمير الراحل فيصل بن فهد –رحمه الله- كان يعمل على بناء نهضة فنية، تعكس مقدرات البلاد والثروات الضخمة التي تختزنها من فلكلور وموروث شعبي وموهوبين قادرين على إنتاج الموسيقا الحديثة، وهذا الطموح هو ما نجم عنه رؤية المملكة العربية السعودية 2030م في إطلاق الأكاديمية الملكية للفنون وإعادة العمل بالفرقة الموسيقية بالإذاعة والتلفزيون بالرياض مؤخرًا.
الموسيقا عنصر رئيس في أنشطة الجمعية إلى أن جاءت «الصحوة»
سلطان البازعي – رئيس مجلس إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون
الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون ملتزمة منذ إنشائها بعدّ الموسيقا أحد الفنون الرئيسة التي تتعامل معها تطويرًا وتشجيعًا وتدريبًا، بل إن مجلس الإدارة الأول للجمعية الذي رأسه الأمير بدر بن عبدالمحسن كان يضمّ في عضويته الموسيقار الراحل طارق عبدالحكيم رحمه الله، كما أن الموسيقار الكبير سراج عمر كان من الأعضاء المؤسسين للجمعية وهو ما زال على صلة وثيقة بها. وأزيد أن كثيرًا من القامات الفنية الكبرى في مسيرة الموسيقا السعودية مرت على الجمعية في مرحلة ما، ومنهم الفنانون طلال مداح رحمه الله، ومحمد عبده، وسلامة العبدالله وسعد إبراهيم رحمهما الله، إلى الجيل الذي تلاهم مثل: عبدالمجيد عبدالله وعلى عبدالكريم وغيرهما.
بقيت الموسيقا عنصرًا رئيسًا في أنشطة الجمعية حتى حدث التراجع فيما يعرف بمرحلة «الصحوة» حيث خبا هذا النشاط مؤقتًا، إلا أنه عاد بقوة في عدد كبير من فروع الجمعية التي عادت لتقيم الدورات الموسيقية المختلفة من التدريب على العزف على الآلات إلى التعليم على قراءة وكتابة النوتة وتدريس المقامات، إضافة إلى إقامة الأمسيات الموسيقية لأعضاء الجمعية.
حملات متشددة لم تحقق مرادها
وصحيح أن الجمعية واجهت عددًا من الحملات المتشددة في محاولة لإلغاء النشاط الموسيقي في الجمعية إلا أن هذه الحملات لم تحقق مرادها حينما واجهناها بالإصرار على المضيّ فيما نؤمن بأنه الطريق الصحيح، وأن القول بتحريم الموسيقا لا يثبت أمام آراء كثير من علماء الإسلام قديمًا وحديثًا، وأن هذا التحريم لدى رأي فقهي وحيد لا يوجد ما يوجب فرضه على جميع المسلمين؛ لذا استمرت الدورات بل إن فرقًا موسيقية تشكلت في فروع الجمعية في كل من الرياض وجدة والدمام والأحساء وغيرها.
والجمعية التي أعلنت عن خطتها للسنوات المقبلة وجاءت متوافقة مع ما حملته رؤية المملكة عام 2030م ستمضي قدمًا في التوسع الأفقي والعمودي في تعليم الموسيقا بهدف رئيس هو نشر ثقافة تذوق الفنون الجميلة، إضافة إلى إمكانية نبوغ بعض المواهب التي تستفيد مما تقدمه الدورات الموسيقية، ولا يحد من هذا الطموح عدم وجود مقرات ملائمة تعمل الجمعية من خلالها، إذ إننا سنعتمد نظام الفعاليات المشتركة التي تتيح إمكانية الاستفادة مما تزخر به البلاد من مرافق غير مستغلة بشكل كامل. كما أننا نجزم بأن الرؤية عام 2030م بما حملته من وعود ستحقق الكثير من طموحاتنا في توفير الدعم المالي والمعنوي لنشر الثقافة والفنون في المملكة لتصل إلى كل المستفيدين المحتملين.
عاد النشاط الموسيقيّ بقوة في عدد كبير من فروع الجمعية مثل إقامة الدورات المختلفة من التدريب على العزف إلى تعليم قراءة وكتابة النوتة وتدريس المقامات، إضافة إلى إقامة الأمسيات الموسيقية لأعضاء الجمعية
مطرب وموسيقي قال إنه بصدد تشكيل أقسام الفرقة الوطنية والبحث عن كوادر حسن آل خيرات: الموسيقا والفنون عنوان الشعوب
الفيصل – الرياض
تفاعل وزير الثقافة والإعلام الدكتور عادل الطريفي مع مقترح تقدَّم به الفنان حسن آل خيرات حول ضرورة وجود فرقة موسيقية، وأصدر قرارًا بتأسيس فرقة وطنية للموسيقا مقرها القناة الثقافية السعودية.
الفنان حسن آل خيرات تحدث لـ«الفيصل» عن الدوافع وراء مقترحه، فقال: «وطن بلا موسيقا لا صوت لشعبه. ووطننا من أكبر الأوطان، يتمتع بموروث موسيقي هائل ومتنوع إلا أنه لا توجد في أي من مدنه فرقة موسيقية تحفظ له هذا التراث والموروث». وأضاف آل خيرات قائلًا: «أطالب بهذا المقترح منذ مشاركاتي الأولى في الأيام الثقافية السعودية، لِما كنت ألاحظه من أخطاء تحصل من بعض العازفين، في مقابل ما كنت أراه لدى فرق موسيقية لبلدان أخرى، من عازفين مهرة. وما حدث أنني وقبل ثلاثة أشهر عزمت على أن أوصل صوتي لوزير الثقافة والإعلام مؤكدًا حاجة الوطن إلى فرقة موسيقية وطنية عربية، والأهم أن يكون كوادرها سعوديين، فالوطن مليء بالكوادر الموسيقية. وجدت صعوبات في البداية، ولكن بفضل إصراري تمكنت من القول: الموسيقا والفنون عنوان الشعوب ونحن السعوديون منذ ثلاثين عامًا ليس لنا وطن في الموسيقا».
لم يستبعد آل خيرات أن يكون ضمن أعضاء الفرقة الوطنية في المستقبل عازفات سعوديات، كما هو حاصل في الفرق الموسيقية الوطنية لدى بعض البلدان الخليجية، «الله ميز المرأة بإحساس أدق وأرق ولكن في البداية يكون تأسيس الفرقة من الشباب السعودي، وفي المستقبل ستكون العازفة السعودية شريكًا أساسيًّا في الفرقة الوطنية».
وذكر أنه سيتم الإفادة من معلمي موسيقا من مصر ومن تونس حسب الدروس الموسيقية المقررة، إلا أنه «لن يقف على المسرح غير السعوديين الذين تعلموا وتدربوا على أيدي الموسيقيين العرب».
ويتوقع آل خيرات أن تحظى الفرقة بدعم سخي، في ضوء رؤية السعودية 2030م التي تدفعهم كما يقول إلى أن يكون طموحهم كبيرًا، «فمع الرؤية الجديدة 2030م نطمح إلى إنشاء أوبرا سعودية. لكن الآن أنا بصدد تشكيل الفرقة الوطنية وأقسامها وتقديم خطة لإيجاد كوادر وطنية موسيقية، وعمل برنامج تعليمي بجدول زمني معين يتم خلاله تجهيز العازفين وإعداد شباب طموح وابتعاثه إلى معاهد موسيقية عربية للتخصص والدراسة، حسب الاتفاقيات المبرمة بين وزارة الثقافة والإعلام وبعض الدول العربية».
ولفت إلى أن الفرقة ستكون منبرًا لرعاية واحتضان المواهب الشابة السعودية والعربية كذلك، كما كانت تقوم بذلك الدور فرقة التلفزيون السعودي سابقًا «لقد عايشت ذلك حين كنت مع الفرقة في التلفزيون ضمن برنامج «الزمن الجميل»، عندما كانت فرقة التلفزيون قائمة، فكان أكثر فنان سجل آنذاك وتفاعل مع الفرقة هو المطرب أبو بكر سالم بلفقيه؛ إذ سجل أغاني مصورة تفوق ما سجله المطربون السعوديون آنذاك.
وكذلك مطربون من الخليج والأقطار العربية الأخرى، فلقد كانت الفرقة السعودية التابعة للتلفزيون تسافر وتحيي كثيرًا من الحفلات الموسيقية الكبرى في كثير من الدول العربية آنذاك، لكن فيما بعد تشتتت تلك الفرقة وتشرذم أعضاؤها، فمن العازفين من تقاعد محبطًا مثل: طارق عبدالحكيم، وعازف الكمان سمير مبروك، وعازف القانون عتيق الحمدان الذين كانوا من خريجي مصر من الدفعة الأولى، ومنهم من كانوا عربًا بعضهم لم يزل باقيًا حتى الآن مثل: عازف القانون التونسي الهادي العبيدي، وبعضهم عاد إلى بلده مثل: الحفناوي من مصر، وعبدالرحمن الدلي من تونس. ومع ذلك سيظل وطننا سابقًا، وكذلك الآن يقدم الجمال والموسيقا عبر مهارات أبنائه من الموسيقيين السعوديين المبدعين».
**********************************
مركز لتدريب الموسيقا يؤول إلى الاندثار
كانت الموسيقا سابقًا أسلوب حياة، حاضرة في تفاصيلنا اليومية، كان من يريد أن يستمع لها يجد مراكزها الواضحة وأسواقها المعروفة. لم يكن التشدد مختفيًا سابقًا بل ازدادت وتيرته لاحقًا. ونحن للأسف استجبنا لذلك بعد أن عطلنا عقولنا، وجعلنا الآخرين يملكون حق توجيهها.
لقد أنشأت في زمن سابق مركزًا تدريبيًّا للموسيقا في فرقة الإذاعة والتلفزيون باجتهاد شخصي فقط. وقمت بتدريب كثير من الراغبين في تعلم الموسيقا، كمحاولة شخصية لصناعة هوية موسيقية مستقلة، تحترم خصوصيتنا الثقافية وتعبر عن هويتنا الوطنية. وكان ذلك سببًا في جعل موظفين في مركز الدعوة والإفتاء يقومون بزيارتي ومناقشتي في أمر مركز التدريب والموسيقا، قائلين بأن ذلك لا يجوز ومحرم شرعًا، وكيف لي أن أعمل في هذه المهنة وأنا ابن لعائلة معروفة وقبيلة مشهورة، فذكرت لهم الحجج والفتاوى الدينية التي صدرت في هذا الخصوص وكذلك الاختلافات الفقهية، فما كان منهم إلا أن صمتوا ومضوا راضين بما قلته. كنت متحمسًا في أثناء عملي في الفرقة التابعة لوزارة الثقافة والإعلام إبان تلك الحقبة، لكن بعد أن قمت بترك العمل تم تهميش المركز ولم يعتنِ به أحد، فآل بسبب الإهمال إلى الاندثار، فأصبح مجرد أطلال لذكرى تبعث الحزن والشجن معًا.
عبدالمحسن داود الخلف
المدير العام لإذاعة الرياض سابقًا
**********************************
فضاء واعد نحو مستقبل موسيقي
رحب عدد من الفنانين بقرار وزير الثقافة والإعلام بإنشاء فرقة وطنية للموسيقا، فوصف الموسيقي عماد زراع القرار بـ«البشرى»، وقال: إننا كموسيقيين نتطلع إلى أشياء كثيرة في المملكة، متسائلًا: «هل هذا القرار سيسمح بإنشاء معاهد وأكاديميات أو معاهد موسيقية على مستوى عالٍ، أم أن الفرقة الوطنية ستقوم فقط بالمشاركة في الفعاليات الثقافية المتنوعة، سواء في داخل الوطن أو خارجه». وأشار إلى أن هناك الكثير من التفاصيل لم يتناولها القرار؛ «لأنها هي ما ستوضح آلية عمل الفرقة الموسيقية».
وأكد زراع وجود الكثير من المواهب الموسيقية «تمتلك مقدرة لا يمكن تهميشها على المستوى السماعي، فكيف لتلك المواهب سواء في الرياض أو جدة أو المنطقة الشرقية أن تمضي من دون أن تجد لها حضنًا مؤسساتيًّا يقوم باحتوائها».
على حين قال الفنان فيصل العمري: إن القرار يمثل «صوتًا جديدًا وفضاء واعدًا نحو المستقبل الموسيقيّ في المملكة»، مشيرًا إلى أنه كان يتألم شخصيًّا بسبب أن غالبية الجهود كانت تتم بشكل فردي، «ولا تندرج تحت بعد مؤسساتي يملك القدرة على صياغة مشهد موسيقيّ يظل حاضرًا في ثقافة المملكة. يجب أن نؤمن بأن الموسيقا هي الوجه الأسمى للثقافة، ومن دونها تصبح الثقافة ناقصة ومبتورة. ولقد كنا نحن معشر الموسيقيين ننتظر هذا القرار بفارغ الصبر». وذكر أنه تم تنظيم خمس حفلات موسيقية في مسرح الثقافة والفنون في المنطقة الشرقية، «ولاقت صدى جميلًا وحضورًا مدهشًا، فكيف سيكون الحال حينما يكون هناك عمل منظم يمثل المملكة في محافل العالم العربي كافة».
**********************************
مجمع ملكي للفنون
جاءت مبادرة وزارة الثقافة والإعلام بإنشاء المجمع الملكي للفنون، بحسب الوزير الدكتور عادل الطريفي؛ من أجل تعزيز الثقافة والفن في المملكة العربية السعودية، والاهتمام بمتطلبات الأجيال من المثقفين والفنانين السعوديين، وإيجاد مؤسسات قادرة على رعايتهم، ويستطيعون من خلالها عرض فنونهم وتوثيقها سواء كانت فنونًا حديثة أو من أنواع الفلكلور الشعبي لمختلف مناطق المملكة.
وأوضح الوزير، في مؤتمر صحافي عقد في يونيو الماضي لعرض مبادرات برنامج التحول الوطني، أن فكرة المجمع هي فكرة معمول بها في بلدان عديدة، وأحد أبرز أهدافه هو المحافظة على الثقافة الوطنية، وتعزيزها، وأيضًا يكون المجمع مجالًا لإعطاء الأجيال الشابة صورة عن السعودية وتاريخها ووحدتها والعناصر الرئيسة التي جمعت هذا الكيان منذ أسسه الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. وأكد وزير الثقافة والإعلام أن المجمع سينقل ثقافة المملكة إلى العالم الخارجي، مستشهدًا بنماذج من الفنون التشكيلية في المملكة التي بدأت منذ أكثر من 40 عامًا، موضحًا أن بعض الفنانين السعوديين بدؤوا يعرضون أعمالهم الفنية في متاحف ومعارض دولية، بينما لا يتوافر حتى الآن مجمع فني داخل المملكة لعرض هذه الفنون.
وقال الطريفي: على المستوى الفني والمسرحي يوجد في المملكة عدد من الممثلين السعوديين في مجال الكوميديا وفي مجال الدراما أصبحوا اليوم وجوهًا تلفزيونية في العالم العربي، ولكن هذه الكفاءات والطاقات، خصوصًا الطاقات الشابة لا تجد المنصات التي تمكنها من رعاية مواهبها ودعمها، ولذلك فمن عناصر المجمع الملكي للفنون إنشاء مؤسسة غير ربحية؛ لتكون قادرة على تمويل المجمع لسنوات مقبلة، مضيفًا أن المجمع سيكون له مجلس أمناء ومجلس إدارة.
أحزان تطل من خرائب الأغنيات القديمة
عبدالله بن بخيت – كاتب سعودي
قبل سنوات قليلة كنت في زيارة لمدينة فانكوفر الكندية؛ مدينة جميلة وخلابة، وتحبها من أول نظرة. ذات مساء قبل انهيار الشمس بالكامل، جلست في مقهى يطل من بعيد على البحر. ضفاف المحيط الهادئ الكندية تبعد من الرياض نحو عشرين ألف كم. لا يمكن أن أتخيل أن تجتاحني ذكريات يفاعتي في الرياض قبل أربعين عامًا في مكان كهذا.
ولكنه عالمنا الجديد الذي أصبح صغيرًا. في لحظة خاطفة أحسست أني أسمع صوتًا سعوديًّا بلهجة سعودية هجرتها الأجيال الجديدة، فظننتها من إنتاج خيالي المكدود. تركتها تتنامى وتتوسع في وجداني إلى أن أصبحت حقيقة. التفتُّ فشاهدت عائلة سعودية يتوسطها رجل مسن لا يقل عمره عن ثمانين سنة. تأملت في وجهه بنظرات مسروقة، فتبيّن لي أن هذا الرجل كان له حضور في الأيام الخوالي! تركت البحر وأمواجه وجمال الفتيات اللاتي يمضين قدمًا أمامي، وتركت أشياء أخرى تحيط بي، وغادرت الحاضر لا ألوي على شيء. هرعت أبحث في الأيام القديمة؛ من يكون هذا الرجل. فتحت ملفات لم تفتح منذ زمن بعيد, علاها غبار النسيان. وأخيرًا شاهدته شابًّا في أمكنة لا يمكن أن يهجرها وجداني.
فرصة ضئيلة تبقت في ذاكرتي. ربما كان من الشباب الذين يعملون في سوق الأسطوانات أمام مسجد الجامع بالرياض؛ بورصة الغناء السعودي أيام ازدهاره. كل من يريد أن يستمع إلى أحدث الأغاني السعودية الواردة من أستوديوهات بيروت وأثينا يذهب إلى تلك السوق، وبخاصة يوم الجمعة بعد أن ينتثر الناس من صلاة الجمعة بين حراج قاسم، وسوق الزل، وسوق الأسطوانات. ربما كان هذا الرجل يعمل في تلك السوق. العاملون في تلك السوق على قدر من الشهرة. رعاة الفن ومنتجوه.
لا يمكن أن أسأله. رجل مسن يحيط به عدد من أحفاده. تركت الأمر على ما هو عليه. قد أخرج من سؤالي بمرارة وألم ورثاء على ماضٍ جميل تم تقويضه بمنهجية هدّامة لن يشهد مثلها تاريخ الفن الإنساني. ربما تحول كما فعل كثير غيره. أصبح من الرجال والنساء الذين نزع الفن من قلوبهم. هاجس ليس غريبًا. يكفي أن رياح الصحوة الهوجاء نقلت الفنان الشعبي الكبير فهد بن سعيد من فنان عظيم إلى بوّاب على مدارس البنات.