مآلات الشعر العربي: هل غادر الشعراء من متردّم؟
ملف موسّع شارك فيه : سعدي يوسف، عباس بيضون، أحمد عبد المعطي حجازي، عبد القادر الجنابي، محمد علي شمس الدين، منصف الوهايبي، فوزية أبو خالد، رشيد يحياوي، محمد عبد المطلب، شوقي بغداد، سماء عيسى، علاء خالد، يحيى جابر، يوسف بزي، محمد مظلوم، هاشم شفيق، مسفر الغامدي، تركي الصدير، أحمد التيهاني، محمد عابس، محمد جميل أحمد، جعفر حسن، موسى حوامده والشيخ ولد سيدي عبدالله وسواهم.
ظل الشعر قرونًا طويلة بمنزلة العماد الرئيس للثقافة العربية، وصار علامة الرقي حين اهتم الخلفاء والملوك والأمراء برعاية الشعراء في رحاب بلاطهم، وظل يمارس تأثيره وفاعليته في مستوى النخب، وفي مستوى العامة، ولم يتوقع أحد يومًا أن يتوارى فن العربية الأول على مدار كل هذه القرون لصالح فن وافد من الغرب؛ كالرواية أو المسرح أو السينما أو الدراما التليفزيونية، فهل عجز ديوان العرب عن المنافسة على وظيفته ودوره وتأثيره لصالح هذه الفنون؟ أم أنه كفنٍّ معنيّ باللغة وجمالياتها وبلاغتها لا يتفق مع آليات الذيوع والانتشار الجديدة؟ أم أن العرب أنفسهم أصبحوا خارج إطار المنظومة الحضارية في العالم، ومن ثَمّ فلا حاجة للعالم بفنهم الأول، كثير من الأسئلة التي يثيرها تواري الشعر عن دوره لصالح فنون أخرى، فما الذي حدث؟
لقد كان الشاعر العربي رائد أهله، يكثف في قصائده الأحلام العربية الكبرى، ويعالج الهزائم، ويفرح بالبهجات، واليوم يمر الشعر العربي بمرحلة صعبة لعلها الأسوأ منذ تدوينه الأول؛ إذ صار القارئ العربي بعيدًا منه، أو ربما مستغنيًا عنه. دُور النشر العربية صارت تحجم عن طباعة الدواوين الشعرية لأنها الأقل توزيعًا، ما عُدنا ننتظر قصيدة أو أمسية أو ديوانًا، وكنا لعقود ننتظر جديد نزار قباني، ومحمود درويش، والجواهري، وأجيال من الشعراء حتى هذا العقد الأخير. فمن يتخيل أنه لا توجد قصيدة شعرية واحدة يرددها العرب اليوم بعد كل ما مروا به من ثورات؟ إلى أين وصل الشعر اليوم؟ ما الذي غيّبه؟ ندرة المواهب الجديدة؟ رحيل الشعراء الكبار؟ توافر أجناس أدبية بديلة؟ سيطرة الشعر المكتوب باللهجات؟ وجود وسائل تعبير إلكترونية فورية؟ هل هُزِمت الصورة الشعرية أمام الصورة الفيزيقية بكاميرا الجوال؟ هل هو العالم المتسارع حولنا شديد المادية؟ أم نقول ما قاله عنترة: «هل غادر الشعراء من متردم؟» وإن كل ما يمكن قوله في الشعر قد قيل وانتهى؟
تفتح مجلة الفيصل هذا الملف وتثير الأسئلة حول الشعر والشعراء؛ سعيًا إلى إجابات أو ما يشبهها.. ملف يشارك فيه بعض أهم الشعراء والنقاد في الوطن العربي.
شقائق نثرية في مسائل شعرية
عبدالقادر الجنابي
شاعر وناقد عراقي يقيم في باريس
كان الشاعر الفرنسي بيير ريفيردي يأمل أن يكتب «أجمل قصيدة في العالم». لم يدر أنه كتبها، ولم يدر أنه من المستحيل كتابتها! جميلةٌ في نظرِ مَنْ؟ نظرِه، نظرِ قرّائه، أصدقائه، الشعراءِ، النقّادِ..؟ إذا كان هذا هو الأمر، فإن أجمل قصيدة في العالم قد كُتِبَت آلاف المرّات!
***
نبدأ دومًا من صفر ثابت؛ من تجربة أولى. كلٌّ حسب الإيقاع الموروث مداره. هذا ينظم، ذاك ينثر، وهناك من يصل، بموئل رغبة المراهقة في التمرد على قوانين مرسومة، الضفّةَ الثالثة من نهر الكتابة؛ فيكتب وفق إيقاعه الخاص شعرًا غير موزون على البحور المألوفة.
***
آه! كم كاتب لدينا لا يزال، مهووسًا بجمهورٍ أكبر، يجرّ كلّ ما يولد مبتورًا، بشتى أدوات الربط، لكي يحيا (أي أن يموت حتمًا) في كلٍّ مفتعَلٍ؛ مُمَنتَج، مشدودًا بما سبقه وما يليه. بينما القطيعة أقصر طريق للارتباط!
***
أيها الراقدون في الكتاب
دعوا أشعارَكم تكون صديقةً لذاكرة القارئ.
***
النافذة عين الشاعر.
***
ثمة شاعر ينام في قصيدته فيغفو معه القراء.
ثمة قصيدة تعيش ألف عام، بلا نوم، يقضي فيها القراء لياليَ بيضاء.
***
الشعر، آتٍ من تلقاء نفسه، يبدأ دومًا.. من أي مكان؛ من اللامكان. وبصفته شهقةَ الإنسان المرصودة، فهو لا يلبث إلا في قواه الأولية: الكلمات.. «في الأثر وليسَ في الدليل»، محاكاة لرينيه شار. لكن احذروا، الشعر ليس تجربة إلهام غبيّ إنما هو إشراقة تندلع وفق طبيعة ومكان الشاعر الذي تُنار فيه.
***
هناك شعراء، الشعرُ لهم وسيلةُ تعبير لا غير. وبما أن الموضوع الذي يستخدمون الشعرَ وسيلةً للتعبير عنه سيئ، فإن أيَّ قصيدةٍ مهما كانت براعتُها الوزنية، اللفظية والإيقاعية، تبقى سيئةً عاجزةً عن الذهاب أبعدَ من مضمونها الذي جاءت لخدمته. وهكذا تعود القصيدة، في أزمنة المعنى الخوالي، مجرّد رمز لبَطالة الكلمات. فالقصيدةُ هذه يأسرها الذوق العام، إكراه الحقبة التي ترتعد من كل شعر ترى فيه نهايتها المحتومة. ذلك أن اللغة العربية، شعرًا، ميدان لهذا الشعر المُختزَل وسيلة تعبير لا غير، حيث مقدارُ ضيق أفق شاعرٍ ما، يكون على مقدارِ ما في القراء، الذين يتغنّى بهم، من آفاق ضيّقة. بعض هذا الشعر، ربما، ناريٌّ، لكنه لا يضرم نار الرؤية، إنما يحترق فيه الشاعر نهائيًّا. فما هو ميتٌ، ما من إيقاعٍ يُحييه. آه، كم نشعر أحيانًا، لحظة كتابة قصيدة، بأننا منفيّون داخل لغتنا قبل أن نكون منفيين في هذا العالم. ومع هذا، يمتدّ الشعر بنا خارج الإسار. لقد تغيّرت سحنة العربية وطبيعة تركيبة جُمَلها، ونحن اليوم في سياق لغة مفتوحة لكل التراكيب التي كانت تبدو غريبة في نظر فقهاء اللغة السابقين.. وهذا الفضل يعود إلى هؤلاء الذين لم يتوقفوا عن ممارسة الشعر وفق وزن طبيعتهم.
***
الشاعر يهتمّ، على نحو ما، بكل الألسنة وبكل أشعار الأرض إن كانت غربية، صينية، عربية، أمازيغية، عبرية، إفريقية. إنها ثقافة الشعر التحتيّة. ففي نظره، إذا افتقد الشعر جانبه الإثني، أي لم يعد يتعرّف تجلّياته داخل لغات الآخر المطمور في اللغات المسجّلة، في وفيات الألسنية، ميتةً، فإن هذا الشعر يصبح جزئيًّا وغير قابل للنمو، ومن ثم غلطة لا يشفع لها أحد، بالأخص، في حقبة كحقبتنا هذه التي لا يمكن أن تحمي نفسها إلا عبر مواجهة هُويّاتها المتعدّدة وتعاريفها – تناقضاتها، وفي نهاية الأمر إشكالياتها. ناهيك من أن الشعر الحديث، حتى في تمرّداته المتطرّفة، لم يتوانَ عن التزوّد من الثقافات المسمّاة بدائية، مثلما كان شعراء النهضة يبحثون عن الإلهام في الثقافة اليونانية.
***
في كلّ قصيدة تكمن حيلةُ شاعرها اللغوية التي يُسرِّب من خلالها عواطفه المُبعدة من واجهة الكلمات.
***
القصيدة تكمن في الأبيات الأولى التي حذفناها.
***
أن تكتب قصيدة هو أن تقتل المرسوم؛ الأنموذج!
***
ما مِن قصيدة فاشلة. فكل قصيدة مصيرها الفشل إذا لم تجد قارئها الحقيقي الذي يجعلها تخلّف شاعرًا جديدًا!
***
صرْ أنت.. تنفّس كلماتك؛ اعجنْها حسب إيقاعك.. ولا تأبه للذين يريدونك أن تكون نسخة أخرى بين آلاف النسخ المكررة التي لا نفَسَ لها.
***
من خلال الصراع بين تدفق آلي لكلمات مطموسة في الوعي، وبين أخذ ورد، محو وتشديد، وبين وعي يريد أن يُحدد مسارَ شيء بشكل مفهوم إلى حد ما، تولد القصيدة.. كإسوارٍ يرنّ في العتمة! وكأن ثمة إلهامًا كان يعمل!
***
في الحمّى المتصاعدة صوب القصيدة، على الشاعر أن يعرف كيف يدخل التاريخ؛ كيف يخرج منه.
***
هناك شعراء موجودون في كل مكان: يكتبون كما يأكلون، يشربون كما يتغوطون، لا مهمة عصيّة تنتظرهم.. يموتون وهم نائمون.. الفرق الوحيد بيني وبينهم: أنهم في أمان وأنا في معمعان!
***
هناك دخلاء يظنون أنفسهم شعراء، لكنهم في حياتهم اليومية هم وشاة حد أنهم يكتبون أشعارًا باهتة لا تبوح بأي شيء. ناهيك عن أن الشعر شاهد وليس بَوْحًا.
***
تفصيلات عابرة، تُفشي، أحيانًا، إليك بكلِّ ما ثمّ عليك أنْ تعرف.
***
هناك أسلوب علماني يفصل بين مؤسسة اللغة الدينية وبين مدنية الكلام المعيش، يمارسه، من دون وعي، معظم الشعراء الشباب، بالأخص الشاعرات الشابات. فهؤلاء لا يدركون أنهم عندما يكتبون أشعارًا لا تخضع لأبسط قواعد الشعر المرسومة؛ وفيها ألف شك قواعدي، فإنهم، شاؤوا أم أبوا، يكتبون ضد الإدراك التراثي لمفهوم الكتابة التراثي، ومن ثم يوارون، تلقائيًّا، التركيبة العربية للجملة في تراب التاريخ. إن وعي هذا «الدفن» يحوّل التراب إلى أسفلت؛ القبَلي إلى فرد؛ الإنشاء إلى كتابة!
***
مشكلة الثقافة العربية السائدة تكمن في هذا الفارق الكبير بين تراث سلفي له تاريخ طويل استطاع أن يرسّخ مراجعَ صلدة لها نسق فكري منتظم، وبين محاولات نهضوية، ليبرالية، حداثوية.. دامت أكثر من قرن، من دون أن تستطيع ترسيخ أي مبدأ من مبادئها؛ لأنها اجتهادات انتقائية لا نظام لها قادر على أن يحفرها في تربة الذهنية العربية.
***
لم تولّد العربية خلاقين، وإنما خنّاقين!
***
الخوف الوحيد الذي ينتاب الشاعر هو الخوف من الشعور بالعقم؛ الشعور بعدم مواجهة المجتمع؛ بعدم المشاركة في بناء شيء إيجابي.. باختصار الخوف من الشعور بحياةٍ قد لا تبدأ بعد الموت.
***
لكل شيطانه؛ دمارُه الداخلي!
***
اليوم: حرب شبكية مع عدو بلا وجه: آلاف الضحايا يتكدسون مشهدًا غرضه إفراغ الأعين من قدرة النظر الاستشفافية، التطلّعية نحو مسافات حلمية أبعد، إنها حرب المستقبل الباردة حيث المكتوب ينتظم وفق قوانين الإنترنت، والعيش تحت بُؤر مُسيّري العالم نحو الهلاك. ومع هذا فإن الشعر لا يزال هو، أي ذلك المجهول البلاحدود؛ الفالت من كل رقابة ساكنًا مخيلة البشر، وكأن شيئًا لم يحصل. لكن، في الواقع، شيء قد حصل، لقد تعلّم الشعر، بفضل كل التجارب الطليعية التي اجتازها، كيف يؤسس نفسه كموضوع بذاته؛ أن «يعبّر عما لا تستطيع اللغة التعبير عنه؛ أن يكفّ عن التعبير عن حالات». هذا الانتقال التاريخي في تاريخ القصيدة الحديثة لم يحدث، للأسف، في وقائع الشعر العربي الحديث.
***
لا وقتَ للبكاء.. لقد ذهب الشعراء إلى أرض الكلمات. القصيدةُ اليوم لغةٌ لا التزام
***
كيف؟ لمْ تعرفِ العزلة في غرفة معتمة، لم تنزلْ جحيمَ نفسك، لم يساورْك شكٌّ.. وتريدُ أنْ تكتب!
***
الجُملة حياة!
الشعر ضرورة!
أحمد عبدالمعطي حجازي
شاعر مصري
قبل بضع سنوات وأنا مقرر لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة في مصر، جلست مع زملائي أعضاء اللجنة، نضع برنامج العمل في الدورة الثانية لملتقى الشعر العربي الذي ينظمه المجلس كل عامين بالتناوب مع ملتقى الرواية، فاقترحت تخصيص ندوة من ندوات الملتقى للحديث عن الشعر كحاجة من حاجات الإنسان الضرورية. وفي هذه الأيام الأخيرة اجتمعت لجنة الشعر التي أصبح الناقد المصري المعروف محمد عبدالمطلب مقررًا لها؛ لتضع برنامج الدورة القادمة للملتقى، فرأت أن يكون موضوعه الرئيس هو ضرورة الشعر الآن. وقد أحسنت اللجنة بهذا الاختيار الذي يدلّ على إدراك عميق لرسالة الشعر ولحاجتنا إليه، وللظروف الصعبة التي تقف حائلًا بين الشعر وجمهوره في هذه الأيام.
والحقيقة أني لست أول من قال: إن الشعر ضرورة، إنما سبقني إلى هذا شعراء ونقاد لم أحصِ عددهم، لكني أتوقع أن يكونوا كثيرين؛ لأن ضرورة الشعر تبدو لي مسألة بديهية، نصل إليها بأنفسنا دون أن نحتاج لمن يدلنا أو يقنعنا، وهذا ما جرّبته بنفسي، فأنا حين قلت: إن الشعر ضرورة، لم أقلها نقلًا عن أحد، إنما كنت أعبِّر عن حاجتي للشعر التي أعتقد أنها ليست حاجة خاصة أو فردية، إنما هي حاجة إنسانية عامة. والدليل على هذا ما قاله كثيرون عن ضرورة الشعر للحياة.
بول هازار المفكر الفرنسي وعضو الأكاديمية الفرنسية يتحدث في كتابه «أزمة الضمير الأوربي» عن الحرب التي أعلنت على الشعر وعلى كل ما له صلة بالعاطفة والخيال بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وهي المرحلة الانتقالية الفاصلة بين عصر النهضة الذي أحيا التراث اليوناني اللاتيني وعصر الاستنارة الذي انحاز للعقل، وعدّ الشعر صورة من صور الكذب والتعمية والتضليل، تصرف الإنسان عن طلب الحقيقة، وتخدعه بتهاويل الخيال. وقد انساق الأوربيون في تلك المرحلة؛ لتبني هذا الموقف من الشعر، بل لقد انساق إليه الشعراء أنفسهم فنظموا قصائد يهجون فيها فنَّهم ويتبرّؤون منه كما فعل دولامانت، وهو شاعر فرنسي في قصيدة يقول فيها:
يا قافيةً! أيتها القيود الغريبة الظالمة. أتكون أفكاري دائمًا عبيدًا لك؟ حتام تتحكمين فيها مغتصبة حقوق العقل؟ فور ما تأمرين بالتزام العدد والوزن يجب التضحية بالصحة والدقة والوضوح.
مطلب أبدي
لكن بول هازار يعدّ هذا الموقف من الشعر تعبيرًا عن الأزمة التي مرّ بها الضمير الأوربي في تلك المرحلة وتجاوزها؛ لأن الشعر مطلب أبدي كما يقول في الصفحات التي خصصها له في كتابه وسماها «زمن بلا شعر». وهو عنوان يحمل معنى المفارقة؛ لأن الزمن لا يكون زمنًا إنسانيًّا بغير شعر. وقد رأينا كيف ازدهر الشعر في القرنين اللاحقين -التاسع عشر والعشرين- واستعاد مكانته، وتعددت مدارسه واتجاهاته، وأصبح الموضوع المفضل للنقاد والباحثين، يتحدثون عن أشكاله ومضامينه، وعن ماضيه وحاضره، وعما يؤدّيه في الحياة ويعبّر عنه.
الشاعر الفرنسي جان كوكتو يعبر عن حيرته بين شعوره العميق وإيمانه الكامل بأن الشعر ضرورة، وما يراه في هذه المدينة الحديثة من جفاف ووحشة وانصراف عن الشعر وعن الفن بشكل عام. يقول «الشعر ضرورة. وآه لو أعرف لماذا؟»
وسوف أحاول الإجابة عن سؤال كوكتو مبتدئًا من الشطر الأول في عبارته: الشعر ضرورة. والدليل على ذلك وجوده واستمراره في كل اللغات وكل الحضارات وكل العصور. بل الشعر هو الأصل. هو أصل اللغة، ومن ثَمَّ أصل الحضارة؛ لأن اللغة حين بدأت لم تكن نحوًا وصرفًا، ولم تكن فنونًا وعلومًا مختلفة تتميز فيها لغة التعبير من لغة الاتصال، ولغة العلم من لغة الأدب، إنما كانت لغة واحدة تعبر عن كل ما يحسّه الإنسان ويشعر به ويخطر له في اليقظة والحلم وفي الواقع والخيال. وهذا هو الشعر الذي نستطيع أن نسميه لغة كلية؛ لأنه تعبير عن وعي كلي.
وفي هذا يقول الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر: «فالشعر لا يتلقى اللغة قط كأنها معطاة له من قبلُ، بل الشعر هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة. الشعر هو اللغة البدائية الأولى للشعوب والأقوام. إذن يجب خلافًا لما قد يتوهم أن نفهم ماهية اللغة من خلال ماهية الشعر». فإذا كان الشعر هو أصل اللغة كما رأينا فهو أصل الحضارة؛ لأن الحضارة بدأت من اللغة التي مكّنت الناس من التواصل والاجتماع ومن التفكير والتعبير. وربما كانت الحضارة العربية خير شاهد على الدور الذي أدَّته اللغة وأدَّاه الشعر في قيامها.
فالشعر هو ديوان العرب. والديوان هنا هو الثقافة والتراث والتاريخ. وبناءً على إدراكنا لهذه الحقائق نعرف أن الشعر ضرورة، ونفهم حاجتنا له؛ لأنه وسيلتنا لأن نعرف أنفسنا ونمثل حاجاتنا ونعبّر عنها بالاسم والصورة والصوت والحركة. فالشعر وعي كلي يسمِّي الأشياء ويصوِّرها ويمثِّلها ويغنِّيها. ومن هنا نستطيع أن نتصدى لتلك التيارات التي تظهر بين حين وحين؛ لتعلن الحرب على الشعر وتعدّه نقيضًا للعقل وخصمًا له. لماذا؟ لأن هذه التيارات تجعل العقل مجرد آلة حاسبة، وتحصر نشاطه في الإحصاء والتحليل والاستنتاج. وكذلك تفعل مع الشعر فتجعله مجرد تخييل وتهويم وانفعال. وهذا تضييق وتعسف لا يتفق مع ما نحسه ونعيشه ونعرفه من تواصل الحواس والطاقات، وتداعي الأفكار والانفعالات والخواطر والذكريات.
نحن ننفعل بعقولنا؛ لأننا نكتشف بها المجهول ونتخيله ونتوقعه ونحلم به. ونحن في المقابل نفكر بأفئدتنا، ونحس بها، ونزن الأشياء، ونمتحنها. ولهذا رأينا القلب في تراثنا مرادفًا للعقل. وباستطاعتنا أن نفهم من هذا أن العقل ليس واحدًا في كل الثقافات، وأن وظيفته تختلف قليلًا أو كثيرًا من ثقافة لأخرى. ولهذا يتحدث الباحثون عن العقل الشرقي والعقل الغربي من دون أن ينكروا بالطبع ما هو مشترك بينهما. ونحن لا نعرف من ناحية أخرى أن الشعر ليس واحدًا في كل اللغات، وليس واحدًا حتى في اللغة الواحدة، فالشعر الغنائي شيء، والشعر الملحمي أو المسرحي شيء آخر. والرومانتيكي غير الكلاسيكي، والجديد غير القديم.
هل نسلم بأن الشعر مات؟
ولأن الشعر للتيارات المعادية له مجرد انفعال وتخييل، فهو صور وإيحاءات تثير الانفعال من دون أن تفصح عن معنى محدد. ولهذا لم يعُدْ له مكان في هذا العصر الذي ازدهر فيه العلم، وأصبح كل شيء موضوعًا للبحث والمناقشة والمنطق، ونحن نرى أن الشعر لم يعُدْ يحتلّ في هذه الأيام المكان الذي كان يحتله من قبلُ. فهل نسلِّم بأن الشعر مات، وبأنه لم يعد ضرورة، ولم يعد مَطْلبًا؟ أم أن تراجع الشعر له أسباب ليس من بينها استغناء الناس عنه، وأنه لا يزال حيًّا قادرًا على مواصلة حياته، ولا يزال ضرورة ومَطْلبًا، وأن علينا أن نبحث عن العقبات التي تمنعه من الوصول للناس، وأن نذلِّل هذه العقبات؛ ليزدهر الشعر من جديد في الحاضر كما ازدهر في الماضي؟
وأنا أرى من خلال اتصالي بالحركة الشعرية المصرية، ومتابعتي للنشاط الشعري في عدد من البلاد أن الشعر لم يفقد خصوبته وقدرته على إنجاب أجيال جديدة من الشعراء الموهوبين. والعقبة التي تواجهها هذه الأجيال تتمثل في انعدام الوسائل التي تمكنها من الاتصال المنتظم بالجمهور، وتحرمها من هذا الحوار الخصب، وهذا التجاوب الذي لا بد أن يتحقق بين الشاعر والجمهور؛ كي يستعيد الشعر طاقته ويملأ مكانه.
ونحن حين نتحدث عن انعدام الوسائل نشير بالطبع إلى ما ترتب على هذه الثورة الإلكترونية التي خلقت أجهزة حلّت محلّ الكتاب، وكان لها أثر سلبي على الكتابة والقراءة، وعلى اللغة التي خسرت كثيرًا بموت الكتاب، ولم تعد لها تلك السلطة المعنوية التي كانت لها من قبل. ونحن نرى أن النقاد الجدد يتحدثون عن موت الأدب وموت المؤلف!
كيف نواجه هذه التطورات التي تعطل حركة الشعر، وتحول بينه وبين الناس؟
الشعر نفسه هو الذي سيجيب عن هذا السؤال؛ لأن الشعر ضرورة، ولأنه كما قال بول هازار: مطلب أبدي، ولأنه بعد كل أزمة يتعرض لها يعود حيًّا من جديد.
انحلال الهويات الشعرية
محمد علي شمس الدين
شاعر وناقد لبناني
البحث في الشعر العربي اليوم، كالشعر نفسه إشكالية مفتوحة على مصراعيها، بل هي إشكالية الإشكاليات جميعًا؛ لأنها التعبير الراهن، باللغة الشعرية، عن تأجّج الصراع على الهوية. في عالم وحلي مفترس، وفي رياح التوجس والتوحش.. إن الحرية والذات والموت والمقاومة، شأنها شأن الخبز والنفط والماء والتراب… شأنها شأن الحب والخديعة والخوف والضجر… هي مسائل لا تستطيع القصيدة العربية الراهنة، مهما كانت خاصة وخفية، هامشية أو هاربة… لا تستطيع الإفلات من شباكها. فأنى لذبابة الشعر الذهبية الطائرة هذه أن تفلت من عنكبوت الحصار؟
المشهد الشعري الراهن
من العصر الجاهلي كانت جماعات العرب ترى القصيدة جرحًا من جروحها في الغيب الصحراوي الطويل، وسابقت القصائد بعد ذلك الجيوش الغازية في الفتوح، واختلطت بالشعوب، وتغربت وشهدت نهوض العواصم وسقوطها، ثم جلست على عتبات العصور لتنوح مناحات الشعراء الطويلة. فمن خصائص العرب، على ما رأى ابن خلدون، تحطيم الهدايا وتخريب العمار، هكذا تنفتح الستارة على المشهد العربي الراهن. والراهن يمتد لسنوات طويلة تعد بالعشرات. فالشعر الذي كان صدح في حناجر متعددة في أواسط القرن السابق، على عادته التاريخية، ما لبث أن تمزق وتشرد في بلاد كثيرة وبعيدة، واندس في لغات أخرى. يلوح لي أحيانًا مشهد الشعراء العرب المتسكعين على أرصفة عواصمهم أو عواصم العالم، أشبه ما يكون بأحصنة تموت على أرصفة بعيدة. تعرف مرام مصري (شاعرة سورية من اللاذقية تقيم الآن في فرنسا) نفسها بأنها شاعرة فرنسية من أصل سوري. ويعرف سعدي يوسف نفسه بأنه شاعر بريطاني من أصل عراقي. وشاعر فلسطيني بأنه شاعر هولندي من أصل فلسطيني.. وهلم جرًّا. حسنًا، المسألة ليست أخلاقية على ما يظن. هي أشد وأصعب من ذلك. إن من الشعرية أحيانًا إعلان اليأس حتى من الشعر نفسه، ذلك الذي سماه الماغوط «الجيفة الخالدة» وأعلن كرهه له في لحظة احتدام المشهد الدموي على بوابة لبنان. لكن الانحلال التام لهوية الشاعر مسألة فيها نظر.
بعض الهويات العربية الآن تقتل أصحابها لتنجب من جثثهم أشخاصًا آخرين ذوي ملامح خلاسية أو مختلطة، وأحيانًا مشوهة وعجائبية، ومع ذلك فالشعر مسؤول عن كل شيء، والمسؤولية هنا ليست أخلاقية ولا سياسية، إنها أخطر من ذلك. إنها مسؤولية وجودية؛ لأنه في الشعر واحتداماته تتجلى علامات الصراع على الوجود. فالشاعر ليس حارسًا على باب الأخلاق لكنه بالتأكيد حارس على باب الهوية. ومن ألف عام خلت قال الأصمعي: «الشعر نكد بابه الشر، فإن دخل في الخير ضعف»؛ يقصد الصراع.
اللحظة الراهنة
الإمساك باللحظة الشعرية الراهنة عمل متقص وصعب، يقتضي إرهاف الحواس جميعًا لإيقاع الحياة الدائرة فينا وحولنا من خلال اللغة والاستعارة الشعرية؛ من النملة الدابة على التراب إلى المحراب… ومن انتظام الشوارع والمدن إلى الخراب… فلكل شيء لغة، واللغة هنا تتجاوز مفهوم التقليد والقاموس لتندرج في سيميولوجيا الإشارة العلامة (signe) وبمقدار ما هي اللحظة الشعرية لحظة إشارية برقية وحسية.. إلا أنها أيضًا إشارة في الروح، بارقة ميتافيزيقية، وما يقوله بريغوجين «نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1977م) المتوفى 2003م في كتابه «بين الزمن والأبدية» يصح عن الشعر صحته على العلم: «إن الكون ينتج عن حالة عدم استقرار خلاق يمكن له أن يتكرر إلى ما لا نهاية. وهنا نرى الأبدية».
مع التطور تغدو علاقة القصيدة باللغة أكثر تفوقًا وخصبًا. هذا التطور الذي يصل اليوم إلى اللحظة العنكبوتية للعالم؛ الإشارة والبارقة والرقم وما إلى ذلك، ما يجعل الشعر من أكثر الفنون قلقًا. وما نشهده اليوم هو التحول في مفهوم اللغة وانتقالها من البلاغة الكلاسيكية إلى برق الإشارة، ومن مفهوم الوزن إلى متاهة الإيقاع؛ إذ يختلط النسق بالفوضى، والشعر بالنثر، والشاعر بالمتلقي. حتى إن باحثًا هو الدكتور نبيل علي اقترح تغيير اسم المتلقي الحديث إلى «المتلكي»، ونشأت مع التطور الإلكتروني قصائد الفيسبوك، والقصائد الفورية، ونص الموبايل، والنص الجماعي، والنص الرقمي التفاعلي أو الهايبر تكست… هي تجارب كثيرة على كل حال. تحاول اليوم أن تغير من مفهوم ارتباط القصيدة باللغة والوزن والإيقاع وهو ارتباط تاريخي وثني أو ديني إلى حدود كبيرة. وتسعى لاعتبار الشعر هباء الإشارة الإلكترونية. إنها تحاول…
من خمسينيات القرن الفائت إلى اليوم
في خمسينيات القرن الفائت، وعلى وجه التحديد في عام 1949م، قالت نازك الملائكة في مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» الصادر بطبعته الأولى عام 1945م: «لن يبقى من الأوزان القديمة شيء؛ فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعًا». وكأن هذا الحصان الجامح للشعر العربي الذي أطلقته نازك الملائكة، كان أكثر شراسة ومغامرة ممن أطلقه، فما لبثت أن ترجلت عنه لينطلق هو بأكثر مما تنبأت له صاحبته الأولى… وليصل في جموحه إلى اللحظة الشعرية العربية الراهنة. لحظة التبدد الخطير وانفلاج دم القصيدة وتحلل أعضائها، لحظة التفتيت الهائلة.
تحركت القصيدة الحرة العربية بعد نازك والسياب والبياتي والحيدري مع جماعة مجلة شعر وشعراء مجلة الآداب بكل أساليبها ولغاتها على أرض واسعة مفتوحة كثيرة الفسوخ والمطبات. وقد ظهر الصراع الأسلوبي في القصيدة العربية الحرة والحديثة قريبًا مما قاله عبدالقاهر الجرجاني حول «الجمع بين رقاب المتنافرات» القصيدة تحاور ذاتها وتحاور سواها على امتداد الرقعة والزمن. إن من أسباب انفجار البنية الإيقاعية، إضافة إلى تطور الحياة غريزة التجاوز أو التغيير بسبب الملل. إن الضجر من الإيقاعات القديمة أدى إلى ولادة القصيدة الحديثة ولم لا؟ دعك من تسمية التجديد بالمروق واللعنة والفضيحة… إلى غير ذلك، إنه بكل بساطة الجديد. وهو صراع على سلطة اللغة التي هي سلطة الحياة نفسها. لم تشأ مثلًا جماعة مجلة شعر اللبنانية أن تتسلم السلطة الشعرية الجديدة بسلاسة؛ بل سلكت أساليب عرفها الغرب فيها التشويش والتخريب حتى القتل (المعنوي). ولم لا؟ كل تجديد خروج على النسق ORDRE من خلال اللانسق DESORDRE. يسمونه بالفرنسية الكاوس أي الخلل أو الفوضى في النظام. والعبارة علمية أكثر مما هي أدبية أشار إليها عالم الكيمياء بريغوجين.
اهتم جان جينيه في الغرب بالمرضى والمهمشين والشواذ. وهو ما تحاول علوم ما بعد الحداثة في الطب والفلك والفيزياء والرياضيات الانتباه إليه اليوم، ونحن نرى في العربية أن الخروج على الأصول قديم. وجد الباحثون في الشعر القديم 13 نصًّا خارجًا عن أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ من بينها قصائد لشعراء فحول كما ورد في لامية لامرئ القيس، وفي بائية مشهورة لعبيد بن الأبرص مطلعها: «أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب» رأى ابن رشيق أن القصيدة غير موزونة. كذلك ميمية للمرقش الأكبر، ولامية لعدي بن زيد العبادي، وأبيات لأمية بن أبي الصلت، كلها صنف في باب الشاذ والمختل والمضطرب، وهي لشعراء فحول. حتى إن شاعرًا متواضعًا كأبي العتاهية كان يقول: «أنا أكبر من العروض» ويعلل ذلك بمحاكاة شعره لأصوات يسمعها «يراجع كتاب الإبداع العربي للدكتور عبدالمجيد زراقط، وكتاب الاختلالات العروضية في السكون المتحرك للدكتور علوي الهاشمي، اتحاد الكتاب في الإمارات، 1992م».
فإذا كان الشعر العربي الحديث بأساليبه وأشكاله ولغاته يتركب من أنظمة إيقاعية متاّلفة أو متنافرة… وفيه كثير من الخروج عن القاعدة، فلم لا؟
القصيدة الجديدة. أجيال وتجارب جديدة
«وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة» «سورة يوسف، الآية 67». التجربة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة حقل خصب ومتنوع في الإيقاع والأسلوب. لكنه يكاد يكون حقلًا مهجورًا، وهو حقل متطور أيضًا من حيث المعاني. من وجهة النظر الموازية الفكرية والنقدية. لن تعثر سوى على اسم واحد ابتكر مفردة هي مفتاح قصائد بدر شاكر السياب الخائفة الرحمية الملتجئة للموت أو الكهف، كمخرج من ظلمات الحياة ومن خراب الجسد المرضي، هو إحسان عباس. قال باختصار: «قصائد السياب قصائد كهفية». لكننا لو نظرنا إلى تجارب شعرية ضخمة كتجارب أدونيس والبياتي والحيدري وعبدالصبور وأنسي الحاج والماغوط وخليل حاوي مثلًا، وهم من الرياديين الأوائل، فأي عمارة نقدية أو عمائر نقدية نشأت في مقابلهم؟ أقصد هنا مقارنة افتراضية تتناول سطور الحداثة الشعرية الغربية وما رافقها من تطور فكري فلسفي في العمارة النقدية، فالمستقبلية والدادائية والسريالية مثلًا، كما الوجودية، تساوي تناظرًا مزدوجًا في وقت واحد: الإبداع الفني المتنوع من شعر ورسم ومسرح وسينما وغير ذلك. والإبداع النظري المرافق في الفكر والفلسفة. سارتر روائي وفيلسوف وجودي في وقت واحد. وفي مقابل بروتون وإليوت وإيلوار ورينيه شار وأراغون، سنجد رولان بارت وجوليا كريستينا وتودوروف…
على حين أن طائر الإبداع العربي يكاد يحلق بجناح واحد، جاء أمل دنقل بين شاعرين معدودين في مصر؛ صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، جاء بشعر حاد وكابوسي وغرائبي.
وهو شاعر جنائزي عمل على ذلك «الإلماح البودليري الذي يصل ما بين الغناء والرغبة» «ع. بيضون السفير عدد 30 مايو 2003م»، وينطوي على شطح سريالي وصورية سينمائية تعبيرية وحشية توازن بين الانتهاك والمخيلة السوداء. نلحظ في شعر أمل دنقل قسوة هائلة كفأس قاطعة. وشعره كضريح من بلور وعظام مسننة. فيه مزاج السم (كداء ودواء) كما وصفه الأبنودي. ولد عام 1940م، ومات بالسرطان في جسد الهزيمة العربية. في أشعاره شحنة نقدية يتفجر العذاب والنواح في خلايا النص. يقف عاريًا ويعري البلاد المهزومة، وبدأ يضرب ضرباته القوية منذ قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» في 13 يونيو 1967م؛ حيث أدخل التاريخ في قصيدته لا كورود حجرية بل كألغام قابلة للتفجير، نقل أمل دنقل تجربة التأمل الميتافيزيقي لعبدالصبور من الغيب إلى التراب، إلى صعيد مصر والشوارع والمقاهي والناس. وشعره وإن كان هادئًا في شكله وتركيبه ولغته، إلا أنه في العمق صاخب وقادر على لغم الصورة بكلمات قليلة «الزهور تحمل أسماء قاتليها في بطاقة» واستعمل الأقنعة التاريخية؛ ليقدم قصيدة عربية حديثة مشحونة ونقدية.
يشيد محمود درويش بالتجربة اللغوية في دواوينه الأخيرة «لماذا تركت الحصان وحيدًا» و«كزهر اللوز أو أبعد» و«جدارية» إلى مناطق جديدة من خلال التدوير الإيقاعي والقوافي في القوافي، ويكتب القصيدة كلعبة لغوية بارعة؛ حتى يتحول شعره إلى نقر إيقاعي في اللغة. يقول في الجدارية: «واسمي إذا أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرف أفقية التكوين لي/ميم المتيم والميتم والمتمم ما مضى حاء الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان/ ميم المغامر والمعد المستعد لموته الموعود منفيًّا مريض المشتهى/ واو الوداع، الوردة الوسطى/ ولاء للولادة أينما وجُدت، ووعد الوالدين/ دال الدليل، الدرب، دمعة/ دارةٍ درستْ، ودوري يدللني ويُدْميني وهذا الاسم لي/ أما أنا وقد امتلأت/ بكل أسباب الرحيل/ فلست لي/ أنا لست لي/ أنا لست لي».
في التجربة الشعرية العربية المؤسسة على الإيقاع الوزني من بعد الرواد، نذكر تجربة الشاعر السوري عبدالقادر الحصني وهو في مجموعته «كأني أرى» «من منشورات اتحاد الكتاب العرب 2006م» يضرب على وتر عميق وصاف كعيون الماء في الجبال «دعاني إلى نفسه بالذي يستطيع من النخل والورد/ أهرق جرة خمر بروحي/ وسرح غزلانه في سفوحي/ ونادى علي بأوصافه في المرايا/ فكان كأن سواه ينادي سوايا/ وقال أقل وأكثر/ ولكنني لم أكن أتذكر/ نصف الحقيقة أني رأيت/ ونصف الحقيقة أني نسيت» «من قصيدة ماء كوثر». هذه النماذج المتنوعة التي إذا شددناها لآخرها على صعيد عربي «وأستثني التجربة اللبنانية وهي خصبة» تصل آنيًّا إلى الشاعر الشاب الفلسطيني المقيم في الإمارات عبدالله أبو بكر، والسعودي المقيم في الولايات المتحدة الأميركية إياد الحكمي تبين أن البنية الإيقاعية للشعر العربي في لحظته الراهنة المؤسسة على الوزن والتفعيلة هي بنية متطورة بخاصية الخصب والتوليد.
في الجهة الثانية من التجارب الشعرية الجديدة، وبفسحة واسعة من حرية التجريب، بسبب التحلل من الوزن والقافية، نعثر على حساسيات شعرية كثيرة مفارقة كليًّا أو جزئيًّا لحساسيات آباء قصيدة النثر العربية. مخففة مهمشة طريفة أو ساخرة يومية ومن دون ادعاءات بنيوية، بشرية وأكثر يومية. قصائد منازل ومقهى وشارع ومكتب ويدوية أكثر مما هي ذهنية نثرية، إخبارية أكثر مما هي غنائية أو بلاغية؛ وأكثر مما هي أخلاقية وتبشيرية. وفي بعض الأصوات الأخيرة مثل سوزان عليوان نعثر على بصمات الإنترنت وظلال الأرقام والإشارات وفي نصوص الشاعر المصري الشاب عماد أبو صالح نعثر على روح متصعلكة مشردة ومتمردة أيضًا «خراف راقدة تلمس ضوء القمر المخنوق/ نسوة جالسات على العتبات/ ينظرن بفرح/ للجلاليب المشنوقة على المسامير/ ويتخيلن الأزواج داخلها» من قصيدة ليلة الدلتا من مجموعة «كلب ينبح ليقتل الوقت» طبعة خاصة ومحدودة القاهرة 1996م. وقصائد هذا الشاعر تفيض بألم كاسر عبثي وفائض عن الاحتمال. إصداراته على العموم خاصة ومحدودة وهي: عجوز تؤلمه الضحكات/ جمال كافر/ مهندس العالم/ قبور واسعة/أنا خائف/ كلب ينبح ليقتل الوقت».
في العراق انفرطت البلاد. وشكلت تجربة فاضل العزاوي في ألمانيا، وتجربة سركون بولص في نيويورك ما يمكن أن نسميه التشظي الشعري ودمار الأصل، فاضل العزاوي يفرع القصيدة ويكرها كشريط تسجيلي من صور وإيقاعات… وسركون بولص يمزق الجملة الشعرية تمزيقًا يشبه تمزق الجسد العراقي المتناثر في الديار البعيدة… وتتحول اللغة في شعره إلى قشعريرة. وقد استخدم الرسوم والأرقام والدوائر وقطع الكلمات تقطيعًا في الجملة من أجل العبور إلى الجهة الثانية من الكلام «بقول جلال الدين الرومي» إنه يكتب الكتابة المضطربة للمعنى.. المعنى العابر الذي كما يقول «دائمًا يدخن منتظرًا». وفي قصيدة «حانة الكلب» بصمات من آلية أميركية تظهر في التقطيع والرصد العددي واستعمال الأرقام والصورة الهندسية البصرية.. يكتب «قصيدة اللكمة» حيث لا جفن عاطفيًّا للشعر. وفي قصائده ما نسميه سرد السرد، والشعر ضد الشعر، وبرمجة كتابية للنص،وهو ضغط من الآلية الأميركية على أصابعه. أحيانًا يفلت من خلال استخدام الميثولوجيا أو الثيولوجيا «لو كنت في مركب نوح»، ويلجأ إلى إشارات شبيهة برقم أور وإيماءات من مشرق سعدي الشيرازي «بين القصبات المحطمة طائر أحمر يجري أو يحلق نحو نقطة مجهولة»… «قصيدة مشهد باتجاه واحد».. لكن كل ذلك هو شكل من التذكر في النسيان.
عمدًا لا أخوض في التجربة الشعرية اللبنانية وهي خصبة قبل الرواد وبعدهم حتى الآن. إن لي فيها بحثًا منفصلًا على حدة. كذلك التجربة السعودية عبر أجيالها، وتدخل في هاتين التجربتين إلى جانب الفصحى العامية والزجل في لبنان والشعر النبطي في المملكة.
يسعى السوري بندر عبدالحميد لاسترجاع ابن الموسيقا المجنون «العصفور» في شعره وفي الطرف المقابل يقف الشاعر السوري نوري الجراح شاعرًا دراميًّا بالحس والمعنى. قصائده كاللهاث. يقول: «لأنني مجوف وسهل الاصطياد/ لم يبق من السلم على السلم غير زلة القدم» «من قصيدة السم في المطر»، ويرى أن الشاعر «يولد انتحاريًّا ويولد منتحرًا» «موقع جهة الشعر على الإنترنت». ثمة ورثة يظهرون في زمن غير شعري. يكتب الفلسطيني زكريا محمد: «عبأنا مصايرنا في أكياس ورميناها في الشاحنات». ويقول في ضربة شمس «المؤسسة العربية 2002م»: «بكاؤنا يخصنا». كثيرون يطبعون دواوينهم على حسابهم بنسخ محدودة، يوزعونها باليد على أصدقائهم أو ينشرون قصائدهم من خلال مواقع الإنترنت، يقدمون حساسيات شعرية مؤلمة ونفاذة وخاصة. يقول مازن معروف في ديوان له بعنوان «الكاميرا لا تلتقط العصافير» دار الأنوار 2004م: «والعصافير أيضًا تتغوط/ والمطر أيضًا يتسبب بفيضانات الصرف الصحي/ وأنا وأنت عكروتان تحت شجرة مليئة بالغبار والحشرات. (من قصيدة غرنكا) إنها كتابة أولية وخاصة. يقول: «أمتطي رأسي كمن يمتطي بغلا» وهي نصوص قصيرة مكتوبة بتقنية الصنارة في متابعة السمكة واصطيادها. وهي تصلح قصيدة نثر وقصة قصيرة مثل قصيدة الرصاصة: «رصاصة طائشة بعد أن عبرت غرفة الجلوس/ فالمكتبة فممر البيت/ فالصورة التي تجمعنا في رحلة نهر الكلب/ فالغسالة الأوتوماتيكية وأمي المرهقة/الرصاصة أحنت قليلًا مسارها/ بفعل الجاذبية/ واستقرت بأسفل رأسي في الخلف».
القصيدة ميتة والشعراء متسكعون
في بعض قصائد النثر تختلط القصيدة بالقصة القصيرة وأحيانًا بشذرات الفيسبوك. غالبًا ما يرتفع السؤال: إنه زمن غير شعري. القصيدة ميتة والشعراء متسكعون على هوامش المدن والمنافي ولاجئون إلى الشبكة العنكبوتية. نعم، هذا صحيح. لم تعد الكتابة مهنة مشتهاة، وغاب ذلك الافتتان السابق بفكرة النخبة. لم يعد العمل التشكيلي مثلًا، صاحب سطوة. لا تجد الآن الشاعر النجم. وربما انكفأت الفنون الجميلة من شعر ورسم ومسرح ورقص تجاه النفايات… لم تعد لوحة كلوحة رامبرانت أو غويا أو فلاسكيز أو بيكاسو أو دالي تفعل فعلها. صارت تقنيات السعر والغاليريهات تتحكم باللوحة. وغدت الفنون هوايات خاصة «لا ضرر فيها»، أما أن تجمع الجميل والمفيد معًا أو الجميل والجليل على غرار ما كان يحصل في الماضي فأمر من الصعوبة بمكان. فلا بد من الاختيار، فإما الجميل الصعب الخاص والمعزول، وإما السريع المفلوش على الشاشات والعابر كفقاعة ماء.
من المهم الإشارة كما يقول الشاعر والناقد الأميركي «ويستن أودن» في كتابه «محنة الشاعر في زمن المدن» (ترجمة سهيلة أسعد نيازي) إلى أن التطورات التقنية الاستهلاكية والاتصالات كونت مساحة بشرية جديدة لا تنطوي تحت خانة المساحات البشرية السابقة. لقد ولد ما سماه الفيلسوف الدانمركي كيركغارد (public) وهم غير محددين بمكان وزمان؛ بل ينتمون إلى وسائل الاتصال، لا هم مجتمع ولا جماعة ولا أفراد متميزون. إنهم «عملاق تجريدي موجود وعقيم، بمعنى أنه كل شيء ولا شيء في آن».
وهم يختلفون عن مفهوم الجماعة، وعن مفهوم الرعاع، وعن مفهوم العامة. هم تجمعات افتراضية تتوجه إليهم إشارات الاتصالات، وعليهم يعول في حركات جماهيرية كثيرة، وفي اتصالات واسعة، أداتها السرعة واللايك، والخفة والإشارة. وقد تجد الآن من يمارس كتابة النثر اليوم من خلال التغريدات المتبادلة؛حيث يدخل الشعر في لحظة الشواذ هذه… حيث كل واحد هو شاعر للحظة، وبطل للحظة، ومشهور للحظة، ومهم للحظة… والخلاصة، هل ثمة من خلاصة؟
يفر الشعر اليوم من اللغة المتعالية الأيديولوجيا وادعاءات الماضي في البطولة والخلود إلى المقهى والإنترنت والمترو. إنه يتذرر ويتصعلك ويطرق أبوابًا كثيرة ليفك عن نفسه عزلته الصعبة. ولعله يؤثر أحيانًا أن يترك عناوينه بلا تنسيب. فينسرح في شكل نثري يصلح لقصة أو مقالة أو تعليق، ولعل الشعر غدا قليلًا، فقد انحل في فنون أخرى كثيرة، وتوسع شأن اللغة في الحرف والإشارة. وحين كان هم النثر أن يكون مبذولًا للجميع بحيث إنه موجود لكي يحكي «من كليلة ودمنة إلى ألف ليلة وليلة إلى ثرثرات الباعة وربات المنزل والخدم… إلى سرد الروايات والقصص» صار هم بعض الشعراء اليوم أن يكون هكذا.. أن يلتحم بالنثر في سيولاته وسردياته التي لا تحد، لكن في الجانب الآخر من افتراس النثر للشعر «والافتراس المبين هو افتراس الرواية له» ما زال ثمة من يتخاطبون فيما بينهم ببرق الشعر وانخطاف اللغة، ويتداولون فيما بينهم شمس المجاز العظيم «كما يقول نيرود» شمس القصيدة.
ســؤال الـشـعــر
منصف الوهايبي
شاعر وأكاديمي عضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة»
كثيرٌ ممّا نقوله عن الشعر شعراء وقرّاء ونقّادًا في هذا البلد العربي أو ذاك، يحتاج إلى قدر غير يسير من التوقف والتثبت وحسن التناول، وإلى شواهد وأسانيد من الأدب والفنّ الحديث تنهض له وتعضده. لكن لا يذهبنّ في الظن أنّ سؤال الشعر من المتعاود الثقافي، أو هو من المسائل المحسومة. وإذا كان أهل الغرب، وقد صارت آدابهم وفنونهم بمنزلة «معجز» يتحدّانا مهما حاولنا أن ندانيه أو نجاذبه مكانته، يعيدون طرح سؤال الشعر وأزمته أو يعودون له وعليه، بعد أن استأثر بهم، موضوع «ما بعد الحداثة»؛ فما أحوجنا نحن إلى تأصيل السؤال في سياقه التاريخي والحضاري، بعد أن آلت «الحداثة الشعريّة» لدينا إلى ما آلت إليه في «شعرنا الحديث» الذي تخطّى الستّين، وصار يتسلق على جذوعه من يتسلّق غافلًا عن أنّ نعمة الشعر، هي في إيقاعه ومنه؛ هذا الإيقاع الذي هو انتصار الإنسان على الزمن، أو سبيله إلى جعل الزمن يرقص على نغم إنساني، وليكن!
فربّما كان حالنا أشبه، كما يقول بعضهم؛ بحال شخص يدخل إحدى دور السينما، بعد بداية العرض؛ فيأخذ بالتلفّت حوله، ويهمس للجالس بجواره سائلًا عمّا حدث أو كيف بدأ الفلم. ثمّ يتماسك، ويلتقط خيطًا من هنا وخيطًا من هناك؛ وشيئًا فشيئًا يلمّ بالأحداث أو يمسك بخيطها، ويتعرّف إلى الشخصيّات. وهكذا يبدأ بمتابعة الفلم، من دون كبير عناء، أو هكذا يتهيّأ له، ويتجاوز موقف «الذي وصل متأخّرًا». وفي هذه الصورة كثير أو قليل من حسن الظنّ بالمتلقّي، وربّما بالمنشئ أيضًا؛ وهو متلقٍّ أيضًا.
والنصّ -أيّ نصّ- ينشأ «قِرائِيًّا»، وهو يقرأ خاماته وما يتحدّر إليه من نصوص وأجناس أخرى. إنّما يعنينا من هذه الصورة أنّها تصلح مثلًا لكثير من الشعراء والكتّاب الذين انخرطوا في مشهد الأدب الحديث، وقد قامت معالمه، وتوطّأت سبله، أو هكذا تهيّأ لهم؛ فإذا هم لا يكادون يلامسون أرضه، أو يمسكون بخيط منه. وإذا هم يعيشون في هذا المشهد أكثر ممّا يعيشونه، وإذا هم لا يبرحون موقف «الذي وصل متأخّرًا»؛ وقد أخذت أحداث المشهد تلتفّ، ويلوي بعضها على بعض. وهل تشفع ثقافة محدودة لشاعر أو كاتب أن يشارك في مشهد هو أشبه بأيقونة لفظيّة مغلقة، تمازجها عناصر وأمشاج من حداثة غربيّة تهجم على الأدب العربي منذ بدايات القرن الماضي مثل وحيد القرن؟
هدم المواضعات
غير أنّني لا أحبّ لهذه الصورة أن تُحمل على وجه لا أرتضيه. فلست بالذي يتنقّص شعرنا العربي الحديث، ويتحيّفه. فالمدوّنة الشعريّة شأنها شأن قرينتها الروائيّة، تحفل بأعمال استوعبت منجزات العصر، وطلّقت الاتجاه التعبيري القائم على التصريح بالمعنى، في شكله المحدّد، وحرّرت العبارة من علائق المجاورة المتعاودة والتجانس المألوف بين الصفة والموصوف، وهدمت المواضعات اللغويّة القديمة المتواترة حيث الصورة ظلّ اللغة وهي تتوكّأ على متخيّل داثر، وتسترسل إلى نوع من التدفّق الوجداني؛ وليست اللغة – الشعر التي لا نقيض لها؛ أعني تلك التي تقدح المضمر والممكن، ولا تتأبّد في مكرور الصور والتراكيب؛ حتى لا تنلحق بأشباه لها ونظائر. وبعض أدبنا الحديث يشحذ عن دراية «نشوة الكلام في اللامعنى»، تلك التي نستشعرها في الفنّ الحديث المأخوذ بالتجريب وهو ينقلنا من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة حيث المبادرة للغة.
وربّما نحن نكتب لنستر ونخفي، لا لنفصح ونعرب. ولا نظنّ أنّ هناك من يماري في أنّ الكتابة عمل نوعيّ مثلها مثل القراءة المحكومة هي أيضًا بسياق نوعيّ. والكاتب إنّما ينشئ في ظلّ تقاليد نوعيّة مخصوصة، أو في ضوئها، لكنّ عمله لا يُقاس بها فحسب، إنّما أيضًا بما يجترح من احتمالات وإمكانات فيها.
قد يكون موطن أزمة الشعر في هذا الزواج العرفي بين ثقافتنا وثقافتهم، منذ اللحظة الفارقة التي سمّيناها «صدمة الحداثة»، وليس في هذا أيّة غضاضة، فالحداثة فيما يقرّره مؤرّخوها: فعل كوني شموليّ، ونزوع إلى القانون الذي ما بعده قانون. هي ليست معيارية تنهض على قواعد تستتبع الحكم بالصواب أو الخطأ، إنما على قوانين وأحكام عامة.
والقانون رهْن بمدى استيعابه للكليّ والجزئي معًا، فإذا ما تدافعا في موضوع مادّته الأدب أو الفنّ؛ وهما كثيرًا ما يتدافعان، استدعى الأمر إعادة نظر في كفاية القانون.
وللحداثة الأدبيّة في الغرب قوانين غير تلك التي تجري عليها الحداثة الأدبيّة في ثقافتنا، فالأولى إنّما نشأت في المدينة أو هي من مفرداتها وتجلّياتها، حيث يغدو أي كلام عليها، متعذّرًا أو فضفاضًا، إن هو لم يُباشرها في فضاء المدن الغربيّة الضخمة بمؤسّساتها ومشاريعها الكبرى التي تستلب الفرد أو تحوّله إلى مجرّد أداة من أدواتها ورقم من أرقامها. على حين أنّ الحداثة الأدبيّة في ثقافتنا، حالة جزئيّة أو هي، في تقديرنا، تجلٍّ في جانب كبير منها، لحداثة الآخر ذات الطابع الكلّي الشمولي. هي «حداثة» تتناسل من حداثة، وليس من المدينة أو من المعيش بالمعنى الحصري الدقيق للكلمة.
وإضافة إلى ما تقدّم فإنّ الحداثة الأدبيّة عندنا مرتبكة كأشدّ ما يكون الارتباك. فقد انخرطت في بداياتها، وربّما إلى حدود السبعينيات، أو بعدها بقليل، في مسار المشاريع الوحدانيّة الكبرى (المشروع القومي مثلًا)، وقد باء بالفشل؛ قبل أن تنكفئ إلى ضروب من السريالية أو الدادائية أو العدميّة « النهلستية» واللامعقول… وهي مذاهب تولّدت من الانطباعيّة التي يعدّها بعض المتخصصين جوهر النظرية الحديثة في الأدب ويعزوها إلى موقف ابن المدينة من المدينة وليس موقف ابن الريف منها.
ولعلّ القارئ أن يشاطرني الرأي في أنّ لهذه المذاهب في الحداثة الغربيّة ملابسات غير تلك التي حفّت بها في ثقافتنا. وقد أشار غير واحد، إلى أنّ الحداثة الغربيّة صداميّة عدوانيّة أو هي خرق في الزمن والتاريخ وخروج إلى الذات. وقد أدرك الغربي الذي رأى نفسه يسيطر على كون صنعته الفيزياء والكيمياء أنّ الفلسفة العلميّة المتغطرسة باتت الآن بالية، و«اكتشف» أنّ الإنسان ليس سوى جزء من أنظمة ضخمة، وليس بميسور هذا الجزء السيطرة على الكلّ.
إنّ لكلّ عصر أدبيّ أو فنّي ملامحه المتميّزة بحيث يلوح بناءً قائمًا بنفسه؛ منطلقه عنصر ما مركزيّ فاعل، أو جملة تأثّرات تتعلّق بـ«استجابة القارئ» وما استقرّ في مشاعره ووعيه، أو بـ«جماليّة التلقّي» عامّة. ولكنّ الأعمال الفرديّة يظلّ لها شأن، وبعضها يمكن أن نعده نواة العصر أو محرّكه. والفارق بين عصر وآخر يكمن في الدرجة التي تظهر فيها هذه الفرديّة أو تلك. وهذا العنصر لا يمكن أن يسِم عصرًا من العصور إلّا داخل نظام ما أو بنية ما، فالرومانسيّة مثلًا أو الرمزيّة أو التصويريّة لا تتمثّل في جماع سماتها، إنّما في طبيعة العلاقة بين تلك السمات. وقد تقوى سمة ويكون لها أثر بنيويّ في مجمل السمات الأخرى.
ولئن كان من الصعب في حيّز كهذا أن نتميّز السمات الدقيقة أو الظلال الخفيّة بين أطوار الشعر العربي منذ الخمسينيات خاصّة، بسبب من تداخل بعضها في بعض، فإنّ هناك اليوم نمطًا من «الشعر» ينتشر في سائر البلاد العربيّة؛ لا يشدّه نسق أيديولوجي مخصوص، وأكثره يزاوج بين الصور المجازيّة القريبة والجمل الإشارية؛ ويتمثّل هواجس الذات وحالاتها الوجدانيّة وإحساسها بالعجز والصدع والخواء، في غنائيّة تحتفي بالأشياء والتفاصيل الصغيرة. وربّما راهن بعضه على الأشكال الحديثة. لكن من دون أن يستوعب مكوّناتها وتحوّلاتها؛ أو يقف على منحاها الانقلابي والنقلة النوعيّة التي يحدثها في بنية الخطاب الشعري.
غير أن الظاهرة التي تستوقف الباحث في الشعر العربي الحديث عامّة هي ظاهرة هذه النصوص التي تُصنّف على أنّها «قصيدة نثر» أو «شعر حرّ»؛ وقد ذاع أمرها، على نحو يستدعي الفحص والمدارسة، ومراجعة مشروعيّة بعضها الذي ينتشر باسم الشعر، ويغري بالتسلّق على جذوعه؛ وهي التي تعوزها أبسط أدوات الشعر: الكلمة والإيقاع.
على أنّه من الضرورة، قبل فحص هذه الظاهرة، أن نشير إلى ذلك التمييز الدقيق الذي تنبّهت إليه الدراسات الحديثة، بين الشعر من حيث هو نمط للكتابة، والشعر من حيث هو صفة للكلام ورشْح عنه، أو بين الشعر والشعريّة، أو بين ما يمكن أن نسمّيه اصطلاح الشعر، ومطلق الشعر. كان لا بد من هذه الإشارة حتى تتوضّح مناقشتنا لهذه الظاهرة، فليس المقصود كلّ هذه النصوص الخارجة على الأوزان الموروثة. على الرغم ممّا يثيره إلحاقها بالشعر؛ أعني مشكل الأجناس الأدبيّة، وإن كان هذا المشكل قد يصبح ثانويًّا أمام مشكل أدبيّة الأجناس، كما تبيّن الدراسات الحديثة.
إنّ نصوص محمد الماغوط مثلًا شعرٌ؛ وإن لم ينتظمه وزن أو قافية. فهي تتوفر على ضرب من الإيقاع. هو ليس «نقلة على النغم في أزمنة محدودة المقادير والنسب» كما هو الشأن في القصيد «الخليلي» أو «قصيدة البيت»، وإنّما هو تناسق بين عناصر الجملة، وتناسب بين أجزاء الصورة. أمّا الظاهرة موضوع حديثنا. فلا ندري كيف نصنّفها: أهي نثر مرسل أم هي «شعرٌ محلول» إذا استعرنا لها عبارة ابن طباطبا في حديثه عن الرسائل. هي نصوص تهجس اللحن من دون أن تقبض عليه، وقد يحلّ بعضها السجع محل القافية، وقد يقع في الظنّ أنّها اعتاضت بذلك عن الوزن، أو أضفت من دون وجه حقّ، على الكلام المرجرج إيقاعًا أو موسيقا. ومن عجب أنّ بعضهم لا يميّز السجع من القافية. والسجع، في كلام العرب، موطنه النثر أساسًا، وإن كان يتخلّل الشعر أحيانًا. كما هو الشأن في بعض قصائد أبي تمام والمتنبي، فيعزّز الإيقاع الشعري من حيث هو تفاعل بين الكمّ والنبر، ويوحّد بين النبر الشعري والنبر اللغوي في مستوى الوحدة الإيقاعيّة. واللغة العربيّة شاعرة من نفسها، بحكم أنّها نشأت ودرجت في بيئة شعريّة: الجزيرة العربيّة. وقد لا تكون القافية ضروريّة في قصيدة التفعيلة مثلًا، على قلق هذه التسمية. والتفعيلة مصطلح لا أثر له في المدوّنة العروضيّة المأثورة.
على أنّ الإيقاع من حيث هو تركيبة صوتية – دلاليّة، يظلّ العنصر الأهمّ الغائب في كثير من هذه النصوص «المنثورة» أو المسجّعة التي يلحقها بعضهم، عن جهل، بقصيدة النثر، على حين هي ليست في أفضل الأحوال سوى شعر مترجم إلى النثر. وترجمة القصيدة إلى النثر، لا تحتفظ بأيّ قدر من الشعر؛ فللمعنى الشعري بنيته المتميّزة التي تتغير، وتفقد شكلها، عندما تنتقل من صيغتها الشعرية إلى صيغة نثريّة. وما نخال الاحتيال لهذه الصيغة النثريّة بالسجع أو بالتلاعب اللفظي والصورة المغربة والطرافة المستجلبة باسم عدول لا تنتظمه قواعد تكوينيّة وتنظيميّة. من شأنه أن يزحزح بنيتها أو يضفي عليها سمات.
إنّ التجربة الشعريّة لا تنفصل عن تجربة الحياة، وما نعدّه شعرًا، إنّما هو تحويل شكل لغويّ إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي. والنصوص السرديّة أو «الرواية» التي ينزع إليها الشعراء الآن، وأنا أحدهم فقد نشرت ثلاث محاولات روائيّة، وشرعت في الرابعة؛ تحمل الشعر في مطاويها. ولا أقصد لغة الشعر، إنّما ما يفيض عن الشعر. وهناك موضوعات وتفاصيل وشوارد، قد لا يتّسع لها الشعر. ومن ثمّة يلجأ بعضنا إلى الرواية أو القصّة.
الواقع أي ما هو خارج الكتابة؛ «بنية جوفاء». أمّا وأنا أكتب هذا النص الشعري أو الروائي، فيتهيّأ لي أنّي شخص آخر مختلف. كيف نحدّ العلاقات ونرسم الحدود بين «الداخل» في العالم مكتوبًا و«الخارج»؟
وحضور ضمير المتكلّم في نظام النص، سواء أدرناه بصيغة «أنا» أو على مقتضى أسلوب «الالتفات» يمكن أن يدلّ حدسًا أو ظنًّا على تجربة عند أيّ منّا هي تجربة «التقبّل الذّاتي» أو إدراك الذات وتعرّفها.
إنّ «أنا» أشبه باسم لغير علم، يعقد صلة حميمة أشبه بوشيجة القربى، بين المتكلّم وكلامه. وهذا الضمير على ذيـوعه وشيوعه «شديد الغرابة» وليس بالميسور محاصرته؛ لتعقّده وعدم ثباته. ومن نافل القول أن نذكّر بأنّ الكتّاب أنفسهم يصرّون على التمييز بين الكاتب من حيث هو «أنا اجتماعيّة» والكاتب من حيث هو «أنا إبداعيّة».
بل إنّ الكِتابة محصّلة أنا أخرى غير التي نظهرها في عاداتنا، أو في المجتمع. وإذا ما سعينا إلى فهم تلك الأنا فإنّما في أعماقنا وحدها نستطيع أن ننفذ إليها؛ ونحن نحاول أن نبتعثها فينا وأنا على رأي بعضهم؛ ففي حياتي قطيعة كبيرة بيني أنا والرجل الذي يؤلف كتبًا. وأنا في حياتي، أعرف تقريبًا ما أفعله، لكنّي إذ أكتب، أكاد أهيم تمامًا.
وكنت حتى عام 2005م أحبّ الجلوس في مقهى قريب من بيتي، أتخيّر ركنا، صار يعرف بي؛ لأقرأ وأكتب من السابعة إلى ما بعد منتصف النهار. أمّا في السنوات الأخيرة، فقد غيّرت ما بي، وبدأت أستخدم الكمبيوتر أكثر فأكثر؛ وقد أنجزت محاولة روائيّة فايسبوكيّة «عشيقة آدم» فازت بجائزة لم أكن أتوقّعها «الكومار الذهبي» وهي أشهر جائزة تُمنح للرواية في تونس. وأظنّ أنّ مؤسّس موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» مارك زوكربيرغ، خلقَ عالمًا جديدًا لتبادل المعلومات. هو عالم افتراضيّ لكنّه حقيقيّ وواقعيّ. ولقد غيّر حياتنا كلّها، فنحن كائنات فايسبوكيّة… الإنترنت… واليوتيوب والهاتف الجوّال… وفي سياق كهذا يمكن أن نتقصّى خصائص الكتابة الأدبيّة المتنوّعة.
والنّص، إنّما يُنظر فيه من جهة بنائه أو تركيبه اللّغويّ، ومن جهة شروط إنتاجه أو صناعته. وهذا مفهوم يُفترض أن نأخذ به ونأنس إليه في أيّة قراءة؛ لاحتفائه بمظاهر القول أو «التّلفّظ» من جهة، ولأنه يتيح لنا أن نباشر النصّ العربي الحديث شعرًا كان أو رواية؛ من حيث هو خطاب «قلق» في ذاته وفي مراتب تقبّله، من جهة أخرى. وما نقوله وصف محايد وليس حكم قيمة. فالآداب العربيّة الحديثة، لم تستقرّ بعد، ولا تزال «ثقافتنا» ثقافة مرتبكة؛ بل هي تكاد تكون «سايكس بيكو الآداب العربيّة» منذ أن نشأ هذا «الأدب العربي الحديث» في مركزيه الأوّلين: بلاد الشام ومصر. وهي تثير من الأسئلة، أكثر ممّا تجترح من الأجوبة.
أسئلة القصيدة المغربية
رشيد يحياوي
ناقد مغربي
لا ينفصل راهن الشعر عن راهن الكتابة في المغرب كما في أقطار عربية أخرى. فلم يعد الشعر معزولا عن أسئلة الكتابة من حيث جدواها وانفتاحها عبر الأنواعيّ ومجالات تداولها. وهنا تطرح أسئلة كثيرة حول هجرة الشعر نحو القصة والرواية، وانفتاح القصيدة على ممكنات تعبيرية ذات هيمنة أقوى في الأنواع النثرية كالسرد، أو آتية من فنون بصرية كالتشكيل والبناء المشهدي للكتابة السينمائية، مما أصبح لافتا في قصيدة الراهن الشعري بالمغرب.
وإذا كانت الكتابة تنبني على مبدأ تراكم التجارب، فإننا نلاحظ ذات الأمر في التجارب الشعرية المغربية، فهي تتجاوب وتتصادى. فراهن الشعر المغربي بشكل عام، أشبه بمصب لأنهار منحدرة من عقود خلت. إنه راهن بفعل شعراء من عقدي الستينيات والسبعينيات ومما أعقبهما من عقود. هؤلاء الشعراء تأسس فعلهم اللغوي الجمالي على وعي براهنية القول الشعري في عقود مؤزمة للفعل الكتابي بسبب تحولات القيم الثقافية والنظم الفكرية والمستجدات الحضارية وشيوع وسائط جديدة للتواصل تميل للاستهلاك اللحظي السريع.
تعايش الحساسيات الشعرية
وما يميز التجربة الشعرية المغربية في راهنها هو انفتاحها على مختلف التجارب الشعرية التي قد تصل حد التباين؛ إذ تسمح لكل الحساسيات الشعرية بالتعايش؛ من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر وصولًا إلى صيغ شعرية عصية على التصنيف يتحاور فيها الهايكو بالأقصوصة القصيرة جدًّا بالشذرات السيرية الفايسبوكية، وكل ذلك إلى جانب تعبيرات شعرية بلغات محلية كالعامية والأمازيغية والحسانية لهجة أهل الصحراء.
هذا التعايش الشعري ليس تعايشًا لتجارب الشعر في حد ذاته، بل إنه تعايش في ذات الوقت لأجيال شعرية واصل بعض شعرائها مسارهم واستطاعوا «التأقلم» مع أسئلة القصيدة المغربية في راهنها الممتد من زمن التأسيس الستيني إلى الألفية الجديدة، بل كانوا فاعلين في ذلك.
وتلك الأسئلة لا يمكن أن ننسبها لجيل دون آخر، بقدر ما ننسبها لوعي اللحظة التاريخية بانكتابها شعريًّا. وكل الشعراء الذين كان لهم مثل هذا الوعي، أسهموا في تلك الأسئلة وفي تمثلها شعريًّا بصياغتها ضمن رؤى جمالية قائمة على التعدد لا على التوحد، وعلى الاختلاف لا على التماثل.
ومع أن الجوائز الأدبية لا تمثل معيارًا حاسمًا في الحكم على ظاهرة من الظواهر، لكن يمكن الاستئناس بها لاستكشاف ميول الذائقة القرائية الشعرية في بعض اللحظات. ومن باب ذلك أن جوائز المغرب الكبرى في الشعر التي تمنح من طرف لجان متخصصة، قد حازها في السنة الجارية الشاعر عبدالكريم الطبال وهو شاعر من جيل التأسيس الستيني، فيما كان قد فاز بها في سنوات سابقة شعراء لقصيدة النثر.
ضمن هذا الأفق، لا يكاد يكون بين الشعراء المغاربة اختلاف حول الحضور الفاعل لشعراء من الستينيات في راهن الشعر المغربي، مثل محمد السرغيني وعبدالكريم الطبال، ولا حول شعراء من السبعينيات كان لهم بدورهم أثر في مسار القصيدة المغربية في راهنها مثل محمد بنطلحة ورشيد المومني. ومن الجلي أن عددًا كبيرًا من شعراء العقدين الستيني والسبعيني افتقدتهم القصيدة المغربية بسبب رحيلهم إلى دار البقاء، أو بسبب انقطاعهم، أو لكونهم عجزوا عن تجاوز تجاربهم القديمة.
ويعد عقد الثمانينيات عقدًا مفصليًّا في مسار الشعرية المغربية الراهنة. ففيه عُرض كثير من المفاهيم للمراجعة بطرائق أكثر وضوحًا وحدّة. فلم تُراجع المفاهيم الفنية والأدبية فحسب، بل روجع أيضًا ما كان ثابتًا ومسلمًا به في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأتى ذلك في سياق كوني راجت فيه أفكار مرتبطة بالعولمة وسقوط المعسكر الشرقي، بحيث وجد الأفراد أنفسهم أمام اختبار صعب لأفكارهم الشمولية.
هوية على المحك
أصبحت هوية الشعر على المحك، ومن بين ما كان داخلًا في هويته السبعينية مثلًا، مبدأ الالتزام. والسؤال الذي طرح هو بماذا يلتزم الشاعر؟ وهل من الضروري أن يكون ملتزما؟ وماذا عن التزامه بذاته وفردانيته؟ وسار الشعراء منذ ذلك العقد في طريق حساسيات جديدة رأوا أنها تقتضي لغة شعرية جديدة ليست أحادية الوظيفة، وأن لغة الشعر وإن انفتحت وظيفيًّا فإنها تحتاج أن تكون بدورها موضوعًا للشعر يشتغل عليه. ولم تعد القضايا الكبرى تستأثر بمخيال الشاعر، فقد وجد أنه يحس بذاته وبجسده شعريًّا، وبما تراه عيناه عن قرب، وأن الأشياء الصغرى التي طالما جرى تهميشها لا تخلو من قيم دالة.
أدرك الشاعر أنه مجرد فرد ضمن منظومة كبيرة من الفاعلين، وأن له ضمن ذلك دورًا محدودًا إذا قيس بالفاعلية المباشرة في المجتمع، وأن تعلقه بالأحلام الكبرى لن يصيبه سوى بالمزيد من الخيبات. إنه ذات ضمن ذوات كثيرة تصطدم أحلامها مع إمكانياتها، وتتكسر طموحاتها على صخرة واقع مادي نابذ وظالم. فلم يعد أمام الشاعر من حل لمجابهة ذلك الواقع سوى بتحرير طاقاته الداخلية وإنطاق المسكوت عنه في اللغة.
وكل ما نقرؤه في قصائد الشعر المغربي الراهن، إنما يعبر عن انكسارات الذوات وخيبات أحلامها ورصد لعزلتها، كما يعبر عن تبرمها مما يحيط بها، وعن تغييبها مقابل بروز سطوة الأماكن. وقد تعبر القصائد في إطار ذلك عن هشاشة الكائنات والذوات داخل الفراغ الذي يحس به الكائن الشعري حوله أو داخله. هذه الخطوط وغيرها تفصح عن انتباه الشعراء للصور التي توجد بها ذواتهم في العالم في ظل المتغيرات التي طرأت على القيم المادية والقيم الرمزية في المجتمع المغربي.
وهذا ما يفسر دعوات التجديد والتجريب المتواصلة في القصيدة المغربية التي تكاد تنفرد عن راهن الشعر مغاربيًّا بهيمنة قصيدة النثر على تجارب الشعراء في المغرب، دون إلغاء لقصيدة التفعيلة بعد تطويعها وتحريرها من لغة الشعر الحر التأسيسي. فالفارق ليس هو الحد الوزني إنما بناء القصيدة في مخيالها وبلاغتها وعلاقاتها اللغوية الداخلية إضافة إلى الصورة التي تخلقها عن العالم، صغيرًا كان أم كبيرًا.
اكتواء يدي بشعلة قصيدة النثر
فوزية أبو خالد
شاعرة وكاتبة سعودية
سؤال الشعر وأحواله، يستحق التأمل وإعادة التفكير في منتج الإبداع الشعري على مر العصور، وفي مختلف البيئات الاجتماعية والسياسية والعمرانية، بما فيها اللحظة التاريخية الراهنة المدججة بالتراجع السياسي والفكري في عموم الوطن العربي. فبقدر ما يعدّ الشعر ثابتًا مطلقًا من ثوابت الحياة الإنسانية ومن عمران الضمير البشري، بقدر ما تكون أشكاله ومضامينه في حال دائمة من التحولات المستمرة التي ما إن ترسي على حال يثري وجدان البشر إلا وتتحول بالتماس مع مشاعر الناس وتفاعلاتها المتقلبة إلى حال جديدة. فعلى سبيل المثال في الحال العربية التي جعلت من الشعر ديوان العرب، ظل الشعر في تقدمه على الحقب المتعاقبة من التاريخ الاجتماعي والسياسي العربي قادرًا على إعطاء صورة متموجة عن أحوال مختلف المراحل التاريخية.
فكما كانت المعلقات رمزًا لعزة العرب السياسية في تعالقها مع المقدس الديني، ومع الجاه التجاري، ومع العنفوان البدوي والضراوة الصحراوية، فقد كان الشعر في كل عصور الانكسار إكسيرًا للاستنهاض. وكان هذا لا يجري عبر القوالب الشعرية ومحتوياتها السابقة، بل عبر تجاوزها عروضيًّا ومعنى. حدث هذا في مراحل مفصلية عدة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية إبان دول الخلافة الأموية والعباسية وعلى إثرهما وسواهما من دول الخلافة ببلاد الشام والعراق ومصر والأندلس وإسطنبول.
وقد اجترح الشعر العربي من منتصف القرن العشرين إلى مطلع القرن الحادي والعشرين واحدة من أهم التحولات المفصلية في بنية القصيدة العربية شكلًا ومضمونًا، بالخروج عن المستتب العروضي الفراهيدي والغرضي أو الغائي من الرثاء إلى الغزل وما بينهما من مديح وهجاء. أما من الربع الأخير للقرن الفارط إلى اليوم فقد بلغ الشعر العربي ذروة ذلك التمرد بالانفلات من الوزن العمودي والتفعيلي معًا على مستوى الشكل، والانسلاخ عن المضامين الشمولية للشعر العربي على مستوى المحتوى، بالتحول إلى قصيدة النثر المتحررة من كل قوالب موسيقا الشعر المتعارف عليها قبلها في الشكل، وبالانحياز إلى شاعرية اليومي والعادي في المضمون. وبالمجاوزة بينهما أي (بين التمردين) في قصيدة الومضة الشعرية إن صح التعبير.
قصيدة النثر لا تعرف شيمة الوفاء
أما ما ينقض السؤال ويتماس معه في الوقت نفسه بما يشبه تلاقي الأضداد، فهو أن هذا النوع من الشعر أي شعر قصيدة النثر هو نوع شعري، رغم منجزه الإبداعي الشاهق لعدد من الأصوات المعتقة والشابة في الوطن العربي، لا يزال نوعًا عصيًّا على أن يصل مرحلة نستطيع أن نقول معها إنه بلغ مرحلة الاستقرار كما يطرح السؤال. ويرجع ذلك في رأيي إلى أن قصيدة النثر هي نوع من الشعر التجريبي بطبيعته بحيث لا يكف عن البحث ولا يتعب لحفر واستكشاف منابع ومصاب جديدة لشكل ومضمون القصيدة وللدهشة الشعرية. ولهذه الطبيعة المخالفة التي بقدر ما تنعم فيها قصيدة النثر برعب القلق ونشوة الانقضاض التجريبي على نفسها بقدر ما تعيش لذة وعذابات ذنب عدم التزامها بشيمة الوفاء لما سبقها من منجز شعري لها ولسواها، يصعب الحديث عن بلوغ هذا النوع من الشعر مرحلة الاستقرار. ومن اكتواء يدي اليومي بشعلة الشعر لقصيدة النثر أزعم أنها قصيدة لا تستطيع أن تعيش خارج ماء اسمه التجريب، موجة تمحو موجة وتؤلف بحورًا من الأمواج المتجددة.
وهذا ما يجعل ،في رأيي الشخصي على الأقل، قصيدة النثر نبعًا من ينابيع الضوء التي على تضوعها الشفيف وسهولة انكسارها لا تتورع عن منازلة الظلام المطبق الذي يكاد يخيم على المنطقة العربية عن بكرة أبيها. هذا ليس تقديسًا للقصيدة من عوادم السياسة وعدمية الحروب، لكنها شعلة الشعر التي ليس لنا أن نكف عن سرقتها، وليس للأكف أن تكف عن تخاطف قبسها، ليس لترميم الخراب لكن للخروج عليه، بما فيه الخروج على غربة الشعر اليوم، وعلى ذلك النوع من الشعر الرديء الذي هو وجه آخر للخراب الذي لا يمكن مقاومته إلا بإبداع شعري جديد. لا أظن أن الشعر اليوم، مع هذه الثورة العارمة في أوعية الثقافة، وأدوات الإنتاج مقابل هذا التداعي السياسي عربيًّا ودوليًّا، إلا تحدٍّ لخلق حال جديدة من التحولات الشعرية التي لم تعهدها الحواس من قبل.
موت الحس النقدي
لا أحفل كثيرًا بموضوع الجوائز في الشعر ولا قليلًا، لا بمعناها العيني، ولا الرمزي؛ لذلك لا أستطيع الإجابة عن السؤال عن أثر غياب الجوائز. أما عزوف النقد عن تناول الإصدارات الشعرية الجديدة، فهذا حقًّا سؤال مقلق، لكن ليس شعريًّا بقدر ما هو مقلق في تعبيره عن تماوت أو موت الحس النقدي. والخطير في مثل هذا الموات أن الحس النقدي هو شرط لازب من شروط الحرية والإبداع والمقاومة. فأي أزمة حقيقية يكشفها هذا العزوف النقدي وإن كان للمسألة أوجه أخرى قد لا تكون بالضرورة تعبيرًا عن نوع من حال استسلام عام. ومن ذلك أن النقد الأدبي عندنا ارتبط بالإطار الأكاديمي بما في ذلك الإطار من تضييق على الحريات.
كما أن لانحسار المطلات الورقية حيث لعبة الملاحق الأدبية، وبخاصة في التجربة السعودية، دورًا في التواصل بين ثلاثي الأديب والناقد والقراء قد يكون من أسباب فراغ هذه الأوعية من ذلك الجدل النقدي الفوار الذي شهدته الساحة المحلية في مراحل تاريخية سابقة. وأيضًا قد يكون لجدة الأوعية الإلكترونية واتساع نطاقاتها دور في تشتت المنافذ النقدية وخلق حال من الارتباك لدى أجسادنا ولدى العقل النقدي المعتاد الذي لم يجرب هذه السقوف العالية من حرية النقد من قبل. ولهذا فما زلت أعتقد، كما سبق وكتبت في مواقع أخرى، أن تحدينا اليوم أن المدى المفتوح أمامنا أوسع من مدّات الأجنحة في دربتها وخبراتها السابقة، وعلينا عمل شاق وطويل لاكتساب خبرات ودربة الحرية التي تتيحها ثورة الفضاء والاتصالات. فمن المخجل أن نبقى في مدى لا حدود له بتلك الأيدي القصيرة والأجنحة القليلة نفسها. ولربما كما أن كثرة الطيران تقوي الأجنحة، فاتساع فضاء التعبير يعلمنا الحرية.
الشعر العُماني المعاصر
سماء عيسى
شاعر عماني
كان على الشاعر العُماني المعاصر أولًا أنْ يلتفت إلى موروثه الشعري الخصب، الضارب عميقًا في التاريخ، منذ أنْ كتب مالك بن فهم الأزدي مراثيه الأولى، مودعًا أرض السراة إلى عُمان، والثانية راثيًا نفسه بعد أنْ اخترق سهم سليمة أحب أبنائه إليه قائلًا:
جزاه الله من ولد جزاءً |
سليمة إنه سامًا جزاني |
أعـلمه الرماية كل يوم |
فلما اشتد ساعده رماني |
فأهوى سهمه كالبرق حتى |
أصاب به الفؤاد وما عداني |
ألا شلت يمينك حين ترمي |
وطارت منك حاملة البنان |
كان عليه الالتفات إلى التجربة الروحية التي حظيت بمعظم الموروث الشعري العُماني؛ فالشعر في عُمان أساسًا ابن روحي للذاكرة الدينية، ومن كتب الشعر العُماني معظمهم من الفقهاء ورجال الدين، الذين تشربوا بلاغة اللغة العربية منذ نعومة أظفارهم؛ لذلك حظيت ثيمات الزهد والسلوك والندم والمدائح النبوية والحب الإلهي، بمعظم نتاجهم الإبداعي؛ بل ذهب الفقهاء أيضًا إلى صوغ دروسهم في الفقه نظمًا، أخذ من الشعر قوانين تدفقه المعروفة في العروض والقافية، بل أخذ من بلاغة الشعر العربي الجمال الذي أسبغه على تدفق معانيه وسلاستها.
الشاعر هنا ابن لخصوبة التنوع الجغرافي الذي وهبه الله لعمان، هذا التنوع الذي تشكلت عليه خصوصيات ثقافة تختلف في عطائها عن المجاورة الأخرى، وإن كانت تقف على أرض روحية واحدة. أعطت تجربة تأسيس المجتمع الزراعي العماني أساطيرها الخاصة المعتمدة على تأسيس مؤسسة اقتصادية عرفت بمؤسسة الفلج التي هي شكل من أشكال الاقتصاد الآسيوي المختلف في تطوره وتكوينه عن أشكال التطور الاقتصادي الأوروبي. لذلك جاء الشعر هنا محافظًا على خصوصيات وملامح التجربة الدينية، والتي انبثقت نتاجًا لمؤسسة الفلج الاقتصادية، المؤسسة الدينية التي أضحت مؤسسة ثقافية اجتماعية سياسية في آن واحد، هيمنت هذه المؤسسة على المخيال الإبداعي، تقل لدى المجتمعين البحري والصحراوي، إلى درجة خلق أساطير عن خلق العالم مختلفة كليًّا عما هو في القرآن الكريم، كما هو في هذه الأسطورة لدى البطاحرة، وهي قبيلة بحرية تعيش في جنوب عُمان: «هنا في البداية لم يخلق البطاحريون، ولم يوجد أحد منهم، جرى خلق رجل وامرأة، واتفقا فيما بعد بينهما على الزواج، لم يكن بينهما ملبس، اللهم سوى شعر البحر الذي ينجرف إلى الشاطئ، ثم لفَّاه حولهما، ولم يكن لديهما ما يأكلانه سوى المحار، ثم تناسل البطاحريون وتكاثروا وزاد عددهم، ولم يكن هناك غيرهم في البلاد، لقد وجدوا في الصحراء وفي البراري وعلى طول الساحل.. ولم يكن غيرهم منْ يعيش معهم.. لم يكن هناك سواهم».
الشاعر العُماني المعاصر ابنٌ لتراثه الوطني، ظلَّ ولا يزال وثيق الصلة بالحركات الوطنية التي عصفت ولا تزال بترابه، يصل به ذلك إلى أن يكون صوتًا سياسيًّا ناطقًا باسمها، كما هو في حال عدد من كبار شعرائنا، مثل الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، الذي لا تكتمل دراسة ثورة الإمام عزان بن قيس البوسعيدي إلا بدراسة شعره، والشاعر سالم بن ناصر ابن عديم الرواحي، الذي كان الصوت الشعري الأكبر لثورة الإمام سالم بن راشد الخروصي.
كذلك الحال مع من جاء بعدهم، منذ خمسينيات القرن الماضي؛ إذ حفلت التجربة الشعرية العمانية بأصوات شعرية متعددة، عملت على تجديد الشعر العماني؛ إذ تخلصت المفردة من ثقلها الكلاسيكي البلاغي كما هو لدى عبدالله الطائي، وذهب الشاعر الكبير عبدالله الخليلي إلى كتابة المسرح الشعري، وقدم سليمان بن سعيد الكندي أول محاولة لاستخدام بحور شعرية مختلفة في القصيدة الواحدة، وحفلت موضوعات شعرهم -ولأول مرة- بالتفاعل مع ثورات التحرر العربي في الجزائر ومصر وفلسطين…
العطاء التاريخي للأسلاف
نقرأ التجربة الشعرية الراهنة، انطلاقًا من منجزها التاريخي، والصوت الشعري العماني الراهن، وإن كان أكثر اقترابًا من منجز الحداثة الشعرية العربية في عقودها الأخيرة، إلا أنه من جهة موضوعات شعره، يتميز بتدفق عطاء أسلافه التاريخي، وأي قراءة نقدية جادة له، عليها الالتفات إلى المنجز التاريخي حتى يتبين لها خصوصية وخصوبة الصوت الرثائي والصوفي، واتساع مساحة ثيمات الموت والرحيل والفراق والهجر في تجارب شعرائها.
تتسع أرضية الشعر لتشمل تجارب شعرية شابة، تكتب بأشكال شعرية مختلفة: الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر. هذا التنوع شكل مصدر خصوبة، تعدد الأشكال الشعرية يضفي على التجربة ثراءً، تسبب في تعايشها وعدم إلغاء بعضها الآخر؛ بل تحول بعضها من شكل لآخر، وبخاصة في توجه عدد من شعراء التفعيلة إلى قصيدة النثر، التي تشهد اليومَ انتشارًا واسعًا استقطب معظم المواهب الشعرية الجديدة…
أدى تحرر شعراء الأجيال الجديدة، واكتسابهم ثقافات فكرية وسياسية متنوعة إلى انطلاق الكتابة لديهم بوعي مختلف عن أسلافهم؛ إذ نقرأ لديهم روح الضياع والتمرد والتمزق الوجودي، وتطرح تجاربهم أسئلة متواصلةً حول معنى الوجود ومصير الإنسان به، حس الاغتراب هذا وإن كان متجذرًا فيما مضى، إلا أنه كان يجدُ ملاذه في الشعور الديني الذي وضع سقفًا لمعاناة الاغتراب وأسئلة الوجود الكبرى لدى الشعراء العمانيين فيما مضى، تجد الآن انطلاقتها الكبرى لدى شعراء التجربة الجديدة في توجهاتهم المختلفة، نحو البحث عن سر الخلق والكون ومجراته المختلفة.
المنفى الداخلي للشاعر
روح الاغتراب هذه تطال الواقع الاجتماعي والسياسي أيضًا، فشعراء التجربة الجديدة كثيرًا ما يلجؤون إلى طفولتهم، وإلى ذكريات قراهم البعيدة الريفية الهادئة، قبل أن تصل إليها جرارات الأسمنت، وتحول علاقتها الاجتماعية البريئة إلى علاقات تعتمد على المصالح الشخصية المتبادلة، وينتشر بها الولاء المزيف للسلطات الاجتماعية والدينية والسياسية المختلفة.
خلقت هذه التحولات الاجتماعية ظاهرة يمكن تسميتها بالمنفى الداخلي للشاعر، الذي وجد نفسه منفيًّا في وطنه. إلا أنَّ ذلك لم يحل دون التزام عدد منهم بروح النضال السياسي، ونظير مواقفهم السياسية دخل عدد منهم السجون مثل الشاعر محمود حمد، واحتجز عدد آخر في أروقة أجهزة الأمن مددًا مختلفة، مثل الشعراء: صالح العامري، وعبدالله حبيب، وإبراهيم سعيد، وناصر البدري، وخميس قلم، وحمد الخروصي رحمه الله.
احتفاء الشاعر العُماني بالحياة ذهب به إلى الاحتفاء بما هو محيط حوله، والنظر إلى الأشياء بحميمية بالغة، ذاهبًا إلى تفصيلاتها الدقيقة، ساردًا ذكرياته معها في ألفة، ندر التطرق إليها من قبل، كالحجارة والأشجار والأفلاج والأطلال، وكل ما ترسب في ذاكرة الشاعر منذ طفولته، معتمدًا في ذلك على القبض على المحسوس وتجريده، وصولًا به إلى عالم خفي غير مرئي هو عالم الشعر، الذي يدرك الشعراء العمانيون صعوبة الوصول إليه، مع صعوبة التخلي عن محاولة بلوغ ذراه البعيدة. لذلك فإن الشعر لأبناء التجربة الشعرية الجديدة في عمان، طريق نضال صعب وشاق، والإنجاز يكمن في عدم التخلي عن مواصلة محبته وعشق كتابته.
الشعر السوري بين داخل وخارج: قصيدة واحدة مكتوبة بقلم الحرب
سامر إسماعيل
دمشق
لا تزال الحرب تُنبئ بتداعياتٍ كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سوريا، فمن «هجمة الستينيات» التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره لأنطولوجيا الشعر السوري المعاصر، مرورًا بـ«منعطف السبعينيات» أكثر المراحل تمردًا على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري، الذي أصدر في الحرب كتابه اللافت «لمن العالم» (دار نينوى- 2016م)، وصولًا إلى شعراء الحرب في عامها السادس، والانقسام الذي أصاب النخب الأدبية بين داخل وخارج، نلحظ ثيمات جديدة لنصوص مفخخة حملت لعنة الاقتتال الدائر، مثلما حملت وزر أحلامها المنكوبة.
فالشعر السوري المعاصر وجد انحسارًا في السنوات الأخيرة، في رأي الناقد جمال شحيّد الذي يقول: إن «الرواية أخذت حيزًا كبيرًا ومهمًّا في الثقافة العربية؛ إذ إن الانحسار الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئيًّا؛ لكن موت الشعر في بعض البلدان الأوربية والمجتمع الاستهلاكي لا يعني موته في بلداننا، فالشعر في سوريا ما زال إلى حد ما بخير رغم النكسة التي حصلت لهذا الفن الأدبي العظيم، علمًا بأن شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر، فكل شاب في مرحلة حياته وبخاصة مرحلة المراهقة يكتب شعرًا كون القصيدة في النهاية هي تعبير عن الحياة والإنسان، وبحاجة لأن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويتركه عندما ينضج إذا أراد». ويضيف الناقد شحيّد أنه شخصيًّا بات متأكدًا من أن الحرب التي تمر بها سوريا أنتجت شعرًا جميلًا، «فالشعر يصبح نشيطًا في الأزمات».
لم ينج الشعر السوري بطبيعة الحال مما ألمّ بالوطن برمته من كوارث. وكما انقسم الوطن إلى شظايا انقسم الشعر وشعراؤه إلى شظايا، يقول الشاعر تمام تلاوي المقيم حاليًّا في السعودية ويضيف: «ثمة شعراء وقفوا إلى جانب النظام، وآخرون وقفوا إلى جانب الحراك، وآخرون اختاروا الحياد، وثمة من آثر الصمت. وتبعًا لهذه المواقف جاءت أشعارهم، على أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس لأنه لا موقف له مما يحدث، وإنما لأن الكارثة ألجمت لسانه. ولا ملام عليه، فمن يستطيع النطق أمام كارثة كهذه، سوى أشخاص لديهم قدرات استثنائية على الكلام، فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة».
إننا نحتاج زمنًا حتى نستوعب هول الصدمة، نحتاج زمنًا حتى نستطيع أن ننظر بعين شاعرية إلى هذا الخراب العميم وهذا الموت المجاني وهذا التشرد المليوني عبر الحدود والبحار- يستطرد الشاعر تلاوي الحائز على جائزة الشعراء الشباب في دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008م: «على المستوى الشخصي كان موقفي واضحًا منذ البداية مع التغيير السلمي ولاحقًا ضد السلاح وضد الأسلمة؛ لأنني أعتقد أن الموقف الأخلاقي والثقافي والوطني يجب ألا يكون منحازًا إلا لما يخدم مصلحة الوطن والتغيير نحو الأفضل بالوسائل الوطنية والسلمية التي لا تؤدي إلى مزيد من القتل والخراب، فكتبتُ قصائد عدة تتناول في الأساس البعد الإنساني لما آلت إليه حال الإنسان السوري منذ آذار 2011م، كما كتبتُ عن الموت وعن الهدم وعن التشرد وعن الشرخ الإنساني الذي جاء نتيجة للشرخ على المستوى الوطني».
ثمة شعراء كثر تهجّروا في المنافي، وكانوا في معظمهم مؤيدين للحراك، وكتبوا له وغنوا لشهدائه. ومنهم من التحق بالعمل الإعلامي أو الميداني، وهم شعراء مبدعون ومعروفون على نطاق واسع، بينما ظل معظم الشعراء المحايدين أو المؤيدين داخل سوريا- يضيف صاحب ديوان «تفسير جسمكِ في المعاجم»: ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد وليد المصري، أو استشهدوا بسكين داعش كالشاعر بشير العاني، وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين الذي أفرج عنه النظام مؤخرًا، وثمة شعراء تهجّروا من بيوتهم ومدنهم أو هربوا، وهؤلاء أسماؤهم لا حصر لها. الشعر السوري في رأيي الشخصي حاليًّا يشبه مصاير هؤلاء الشعراء، فهو إما شاعرٌ مقتول أو أسير أو مهجّر أو هارب».
الشِّعر يقود المرحلة
الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف في سنوات الحرب على ملتقى «ثلاثاء شعر» في العاصمة السورية منتجًا عنها أنطولوجيا بعنوان «شعراء تحت القصف» باللغتين العربية والألمانية له رأي أقل تشاؤمًا في هذا السياق؛ إذ يقول: «نحن أمام انعطافة كبيرة على صعيد النص الشعري، سوف تتبلور لاحقًا لكن متى؟ لا أحد يعرف بالضبط! هذا الأمر تؤكده كثير من النصوص المكتوبة من أجيال شعرية مختلفة، فالمسألة لا تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض. هذه الانعطافة لا يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السلاح ومفردات الانفجارات وأصوات الرصاص؛ لأن حضور هذا المعجم أمر طبيعي، ولا يمكن أن يعد انعطافة أو تجديدًا. إنما هناك انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل في آن واحد، فهذه الحرب كانت مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة الفكرية والفلسفية المؤجلة منذ أمد بعيد، وهو ما أدى عمليًّا إلى استيقاظ أسئلة الشكل المتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية، ولنقل: إن هناك علاقة جدلية بين الطرفين؛ بحيث لا خلاف على أسبقية المضمون على الشكل أو بالعكس، فكل واحد منهما يتسبب في إيقاظ الآخر . قريبًا، ستودّع كثير من الكتابات الشعرية معجمها المعروف والمستخدم حاليًّا وأقصد به اللغة العربية بشكلها الحالي، في إشارة إلى تشكّل معجم جديد يفكُّ عقد التحالف الذي نشأ تاريخيًّا بين النص الغيبي الديني والنص السياسي الاستبدادي، وكل ذلك بفضل الحرب التي أعادت أسئلة الانتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إلى الواجهة».
اليوم كما يخبرنا الشاعر قطريب: «سيتولى الشِّعر قيادة المرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية والمخيلة السورية التي رزحت طويلًا تحت الاحتلال العربي، والآن نحن أمام حركة تحرر كبيرة يقودها النص الشعري، وهي تأتي تتمة لما فعله شعراء سوريون عظماء في التاريخ بدءًا من المتنبي والمعري وصولًا إلى السيّاب والملائكة والماغوط وأدونيس»!
جزيرة تنمو وسط المحيط
ويقول الشاعر باسم سليمان الذي أصدر خلال الحرب أكثر من كتاب شعري وروائي كان أهمها «تمامًا قبلة»: «الشعر ليس الهدف منه فنيًّا البتة بل سياسيًّا، فالربيع العربي الذي أراد القطع مع الخطاب الثقافي السائد والمتماهي مع السلطة المثار عليها، ذهب مغتربًا في وصف الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خلال سنوات الصراع المستمرة، فوصفه بأنه جزيرة تنمو في وسط المحيط لها جملها واستعاراتها ومجازاتها الخاصة، وكأن اللغة ولدت الآن لكن المدقق والمتابع بشكل فني من دون التأثر بتجاذبات الجهويات السياسية المتبناة؛ يستطيع أن يرى التأثير الواضح للأسماء الكبيرة في الشعر السوري على هذا الجيل واستنساخ تجربته وتطويرها، وهذا ليس عيبًا فأمير الشعراء وقف وبكى كما فعل ابن حذام وبالتمعّن أكثر، يكتشف كيف تشتغل الآلة الثقافية السياسية في تعويم الأسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو سوق العرض للاستهلاك التطهيري وفق رؤية أرسطو»!؟
ليس ما سبق هو التقليل من المنجز الشعري السوري في سنوات الموت، بل دفاعًا عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة- يعقب الشاعر باسم سليمان مضيفًا: «إن كان من ثورة نقدية مضادة تعيد الشعر السوري إلى ريادته لا بد لها من أن تعترف بأن الشعرية السورية قبل الحرب وخلالها، سواء من ناحية الإيجابيات أو السلبيات- كررت إنتاج ذات المناحي السيئة والترويج لها على أنها الخير الوفير في الشعر السوري الآن، فالقطيعة التي أُمل منها أن تحرِّر الشعر من تجاذبات الجهويات السياسية؛ كي ينتصر لقيم الحق والجمال والخير، أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه».
أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان علي مردفةً: «عناوين كثيرة طُبِعت وتطبع منذ بداية المأساة السورية في الداخل والخارج، ومع إيماني العميق بأن الحرب بفوضاها وموتاها تجعلنا لا نرى، فإن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر، مع كل الغرق، مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد، هذا بلا شك ما تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت إليها السنوات الست الأخيرة في سوريا».
وتضيف سوزان علي: «للحظة تشعر فيها أن الشاعر يرقب ما يجري في الشارع، ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة في جيبه. تأخذ رحى الحرب مفردات الشعر وتطحنها، لتجرّدها من كل ما ألفناه من الشِّعر السوري».
الكارثة حدثت لنا في الموت، ولم يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل- تشرح علي وتضيف: «لأننا في إثرهِ نمشي، نحن لم ننشف بعد، وإن نظرنا خلفنا لن نرى سوى ظلال تتكسر، وكما نضع كفًّا فوق جبهتنا أثناء ظهيرة حادة لنرى بصعوبة، الشعر اليوم يكاد لا يُرى؛ بالمقابل هناك عناوين تمسك خيط الألم من بدايته قبل حتى أن تفتح الكتاب لتقرأ».
كلا إن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة، تقول سوزان علي وتضيف: «إنه يعطي الانطباع بأنه متعب حقًّا كما وصّف الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث) يومًا حال الشعر، فالبلاد متعبة أيضًا، حيث القبور مفتوحة سلفًا، والغبار غدًا سيكون سميكًا فوق الكتب، الوقت يترنح في ظلِّه، والشِّعر ينتظر طارقًا جديدًا يقوده إلى العماء الأول، صافيًا عذبًا كما كان».
شوقي بغدادي: شعراء يتشابهون كأنهم يحبون امرأة واحدة
الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف في شعراء اليوم؛ إذ يقول: «الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، فالشِّعر نابع أولًا وآخرًا من المعاناة الشخصية للكاتب، وهذا ما لا أراه عمومًا عند شعراء اليوم الذين يتشابهون في كتاباتهم وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون من دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد».
الشعر العربي قديمًا كان له مكان الصدارة لكنه اليوم للأسف يجلس في الصفوف الخلفية من المشهد الثقافي السوري -يضيف بغدادي- فكون الشعر نابعًا من إصغاء الشاعر لصوته الداخلي هذا لا يعني أن تخلص قصيدة اليوم إلى نوع من الهوامات، بل يجب تكوين المناخ النفسي والعاطفي على أساس الصدق في القول الشعري، لا من باب التزيين والاحتفاء بالأفكار الكبيرة؛ بل بالتعويل على أهمية الشكل الفني وضرورته في إبداع النص الشعري المتوازن والمؤسس لإشراقات جديدة في القصيدة العربية المعاصرة». الشعر إذًا هو لغة الروح لا لغة العقل، فليس مطلوبًا من الشاعر أن يكون واعظًا أو داعيًا أو خطابيًّا، بل المطلوب منه أن يكون صادقًا وجريئًا في طرح الشكل الفني وترسيخه في نصوصه، وهذا لا يعني كما يرى بغدادي أن «الشعر الحر هو الصيغة الوحيدة للتعبير؛ إنما هناك الشعر العمودي الذي يعد أيقونةَ الشِّعر العربي، لكن من يستطيع الكتابة اليوم كبدويّ الجبل أو سليمان العيسى، فهؤلاء قلائل جدًّا، ولا يتقنون التعبير بأدوات قصيدة العمود التي لم تندثر لكن شعراءها يعدون على أصابع اليد الواحدة».
أسباب انحسار الشعر في مصر
صبحي موسى
القاهرة
حين تدعى إلى أمسية شعرية في القاهرة فإنك تتخيل أن كل الذين يجاهرون بحبهم للشعر سيكونون في انتظارك، لكنك حين تذهب لا تجد جمهورًا غير المشاركين في الأمسية، وبعض هؤلاء يفضل أن يدخن سجائره خارج المكان إلى أن يأتي دوره. من ناحية أخرى، حين تكتمل لديك قصائد ديوان فإنك تبحث عن ناشر يقبل نشره، وإن قبله فلابد أن تتحمل كلفة الطباعة، وحين يطبعه تبدأ مهمتك في الترويج له وتوزيعه على الأصدقاء، وتصبح حفلات توقيع الشعر إن وجدت نوعًا من تبادل المجاملات.
هكذا أصبح واقع الشعر، فلا جمهور ولا جوائز ولا اهتمام إعلامي، ولا شيء سوى صراعات الشعراء بعضهم مع بعض على أيهم الأشعر، أو أي الأنواع الشعرية أكثر حياة من غيرها. فالتقليديون لا يؤمنون بقصيدة النثر، ويكفرون من يكتبها فنيًّا، والنثريون يؤمنون بالشعر العمودي وقصيدة التفعيلة لكنهم يرون أن الريادة الآن للنثر، ومن يكتب سواه فقد أصابته الردة، هكذا يتصارع الشعراء في حارة لا يكاد يراها أحد، والأضواء مسلطة على الرواية والسينما وربما المسرح..
فما الذي حدث لديوان العرب وفنهم الأول؟
يقول أستاذ الأدب العربي في جامعة عين شمس الدكتور محمد عبدالمطلب: إن الشعر الآن أصبح له منافسون لم يشهدهم طوال تاريخه، وإن هؤلاء المنافسين أنتجتهم الحضارة الحديثة من خلال المسلسلات والبرامج التليفزيونية والعروض السينمائية، «منافسين استحوذوا على بعض من تقنيات الشعر الروحية والجمالية؛ لذا فقد انحسر الواقع العام عن تلقي الشعر، لكن ذلك لم يحدث في الواقع الأدبي، يدلنا على ذلك أن الشعراء يتزايدون، ولو قمنا بإحصاء عدد شعراء الحداثة في زمن السبعينيات وشعراء الحداثة الآن لوجدنا العدد أكبر بكثير».
وأوضح عبدالمطلب أن المشكلة في الفهم الخاطئ عن أن الشعر فن شعبي، «وهذا غير صحيح؛ فالشعر منذ ظهر وهو فن الخاصة، وللرسول- صلى الله عليه وسلم – حديث يقول فيه: «إنما الشعر كلام من كلام العرب جزل، تتكلم به في بواديها، وتُسَلّ به الضغائن من بينها»، أي أن الشعر جنس خاص من الكلام وليس كل كلام شعر، والأمر الثاني أنه ليس فنًّا شعبيًّا عامًّا، والأمر الثالث أن له جمالياته الخاصة وله وظائفه الاجتماعية، كما أنه ليس فناً شعبياً كما يتصور الكثيرون حين يقولون بانحسار دور الشعر، وربما كان في مراحل معينة من مراحله أقرب إلى الفن الشعبي؛ من بينها مرحلة جرير والفرزدق، ومرحلة شوقي وناجي، وربما آخر هذه المراحل هي مرحلة نزار قباني، لكن فيما عدا ذلك فالشعر في كل مراحله فن خاص، وهو الآن على ما هو عليه طوال مساره ومراحله التاريخية، فن خاص، لكنه على الرغم من ذلك يظل هو الفن الأكثر قدرة على اختراق جوهر الإنسان». ويلفت إلى أنه في الرواية يمكننا أن نجد تقابلات الحياة، ونجد صراعات الشخوص، وتفصيلات الوقائع، «لكن حين يخترق الكاتب جوهر الشخصية ومكنوناتها الداخلية يتحول إلى شاعر، نجد ذلك عند نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وكل كتاب السرد، ويبدو أن ذلك قديم قدم الشعر ذاته، فلطرفة بن العبد بيت يقول فيه:
«رأيت القوافي يتَّلجن موالجًا
يضيق عنها أن تولجها الإبر».
ويذهب عبدالمطلب إلى أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن الشعر هو فن اللغة العربية الأول، ولا يمكن تذوق إبداعاته وجمالياته من دون الإلمام باللغة العربية، «نحن في زمن تضيع فيه اللغة ضياعًا شبه كامل في مختلف مستويات التعليم، وهذا سبب عدم رواج الشعر، فهناك مدارس وجامعات الآن لغتها الأولى هي اللغات الأجنبية، فكيف ستخرج طلابًا يمكنهم تذوق الشعر أو معرفة جمالياته، نحن مقبلون على مرحلة ينفصل فيها المواطن عن لغته، وهو ما يعني انفصاله عن ثقافته ودينه ووطنه أيضًا؛ فاللغة هي المواطنة».
عصر الشاشة
ويرى الشاعر محمد سليمان أننا نعيش في عصر الشاشة، «وعلينا أن نتذكر بيان الحركة المستقبلية الصادر عام 1916م، الذي حمل عنوان «السينما المستقبلية» وجاء في صدارته: «انتهى عصر الكتاب كمصدر وحيد للمعرفة، وبدأ عصر الشاشة»، وهو ما يعني إزاحة لبعض الفنون، وإنعاشًا لفنون، أخرى كالرواية التي يمكنها أن تتحول إلى فلم سينمائي». ويشير إلى أن السينما هي التي أدخلت نجيب محفوظ إلى النجوع والقرى، وأن كبار الكتاب في العالم العربي راجت أعمالهم؛ بسبب الأفلام والشاشة البيضاء، «ويمكن القول: إن التصوير وأدوات الميديا الجديدة أفادت فنونًا كالمسرح وغيره، لكن الشعر لم يستفد من هذا العصر؛ لأنه من الصعب تحويل قصيدة إلى عمل فني يعرض على المسرح».
ويؤكد سليمان أن الجوائز ليست العامل الحاسم في انحسار الأضواء عن الشعر والشعراء، «لكن الميديا وآلياتها هي التي سحبت السجادة من أسفل أقدام الشعر الذي ظل مهيمنًا طوال النصف الأول من القرن العشرين».
من جانب آخر يذهب أستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة الدكتور سامي سليمان إلى أنه من الصعوبة الحديث عن الشعر على إطلاقه في دوائر التلقي العربية. ويقول: إنه يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط رئيسة وعامة، وهي: الشعر الحر وقصيدة النثر والشعر التقليدي المتطور كالشعر الكلاسيكي والشعر الرومانسي، ثم شعر العامية. ويضيف قائلًا: «في شكل عام نحن نحيا في العقود التالية لمرحلة الحرب العالمية الثانية في عصر السرد وعصر الصورة، وكلا التعبيرين دال على مرحلة حضارية تتقدم فيها أنواع أدبية وفنية كالسينما والمسلسل التليفزيوني والرواية والقصة القصيرة على حساب الشعر. ونلحظ أن نمط الشعر الحر وقصيدة النثر يتلقيان في دوائر محدودة. أما نمط الشعر التقليدي المتطور فيتحرك في دوائر تلقي أكثر اتساعًا، وهي دوائر تسودها أنواع من الجماليات ذات الصلة بالموروث من مسيرة الشعر العربي. ويبقى النمط الأخير ممثلًا في شعر العامية الذي اكتسب -في العقود الأخيرة- مساحات كبيرة من دوائر التلقي العام، على الرغم من أن الحركة النقدية المعاصرة له لم تمنحه ما يستحق من اهتمام».
ويوضح أن هذه الوضعية هي التي تفسر علاقة وسائل الإعلام بأنماط الشعر العربي؛ «فرغم محدودية المساحات المخصصة للشعر في تلك الوسائل فإن شعر العامية والشعر التقليدي المتطور لهما حضور أقوى في مساراتهما من الشعر الحر وقصيدة النثر. ولكن في العقد الأخير أخذت تتاح للشعر إمكانيات جديدة للتلقي عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. وليس ممكنًا التنبؤ بإمكانيات تغير هذه الوضعية في المستقبل القريب؛ لأن أشكال التطور في وسائل الاتصال تؤدي دائمًا إلى تقليص المساحات المتاحة للكلمة التي أخذت الصورة تحل محلها وتتحول إلى بديل عنها».
أزمة كبيرة تعرقل مسيرة الشعر
من جانب آخر يقول الشاعر والمترجم عاطف عبدالمجيد: لا نختلف كثيرًا حين نقول: إن الشعر يمر في اللحظة الراهنة بأزمة كبيرة تتشابك أسبابها معًا للوقوف في طريق الشعر وعرقلة مسيرته، ويتفق بعض الشعراء مع كثير من النقاد، مع عدد من أصحاب دور النشر، في هدم آخر لَبِنات جدار الشعر. ويوضح أن الشعراء باتجاههم إلى نوع من الكتابات التي غالبًا ما تُنفر المتلقي من الشعر، والنقاد بتلميعهم للنماذج الشعرية المتواضعة والرديئة أحيانًا، وأصحاب دور النشر بمساندتهم لكُتَّابِ النثر وتحمسهم للرواية ورفضهم –إلا نادرًا– طباعة دواوين الشعر لأنها –من وجهة نظرهم– لا تباع، كل ذلك يُفاقم من أزمة الشعر.
ويرى أن تأثير الشعر تناقص «بعد أن ظهر من يروجون لمقولة: إن الرواية هي ديوان العرب، وبعد أن تنافست دور النشر في نشر السرد، وظهرت جوائز جرى تخصيصها للرواية والقصة القصيرة. لقد شارك الجميع في الهجوم على الشعر: شعراء، ونقاد، وقراء، وناشرون، ومخصصو جوائز، وهذا ضيق الخناق على الشعر، وجعل الجماهير تبتعد منه ولا تتفاعل معه. الآن يمر الشعر بأزمة حقيقية، غير أن بعض الشعراء لا يزالون يكابرون وهم جالسون في أبراجهم العاجية التي لن يعود للشعر دوره وتأثيره إلا بعد أن يغادروها، ويمتزجوا بجماهير القراء، معبّرين عن أحاسيسهم ومشكلاتهم وقضاياهم».
لا أحد يرحب بشاعر ينتصر للعدالة
ويذهب مدرس الأدب العربي بجامعة أسيوط الدكتور أحمد الصغير إلى أن القصيدة بدأت في التراجع مع التقدم المعرفي، لأسباب متعددة، منها، أولًا: تهميش دور الشعر، فلم تعد المؤسسات السياسية والإعلامية ترحب بوجود الشعر؛ لأن الشعر ينتصر للعدالة والحقيقة والمساواة، رغبة من الشعر في وجود حياة إنسانية مناسبة يجد الإنسان فيها روحه المعذبة. ثانيًا: تشجيع الفنون الأخرى على حساب الشعر مثل فن (الرواية والقصة والمسرح)، وإن كانت الرواية هي التي سحبت البساط من تحت أقدام الشعر ليصبح الشعر كالفارس الوحيد الذي يقف في ميدان المعارك معزولًا ومهمشًا، حزينًا على نفسه لما ألم به من غياب. ثالثًا: سياسة الجوائز العربية التي أصبحت تفرد مساحات واسعة للرواية والقصة على حساب الشعر، فتحول كثير من الشعراء إلى روائيين أو كتاب سيناريو، رغبة في تحقيق مكاسب مادية سريعة أو شهرة واسعة. رابعًا: لم يعد الإعلام يحتفي بدور الشعر المجدد، بل يرتكن إلى استدعاء الشعراء التقليديين الذين ينفذون المطلوب منهم. فجاءت صورة الشاعر في السينما مشوهة ورديئة. وفي النهاية رغم تراجع الشعر المدوي فإنه ما زال يلملم جراحاته في وجدانات الإنسانية من خلال روحه التي تضيء من حين إلى آخر».
وقال الصغير: إنه لن تقوم للشعر قائمة، «إلا إذا تبنت الدولة المصرية أفكار الشعراء، وبدأت وزارة التربية والتعليم في تجديد مناهجها العقيمة التي تقف عند أحمد شوقي فقط، لتطرح نصوصًا جديدة للشاعر الحي الذي يعيش بيننا الآن، وأن يفرد الأساتذة في الجامعة مساحات لتدريس الشعر الجديد أو شعر الحداثة العربية، واستضافة الشعراء الأحياء؛ لأنهم هم وحدهم الأكثر قدرة على إحياء الشعر وممارسة دوره الحقيقي».
الشعر أضحى ضيقًا على التعبير والتواصل
يرى الشاعر علاء خالد (مؤسس مجلة أمكنة) أن تحول الشعراء إلى الرواية «يعود إلى أن مجال الشعر أصبح ضيقًا على التعبير والتواصل مع الناس؛ فالمجال الرمزي بين الشعراء والناس أصبح مقطوعًا، ومن ثم توصيل المعنى لا يتم. والرواية لها مجال رمزي واسع ومشترك مع الناس، لذا ينُتقَل إليها كوسيط له تقاليده، وسهولته فى التواصل والتوصيل».
ويضيف قائلًا: في لحظات الأزمة فى التوصيل كما نعيشها الآن داخل الشعر، وعدم وجود مشترك عام، يجب أن يتحرك طرفا الأزمة، الشاعر والناس، لشق طريق جديد داخل هذا النوع الأدبي وطريقة القراءة. أقصد المهم فى هذه اللحظات ألا ينصرف الشعراء عن الشعر، بل يحاولون أن يطوروه ويكسبوه رمزية أوسع، وهو ما حدث بالفعل في تغير شكل القصيدة واتجاهها نحو القص والسرد والسيناريو. ولكن على الرغم من هذا التحول يحدث الانتقال إلى الرواية؛ لأنه انتقال وتطوير شكلي للقصيدة، وربما كذلك أفقد الشعر شعريته. انتقال مشوه وشكلي، أو بمعنى ما انفتاح شكلي على الأنواع الأخرى. في الوقت نفسه أصبحت الرواية مخزنًا للحس الشعري، الذي امتصته من الشعر، ولهذا أصبح المجال الشعري نشطًا داخل الرواية وليس داخل الشعر».
وأضاف خالد أن الجمهور العريق اختفى منذ نزار قباني ومحمود درويش، الذين كانوا يمثلون «لحظة جماعية على كل المستويات، أو كانوا الضوء الأخير من لحظة جماعية سياسية، كانت لها رموزها المشتركة، وكان الشعر يمثل الحياة فيها حتى لو كان كاذبًا أو مبالغًا فيه، مثل أشعار نزار قباني مثلًا. الآن لحظة «الحقيقة» وكسر نموذجها الإيهامي، الذي له أسباب كثيرة، إذ لم ينتج بعد شعره أو أبطاله القوميين، أو جمهوره، بل أنتج جماعات صغيرة من الجمهور. مصطلح الجمهور تفتت من تلقاء نفسه مع تفتت النمودج الإيهامي».
وخلص إلى أن الجوائز «فكرة سياسية تريد أن تصل لمن له تمثيل اجتماعي واسع، وإلى من يحقق لها الاستمرار والانتشار؛ لذا فإنها تتجنب الشعر الذي يدور في مساحات ضيقة من المجتمع».
الشعر العراقي بين راهنية المشهد وارتهان الحضور
حسن جوان
بغداد
شهد العقدان الأخيران تحوّلات كبيرة في مزاج التلقّي وطبيعة التداول الثقافي للأجناس الأدبية، وربما كانت الهزّات السياسية والاجتماعية والثورة التكنولوجية التي تهيمن على المشهد العام، قد أسقطت الحدود الوهمية ما بين هذا الجنس الأدبي والفنّي أو ذاك، وأسهمت في تبادل أدوار كثيرة ما بين الأجناس النثرية عمومًا؛ إذ لم يكن الشعر العربيّ الذي دخل الألفية الثالثة محمّلًا بأزمات ومخاضات سابقة، ببعيد من احتمال نصيبه من هذه التحوّلات، والانحسار لصالح أنواع صاعدة أكثر فتوّة وأوسع تمثّلًا في بسط مهيمناتها الجمالية والواقعية في مساحة التلقّي.
وإذا كان انحسار المطبوع الشعري قد أصبح حقيقة واقعة يعرفها الناشر ويقرّ بها الشاعر نفسه، فإن تفشّي ظواهر موازية لتداول الشعر في مواقع التواصل الاجتماعي، قد تكون وفّرت رافعات مبتكرة وغير مشروطة لكل من يكتب الشعر بشكل تفاعلي أو يومي. وعلى الرغم من أن مثل هذه الفضاءات المفترضة لا يمكن الاحتكام إليها في تقويم وحضور أي منجز ثقافي أو أدبي في نهاية المطاف، فالمراهنة هنا على الاحتكاك المباشر بين الأنواع الأدبية الأخرى التي أصبحت تتشابك في حقول شتّى من التجربة الإنسانية، بين ما هو حاضر ومعبّر عن اللحظة، وبين ما هو تأمّلي يتّخذ من العزلة والتعقيب لا المشاركة ملاذًا دائمًا. ومع ذلك، بقي الشاعر العربي يؤمن بأنه لا يزال يمسك بصولجانه الموروث، ولا ضير من بروز أزمة وجود هنا أو إشكالية رؤيوية وتقنية هناك، بالمقارنة بين راهنية واقعه وما يواكبه من تجارب عالمية في مكان آخر.
حول هذه الراهنية في الشعر العراقي والعربي عمومًا، وعن جملة الأسئلة والتّحديات التي يواجهها الشعر الآن، وعن الشاعر نفسه الذي يوصف بأنه كان يتيمًا فأصبح أكثر يتمًا في لحظة انحسر فيها قرّاء الشعر وغابت الجوائز المرموقة عنه، لتحضر الرواية ومواقع التواصل الاجتماعي بقوّة… حول هذه الأسئلة والمحاور نستعرض آراء أربعة شعراء عراقيين من أجيال مختلفة وأساليب كتابية عدّة.
تحديات أزلية
يرى الشاعر والباحث العراقي محمد مظلوم أن الأسئلة والتحدّيات التي يواجهها الشاعر تكاد تكون واحدة في كلّ العصور، وأنها «أقربُ إلى الأزليَّةِ منها إلى الآنيَّة، فالأسئلة التي كابدها هوميروس الإغريقي، أو فيرجل الروماني، تقاربُ المطامح الغامضة لامرئ القيس أو المتنبي العربيّين، وهي ذاتها التي قد يصطدم بها أيُّ شاعرٍ حقيقيٍّ في كلِّ عصر ومكان. ما يختلف هو الشرط التاريخي، وخصائص المرحلة. الأسئلة الوجودية الداخلية لا تتغيّر، ما يتغيّر هو المعطيات الخارجية. بهذا المعنى، فإنَّ الأسئلة تأخذ صـيـــــاغـــــــات مــتـــعــــدّدة ومـــخــتــلـفـــة لجوهرٍ واحد».
وبهذا المعنى نفسه، يضيف مظلوم، «أعدت توجيه السؤال وأحلته [إلى] الشاعر نفسه، وليس [عن] الشعر؛ ذلك أننا يجب أن نبحث عن الشجرة، قبل أن نسأل عن غياب الظلال والثمر؛ إذ يبدو لي الشاعر الآن مثل الكائنات المهدّدة بالانقراض، وثمّة مِنَ الأشجار ما انقرَضَتْ فعلًا، أو مُسختْ إلى حجرٍ قاسٍ بلا ثمر أو ظلال، وهذا الحشد غير القابل للإحصاء ممّن يكتبون الشعر حولنا الآن أبطال وشهود على مأزق الشعر: انحسار نموذجه العالي، وشيوع الإسفاف والرداءة؛ لذلك فالمحنة هنا ذاتية مزدوجة قبل كل شيء، طرفها الأول أشرت إليه بتلك اللوثة الأزلية وغموض الأسئلة لدى الشاعر نفسه، وطرفها الثاني النماذج السائدة التي توحي بالقحط بل تُفصح عنه؛ حيث التضحية بالفضاء الإنساني، والكوني، والركون إلى التعبير عن أوهام هويات ضيِّقة، والنزوع إلى مطامح رثة».
وعن تعبير الانقطاع و«اليتم» اللذين انطوت عليهما محاور الظاهرة الشعرية الراهنة، يعترض الشاعر محمد مظلوم على جانب الشفقة الذي توحي به المفردة، فالشاعر بحسب قوله: «ليس مسكينًا إلى هذا الحدّ من التوصيف! فهو من جعل من هذا المصير -وإن بمازوخية مريبةٍ- هويةً جماليةً؛ غربة المعري الباطنية، أو منفى أوفيد، مرض السياب لا يُتمُه الأموميُّ! أو متاهة رامبو، كانت صورًا تقريبية، مجازية ربما، لما تسميه اليتم، وأدعوه: لعنة الانشقاق وهاجس البحث الغامض. أما الشعر فهو المجدُ العربيُّ بلا مواربة، فعمر الرواية العربية وأصول نشأتها، لا تنطبق عليهما صفة المجد، بينما نحن نتحدَّث عن شعر مكتمل عُمره أكثرُ من خمسة عشر قرنًا».
ويرى مظلوم أن مواقع التواصل الاجتماعي جعلت من الشعر على قدر غير مسبوق من الإسفاف، «لا في مستواه فحسب، إنما في طريقة عرضه. فنحن إزاء ما يشبه «سوق الهرج» تتداخل فيه الأصوات، وتتكدَّسُ البضائعُ ويُطرح الشعرُ إلى جانب كلِّ شيء، وأيِّ شيء! هكذا يتحوَّل «التواصل» المفترض إلى انقطاع وغيبوبة حقيقيين عن ذلك السحر القديم للشعر، لصالح انبهار عابر هو سمة العصر. صحيح أن الشعر كان محاصرًا في كلّ عصوره، إلّا أن هذا الانحسار الخطير الذي نراه في حياتنا المعاصرة هو نتيجة طبيعية لنكوص شامل في القيم الروحية والجمالية والثقافية».
ويلفت إلى أن القراءة، والنقد، وطريقة التلقّي، تراجعت كذلك، «وربما كان الشاعرُ غيرَ معنيٍّ بهذه التغيُّرات الطارئة، لكن ما يحيط به من هذه الظواهر أسهم في خلق «لحظة اليتم المفترض». أما «الجوائز» وعلى الرغم من أنها أقرب إلى طقوس اجتماعية وتقاليد صالونات، فهي بدل أن تحتفي بالشعر الحقيقي، كرَّستْ عُزلته».
الراهن الشعري وحكايا المندثر
وعطفًا على محاور الموضوع بإشكالياته المطروحة نحو رؤى شابّة تشكّلت تجاربها في العقد الأخير، يطرح في أولها الشاعر ميثم الحربي فهمًا خاصًّا يلتقي فيه مع الآخرين أو يتفرّد أحيانًا في طريقة قراءته. يقول ميثم: «طالما فهمنا أن مفهوم (الراهن الشعري) يرتبط بالحياة الثقافية، والسياسية، وأطوارها المتحرّكة كما تختزن مفردة الراهن شحنة الزمن، وتبذر لنا في كل مرّة مرحلة المحكّ، ومرحلة الصعب، وحضور الصراع. وعلى هذا الأساس يتغذّى راهن الشعرَيْن العراقي والعربي من بنياته الاجتماعية الحافلة بحكايا المندثر والجديد، والمغايرة، والمشاكسة، والاتهام، ومواجهة سدنة الثوابت. ونكاد نجزم أنّ هواجس التحديث وقيمها نابعة من هذا المأزق أو المآزق المركّبة. لقد هبّت رياح كثيرة وملوّنة على الفنون ومنها فن الشعر، وكانت الإفادة من ذلك تتمحور حول فكرة التخصيب بين الحاجات المحلّية لمجتمعاتنا وبين الرّجّات المَوْجيّة للتثاقف عبر الترجمات من اللغات المختلفة فيما يتعلق بالتأويل الجمالي للعالم».
ويرى بخصوص ثنائية الشعر والقرّاء عدم وجود إشكالية تجاه القارئ المختصّ، «غالبًا ما يُغطي فهمنا لعوامل انحسار القراءة كتلة الجمهور العام. وهذا يمكن أن يحلّ عبر إنشاء برامج فعّالة للترويج. لكننا نصطدم هنا بعقبة دور النشر التي تضع الأرباح في المقدّمة وتتحرّك وفق هذه المعادلة. وبلا شك هناك تأثير واضح لعوالم التواصل الاجتماعي، فالتثاقف عبر «السوشيال ميديا» أبرز غثّه وسمينه على السطح، لكن تبقى التجارب الأصيلة مُفحمة لكل جدال».
أزمة الشاعر والقارئ معًا
وتختم الشاعرة الشابة رشا القاسم بجملة تشخيصات تعرض لها ببساطة حول رؤيتها لطابع الإشكال الشعري من خلال عوامله الداخلية، أو بالمقارنة بالرواية وتسيّد الأخيرة المستمرّ على مساحات كانت تُحتسب للشعر فيما مضى. تصف رشا «ما حدث» بأن أحد أسبابه هو «أن لغة المجتمع تغيّرت عن لغة الشاعر، فصار جمهور الشعراء هم الشعراء من ذات جنسه ولونه، بينما التفت المجتمع إلى أجناس أدبية أخرى ذات لغة وأسلوب سهلين ومفهومين. ما يحدث اليوم هو أن الشاعر الحقيقي يواجه أزمة قرّاء، والقارئ المثقف يواجه أزمة في الشعر».
تضيف القاسم «نعم، أصبح الشعر أكثر يُتمًا، ليس لأن الرواية تحاكي بشكل أدقّ معاناة الواقع العراقي أو العربي فحسب، بل إن شروط كتابة الرواية سابقًا اختلفت عن شروط كتابتها اليوم بدءًا من الأسلوب وصولًا إلى عدد الصفحات. أصبحت كتابة الرواية اليوم أكثر سهولة، وذات عوالم متحرّكة؛ من أحداث وأزمان وأماكن تفصيلية، تنقل الحياة «أي حياة» على الورق. كما أنها لا تتداول الرموز التي يتناولها الشعراء في نصوصهم، وقد يتوافر ذلك في بعض النصوص، لكن ليس كما هو في الرواية».
الزمن العربي شعري بامتياز
من ناحية أخرى، لا يبدو الشاعر هاشم شفيق مرتاحًا لوصف الشعر بالتراجع والانحسار إزاء أجناس أدبية أخرى صاعدة على مستويي الحضور والتداول. فهو يعبّر عن وجهة نظره بطريقة ناقدة؛ إذ يقول: «دائمًا يُثار حول الشِّعر لغط ما؛ مثل أزمة الشعر العربي، وفي حقبة الستينيات برزت مشكلة قصيدة النثر وأثرها في الأصالة والتراث والقدامة في الشعر العربي، لنشهد بعد كل تلك الإرهاصات، ومنذ أكثر من عقد ظاهرة الرواية التي نادى بها بعض النقّاد الذين لم يستطيعوا مجاراة فن النقد وتتبّع الأساليب الشعرية المتطوّرة في سياق الحداثة الشعرية، حتى انبروا يردّدون أنه زمن الرواية التي أصبحت ديوان العرب. إنها تسمية خاطئة، في الزمان الخطأ، والمكان الخطأ؛ الزمن العربي هو شعري بامتياز، والمكان كذلك، نحن أمّة شعرية، ومجبولون على الشعر وعلى قول الشعر حتى في جلساتنا وقعداتنا، وفي مشوارنا الطويل مع الحياة. أما الناقد الذي اتّكأ على هذا التعبير، فهو جهِد ساعيًا إلى تغطية قصوره في فهم النصوص الحديثة، والأجدّ في كتابة القصيدة المعاصرة التي قطعتْ شوطًا كبيرًا، من التحوّلات الفنية والأسلوبية والإستاتيكية في كتابة نسق جديد ومستحدث للقصيدة».
ويمضي هاشم شفيق قائلًا: «لو رجعنا قليلًا إلى الوراء ورأينا حال الشعر وقارنّاه باليوم؛ لوجدنا الشعر في هذه الأزمنة أكثر انتشارًا من السابق. الشعر اليوم بدأ يصعد معراجًا جديدًا مع التقنيات الحديثة والوسائط الجديدة للمجتمع الحديث، فالفيسبوك ساعد على انتشاره رغم تسميته بفن القلّة، كما جاء على لسان الشاعر الإسباني الكبير رامون خمينيث، وتُدُووِل من بعده، ووسّع من مدلوله الشاعر المكسيكي أكتافيو باث. الشعر لن يموت كما يشيع بعض حسّاده الذين توقفوا عند عتبة أسلوبية وتعبيرية وجمالية معيّنة، هو مثل أيِّ فنٍّ آخر، أصابه تطوّر جمالي ملحوظ، وأفاد هذا التطوّر من بقية الفنون الصديقة والمجاورة له، كالموسيقا والرسم والسرود عالية الفن والمُكنة. لقد تطوّر الشعر وشهد ثورات كثيرة، استهدفت الشكل والمحتوى وطرائق التعبير، وجاءت على كل تاريخه لتقدّمه بحُلّة مختلفة».
ويقرّ شفيق بتحول الشعر إلى بضاعة كاسدة، «هذا صحيح؛ لأنه لا يباع مثل الكتب الإيروتيكية التي ينشرونها، أو مثل كتب المذكّرات، أستثني طبعًا الناشر المثقف والاستثنائي، ناهيك عن المستوى الدراسي والتعليمي للشعوب العربية التي تدنَّى مستواها العلمي والأكاديمي لأسباب لا تحصى؛ أبرزها الحروب المجانية التي حصلت في المنطقة، وهدَّدتْ أمنها وعرّضتها للتخلّف والتراجع لحقب طويلة. كل ذلك في اعتقادي أدّى إلى تراجع بيع الكتاب على نحو عام، وجاء هذا الأمر على حساب التعليم ونهوضه، ونشر الفكر التنويري، ذلك الطامح إلى إلغاء الغايات والمطامح الضيقة كلّها، التي تحاول زرع العتمة عوضًا من إنبات النور وانتشاره».
شعراء يمنيون بين تغريبة الحرب وأهوالها
فتحي أبو النصر
صنعاء
ماذا بوسع القصيدة أن تفعل وهي تواجه تفاصيل الحرب المتلاحقة؛ من تشرد وفقدان وخراب وهلع ورجاء ويأس؟! ثم ما الذي يتبقى من الوطن، حين يتحول نصفه إلى قتلى؛ ونصفه الآخر إلى قتلة؟! لقد أثخنت الحرب يوميات الشعراء في اليمن، كباقي الفئات المجتمعية؛ وهي الحرب الدؤوبة التي فاقت المخيلة، كما تنطوي على واقعية سريالية ذات مفارقات صادمة وعجيبة، لم يتحملها العقل، بقدر ما أثخنت العاطفة.
وعلى سبيل المثال، أعرف شاعرًا تشرد كلاجئ في أربع محافظات هو وعائلته.. وآخر طالته ثلاث رصاصات آثمة وسط العاصمة من بلاطجة، والأرجح بسبب آرائه، فيما أجرى ثلاث عمليات في ثلاث دول.. وآخر قطعت الميليشيات راتبه ومصدر دخله الوحيد، فقرر ترك المدينة والعودة إلى قريته علّه ينجو.. وآخر وقعت قذيفة عشوائية على منزله وما زال يسكن فيه متصالحًا مع كل هذا العبث.. وآخر غادر اليمن لمدة وجيزة كما قال، ولم يستطع العودة منذ عام ونصف؛ لأن الحرب دمرت منزله وتشردت عائلته وهو بعيد لا يملك قيمة تذكرة العودة.. وآخر قُتل شقيقه في انفجار انتحاري؛ لأنه كان موجودًا في مكان الحادث بالصدفة، وحتى اللحظة لا يزال ممسوسًا لشدة وقع الحادث على ذهنه.. وآخر زادت حالته النفسية سوءًا؛ لأنه يخضع لعلاج عصبي لا يتاح بسهولة من جراء الحرب.. وآخر انضم للمقاومة.. وآخر انضم للحوثيين.. وآخر فقد مصدر رزقه؛ لأنه يعمل في صحيفة قرر الانقلابيون إغلاقها.. وآخر صار يبيع منتجات غذائية مهرّبة على أحد الأرصفة ليسدّ رمقه.
وهكذا.. على نحو فجائي وصلت اليمن إلى مصاف اللحظتين العراقية والسورية الأكثر مرارة عربيًّا، فيما تملشن وتعسكر كل شيء حول اليمنيين على نحو طائفي ومناطقي بغيض.
ثم ها نحن في خضم اللحظة المارقة التي صارت مملوءة بالحقد والهوس والخيبات واللاتسامح واللاعقلانية. والحال أن معظم الخطابات في ظل التجاذبات السياسية والعنفية الحادة، لا تهمها فكرة الوطن والمواطنة للأسف، ما بالكم بالإبداع والتجريب. كما أن اللغة من الطبيعي أن تأتي هشة وخاوية إلا ما ندر.
السخط هوية للشاعر
فحيث تدور المعارك منذ نحو عامين في كل الجهات؛ صارت العزلة أحيانًا -وغالبًا السخط- هوية الشاعر اليمني الحديث، إضافة إلى المثقف الذي يحترم ذاته والأكثر حساسية، كأقل احتجاج ضد ما يجري.
ووسط هذه التغريبة وأهوالها المزدوجة، يعيش الشاعر اليمني خاصة والمثقف عامة.. في خضم الصراعات المعقدة القائمة اليوم، يحاول المثقف الموضوعي جاهدًا الانحياز إلى ما يمثل جامعًا وطنيًّا، والتموضع داخل حلم المدنية والعدالة والقانون.
الحاصل أنها الهزة الأشد عنفًا في المجتمع اليمني التائق للتغيير. كما طالت اللغة ومحمولاتها. لذلك فإن التفاؤل تقابله امتيازات التشاؤم بما تحمله هذه الامتيازات من إدانة مثلى للواقع. لكن هل ستكون النهاية كما تخيلها الشاعر أحمد العرامي مثلًا:
«آخر رصاصةٍ في حوزةِ الحرب
ستقف حائرةً بين قاتلين،
هكذا يمكن للكلاب المشردة
شنق حزن الأمهات في الهواء»!
أما ونحن في صميم الحرب، فيمكننا أن نجد خلاصة اللاشيء أيضًا بمحاذاة كل الأشياء، تمامًا كما في قصيدة «هدنة» لجلال الأحمدي:
«هذه الليلة
يمكن للدموع
أن تصطاد فرائسها بسلام
يمكن لأغنية معطوبة
أن تدور وحدها بالشوارع
دون أن يعتقلها حاجز
أو أن تلاحقها الكلاب
والعتمة على غير العادة
تفتح حصانًا للنسيان
وآخر للقبلة
كل الأشياء تبدو بليدة
وغامضة
لا منتصر
ولا مهزوم
حتى إن البنادق مع قتلاها
تنام
جنبًا إلى جنب
بعد أن توقفت
عن السعال»
غير أن الأحمدي يبدو مكللًا أكثر بالتهكم واللوعة معًا، كما في نص آخر:
«تمنّيتُ لو أكتب لكِ عن الحرب
لكن كيف أكتب صوت الرصاصة!
حشرتُ لك جثثًا كثيرةً
لكنّكِ لا تقرئين!
تريدين أن تعرفي كيف تبدو رائحة الجنود
افتحي حقائبكِ
إنها تشبه التّعب والذكريات الجريحة».
على حين أن الشاعر أوراس الإرياني ما زال يصرخ ببوهيميته الحنونة وصرامته الساخرة:
«بينما كنت أجهز قلبي للحب أضعت رأسي.
بعد كل قصيدة كتبتها إليك أعد أصابعي.
عندما وضعت أذني في قلب المطر
سمعته يتحدث عن الحرية ويئنّ».
يبقى «الشهداء أقل ضحايانا، نحن الضحية ﻻ الراحلون» كما يقول الشاعر فارس العليي، ويضيف :«ربما ذهبت القصائد أحيانًا لأداء لعبة الغموض عندما تنحذف من شعرية الإحساس الدائم بأنك شاعر ومكون لموقف ينحاز دائمًا للخفة، ﻻ أدري كيف أشعر الآن على نحو مخاتل يحفز إيقاع سلوك عامل بلدية أو فلاح مهمل للأرض ويشعر بلا جدوى الاستمرار في الاعتناء بها».
شعور بلا جدوى الشعر
ويتابع العليي: «إنه شعور يلخص اعتقاد إمكانية أي شعرية داخلية، شعور عابث مغمور بالضياع وشعور بالقلق واللاجدوى من الشعر وأن ﻻ وظيفة يمكن أن يرتبها في الوجود الإنساني، سوى المواقف غير المكتملة لجمل وعبارات تتنافر في الجمال بما لا يفضي بدلالة تقول على وجه التحديد شيئية، وطالما تستمد الحداثة الشعرية بصورتها الحالية هذه الفوضى والعشوائية والتسارع المحموم للنقائض حد تلاشي الإشارات وتوهجاتها الفجائي، فإن الصورة المنعكسة من الاضطرابات العملية لتقدم العالم نقوم نحن الشعراء بتكريسها في النصوص بصورة تعقيدية تنال مما تبقى من هوامش بالإمكان الإمساك عندها برأي يأخذ مكانه في العالم».
لكنه يستدرك: «لست ضد هذا إنما أشعر بالامتعاض من التأويل والأسلوبية وإصرار التفكيكية على تشتت الوجود، والتلقي المقرفص ونحن هناك في السريالية غائطين حينًا وجافين دون قطرة واقعية لتبليل ريق فجائعنا من تخوم لا معقولة وتفوق التصور والاحتمال».
ومن ناحيتها تتأسف الشاعرة والروائية نبيلة الزبير، على تحول أصدقائها إلى أطراف وخصوم، «لكن الأكثر إيلامًا أن يكون في أصدقائك من هم أطراف وخصوم بالمؤازرة… أنا لا خصم لي سوى من يباعد بيني وبين وطني… وطني يتسع لهم جميعًا، ووطنهم يضيق بي!». وتضيف: «لكثرة أعداد القتلى والموتى التي تشهدها أيامنا هذه تعذر علي القيام بواجب العزاء أولًا بأول. فليعذرني المحزونون وليتقبلوا حزني. كذلك؛ لكثرة جرائم الحرب وسرعة تواليها بات يتعذر إدانتها أولًا بأول».
أما الشاعر محمد اللوزي فهو يؤكد لفوضى ذاته الرائعة:
«لم تكن شاعرًا
بقدر ما كنت أعمى
تتحسس ما تراه من كرنفالات
بيدين معزولة عن العالم
ولا تفقه مما لمسته شيئًا.
بالغت فيما ترى
حتى إنك رأيت الشيء قبل أوانه
ورأيت فيه ضده
تفحصته بيديك وهلة أخرى
ورميت في البئر أصابعك.
لم تكن غرابًا
أو زئيرًا يطارد غزالة
وكنت بمعزل عنك
ناهيك عن أنك تحسب الجميع أعداء
بما فيهم لثغة الراء حين تنطقك».
الشعر في الأردن: مسارات ورؤى ومشارب
جعفر العقيلي
عمان
المتأمّل في المشهد الشعري العربي في شكل يجده واحدًا في واقعهِ، وفي التحديات التي يواجهها، وفي الأسئلة الأكثر إلحاحًا المطروحة على الشاعر، وكذلك في المأزق الكبير الذي يعيشه الشعر العربي اليوم. لكن الأمر لا يخلو من فروقات وتباينات في التفصيلات بين بلدٍ وآخر، تبعًا لطبيعة التجربة في كل بلد، وامتداداتها التاريخية والمعاصرة، والسياق العام الذي يتحرك الشعراء –وبقية المبدعين- في إطاره، وبخاصة في ظل التحولات الكبرى التي شهدتها السنوات الأخيرة، على الصعد كافة.
وفيما يتعلق بخصوصية التجربة الأردنية، شهد العقد الأوّل من الألفية الثالثة فورةً شعرية نوعية في الأردن ببروز ثلّةٍ من الشعراء الشباب من الجنسين أكثرهم من طلبة الجامعات، غير أن تلك الفورة أخذت تخفت بحسب الشاعر والناقد والأكاديمي خالد الجبر، في ظل «التغيّرات الهائلة في الحياة الاجتماعية، وتراجع الاهتمام بقطاع الشباب، وانحسار الاهتمام المجتمعيّ بالشعر نتيجةً لتركيز النقّاد والمؤسّسات الثقافية على الرّواية، وذبول الوجدان الجمعيّ حيال القضايا الكبرى».
ومع ذلك، فإنّ عددًا من كتّاب الشعر تمكّن من تحقيق منزلةٍ واضحةٍ في العالم العربيّ؛ ومنهم بحسب الجبر: نبيلة الخطيب، ومها العتوم، وراشد عيسى، وناصر شبانة، وسعيد يعقوب، وعماد نصّار، ومحمد مقدادي. ويرى الجبر أن شعراء القصيدة الكلاسيكية وشعراء التفعيلة تمكّنوا من تجاوز العقبات التي فرضتها «مصادرات الوسط الثقافيّ المنحاز إلى قصيدة النثر منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ممتدّين بالقصيدة تشكيلًا وبنيةً وصورةً ولغةً إلى آفاقٍ بدتْ ذات حينٍ في العصيّ البعيد. وهو ما يجعله يؤكد أن بإمكاننا النظر اليوم إلى التنوّع البادي في الحالة الشعرية في الأردنّ بكثيرٍ من التفاؤل، مطمئنّين إلى استعادة الشعر مكانته اللائقة في الحياة الأدبية على مستوى الأمّة».
أما الشاعرة نبيلة الخطيب، فتقول: إن «حديث الواقع يختلف عن حديث التاريخ، وإن كانت العلاقة بينهما جذرًا وساقًا، أو ساقًا وفرعًا، أو فرعًا وثمرًا». وتضيف أن هذا يصْدُقُ على الأردن؛ «ذلك أن هذا البلد مرّ بخطّ لا عوج فيه، ولا مفارقات كبيرة، بحكم «دكتاتورية» موقعه الجغرافي الذي فرض عليه نمطًا متشابهًا من الأحداث والمواقف، فإذا نظرنا إلى مصطفى وهبي التل (عرار) نراه امتدادًا لشعراء النهضة في ديار الشام في وجه الاستعمار، حتى شكّل مدرسة ما زالت مؤثِّرة في الواقع الحديث، وإن دخل على الشعر بعض الاستحداث الفني».
ولأن الــشعــــر الأردنـــــــي هو ابنُ واقعه بالضرورة، كما تؤكد الخطيب، فإنه لا يستطيع أن ينسلخ من لحم عروبته وفلسطينه وقدسه وأقصاه، «فكانت هذه الجمرة المتقدة التي قبض عليها الشاعر الأردني، وبخاصة بعد هزيمة 1967م، فعاش الهمّ القومي والإقليمي والوطني مشبعًا بمضامين الوحدة والتحرر والتحرير، وعذابات الأخ الشقيق، حتى وصل اليوم إلى مآسي الإخوة الأشقاء». والخطيب تردّ عدم اهتمام الناس بالشعر في زمننا إلى عاملين: «أولوية المعيشة، والبحث عن مستوى من الكرامة مفقود، وعدم وصول الشاعر إلى مستوى تطلعات وحاجيات الفرد العادي ولا حتى المثقف، فكانت المسافة بين الشاعر والناس بائنة، بل هي تزداد بينونة! هذا هو المأزق الحقيقي الذي يواجه الشعر ويجعله ينحسر حتى يكاد يغلق على نفسه الأبواب، رغبًا ورهبًا؛ إذ لا ينفصل واقع الشعر العربي اليوم عن الواقع المتشظي».
مئات الشعراء وآلاف الأدعياء
أما الشاعر والناقد والأكاديمي ناصر شبانة فلا يتردّد في القول: إن الساحة الأدبية في الأردن «تغصُّ الآن بعشرات الشعراء ومئات الأدعياء، الذين يطلق عليهم «شعراء الفجأة» ويظهرون كالفطر على المواقع الإلكترونية، كما تمتلئُ الساحة بالمجاميعِ الشعرية، وتشهد إقامة الأمسيات والفعاليات سنويًّا، لكن النقد يبدو غائبًا أو شبه غائبٍ عن الساحة، فـبات أبطال العلاقاتِ العامّة والصفحاتِ الإلكترونيةِ، يتسيّدون المشهد، وانزوى الشعراءُ الحقيقيون المنشغلون بمشاريعِهم الشعريةِ الحقيقية إلى الظلِّ ترفُّعًا ونشدانًا للسلام، في حالةٍ غرائبية لا نعرفُ كيف ولا متى ستنتهي».
ويعود شبانة إلى الوراء ليبين أن عنوان المرحلة هو «عقود متتالية من الشعر والهزائم»، فلو عدنا بذاكرتنا خمسين عامًا إلى الوراء، وتأملنا المشهد الشعري في الأردن، لوجدناه بكائيًّا بامتياز، يقفُ على أطلالِ الأمجادِ الغابرة، يتأملُ اللحظةَ الراهنة، يعقدُ مقارناتِه المكرورة، ويـــــــعــــــيـــــدُ تقيــــــيمَ رهـــــــانتِــــه الخاسرة، كلما ارتفعَ مــــــنـــــســـــــوبُ الأملِ لــــديـــــــه حاصرتْـــــــه الخيـــــبـــةُ مـــع كـــلِّ هزيمةٍ جديدة». ويستنتج شبانة من ذلك أن قدرَ الشعرِ في الأردن «أنْ يظلَّ سياسيًّا بامتياز، وأنْ يظلَّ يرنو بعيونِه إلى غربِ النهر، حيث البوصلة؛ ليعيدَ إنتاجَ الواقع، بقليلٍ من اليقين، وكثيرٍ من الألم». ويربط شبانة بين سقوطِ ما تبقّى من فلسطينَ في أيدي عصاباتِ اليهود، وسقوطِ الجولانِ وسيناء، وبين عجز العربِ –ومنهم الأردنيون- عن التحرُّر سوى على مستوى القصيدةِ والشعر، «فراح الشعراءُ يوسِّعون جنباتِ القصيدة، ويغيِّرون شكلَها، ويتخلَّصون من قوافيها، وأنظمتِها القديمة، في ردةِ فعلٍ غيرِ واعيةٍ على هزائمِ السياسيين والعسكريين على السواء». ويلفت إلى أن الشعر الأردنيّ صوّر انكساراتِ الشاعرِ الذاتية والجمعية، فقد «نشأ الشاعرُ العربيُّ على الخيبة والانكسار والهزيمة، وما كان بقادرٍ على تزييف وعيه، أو الخروج من عباءة الواقع، حتى غدا تيسير سبول بوضْع حدٍّ لحياتِه نموذجًا لحالةِ الرفضِ والهزيمةِ التي يعيشُها الشاعر».
وتمثل حقبة الثمانينياتِ أغنى الحقبِ الشعرية في الأردن؛ لأنّها شهدتْ ولادةَ جيلٍ شعريٍّ متعلمٍ ومثقّفٍ من جهة، وبات لديه وعي سياسيٌّ وحصانة ضدّ أنواع الوهم التي سقط فيها الشعراء السابقون، فلم يعد ينخدعُ بالأملِ الكاذب، وبات أقربَ إلى فهم الواقعِ على سوداويَّته وكآبته، ومن هؤلاء مثلًا: زهير أبو شايب، وعبدالله رضوان، وطاهر رياض، ويوسف عبدالعزيز، وحبيب الزيودي، وعمر شبانة، وجريس سماوي، وراشد عيسى، وأحمد الخطيب، وعمر أبو الهيجاء، ومحمد سلام جميعان.
وفي التسعينيات بزغ نجمُ جيلٍ جديدٍ من الشعراءِ الشبابِ أُطلق عليهم «شعراء التسعينيات» مالوا إلى تشكيلِ جماعاتٍ أدبية تحملُ طابعًا شلليًّا؛ كجماعة النوارس، وجماعة «سين» الأدبية وغيرهما، كما جنحوا في طابعٍ لافتٍ إلى «الصعلكة والتسكُّع»، فكان لهذا أثرٌ في شعرِهم الذي مال إلى الحزن والعبثية واللوذِ بالمرأة، والشكوى والتذمر.
أفخاخ الثنائيات
ووفقًا لما يراه الشاعر والأكاديمي خلدون إمنيعِم، فإنّ ثمة مسارات ورؤى ومشارب متنوعة تحكم ذهنية منتج النص الشعري، لم تنجُ من «أفخاخ الثنائيات» التي حكمت الشعر العربي الحديث، بين مسرب التقليد والاتباع مثلما هو في نصوص زهير أبو شايب ومحمد سمحان وحيدر محمود – مع اختلاف الرؤى- وغيرهم من جهة، والتجريب والإبداع مثلما هو في نصوص زياد العناني ومحمد العامري وراشد عيسى من جهة أخرى. غير أن ما رسخه منتج النص الشعري في الأردن دار في «فلك الاتباعية»، فنأى الشعرُ كما يقول إمنيعِم، عن كونه نصًّا إبداعيًّا تجاوزيًّا في الرؤى، «وإن كانت مشاربه متنوعة بين التقاليد الموروثة وفق معجميات الأمكنة والأزمنة للنص المنتَج على مقاس السلطة الأدبية والنقدية، وتوجيه الذائقة القرائية الملهمة والمثقّفة لتطور تقاليد القصيدة الغربية». ويتوقف إمنيعِم عند تجارب انماز أصحابُها في تقديم مشاريع متفردة، «مخضعةً الموروثَ لسلطة التساؤل والتجاوز والمغايرة»؛ لتكون بعض المجموعات الشعرية مشاريع رؤيوية لأصحابها، من مثل «شمس قليلة» لزياد العناني، و«ممحاة العطر» لمحمد العامري، و«ما أقل حبيبتي» لراشد عيسى.
وهو يرى أن الشعر في الأردن استطاع أن يحظى بمكانة لائقة -على قلّة جمهوره- ذلك أن الرواية تحديدًا «تحتل المساحة الأوفر حضورًا ومقروئية»، إضافة إلى دور الحراك المسرحي في تراجع حالة التلقي الشعري، خلافًا لما كان عليه الأمر في عقود سابقة، غير أن الشعر ما زال يشكل مرجعية الذائقة الأدبية، وثمة جمهور للشعر «قادر على تمييز ما يُطرح بعيدًا من شكلانية التواصل وأدواته».
وبشأن الأسئلة والتساؤلات الـــجـــــــذريــــــة الـمـلـقــــاة عـلـــــــى عــــــــاتـــــق الشـــاعر، التي يَجْهَد ويُجْهَد في تقصّيها وتتبّعها، فمن أبرزها بحـــــــســــــــــب إمنيعِم، مـا يتعلـــــــق بالراهن الثقافيّ والشعريّ العربيّ ومآلاته، وانعكاسات «الربيع العـــربــــي» الدمــــوي عــلـــــى الإنســـان والأرض من جهـــة، وأسئلة الحرية والهوية والذات والكينونة من جهـــــة أخرى، غيـــــر أن أكثر هذه الأسئلة إلحـــــاحًــــا -مــــــــــا يـــشكـــل حالــــــــةً تعــــالقية- سؤال المدنية والمواطنة، ومحاولات تأسيس جذر ديمقراطي ناهض يطمح إلى النجوز من خلال حوارات فكرية رصينة مع الموروث العربي وراهنه من تحديات معاصرة من دون إغفال حالة الاشتباك مع الثقافات الوافدة. ويؤكد إمنيعِم أن تبوّؤ الشعر في الأردن مكانة لائقة لا ينفي كونه عالقًا في مآزق تتعلق ببنية النص وآليات تشكيله وتشكّله؛ لهيمنة التقليد وافتقاد الخبرة الشعرية لدى الأجيال الشعرية المتأخرة، إضافة إلى افتقار كثير من المجموعات الشعرية الصادرة حديثًا للمحمولات الثقافية والفكرية والفلسفية؛ إذ «يتوهم كثيرون أن النص الشعري رهن المفردة والصورة المبتورتين عن سياقاتهما، لتقرأ نصًّا يفتقد لأدنى مقومات شعريته».
وتقول الشاعرة الشابة رنا أبو خالد: إن الأردن خرّج جيلًا من الشعراء المميزين، «ما زلنا نذكرهم حتى يومنا هذا، وتربّينا على قصائدهم ودرسناها في المناهج؛ أمثال الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار). أما الآن، فيعيش الشعر واقعًا وتحديات صعبة، فعلى الرغم من بروز كثير من الشعراء الشباب الذين يمتازون بروحهم الثقافية العالية، وسلاسة اللغة وجمالية المعنى، فإن هناك كثيرًا من التحديات التي تقف عائقًا في طريقهم، وأهمها غياب الفعاليات الثقافية، وعدم تشجيعهم أو الاهتمام بهم؛ بسبب قلة الموارد المالية المخصصة لدعم الساحة الثقافية».
وتلخّص أبو خالد الأسئلة التي تواجه الشاعر الأردني بقولها: إنها «تنبع من منطلقات قصائده، وأهم المحاور التي تتحدث عنها، وطبيعة ونوعية الكتب التي يفضّلها، والشعراء الذين يتأثر بهم». وتقرّ أن غياب الاهتمام قاد بعض الشعراء إلى اتباع طرق «تحقق لهم انتشارًا أوسع وتمكّنهم من إيصال كتاباتهم بطرق حديثة؛ إذ أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ملاذًا لهم، لتفيض أقلامهم بمواهب مدفونة نتعرف عليها من خلال شاشة صغيرة».
إصرار على تبخيس الشعر وتحطيمه
أوضح الشاعرُ موسى حوامدة أن الشعر في الأردن «لا يمكن عزله عن محيطه العربي»، وأن حاله في الأردن كحاله في بقية أقطار الوطن العربي، فـ«ما زالت الثقافة العربية رغم محاولات التفتيت والتقسيم والتجزئة متماسكة جدًّا، وما زالت كذلك تعاني الأمراض والمشاكل نفسها».
ويضيف حوامدة أن هناك تجارب متعددة وأصواتًا متفاوتة، «سواء في قصيدة النثر أو التفعيلة أو العمودي، وحتى في الشعر النبطي، وبالرغم من ذلك تتكاتف الظروف والسياسات؛ لـقتل الشعر أو وأده ووضعه في مخزن اللامبالاة، حتى إن النقاد لا يتورعون عن تكرار مقولة جابر عصفور: «هذا زمن الرواية»، فتشعر كأن هناك «سياسة عربية» لمسح الشعر من الاهتمام، محاصِرةً القصيدة لتحويلها إلى نثر وسرد، والتخلّي حتى عن ضرورة الشعر وأهميته وقيمته التي لا ترتقي لها بقية الفنون».
ونتيجة لذلك، بحسب حوامدة، بدأ عدد كبير من الشعراء «يستجيبون للضغوط، فيكتبون السرد، وصار عدد من النقاد يتنصلون من مهام النقد، ويقولون: إنهم «نقاد رواية فقط»، وباتت دور النشر لا تطبع الشعر، حتى القراء صاروا يعزفون عنه لذرائع مختلفة، فصار الشاعر أشبه بـ«اليتيم على موائد اللئام»، ومَن يكتب الشعر اليوم كمن يحب بلا أمل»! ويعتقد حوامدة أن هناك إصرارًا على «تبخيس الشعر وتحطيمه، وإقامة مسابقات تافهة تجعل الشاعر يلهث خلف جوائز وبرامج تهين الشعر أكثر مما تخدمه. وعلى الرغم من ذلك ما زلنا نكتب كأننا غرقى، نتشبث بالحياة ولا نريد موت القصيدة».
راهِن الشعر في الخليج العربي
جعفر حسن
ناقد بحريني
قبل أن ندخل في النظر إلى راهن الشعر العربي في الخليج، تُرى هل لنا أن نعرج على تساؤل يعبر عن ظاهرة ربما تشمل المشهديات الأدبية في دول الخليج من دون استثناء، وذلك من خلال ما نشهده من تحول بعض الشعراء إلى كتابة نصوص سردية من القصة القصيرة إلى الرواية، ولعل بعض المتابعين يمكن له أن يشاركنا التوجس من تضاؤل دور الشاعر واختزاله في الشاعر النجم، الذي يهيمن حضوره على معظم الاحتفاليات داخل وخارج هذه الدول، ومن ثم بقاء الشعراء في الهامش المتاح.
ولعل من الصعوبات التي تواجه الشاعر في الصحافة الثقافية مثلًا، عدم تخصيص نقاد للنظر إلى النصوص، والاكتفاء بنشر نقد انطباعي، إضافة إلى تلك المشكلات التي تطرأ من ناحية صعوبة طباعة دواوين الشعر؛ فالناشرون عادة ما يفضلون الرواية؛ ذلك لأن لها قابلية للتسلع، فعلى الرغم من كل الضغوط التي تمارس على الشعر فإنه يظل يأبى التحول إلى سلعة، عبر انتشار ما بات يعرف بظاهرة الشعرية الطارئة في الدعاية والإعلام. فهل نحن أمام ظاهرة يمكن ان تهمش الشعر والشعراء؟
الشعرية العربية في الخليج
إن أكثر المقاربات للشعر في الخليج في شكل عام تتعلق باللغة من جهة، وتلك الأشكال التي تظهر فيها الشعرية العربية في الخليج من جهة أخرى. فمن حيث اللغة نجد الشعرية تعاني الانقسام نفسه بين العامية والفصحى، ولعل كثيرًا من النقاد يبعدون العامية من النقد الأدبي، ويمكن تلمس أهميتها في ظهورها من خلال الأشكال الفنية المتعددة، ومنها الشعر تراثًا ومعاصرة، فمعظم أغانينا تكتب بالعاميات السائدة، ولعل التعدد الكامن في اللهجات العامية ميزة خاصة كانت قديمًا مقصورة على القبائل العربية… ويتمظهر الشعر الفصيح في ثلاثة أشكال، وتخضع إلى ذلك التمايز بين الشكل والمضمون، فيغلب المضمونُ الشكلَ في معظم قصائد العمود سوى حالات يمكن لمسها؛ لأن فيها ما يفرضه الإيقاع على ليّ الكلمات؛ لتناسب بنيته، وهو ما ورثته الشعرية العربية من الأصول الغابرة للشعر العربي، وبذلك يظل العمود في معظمه مربوطًا بخيط الأغراض الشعرية. وأقل القليل منه ما حاول الإفلات من محاكاة القديم من ناحية بناء الجملة الشعرية والصور والتشبيهات، والخروج إلى تقنيات جديدة.
وتظهر لنا قصيدة التفعيلة بشكل جليّ في اندفاعة الشعر العربي نحو تفجير بنية العمود، وتلقف مكوناته التي استُخدم بعضها بطريقة تكرار تفعيلة واحدة وعدم الالتزام بالتشطير العمودي، ثم اندفع شعراء التفعيلة إلى تلك الحال التي قامت باستخدام التفاعيل ضمن قوانين الانتقال من تفعيلة إلى أخرى.
ويبدو أن شعر التفعيلة لقي مقاومة في كل البلاد العربية، وقاومه المؤيدون لعمود الشعر في وجه الهبة الجديدة التي كانت بداياتها مع نهاية الستينيات في الخليج العربي، وهي لحظة لاحقة بانبثاق قصيدة التفعيلة في الدول العربية، وقد لا يعتدّ كثيرًا بالآباء المؤسسين لها؛ مثل: (السياب ونازك… وغيرهما) على الرغم من تقديمهم للنماذج الأولى التي صارت تحتذى، وكثيرًا ما اتهمت قصيدة التفعيلة في الخليج كما في الوطن العربي عامة بالغموض، وقد دارت معارك واسعة في هذا الجانب، وأُهدر فيه حبر كثير. ولعل بعضًا اعتقد بنوع من الرابطة المقدسة بين قداسة لغة القرآن (العربية) وبين قصيدة العمود، وكما يبدو للجميع فبعض قصائد العمود كانت غير مقدسة، بل بعضها كان يعبر عن نزق أرعن في وقته، وقد اتهم شعراء قصيدة التفعيلة بالعجز عن كتابة قصيدة العمود وهو ما لم يكن في أغلبه صحيحًا حتى لدينا في الخليج.
وقصيدة التفعيلة عندنا ما زالت تسمى في بعض المناهج بالقصيدة الحديثة، وهي تسمية خاطئة ما زلنا نقع عليها في بعض الكتابات النقدية. ويمكن بشيء من التفطن إدراك أن قصيدة التفعيلة قد ورثت عن العمود مكونًا جوهريًّا من مكوناته هو القافية، وقد وجد بعض النقاد لدينا أنها تعمل على إقفال قصيدة التفعيلة وعودة بعض منتجها للعمود بحكم تلك القافية التي تقفل الصورة التي تنمو داخل قصيدة التفعيلة وتحدها. ولعل كثيرًا ممن كتب التفعيلة كان بشكل ما يكتب العمود ولو بشكل تجريبي. وقد خلط الشعراء في الخليج بين الشكلين في إنتاجهم للدواوين (العمودي والتفعيلة) حتى إنهم أدخلوا العامية في إنتاج قصيدة التفعيلة. وليس عودة بعض المساهمين في كتابة قصيدة التفعيلة إلى العمود كما فعلت (نازك) وغيرها من النماذج عندنا في الخليج إلا دليل كما يرى بعض النقاد على تلك الدائرية الحاكمة للشعرية العربية كما تظهر في قانونها العامّ «القافية»، التي ظلت تشتغل داخل قصيدة التفعيلة؛ لتحيلها إلى العمود من دون تفطن بعض كتابها لخطورة ذلك القانون على القصيدة.
في اتساع الأفق
كثيرًا ما يعتقد بعض المتابعين أن التفعيلة كانت هي الناتج الوحيد من تفتت عمود الشعر، ولعله يغفل قصيدة النثر التي نشأت إلى جوارها بشكل يكاد يكون محايثًا في الخليج كنماذج مبكرة، ولعلنا نجد تيارًا من الشعراء يتبنى قصيدة النثر ويكتب فيها، بينما جرب بعض كبار الشعراء في الخليج كتابتها. وقد خص بعض الأدباء قصيدة النثر بديوان بأكمله. وواجهت قصيدة النثر ما واجهته قصيدة التفعيلة من صراعات عندنا، وقد وُجِّه لها كثير من النقد، وعاب بعض المتخصصين قصيدة النثر لأنها بلا نموذج ترجع إليه، وتبدو مسألة النموذج ما زالت تحت البحث والتقليب، فيقول أنصار قصيدة النثر بأنهم يكتبون نماذجهم التي تفرضها عليهم حساسيتهم، كما أنهم يقفون أيضًا ضد النموذج المعمم.
وتبدو قصيدة النثر أنها أخذت مجالًا لا بأس به من خطوط الإنتاج في الخليج العربي، وإن لم تثر مسألة الأسبقية فيها بعد بحثًا وتمحيصًا، وهي نزعة فكرية عندنا في البحث عن أصول للنصوص الجديدة وكأنها محاولة لتأصيلها. ويبدو ما هو متأصل في الثقافة اليوم سيغدو بحكم الزمن جزءًا أصيلًا منها. ووجدنا بعض الشعراء يكتبون قصيدة النثر منذ بداياتهم التي كانت متساوقة مع انبثاق قصيدة التفعيلة، ومن المهم الإشارة إلى أن كل تلك الأشكال التي انبثقت في فن الشعر قد أظهرت نقادها في العربية بشكل سريع. من ناحية، يبدو لي أن هناك ميلًا دائمًا للتجديد عند شعرائنا في الخليج العربي؛ ما يجعلنا دائمًا ننتظر الجديد. ونعتقد بأن من لا يرى الجديد وهو ينبثق في لحظته الراهنة سيفوته إدراك كنه التغيير الحاصل، ومن ثم سيصرّ على استخدام مقايسته القديمة التي ستحيله إلى الفشل.
زمن مختلف للشعر السوداني
محمد جميل أحمد
ناقد وشاعر سوداني
لا يعكس الحديث عن مأزق الشعر وندرته، أو أزمته، إلا تصورًا جزئيًّا مستقرًّا على هوية مفترضة، أو منعكسًا من تمثلات خاصة هي أقرب إلى التأويل الثقافي منها إلى حقيقة الشعر كإبداع متصل بالحياة. والحال أن تلك الأزمة ربما تتعين، فقط، إذا ما نظرنا إلى الشعر كتعبير متعارف عليه من خلال نظم إدراك نخبوية! أما الشعر في الحياة، كحاجة، فهو موجود أكثر منه، بكثير، من كونه حيازة متوهمة لنخبة ما، تحدد هويته بمقاييسها.
الشعر متصل بالحياة. وتجلياته المتلبسة بالفنون الأخرى كالغناء والتشكيل والسرد هي ما يكاد يخرجه من دائرة الأزمة التي يتصورها بعض المهتمين عن مطلق معناه.
اتصال الشعر بحاجة البشر، أكبر من الظن بقبول فكرة أفوله أو انسحابه من زحمة الحياة المعاصرة. ربما يغيب تفصيل من الشعر يراه بعض المتابعين مقياسًا للشعر وهويته، فيزعم وهم الاختفاء والأفول.
غياب الشعر عربيًّا، كمدونة ثقافية مشغولة، وانكفائها عن تسييل حالة عامة للشعر تناظر حيويته كأحد خطوط الإبداع الأساسية (كما هي الحال في اللغات العالمية الحية) إنما هو في الحقيقة انعكاس لغياب سوية ثقافية، أكثر منها إبداعية. فالإبداع الشعري جزء من الحياة ذاتها، لكن الحالات الحيوية للشعر تستدعي بالضرورة علاقة للشعر باللغة ترتبط به وجودًا وعدمًا. فالشعر إذ يظل كامنًا بين الكلمات (وليس في الكلمات) يظل في حاجة إلى تسوية لغوية؛ إلى علاقة ما تجعل من امتلاك اللغة امتلاكًا لمادة الشعر ذاتها. إن حالة الاعتلال اللغوي العامة، عربيًا، (ليس بالنسبة لقراء الشعر فحسب، بل للشعراء كذلك) هي التي تساهم بقوة في تلك الإزاحة المستمرة للشعر إلى الهامش.
ثمة اغتراب في اللغة ينزاح على الكتابة الشعرية العربية المعاصرة، فيغيبها عن المشهد الثقافي العام، لكنه بكل تأكيد اغتراب لا يغيّب الشعر. فالشعر، بوصفه حاجة وصيرورة، يتشكل باستمرار في خامات متنوعة؛ من الغناء إلى السرد إلى الأناشيد حتى عبارات الدعاية والإعلان، ففي كل ذلك ثمة وجود قوي للشعر. وفيما يعزو بعض المهتمين انسحاب الشعر من الحياة الحديثة؛ لأنه الأكثر اتساقًا مع رعويات الحياة الإنسانية الأولى وبراءتها ــ احتجاجًا على صخب الحداثة المعاصرة وتذررها وقسوتها المادية ــ مسوغًا بذلك ما ليس مسوغًا في ذاته؛ فإن قوة الشعر تكمن أساسًا في قدرته كطاقة رخوة ـ لكنها الأكثر شراسة في مواجهة قسوة الحياة ـ إن قوة الشعر هنا هي قوة المجاز ذاته الذي يفجر اللغة ويعيد إليها الشعر في كل منعطف من منعطفات الدهشة، والبداهة المتجددة مع الحياة.
تجربة الحركة الشعرية
في الخرطوم، أحدث شعراء شباب حراكًا جماهيريًّا مذهلًا للشعر، اقتربوا به كثيرًا من حياة الناس، وجالوا على الساحات، والأسواق، والشوارع، والميادين، عبر تجربة ملهمة، خلصت الشعر من العزلة والانكفاء اللذين فرضتهما سياسات عزل طاردة أكثر من ربع قرن تقريبًا. يقول الشاعر الشاب مأمون التلب صاحب فكرة الحركة الشعرية: «يوم الثلاثاء 28 يوليو 2015م، حَدَث حدثٌ عظيم، بالنسبة لي على الأقل. وتتلخّص العظمة في انعدام التخطيط: رأيتُ حركةً لم أخطِّط لها، كما تفعل الأحزاب السياسيّة الفاشلة ذلك: تخطط وتخطط وتنسى، تمامًا، أن العالم ليس خُطَّة! لقد نَشَأت هذه الحركة اليوم وحدها، نبتت على الأرض كما تنبتُ الغابة. كنتُ أصرُّ على أنني لن أضع خططًا ولا تنظيمًا لفعالية اليوم ـ وما كنتُ سوى داعٍ للقاءـ مع انطلاقة الحركة الشعريّة، وقد كانت النتيجة مذهلة: لقد تكوّنت الفعاليّة من تلقاء نفسها، تمامًا كما يحدث للنبات منذ قرون. لقد بادر الناس بالقراءة حتى ذُهلت!» لقد لقي الحراك الشعري الذي دشنه الشعراء الشباب من أمثال: (مأمون التلب، وأنس مصطفى، ونجلاء التوم، وحاتم الكناني) في ساحة مشهورة بالخرطوم تدعى «أتنيه» تفاعلًا كبيرًا بلغ المئات من المتابعين، وبدا واضحًا، من خلال التفاعل الكبير مدى أهمية الشعر للناس.
لقد كانت تجربة الحركة الشعرية بعفويتها؛ لحظة إدراك مباشر لأثر الشعر على الناس، أدرك بها الشاعر مأمون التلب سرّ الشعر وطاقته الخفية على البشر حين قارن تجربة عام 2014م التي لم يتفاعل معها الناس كثيرًا، مع تجربة عام 2015م التي وجدت صدى وتفاعلًا كبيرين بفضل قوة الشعر وتعبيره عن الإنسان وتأملاته في الكون والحياة.
يقول مأمون: «في الفعاليّة الماضية، كانت النصوص المستثيرة للتأمل قليلة، بينما النصوص المستثيرة للعاطفة والانفعال والشعور بفداحة واقع اليوم وبؤسه كثيرة، النصوص ذات الطابع السياسي تستثير الناس بكل تأكيد… وبصراحة لقد سئمنا من هذه الصورة الفاترة، فبتلك الصورة يخدم الشاعر حركة أخرى مكّارة، سلبته قيمته واعتداده بخياله. إننا لا نريد أن نخلق مساحةً للتعبير عن الحريّة السياسيّة، نريد أن نصنع مساحةً لحريّة التأمّل في الحياة والكون». ويعلق على الرواج الذي لقيه النشاط الشعري المكثف في تلك الساحة بفعل جهود الحركة الشعرية: «لقد أصبحت «أتنيه» ساحة مشهورة عالميًّا، بالمناسبة، ومحليًّا كذلك. بمجرّد أن تقول: أتنيه، فإن الناس يفهمون عما تتحدّث. لذلك فإن كل مبادرة وفعاليّة تقام في تلك الساحة مكتوبٌ لها النجاح، وذلك يمثّل جزءًا أصيلًا لنجاح فعاليّة تدشين الحركة الشعريّة».
خارجيًّا، اغترب الشعر السوداني على جغرافيا واسعة لـ«الدياسبورا» السودانية، وشكلت تلك الحالة السودانية الخاصة والاستثنائية لشعراء سودانيين معاصرين (جلهم خارج السودان) ما يمكن أن يعكس هوية جديدة للشعر السوداني؛ هوية غنية بالتجارب التي يمكنها أن تؤشر على زمن مختلف للشعر السوداني في الخارج.
بين زمنين، لا تتساوى القوة بالفعل حيال جدلية الخفاء والتجلي التي طبعت الشعر كمدونة تعبيرية في أجناس الإبداع، عربيًّا، فغياب الفعل الشعري لا يعني غياب القوة الكامنة للشعر والموازية لممكنات وجوده في تعبيرات أخرى.
سقطت سلطات الشاعر ولم يبق للشعر سوى نفسه
رنا نجار
بيروت
كثر الحديث عن تحوّلات تطال فنّ العرب الأول وهو الشعر، في وقت تتبدّل أحوال العرب وأهواؤهم السياسية والاجتماعية. حُكي عن أزمة لغة وتغريب من جيل يفضّل التعبير بلغة شكسبير، ويهجر لغة ابن الرومي، والمتنبي، وعمر بن أبي ربيعة، ونزار قباني، ومحمود درويش، وسميح القاسم. هل الشعر الحديث اليوم في أزمة أم هي أزمة مجتمع وحريات تنعكس على ثقافتنا وسلوكياتنا بصفة عامة، كما يحلل الشاعر والكاتب والمخرج المسرحي يحيى جابر؟ في عصر الصورة والسينما ومواقع التواصل الاجتماعي والصحافي المواطن، ماذا يعني هروب الشعراء إلى الرواية، وانحسار القراء وعدم الاهتمام بدواوين مهمة يصدرها شعراء كبار وآخرون موهوبون؟ أم أننا نبالغ في وصفنا ما يعيشه الشعر اليوم بالأزمة، وهي سيمفونية يجب أن تتوقف، كما يقول الشاعر والكاتب فيديل سبيتي، على اعتبار أن «الجماهيرية لم تكن يومًا معيارًا للشعر ولا للنقد، وأن الشعر اليوم هو المكان التعبيري الأكثر جدوى من أي وقت مضى؟» لكن لا بدّ للشعر الذي يمثّل الإيجابية والحياة والتحريض عليها أن يبقى. فهو حاجة الناس إلى التعبير والكلام، وحاجتنا إلى الفرح والغناء والمدح والذم والرفض والتعبير عن الواقع. الشعر سافر منذ سنوات في رحلة بعيدة ويمرّ بسحابة سوداء، لا بدّ أن يتخطاها ويخترع رسامين لأمنياتنا وأحلامنا وأوهامنا وحبنا للحياة. هنا شهادات لمجموعة من الشعراء اللبنانيين حول الشعر؛ راهنه وأحواله.
يوسف بزي: شعراء بلا مكافأة ولا نجومية ولا جمهور
حتى وقت قريب، كان الشعر يتبوأ مشهد الثقافة العربية. كان هو «وجدان» هذه الثقافة ولسانها. هو الناطق بها، هو لغتها وذاكرتها ومادتها. كان الشعر بئر الثقافة العربية وموردها. ما حدث لاحقًا، هو التحولات العميقة في ثقافة الفرد العربي، وفي مصادر هذه الثقافة. تحولات في القيم والذائقة كما في وسائط نشر المعرفة، ووسائل التبادل والتواصل. حدثت تبدلات جذرية في معنى «القراءة» وأدواتها. باختصار، تلاقى نزوع القصيدة «الحديثة» نحو النثر، مع حاجة مجتمعاتنا المضطربة إلى السرد. جاءت الرواية جوابًا موضوعيًّا، تلبية تلقائية للتغير الذي أصاب الكتابة العربية. لا نتحدث عن «قيمة» الشعر، بل عن قابلية القراءة، وعن القارئ الذي بات في مكان آخر.
أما فيما يتعلق بالشعراء الشباب اللبنانيين، فهم في معظمهم شعراء الحيرة. يحاولون الفكاك من إرث السابقين. يصارعون ذاكرة شعرية مهيبة، من ناحية، وزمنًا تأبى فوضاه أن تنتظم في قصيدة، من ناحية ثانية. والأصعب، أنهم أتوا في وقت لا يأبه بالشعر أصلًا؛ لذا هم شعراء بلا مكافأة ولا نجومية ولا جمهور، محرومون من حيوية التداول والسجال والنقد. وحول القضايا المطروحة اليوم في الشعر اللبناني، لست أدري ما المقصود هنا بكلمة «قضايا»، فالكتابة الشعرية مفتوحة على كل ما يتصل بالوضع الإنساني ومأسوية الوجود. لكن في البحث عن خاصية ما في كتابات الجيل الجديد، قد نلحظ هذا النزوع المتجدد نحو الأنا المعزولة، التي تخاصم وقائع العالم وسيرورته.
لكن الشعر اليوم أصبح أكثر يتمًا، فلا جوائز مرموقة تحفز الشعراء، ولا مطبوعة مهمة تهتم به، ولا نقاد مهمومين بنقد الشعر؟ لازم «ازدهار» الشعر العربي الحديث، انتشار الصحافة الورقية وتقنية الطبع والنشر (الجرائد، والمجلات، والكتب…)، كما لازمه المنبر المسرحي والمهرجاني (الأمسيات، والندوات، والاحتفالات الجماهيرية). هذه الوسائط ذاتها تذهب شيئًا فشيئًا نحو الماضي والانصرام. معنى القراءة وأدواتها، ومعنى النشر والتداول، تعرضا لتحولات عميقة. يمكن القول بأن ثمة «سلطة» سقطت، سلطة الصحيفة الثقافية، سلطة المجلة النخبوية، سلطة المنابر السياسية، سلطة الشاعر نفسها، سلطة النقد ذاتها… كلها سلطات فقدت صلاحيتها. في رأيي، كل هذا يمنح الشعر عزلة إضافية، نقاء أكثر، غربة أشد، حرية أكبر، ونثرية أرحب. لم يبق للشعر سوى نفسه. وهذا قد يكون مكسبًا عظيمًا.
يحيى جابر: أزمة حريات
إنه مأزق عالمي عمومًا. فالشعر موجود أكثر اليوم في السينما وفي الرواية، وخصوصًا في الصورة والحوار الذكي واللقطة الذكية. الشعر تغيّر مع التحولات السوسيولوجية والسياسية والثقافية، فالشاعر لم يعد وزيرًا للإعلام كما كان في السابق، ولا محرّضًا ولا رسولًا. فدور الشاعر وأنواع الشعر، هي مسائل وهمية وخرافات. فتلك الصفات والمواصفات والأسماء الضخمة مثل شاعر الثورة، أو شاعر الفلسفة، أو شاعر البياض، أو الشاعر الوجودي، كلها انتهت مع الثورة التقنية الرقمية. وأصبح هناك فيسبوك وتويتر وفنون مفاهيمية وموسيقا الراب وغيرها، وكلها يكمن فيها الشعر بشكل أو بآخر.
الطموح إلى السلطة
كان الشاعر يعيش من بيع الدواوين والمهرجانات والأمسيات التي يحييها ويلقي فيها قصائده. كان بمنزلة رسول، منجّم، متحدث باسم الأمة، أو المتحدث باسم الفرد والأنا المتضخمة… وهؤلاء كلهم مثالهم الأعلى المتنبي، أي يحلمون بالسلطة والسلطة فقط بما يتضمنها المال. وهذه السلطة إما أن تكون ثقافية وأقصى حدّ فيها أن يُعيّن الشاعر مسؤولًا لقسم ثقافي في صحيفة أو وزارة، وإما أن تكون سلطة أيديولوجية؛ إذ يعيّن الشاعر نفسه متحدثًا باسم الفقراء وعذاباتهم، وإما أن تكون سلطة سياسية؛ أي يطمح الشاعر الذي يكون لبقًا بهندسة الكلام بترؤس حزب، أو متحدث باسم هذا الحزب، أو متحدث باسم زعيم ما. وأكبر مثال على ذلك الشاعر السوري أدونيس؛ لأنه يعدّ نفسه المتنبي، ويعيّن نفسه منظّرًا سياسيًّا فوق إرادة الشعوب والأفراد. وحالة الشعراء هذه كوميدية بامتياز.
أما القصيدة الشعرية فيمكننا القول: إنها بُترت أو جُرحت أو ضُربت في السنوات الأربعين الأخيرة، وزاد انكسارها مع ظهور وسائل تعبيرية حديثة آخرها السوشيال ميديا ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت بمنزلة الضربة القاضية. وهنا يبقى فقط 5 أسماء لامعة من أربعين سنة حتى الآن، بعد كل هذه الضربات الموجعة. فالمجلات والملاحق الثقافية العربية أنتجت مئات الشعراء، لكنها لم تُنتج حالة شعرية مهمة باستثناء ما حصل في بيروت ومصر. وفي لبنان على رغم ما أتت به مجلات الشعر المتخصصة التي عُدّت بمنزلة ثورة في القرن الماضي، إلا أن الشاعر في لبنان كان دائمًا تابعًا بشكل عام للسلطة بغض النظر عن نوع السلطة (وصاية سورية، ثورة، يمين، حركة وطنية). وأرى أن هذه الأزمة مسؤول عنها الشعراء أنفسهم والأيديولوجيات التي تحكّمت بهم وأنتجت دور نشرها ومؤسساتها الثقافية. وهنا نقصد الحركات اليسارية والشيوعية والقومية والوطنية حتى الإسلامية.
لذا نحن اليوم نرى أن الشعراء الشباب يمارسون عادات وسلوكيات أسلافهم من الشعراء، في لباسهم ونمط عيشهم والمقاهي التي يرتادونها، أما القصيدة فهي غير موجودة. وهؤلاء يكتبون عن الشعر، ولكنهم يعجزون عن كتابة قصائدهم.
باختصار أزمة الشعر العربي تعكس أزمة مجتمعنا من النظام إلى السلوك اليومي. مجتمع لا يعرف أن يعبّر، ولا كيف يهاجم سلطة، ولا كيف يثور وينجح في ثورته، ولا كيف يبني نظامًا سياسيًّا. إنها أزمة حريات وشجاعة، فالشاعر ابن الرفض، ولكن الـ «لا» لها ثمن وتحتاج إلى شجاعة، ولكن الشجاعة مفقودة.
فيديل سبيتي: المحل التعبيري الأكثر جدوى
الشعر العربي ليس في مأزق كما لم يكن في أي وقت، فهو وسيلة العرب الوحيدة للتعبير عن مآزقهم وآرائهم فيها، وتفنيدها، ودفعها، ورفعها، والسير بها، أو مدحها، أو ذمها. فكيف الحال في هذه الآونة من مآزق العرب الكثيرة والمتشعبة التي لن يفهمها إلا شاعر، أي متأمل ومغلّب مشاعره على واقعه بالمعنى التقليدي لتعريف الشعراء. بالتأكيد فإن الشعر العربي هو المحل التعبيري الأكثر جدوى لقول ما لا يمكن قوله في أي نوع من أنواع الفنون الأخرى، إلا إذا كان السؤال يتضمن جوابه؛ أي القصد بأن الشعر بلا جمهور.
هنا أقول بأن السيمفونية الدارجة التي تقول بموت الشعر أو بانفضاض الجمهور عنه يجب أن تتوقف إلى غير رجعة. فالشعر الحديث أو قصيدة النثر، لم تكن منذ بداياتها جماهيرية، بل كانت محارَبة من مُحبّي الإيقاع والقافية وبحور الشعر والتراث الآفل. وقصيدة النثر أو الشعر الحديث لم تتوجه يومًا إلى الجمهور إلا إذا استثنينا بعض الشعراء الذين يكتبون أصلًا لجمهور متخيل حين يخطون قصيدتهم؛ كمحمود درويش، ونزار قباني، وبدر شاكر السياب، ومظفر النواب، وغيرهم قلائل. فالشعر الحديث نخبوي بطبعه وهو لا يطلب الشعبوية أو الجمهور أو التصفيق أو البيع؛ لأنه شعر رفض الجماعة، وعاداتها، وتقاليدها، والمرسّخ من كل ذلك، إنه شعر قلب العالم إلى عالم آخر لا يحبذه الجمهور ولا يستسيغه، بل يتهمه بالهرطقة.
لوركا سبيتي: غياب النقد
أولًا لو أردنا الحديث عن موضوعات الشعر، أو ما قضايا الشعراء الشباب اليوم، سنتحدث عن كل الأفكار التي قد تخطر، وكل الانفعالات التي قد تتجسد، وكل الهموم الإنسانية التي يستوي عندها جميع البشر عامة والشعراء خاصة؛ إذ لا شيء معين يتناوله الشعراء الشباب اليوم، هي موضوعات أزلية أبدية تخص الحياة والموت وما بينهما، لكل منهم طريقة في التكلم عنها وتجسيدها بما يهوى، بأسلوب يميزه من الكتاب الآخرين. ولكن، لا بد من الإشارة إلى أن الملاحظ أكثر ما يكتب، وليس جميعه، له رائحة الواقع. ينقله بحقيقته من دون مواربة. ولنتخيل ما قد يكتبه هؤلاء الذين يعيشون في عالم دموي إن لم يكن قاتلًا فهو مقتول… منذ الجاهلية وصولًا إلى عصرنا هذا لا تزال الموضوعات ذاتها… الحب… العصبيات المتجسدة بمدح الفرد إلى مدح العشيرة إلى مدح الوطن والزعيم… .
على مستوى الأفكار لم يرافق تطور الوعي والغايات تطور الوسائل، فتغير شكل القصيدة من دون أن يتغيّر مضمونها، ولا يزال الشاعر يتغزل بمحبوبته بحسب لون شفتيها وشكل عينيها، مسترجعًا صورة هارون الرشيد في خياله وجواريه، من دون أن ينفتح على بعد إنساني أبعد وأعمق. أما إن كان الشعر العربي بمأزق؟ فالشعر ليس بكيان مجرد كي يقع في أزمة خاصة، هو نتاج الشعراء. وإن ابتعد القرّاء عن الشعر فهذا مرده إلى عدم قدرة الشعراء على ملامسة عصب الجمهور ودغدغة أحلامه عبر معانقة واقعه. وهذا ما لا تسمح به الرواية، فطبيعة الرواية تفرض على الراوي الانطلاق من الواقع ورسمه وتلوينه، ما يجعلها جذابة لخيال القارئ الذي يبحث عن نفسه وموضوعاته وهمومه في النص بعد أن ملّ من «أنا» الشعراء التي في الأغلب ما تدور حوله القصائد بشكل مباشر أو غير مباشر، في هذا الزمن الذي انسحق فيه «أنا» الفرد في الواقع وأصبح يبحث عن «أناه» عبر الخيال آملًا في استرجاع بعض إنسانيته، وهذا ما تسمح به الرواية عبر فضائها الأرحب والأوسع والمتحرر من «أنا» الكاتب.
ثم إنني أرى في هذه الأيام أن الأغنية حلّت محل قصيدة العصر القديم في وجدان الناس، بلحنها وأدائها وكلماتها، حفظها الناس أكثر من القصائد بذاتها. والمشكلة الحقيقية للشعر في وطننا، هو غياب النقد الحقيقي؛ بسبب غياب المتخصصين في النقد الشعري، إذ إن أغلبية النقاد هم شعراء أو كتّاب أو مسؤولو صفحات ثقافية في الصحف، وهؤلاء في الأغلب يفتقدون الخلفية العلمية الخاصة بالنقد، ليحل مكانها أهواؤهم، ومصالحهم الشخصية، ونظرتهم إلى جودة الشعر، وتقييمهم له.
الشعر في السعودية.. أسباب تدفع الشاعر إلى العزلة
هدى الدغفق
الرياض
حين نتأمل المشهد الشعري في السعودية، فإن أكثر من سبب يدفع الشعراء، خصوصًا الجدد، إلى الإحباط ومن ثم الانكفاء على أنفسهم، وإذا حدث لهم أن كسروا قشرة العزلة، فإنهم سيكتفون بالتواصل مع دائرة ضيقة جدًّا من الأصدقاء. لعل أول الأسباب طغيان الرواية التي سرقت الاهتمام تقريبًا من الجميع، وانصراف عدد لا بأس به من غير كتاب السرد إلى كتابة الرواية؛ مما أدى إلى هجرة نقاد الشعر إلى حقل الرواية، طلبًا للأضواء ومزيد من الاهتمام الذي انحسر عنهم بانحسارها عن الشعراء. ومن الأسباب أنه إذا حدث وجرى الاهتمام بالشعر، فإن النوع الشعري محط الاهتمام لن يكون سوى العمودي وفي أفضل الأحوال شعر التفعيلة، أما قصيدة النثر فلا أحد يفكر فيها. على أن اللامبالاة وعدم الاهتمام تطال الشعر بأنواعه.
ومن هنا انشغال بعض التجارب الشعرية الجديدة بالذهاب إلى مناطق معينة، تصور فيها عزلة الشاعر وممارسته العيش في أماكن مغلقة. سبب آخر يحبط الشعراء، هو المستوى الثقافي المحدود لمن يدير دفة الثقافة ومؤسساتها؛ مما جعل ثقافة المجاملات والتحشيد تتفشى، من دون اعتبار لأي أي شيء آخر.
غياب الشاعر الرمز
يعتقد الشاعر جاسم الصحيح أن راهن الشعر في السعودية مرتبط براهن الشعر العربي؛ إذ يستحيل في رأيه، الفصل بين المشهدين «خصوصًا في ظل انبثاق وسائل التواصل الاجتماعي، وثورة الاتصالات، والتنسيق العام لمعارض الكتب في العالم العربي، فالتجارب الشعرية والثقافية عمومًا مفتوحة بعضها على بعض بكل يسر وسهولة».
ويلاحظ الصحيح أن أجيالًا جديدة من الشعراء صعدت إلى مسرح الشعرية العربية في معظم البلدان، «وقد يكون المشهد الشعري السعودي الجديد من أجمل المشاهد وإن خلا من فكرة الشاعر الرمز؛ لأن رمزية الشهرة لم تعد حاضرة في عصر ما بعد الحداثة عبر كل المجالات وليس الشعر فقط». ويتطرق الصحيح إلى «مختارات من الشعر السعودي الجديد» التي صدرت في «كتاب الفيصل» في مارس الماضي، وكانت فكرة اقترحتها «الفيصل» على الشاعر زكي الصدير فقام بتنفيذها، حول هذه المختارات يقول: في هذه المختارات اكتشفت عبقرية الشعراء الشباب، لكنني أرجو ألّا تكون عبقرية عجولة.. أي لا تنطفئ بسرعة.. كما قال الشاعر الفرنسي بول فاليري عن عبقرية الشاعر رامبو. الجماليات الشعرية لا يمكن أن تستقر على حال؛ لأن الشعر هو حال من القلق والفوران والهذيان. الشعر هو عملية استكشاف مستمرة لجغرافيا الروح، وكلما جاء جيل جديد بمراكبه ومناظيره، وأرسى على شواطئ الروح وحدَّق في التضاريس البعيدة داخل أعماقه؛ استطاع أن يواصل الاستكشافات التي بدأها أسلافه. هذا العمل الإبداعي يمثل مسؤولية كل موجة جديدة من الشعراء، للخروج من لحظتها الراهنة إلى المستقبل عبر مغامرة جامحة تضيف من خلالها مساحة جديدة من الكشف والابتكار».
الشعر عابر للعصور
ويرى الشاعر محمد عابس أن الشعر فن عابر للعصور «وإن خفت ضوء الاهتمام به بين فترة وأخرى لأسباب متعددة منها: منافسة فنون أخرى، واهتمام الناس بأشياء أخرى، وانفتاح العالم على الفضائيات ووسائل التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطور أدوات الترفيه، ومن ناحية أخرى سوء مناهج تعليم اللغة العربية وضعف النماذج المختارة في مواد الأدب».
ومن ناحية أخرى، يذكر عابس أن توجه الشعر إلى موضوعات ليست جماهيرية ولا علاقة لها بالقضايا الكبرى للمجتمعات لقيام وسائل أخرى بذلك الدور، دفع الشعر إلى الاتجاه إلى «قضايا ومفردات الإنسان وهمومه البسيطة، وإلى مفردات الهامش والمهمل والبسيط…».
ويلقي عابس باللوم على المؤسسات الثقافية في التراجع الذي يعيشه الشعر: «لم يعد هناك اهتمام بالشعر والشعراء على مستوى الدول والمؤسسات إلا على استحياء أو بشكل محدود، جوائز الشعر محدودة ومهمشة وغير مجزية ولا يمكن تجاوز الاهتمام الأكبر بالعاميات (الزجل) في مختلف الدول على حساب الشعر الفصيح، ولست ضد الاهتمام بالعامّي ولكن بشكل لا يلغي الفصيح»، مشيرًا إلى أن معظم النقد «توجه إلى البعد الثقافي العام وإلى الرواية، وكثير من النقاد لا يجيدون التعامل مع الشعر وبعضهم لا يستطيع قراءته بشكل سليم، ومن ثم تصدر عشرات الدواوين المميزة ولا أحد يعلم شيئًا عنها!!».
عدم تقبل النقد
أما الشاعر محمد الجلواح فيتوقف عند الحال النفسية والمزاجية للمواطن العربي بشكل عام، وكذلك الإفرازات السياسية وانعكاساتها على مشاعر وروح الشعراء. ويعزو الجلواح ذلك إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت -في شكل مؤثر وقوي- في صرف الشاعر والقارئ معًا عن القراءة العميقة. ويعزو الجلواح هروب الشعراء إلى الرواية، إلى تراجع الشعر عند هؤلاء «إضافة إلى استسهال الكتابة النثرية. كما أن انتشار الرواية لا يدل على وجود عافية فيها، فقد أصبح الجميع يكتب رواية»، مضيفًا سببًا آخر لعدم وجود حراك شعري في المملكة، وهو:«أننا لا نقبل النقد، ولا نرضى بالدراسات والملاحظات التي تُنشَر في الصحف، وتأتي من آخرين لهم قـَدَم السّبق وقـَصَبُه في الشعر، بل نطير فرحًا بالمجاملات حتى لو كانت على حساب الجودة، فينجم جراء ذلك التراجع من جهتين: جهة الشاعر الذي لا يريد أحدًا أن ينتقده. ومن جهة أخرى فإن المتلقي الناقد الذي لا يجد من يأخذ برأيه ونقده ودراسته، يشعر بالحزن والغضب والإحباط، وهو -في الوقت نفسه- يخشى أن يفقد بذلك صداقته وعلاقاته بالشعراء».
الشعر السعودي بلا تجارب عميقة
ويقول الشاعر مسفر العدواني: إن الشعر السعودي «لم ينتج تجارب نتكئ عليها في حال النقد باستثناء تجربة الثبيتي، وما زلنا أيضًا في صراع كبير بين رفض وقبول قصيدة النثر لدينا ونحن في أمسّ الحاجة لتجارب شعرية نواجه بها من يعتقد أن الشعر السعودي ما زال خجولًا، ولن يصل إلى منصات العالم». ويرى العدواني أنّ الأصوات الشعرية المعاصرة «عندما لا تندمج مع الحاضر بكل معطياته فلن تتقدم، وإذا توقف خيال الشاعر عند حد معين خوفًا من المستقبل فلن نخلق موجات جديدة ومع ذلك نحن جزء من العالم، ولا شك أن ما يحدث فيه يؤثر فينا. أما من ناحية الجوائز الشعرية فليست مقياسًا لعمل تجربة شعرية؛ لكونها تخدم المؤسسة التابعة لها، ولا تخدم الشاعر، وفي زمن التقنية الحديثة يلزم الشاعر التفاعل معها بنصوص قصيرة مكثفة تسهل على القارئ، وتناسب الواقع، وتظهر الشاعرية. فالزمن الآن زمن التواصل الاجتماعي وقراءة الكتب الورقية أصبح من النادر جدًّا».
أدب بلا أدب
وتنتقد الشاعرة هند المطيري شعر اليوم وأدبه بشكل عام قائلة: «يصدر عدد هائل من الأعمال الأدبية سنويًّا، لكن بلا أدب. صرنا نسمع أسماء كثير من الشعراء لكننا لا نسمع شعرًا؛ من أجل ذلك كله، كان من الطبيعي جدًّا أن تذبل جنان الشعر التي كانت قد أبدعها الرواد في عصرنا والعصور السابقة». ولا ترى المطيري أن طغيان الرواية تسبب في تراجع الشعر؛ «لأن ازدهار الرواية الجيدة قد يدفع الشعر الجيد إلى المنافسة، لكن المسألة تتعلق بالوعي الجمالي الجمعي. الشعر يهب نفسه للأمة التي تقدره وتحفظ قيمته، فإذا تخلت عنه تخلى عنها تمامًا».
وتقول المطيري: «في العصور القديمة كانت العرب تقدس الشعر لدرجة دفعتهم للمقارنة بينه وبين القرآن (كلام الرب جلّ وعلا)؛ لذلك حفظ الشعر لهم أقدارهم وأخبارهم وأيامهم التي لم يكن التاريخ ليتحملها من دونه. أما اليوم وقد انصرفوا إلى صفصفة الكلام فلا أظن الشعر يبقى يانعًا مزدهرًا، أو على الأقل لن يبقى كثير منه. لم نفتقد الدواوين فهي كثيرة، وتصدر عشرات منها كل عام، لكننا نفتقد الشعر». وفي ظن المطيري أن وضع الشعر سيستمر هكذا «حتى تحين التفاتة من مؤسسات الثقافة، تُعلي شأنه وترفع أركانه. حين ذاك يعود، ويزدهر، ويطرح ثماره اليانعة».
مقولة غياب النقد تدحضها الدراسات الأكاديمية
لا يثق الشاعر أحمد التيهاني كثيرًا في الأقوال المعمّمة التي تميل إلى تفضيل جنسٍ أدبي على حساب جنسٍ آخر، ويرى ذلك «كلامًا» إعلاميًّا استهلاكيًّا؛ «ذلك أنه –في الأغلب– يصدر عن المبدعين أنفسهم انتصارًا للأجناس الأدبية التي يكتبونها». وينتقد التيهاني المبدعين قائلًا: «يُفترض لعقل المبدع أن يكون تفكيره متجهًا نحو النص بوصفه نصًّا، لا نحو النص بوصفه جنسًا أدبيًّا، وهي نظرة متقدمة بمراحل على رجعية «التجنيس» التي تعيدنا إلى التصنيف اليوناني السابق لما آل إليه الإبداع اللغوي في اللغات كلّها».
ويؤكد التيهاني على المكانة التي يحتلها الشعر قائلًا: «سيبقى الشعر المختلف والمميز بذاته، لا بالقواعد التي يضعها النقاد؛ لذلك يندر أن يتداخل الشعر مع غيره من الأجناس الأدبية، فيما نجد الأجناس الأخرى تتداخل رغم صرامة القواعد»، مشيرًا إلى أن القول بانحسار الشعر، «قولٌ عاطفي يُقصد به التهوين لا غير؛ ذلك أنه لا يستند على معطيات واضحة، ولا يقوم على حججٍ بينة، إضافة إلى أن يُبنى على إحصاءات دقيقة؛ لأن القول بذلك يناقض مسألة إشباع شكل من أشكال الجوع الجمالي الذي لا يسده إلا الشعر». ويلمح التيهاني إلى أن كل ما يقال عن انحسار الشعر، وتمدد أجناس أخرى، سيذوب حتمًا، «فالشعر يبقى حاضرًا، ويستمر متجددًا، وليس أدلّ على ذلك ممّا آلت إليه الشعرية العربية الحديثة، في القصيدتين: الإيقاعية، والنثرية، على السواء، من تطور سريع جدًّا، مداه الزمني لا يتجاوز نصف قرن». وفي تصور التيهاني أنه: «ربما كانت عوامل التحول من شفاهية القصيدة، إلى كتابيتها، سببًا في خلق وهم انحسار الشعر». ويلفت إلى أن القول بغياب العمل النقدي المتعلق بالشعر، تدحضه الدراسات الأكاديمية الغزيرة التي تشتغل بالشعر، «ولو أننا أجرينا عملًا إحصائيًّا عن الأجناس الأدبية التي اهتمت بها هذه الدراسات، لوجدنا الغلبة للدراسات المتعلقة بالشعر».
رؤية حول المشهد الشعري السعودي الحديث
يوضح الشاعر زكي الصدير أنه في ظل اكتساح الرواية للمشهد الثقافي بعموميته، وقدرتها على تحويل نفسها للدراما التلفزيونية، أو لفلم سينمائي، «لم يعد الشاعر قادرًا بأدواته اللغوية المحضة الوصول إلى القارئ غير النخبوي. الأمر الذي يجعله قابعًا في إطار لا يستطيع من خلاله الاتّساع ومعانقة القارئ البسيط. ويعود ذلك لتعاظم انكفاء معظم الشعراء على ذواتهم، ولعدم قدرتهم على تجاوز السؤال الفلسفي للسؤال الحياتي اليومي. ومن بين هذه التجارب خرجت تجارب سعودية، هنا وهناك، استطاعت أن تستوعب بعمق ما يدور حولها فأنتجت اشتغالات شعرية مهمة، لكنها قليلة، ولا يمكن اعتبارها ظاهرة من الممكن القياس عليها».
ويقول: «إذا ما كنا نتحدث عن مشهد جغرافي متسع مثل السعودية، فإنه من الصعب الحديث عن هوية الشعر أو ملامحه بشكل دقيق، حيث لكل منطقة من مناطقها المترامية الأطراف أسئلة شعرائها وقلقهم ورؤاهم الكونية الخاصة، والتي تنعكس على واقع ما يشتغلون عليه شعريًّا. هذا الاتّساع الجغرافي يجعلنا أمام مشهديات شعرية مختلفة ذات هويات مشتتة، يجمعها الاسم، ويفرقها الاشتغال. والحديث هنا بالطبع يشمل مضمون الشعر وليس هندسته المعمارية فحسب». ويلفت إلى أن الجغرافيا المكانية جعلت من التجارب الشعرية السعودية القريبة من الخليج «تمتلك سمات على مستوى اللغة والهوية تختلف عن تلك الحجازية أو الجنوبية أو التي تتوالد بندرة في الشمال والوسط. نجد شعراء الشرقية -على سبيل المثال- متماهين إلى حد كبير في نصوصهم مع التجارب الشعرية المنجزة في العراق ودول الخليج، على حين يغيب أو يخفت هذا التأثر عن التجارب الشعرية في بقية المناطق، الأمر نفسه بالنسبة لتجارب شعراء الجنوب، حيث تحضر التجارب اليمنية بقوة، وتخفت في بقية المناطق».
عن الشعر في اللحظة الراهنة
إذا استعرنا لغة الحروب التي نعيش على وقعها الآن، فإنه يمكننا القول: إن الشعر تضخم كثيرًا، وبشكل مبالغ فيه، في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم… إنه تحول إلى قنبلة انفجرت لتنتشر شظاياها في كل مكان. نحن في هذه اللحظة نعيش في زمن الشظايا. لم يعد للشعر رموزه وتكتلاته وملاحقه ونقاده، بل أصبح متناثرًا في كل مكان. شعراء لا يحصون، ودواوين لا تعد، وسيل جارف من الحروف التي لا تكفّ عن التناسل من بعضها البعض، ثم لا أثر مهم يذكر بعد ذلك، حتى مع تعدد المهرجانات الشعرية، أو تكاثر الجوائز وتنوعها. مع كل ذلك هناك ورود حقيقية ومدهشة، تنبت في كثير من الزوايا القصية، لكن الأغصان الكثيفة للغابة تحجبها. هناك أسماء تستحق القراءة والاحتفاء، ولكن ليس هناك بستاني ماهر، يحول الغابة إلى حديقة. هذه مهمة نقدية بامتياز، لكن النقد تعوّد في العقود السابقة على التعامل مع الكتل الصلبة (الجاهزة)، وليس في وسعه، حتى الآن على الأقل، أن يتعامل مع النتف المتناثرة هنا وهناك…
قد نعزو السبب للانفجار المعلوماتي، للطبيعة السائلة للأفكار وللعالم، لعزلة الفرد، لموت الأيديولوجيات الكبرى، لوسائل التواصل الاجتماعي، للحظات الترقب والخوف التي نعيشها، لعجز الخيال عن مجاراة الواقع، لتسرب الشعر من قبضة اللغة وهروبه إلى فنون بصرية أكثر إقناعًا… لكل ذلك ولأكثر من ذلك. في كل الأحوال وبالعودة إلى لغة الحروب: أصبح الشعر ملجأ أكثر منه سلاحًا. الشعراء الذين ما زالوا يظنونه سلاحًا يبدون هزليين ومضحكين بشكل كبير. لم يعد الشعر وسيلة نقل مناسبة للأفكار والعنتريات البالية، بل أصبح درعًا واقيًا لاتقاء التلوث في أحسن الأحوال… كمامًا واقيًا لكي لا نلتقط المزيد من الجراثيم والأوبئة اللغوية والحياتية الضارة.
الشاعر هنا أصبح حارسًا ولم يعد محاربًا.
راهن الشعر الموريتاني الحديث
الشيخ ولد سيدي عبدالله
أكاديمي موريتاني
يواجه أي باحث في الشعر الموريتاني الحديث مشكلة في تصنيف هذا الشعر وتقسيمه إلى مدارس واتجاهات على غرار ما يحدث مع الشعريات العربية المماثلة. فقد مارست القصيدة الكلاسيكية التقليدية سلطتها على التلقي والإبداع في موريتانيا ردحًا طويلًا من الزمن، فغطت بذلك غابة الإبداع الشعري، بحيث لم تترك أي مجال للأجناس الأدبية الأخرى، وكذا الأشكال الشعرية اللاحقة للظهور، فقد ظل الشعر العمودي مستحوذًا على الذائقة الأدبية الموريتانية، وربما لا يزال حاضرًا بمستوى لا يستهان به من القوة والتأثير.
ويعود السبب في ذلك إلى البنية التكوينية للثقافة الموريتانية، التي ظلت إلى وقت قريب، ثقافة شفهية، في بعض مناحيها، «محظرية» في مناحي أخرى، وقد اهتمت في تأسيسها على الثقافة التراثية، سواء منها الدينية أو الأدبية، فكانت «المحظرة» بشكلها المحافظ أكبر فاعل في تحديد العلاقة بين المبدع والمتلقي، وهذا ما نلحظه في قراءة سريعة لحياة الشعراء الموريتانيين الكبار ومشاربهم الثقافية، ومعاصريهم من متلقي الشعر ومتذوقيه.
حين أنشئت جامعة نواكشوط في ثمانينيات القرن العشرين، وعاد أبناء البلد من رحلتهم العلمية التي قادتهم إلى جامعات مشرقية ومغربية وأوربية، بدأ التفكير النقدي يتبلور حول كثير من القضايا الشعرية، وفي مقدمتها قضية الأصالة والمعاصرة. وفي مقابل هذه المواقف، قامت معركة الشعر الجديد بمحاولة خلق ذائقة غير تقليدية، قادرة على فهم حركة الزمن والإبداع، متدثرة بثقافة جديدة، تمكنها من التعامل مع الرموز الشعرية وما تحيل إليه من دلالات. وهي محاولة جسورة في ميدان يسيطر عليه المحافظون بشعرهم وبخلفيتهم التراثية، التي سيجت الإبداع بمتاريس من التقديس، تجعل تجاوزه مسألة في غاية الصعوبة. والحقيقة أن اعتماد وسيط أو رقيب تقليدي بين الشاعر والمتلقي، هو السبب في إحداث الهوة بين الواقع والإبداع؛ ذلك أن الرقيب التقليدي المحافظ يسعى إلى فرض قوالب نصية، ومعجم لغوي خاص، بحيث يرى أي خروج عليه كفرًا إبداعيًّا وعقوقًا ظاهرًا, وهذه الوصاية هي السبب في انفجار الثورة، من طرف بعض الشعراء الذين عرفوا بالولاء للقالب التقليدي نفسه. فهؤلاء الشعراء لا يرون المشكلة بين دعاة التجديد والمحافظين مشكلة شكلية، إنما هي لغوية، تعبيرية.
يقول الشاعر فاضل أمين: «إن سجن الأديب وراء جدار سميك من اللغة حكاية قديمة مجها الأدب المعاصر؛ ذلك أن الناس هم الذين يملكون حق إعدام الكلمة أو خلقها، والشاعر ليس بوابًا في المجمع اللغوي، وليس موظفًا عند الخليل والأصمعي، إنه هو الذي يخلق لغته، وعليه أن يترصد لغة الجمهور الذي يكتب له»(1). وهذا ما عبرت عنه النقاشات التي فجرتها قصيدة «السفين» للشاعر أحمدو ولد عبدالقادر عام 1984م، التي كانت «مؤطرة بالبحث عن الشعر الجديد، وما يطرحه من قضايا، وكانت الاختلافات بين المتخالفين أو المتكاتبين، اختلافات في التصور النقدي، الذي ينطلق منه كل فريق، والخلفية الفكرية التي تحكم هذا التصور»(2).
ويرى الدكتور محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم أن أهم نقاش عرفته قضية «الشعر الجديد» في موريتانيا هو ذلك الذي حدث عام 1986م والذي لم يكن «وليد نص إبداعي، كما هو الشأن بالنسبة لحوار 1984م، إنما وليد طرح نقدي، يصطدم مع طرح آخر مخالف له في التصور، ومعزز بخرق جمهور لم يتعود بعد على أساليب الشعر الحديث، وجماليات تقبله»(3).
الوعي بالحداثة
والحق أنه على رغم سيطرة الذائقة التقليدية على العملية الإبداعية الموريتانية، وعلى رغم سلطتها القاسية التي تفرضها على الشاعر، فإن اتساعًا صامتًا لدائرة الشعر الحديث والمهتمين به، كان يحدث من دون علم المحافظين. فقد مكنت المناهج الأدبية الحديثة في الجامعة، وانفتاح جيل الشعراء الشباب على نتاج نظرائهم العرب، وتعرف المبتعثين من الطلاب الموريتانيين إلى الجامعات العربية على النظريات النقدية الجديدة، وعلى الشعر الجديد، من إماطة اللثام عن الشعر الجديد، ودفعه إلى المزاحمة العلنية للشعر التقليدي وحرّاسه.
لقد صاحب هذه الثورة، فهم جديد لكثير من القضايا الشعرية، التي أصبحت هي الأخرى بحاجة إلى نوع من التغيير والإدراك، حتى تؤسس الدعامة الكبرى لاستمرار الإبداع الشعري الجديد، ولهذا جاء فهم الأصالة والمعاصرة من طرف جيل الحداثة، فهمًا مغايرًا للجيل المحافظ؛ بل إن وعيًا ثوريًّا بالحداثة بدأ يكشف عن نفسه، في التعامل مع الشعر ومع الثابت والمقدس في الثقافة الوطنية. يقول الدكتور سيد الأمين ولد سيد أحمد بناصر: «يشهد الشعر الموريتاني قطيعة حاسمة وجذرية بين تيارين شعريين؛ الأول تيار التقليد، وينحو منحى كلاسيكيًّا تقريريًّا، بشكل يجعله معزولًا تمامًا عن الإبداع العالمي والعربي، وأما التيار الثاني فهو تيار الحداثة الذي ما فتئ يبحث عن متنفس للقصيدة، ينقلها من واقعها التقليدي إلى آلياتها المعاصرة (…) وأظنني من الجيل الذي يحاولفك العزلة وغلق باب التجمد، هذا التيار في نظري هو القادر على مسايرة ركب الحداثة العربية، وعلى عاتقه تلقى مهمة النهوض بالشعر في هذه البلاد»(4).
إن آراء المؤيدين للحداثة من هذا الجيل، تنبثق أساسًا من الفهم الفني للنص الشعري الحديث، في مسايرة للظرف الزمني للإنسان الموريتاني وعلاقته بالآخر، شكلًا ومضمونًا، إبداعًا وتنظيرًا، لهذا فليست الحداثة لهم انبتاتًا مطلقًا من التراث، إنما هي محاولة لفتح حصون ذلك التراث، وفك متاريسه المنغلقة أمام الحداثة؛ ليكون هناك تكامل بين الأصالة والمعاصرة، وهذا ما جعل بعض الحداثيين الموريتانيين يستخدم الشكل التقليدي للقصيدة؛ ليبدع من خلاله نصًّا حداثيًّا، موغلًا في التكثيف والتفجير الدلالي.
أما الشاعر ببهاء ولد بديوه فيرفض الرأي القائل بأن الحداثة نبذ للتقاليد، وأنها ثورة شاملة على التراث، وينطلق من أسس فنية تربط الشعر الحداثي بالشعر التقليدي؛ إذ يقول: «إذا كان هذا هو مفهوم الحداثة فليس ثمة من شعر حداثي، لا في الشعر الموريتاني، ولا في الكثير مما يسمى شعرًا عربيًّا حداثيًّا؛ إذ إن هذا الشعر سواء كان في موريتانيا أو غيرها من البلدان العربية، لا يخرج عن تقليد أخذ يتأسس ابتداء من الخمسينيات، وله جذوره الممتدة، مثل شعر «البند» الذي عرف انتشارًا واسعًا في العراق منذ القرن العاشر الهجري، ومن ثم فإن هذا الشعر الحداثي، لم ينبذ تقاليد الشعر العربي القديم، وإنما حاول تكييفها لتتلاءم مع التحولات الجذرية، التي يعرفها العالم»(5).
ونتيجة لهذا تأكد ارتباط النص الحداثي بأصله القديم، ولكن هذا الارتباط لم يكن عائقًا في سبيل تغيير بعض الأشكال والمفاهيم التي تحققت على يد شعراء الحداثة، وهي تغييرات لا يستبعد أن تكون لها جذور في التراث، يقول ببهاء: «الحداثة العربية الشعرية، ثورة في الشكل والمضمون، لها امتدادها المترسخ الجذور في التراث، وخاصة في جوانبه الثورية، فمن ناحية الإيقاع فإن هذا الشعر بدأ يؤسس منذ السياب تشكيلًا إيقاعيًّا، يحاول التحرر من البيت باتجاه الدائرة؛ فالقصائد الأولى التي ظهرت من هذا الشعر غير ملتزمة بعدد من الأجزاء (المفاعيل)، ولا بقافية موحدة أو غير موحدة، ولكن مرور الزمن أظهر أن هناك تطورًا مستمرًّا في الإيقاع، حيث صار لبعض القصائد التي هي أكثر جدة، وحدة إيقاعية من بدايتها حتى نهايتها، كما حاول هذا الشعر أن يجعل القصيدة تتحرك بحرية، بدل أن تظل محصورة في أغراض محدودة، وهو ما نتج عنه تطور كبير في معجم هذا الشعر.. »(6).
والحداثة من هذا المنظور مرحلة تطورية للشعر التقليدي، من حيث الإيقاع واللغة، وعلاقتها بشعر التقليد هي علاقة (محاورة)، فهي تنطلق من القديم، لتتجاوزه، مع بقاء صلاتها به وثيقة. وغير بعيد من هذا الرأي يتبنى الشاعر الدكتور إدي ولد آدب مقولة للشاعر الإنجليزي إليوت؛ إذ يقول: «إن الجديد كل الجدة رديء كل الرداءة» وهو بذلك يريد أن يقول: إن الحداثة لا يمكن أن تكون انقطاعًا ولا انفصالًا عن الجذور، وذلك لأن الانقطاع عن التقاليد الأدبية، لا ينتج عنه إلا غياب القيم، التي بها ننظر إلى ما نبدعه من قيم جديدة، فهل يمكن لغياب القيم أن يكون قيمة في حد ذاته؟»(7). ويرى أن دعاة الانقطاع عن الجذور مصابون «بنوع من التطرف الحداثي» سواء في ذلك الشعراء والنقاد.
التطرف الحداثي
أما الشاعر الدكتور بدي ولد ابنو فكأنه في رأيه حول الفهم الخاطئ للحداثة، يرد على رأي إسلم ولد بيه المذكور آنفًا، وذلك في معرض حديثه عن العلاقة بين الشكل التقليدي والشكل الحداثي للنص الشعري المعاصر. يقول الدكتور بدي: الحداثة نظر إليها طويلًا في المشرق على أنها طريقة جديدة في إعادة توزيع الكلمات هندسيًّا على الورقة، والأمر أحيانًا يصل إلى درجة بالغة السطحية، يكفي عند البعض أن يحذف من القصيدة رويها، وأن يعاد توزيعها لتصبح قصيدة حديثة؛ فعند نقاد معاصرين يعني مصطلح «القصيدة الحديثة» كل قصيدة لا عمودية، حتى لو كانت عمودية فعلًا، ولكن توزيعها على الأسطر لا يوحي بذلك لأول نظرة، وبهذا المعنى لا يصبح الإبداع إلا لعبة شد وتمطيط»(8).
ويتفق الشاعر بدي مع الشاعر سيد الأمين حول الحداثة الشكلية؛ فالقالب ليس معيارًا للجدة أو التقليد. يقول: «ما يهمني هو الشعر». الشعر أولًا. للقصيدة أن تكون عمودية أو شعر تفعيلة أو خارج الإطارين، ولكن أن تكون قصيدة «إبداعًا»، ثمة قصائد تفعيلة وقصائد تسمي نفسها (نثرية) بالغة التقليدية، وثمة قصائد عمودية بالغة الحداثة، القصيدة كل متكامل والحكم عليها لا يمكن أن يكون جزئيًّا، تكون القصيدة في نظري حديثة حين تكون إبداعًا، وأول ما يجعلها كذلك أن لا تفرض عليها أفكار خارجة قبلية، لمجرد أن الرأي السائد يفضل إطارًا معينًا(9). ويرفض أن ينتمي لتيار الحداثة، الذي سيطر عليه كثير من الأدعياء، فاستولوا على اللفظ «حداثة» لا على المعنى؛ لذلك فهو ينتمي إلى ما سماه الحداثة الأخرى: «أنتمي إلى ما بعد الحداثة، أنتمي إليها زمنيًّا؛ لأن ما بعد الحداثة راجت في سنوات الثمانينيات التي بدأت أنشر فيها».
وفي محاولة منه للتنظير لمفهوم «الحداثة الأخرى» يقول: الحداثة الشعرية العربية، أي تجلي الإبداع الشعري زمنيًّا، تم خنقها منذ ما يسمى بعصر النهضة، ولذلك أعتقد أن حداثة ستبدأ اليوم نسميها الحداثة الأخرى»(10). أما الشاعر أحمدو ولد عبدالقادر، فها هو بعد مرور سبعة عشر عامًا على كتابته قصيدة «السفين» والنقاش الذي أثارته، يرى أن فهم الحداثة الشعرية رهين بشموليتها لكل مناحي الحياة، وهو رأي في نظرية التلقي؛ ذلك أن «الحداثة عندنا تكاد تكون قاصرة على الإنتاج الشعري، مما جعل الشعر في وادٍ والحياة في واد، ولكي يكون الشعر الحداثي مفهومًا، متقبلًا، لا بد أن تكون الحداثة شاملة لجميع مجالات الحياة، وأن تكون الفنون مواكبة للشعر في اتجاهه الحداثي، حتى يكون لهذه الحداثة إطارها وسياقها الذي لا يمكن أن يكون لها إلا به»(11).
وفي محاضرته عن «الخطاب الشعري الحداثي في موريتانيا»(12) التي ألقاها في «بيت الشعر»(13) يوم الثلاثاء 8 إبريل 2001م يدرس الدكتور المختار ولد الجيلاني، التحول الإبداعي للشعر الموريتاني، من خلال سبعة دواوين شعرية لخمسة شعراء من جيل الشباب، وهي في نظرنا أهم دراسة أكاديمية(14) آنذاك، تجاسرت على تحليل الجماليات النصية للقصيدة الحداثية في موريتانيا، وهذا سر تركيزنا عليها. ففيها يمايز مفهوم الخطاب «الذي يتلاءم أكثر مع الشعر الحداثي، حيث يتخلق النص الشعري مجراه كما النهر، دون أن يكون للتقاليد الشعرية السابقة أثر في توجيه هذا المجرى، من مفهوم القصيدة «الذي يتلاءم مع النص الشعري التقليدي لاشتقاقه من القصد». ومن هذا التحديد يحاول إبراز مدى مطابقة هذه المفاهيم -ولو جزئيًّا- مع الشعر الحديث في موريتانيا انطلاقًا من خمسة نصوص وردت في الدواوين السبعة المذكورة آنفًا وهي:
دموع غيلان لسيد الأمين بن سيد أحمد بناصر(15)
رحيل لمباركة بنت البراء(16)
الكشف لبدي ولد ابنو(17)
الشريد لببهاء ولد بديوه(18)
رسائل سرية إلى شخصيات سرية لمحمد ولد عبدي(19)
وبعد «أن تناولت الدراسة هذه النصوص من حيث سبكها الموسيقي والمعجمي والنحوي، ومن حيث حبكها الدلالي والبراغماتي أمكننا أن نخرج ببعض التصورات» ويرى المحاضر أن هذه التصورات لا يمكن تعميمها على المشهد الشعري الحداثي في موريتانيا، ولكنها قد تكون مستوعبة على الأقل لجزء غير يسير منه. وملاك القول أن الخطاب الشعري الحداثي في موريتانيا، على رغم محاولة إنتاج نص معبر عن عصره وعن العقلية الجديدة، فإنه ما زال مرتبطًا بخيط رفيع مع التراث والأصالة. بيد أن ميزته المهمة هي أن أغلبية رواده والمدافعين عنه، مارسوا إلى جانب الكتابة الشعرية، عملية تنظير وتحليل ومسايرة للتطورات الحاصلة في حقول الإبداع الإنساني.
ويمكننا أن نتفهم ذلك البعد النقدي عند شعرائنا، فهم مطالبون بتفسير الثورة على قوالب وأشكال فنية عمرها مئات السنين، ثم عليهم بعد ذلك أن يقنعوا المتلقي بتلك التفسيرات، ولنا أن نتصور صعوبة المهمة في مجتمع كالمجتمع الموريتاني، الذي يمتح جهاز قراءته من منهاج (المحظرة) حيث يتربع الشعر العربي القديم على قمة الدرس الأدبي، وحيث منتهى الفتوة يكمن في تقمص الصورة الإبداعية للشاعر العربي القديم.
هوامش:
1 – فاضل أمين – على باب المناجزة الأدبية – جريدة الشعب – بتاريخ 14 سبتمبر 1976م.
2 – د. محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم – ظهور الرواية الموريتانية، – مصدر سابق.
3 – نفسه.
4 – نسخة جريدة الشعب من (كتاب في جريدة) الخاص بالشاعر السياب- وما بين ص30-31 مقابلة مع الشاعر سيد الأمين ولد سيد أحمد بن ناصر.
5 – (بيت الشعر يواصل نشاطاته) جريدة الشعب – العدد 7153 بتاريخ 24 – 26 مايو 2001م.
6 – نفسه.
7 – نفسه.
8 – بدي ولد ابنو – صلوات المنفى الباريسي – ط1 – باريس 1998م – ص: 179.
9 – نفسه ص:185-186 .
10 – نفسه – ص 190.
11 – الشعب، العدد 7153 (بيت الشعر يواصل نشاطاته) – مصدر سابق.
12 – منشورة في جريدة الشعب، المصدر أعلاه.
13 – هو منتدى أقامه بعض الشعراء والنقاد من بينهم د. محمد ولد بوعليبة والشعراء ببهاء ولد بديوه و إدي ولد آدب وغيرهم وقد بدأ نشاطه عام 2000م.
14 – هي عرض لرسالة الباحث لنيل شهادة الماجستير من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة عام 2000م، وقد صدرت في كتاب يحمل العنوان نفسه عن دار يوسف بن تاشفين والإمام مالك عام 2006م.
15 – من ديوانه تيه المراكب – ص: 5.
16 – انظر الوسيط في الأدب الموريتاني الحديث (مجموعة باحثين) – ط 1 – نواكشوط 1997م – ص:61.
17 – من ديوانه مدائن الإشراقات الكبرى ، ط1، دار القلم، باريس1996م، ص:17.
18 – من ديوانه أنشودة الدم والسنا – ط1 – مكتبة الآداب – القاهرة 1995م – ص:36.
19 – من ديوانه الأرض السائبة – ط1 – أبو ظبي 1995م – ص:49.
الشعر في حال انحسار وضيق
عباس بيضون
شاعر وصحافي لبناني
كلمة مأزق ليست الكلمة المُثلى والأصحّ في توصيف حالة الشعر العربي الحديث اليوم، أظن أن الكلمة الأصح هي الانحسار، أو الضيق، أو التراجع. فالشعر عالميًّا هو في هذا الوضع المناسب، وأظنّ أن الشعر العربي يلحق بهذا الوضع الذي بدأ في الغرب، وهو يكمل مسيرته هكذا. بدأ الشعر يتراجع ويفقد قرّاءه من سبعينيات القرن العشرين، هذا بالقياس إلى الرواية التي لا تزال تجد قرّاءً. ولا ننسى أن التطورات التقنية (الإنترنت وسواه) لم تُفقد الرواية حضورها وقراءها، على رغم أننا لا نعرف الآن ماذا سيكون تأثير التقنية الحديثة في الرواية على المدى البعيد.
أظنّ أن مشكلة الشعر ليست فقط مشكلة عامة تلحق بكل الأنواع الأدبية، إنها مشكلة خاصة؛ إذ إن الشعر بدأ مُغنّيًا للعالم ومادحًا للحياة ومُحرّضًا عليها، أي أنه بدأ إيجابيًّا. وحين نقرأ الشعر القديم نجد أنه في الدرجة الأولى محرض على الحياة، ومادح للحب والجمال وللحياة عامة. أي أن الشعر بدأ إيجابيًّا، وهذه الإيجابية لم تبقَ للشعر في الأزمنة الحديثة؛ إذ إن الأدب والفن عامة استحالا سلبيّين بالتدريج. ويكفي أن ننظر إلى الرواية الحديثة منذ بلزاك إلى كونديرا لنجد أن الرواية فنّ سلبيّ، إنها رواية التهافت الاجتماعي والوجودي. لا نجد الرواية إيجابية إلا في القليل، والروايات الإيجابية أي الإنسانوية هي أقل الروايات انتشارا. والسلبية هنا نقدية وفيها تشاؤم.
حدث أن الشعر بإيجابيته وغنائه لم يعد مناسبًا لوقته. بدأ ينحدر إلى ما وصلت إليه الرواية. بدأ يصبح هو الآخر سلبيًّا وعدميًّا، أي أنه فقد وظيفته الأولى. ثم إن الشعر فنّ مكبوت، فنّ شبه صامت، فن مضمر، لا يظهر منه سوى رأسه، ويبقى جلّه مكتومًا. يحتاج الشعر من صانعه وقارئه إلى معاناة فعلية، إلى تركيز شديد يصل إلى حدّ الاختناق. كما يحتاج الشعر إلى قدرة كبيرة على التأويل لا يتمتّع بها كثير من القرّاء. العلامة بين الشعر وقارئه علامة صراع ولا بدّ أن يكون في القارئ شاعرٌ أو شبه شاعر؛ ليستطيع أن يتكيّف مع النص؛ لأن بين القارئ والشاعر تواطؤًا وشبه تعاقد على الطريقة والشكل، حيث إن هذا التعاقد إذا لم يوجد لا يمكن للقارئ أن يقبل الشعر.
الشعر الآن هو فنّ بين أشباه شعراء، وهذا لا يمنع أن الشعراء يتكاثرون؛ لأن الشعر يبقى حاجة. يكفي أن نفكّر بالغناء مثلًا لنفهم أن الشعر حاجة. دائمًا كان هناك شعراء قلّة أو قلّة من الشعراء القادرين على أن يجترحوا اللغة. وفي الكتابة لا يزال الوضع هكذا. لا أفقد الأمل في أن الأجيال الحالية والقادمة ستأتي بشعراء جيّدين.
الشعر بإيجابيته وغنائه لم يعد مناسبًا لوقته. بدأ ينحدر إلى ما وصلت إليه الرواية. بدأ يصبح هو الآخر سلبيًّا وعدميًّا؛ أي أنه فقد وظيفته الأولى. ثم إن الشعر فنّ مكبوت، فنّ شبه صامت، فن مضمر، لا يظهر منه سوى رأسه، ويبقى جلّه مكتومًا