تأملات في المترو والقطار من زوايا ثقافية واجتماعية وجمالية
ملف العدد يشارك فيه: فيصل دراج، عبدالقادر الجنابي، حسونة المصباحي، مشاري النعيم، زياد عبدالله، أمجد ريان، جاكلين سلام، يوسف المحيميد، هاني الصلوي، ليلى الأحيدب،جبير المليحان، هناء حجازي، حنان الأحمدي، الهنوف الدغيشم، منى المالكي، أمل التميمي، حنان الحارثي، أسماء الزهراني، أثير النشمي، نوير العتيبي، وغيرهم.
لا تقرأ القصائد… اقرأ جدول القطارات
الذي اخترع وسائل النقل العام؛ القطار، والمترو، لعل أول ما تبادر إلى ذهنه قهر المسافة واختراق الزمن، فكَّر كيف يربط بين مدن متناهية في البعد، ويصل بين بلاد كان مستحيلًا وصلها. لكنه ربما لم يتخيّل، على الرغم من سعة خياله، أن يتحول هذا الناقل، في الأزمنة الحديثة، إلى طفرة في منسوب الوعي، وثورة في مفاهيم العيش المشترك وفي تداخل الاجتماعي والثقافي والجمالي، وتحوُّل جذري يطول أشياء كثيرة، تحول تشهده المدن، تتغير به وتُغيِّر من خلاله، فلن تعود المدينة هي المدينة نفسها قبل أن تعرف هذا الناقل، كما أن سكانها يخضعون بمشيئتم أو رغمًا عنهم، للتحول.
في القطار والمترو يلتقي بشر ينتمون إلى شرائح اجتماعية وأعراق وديانات، يعكسون أنماطًا من السلوك، ومستويات من التفكير. هذا الالتقاء الذي قد لا يدوم طويلًا حسب زمن الرحلة، كفيل بجعلنا نعرف، من الوهلة الأولى، إذا ما كان هذا المجتمع لديه قابلية للتعايش مع الآخر، أيًّا كان نوعه وجنسيته، ومشاركته لحظة من الزمن، أو أنه يسدل ستارًا من حديد في وجوه الآخرين، منطويًا على نفسه ومواطنيه.
يتحول اللقاء في الناقل العام إلى مختبر للحريات والمسؤولية الاجتماعية والشرط الأخلاقي للتعايش والقبول بالآخر، وربما إلى مرآة لطبائع الناس ولهجاتهم، للأفكار والمشاغل والهواجس اليومية لسكان المدينة.
وإذا كانت القطارات والمترو بنت خيال جامح، فإنها بدورها غذّت خيالًا أكثر جموحًا عند شعراء وأدباء رأوا في هذه اللقاء الكرنفالي، مناسبة يمكن تحويلها إلى متخيَّل أدبي، عناصره حالِمة بقطع المسافات وارتياد الآفاق، وأبطال يفتشون عن انتصارات، أو جنود جرحى عائدون من معارك خاسرة، أو عشاق للتوّ فارَقَ بعضهم بعضًا؛ عمّال وأرباب عمل، موظفون ومديرون، نساء ورجال وأطفال، أو غرباء يبحثون عن معنى حتى لو من خلال رحلة لا وجهة محددة لها، أو لصوص وقطاع طرق وقتلة يهندسون حِيَلًا للانقضاض على ضحاياهم.
ستتحول القطارات والمترو إلى فضاء لروايات تحوك مصاير شخصياتها من تفاصيل الرحلات ذهابًا وإيابًا، وإلى أجواء لقصائد تَتلمَّس أسرار الزمن وكُنْه الوجود، ستحمل نفوسًا سعيدة، وستجد ذواتٌ معذبة تحت عجلاتها السريعة راحتها الأبدية.
ولئن كانت مناسبة هذا الملف الذي تقدمه «الفيصل» لقرائها هي استمرار العمل على «مترو الرياض»، الذي يتوقع أن يُحدِث تحولًا جوهريًّا في المدينة، فإننا وجدنا أن وسائل النقل العام جديرة بالانتباه والتأمل، انطلاقًا من زوايا جمالية واجتماعية وثقافية واقتصادية، في حضورها الذي بات أساسيًّا ليس فقط في حياة المجتمعات وصيرورة المدن، إنما أيضًا في المُتخيَّل الأدبي، وفي منطوق المفكرين والفلاسفة والشعراء، كالشاعر الألماني الذي عبر بقوله: «لا تقرأ القصائد يا بُني… عليك أن تقرأ جدول القطارات!».
حكاية القطار الذي جمع، طواعية أو غصبًا، بين شعوب لا تتكلم لغة واحدة السرعة والمسافة وتبدّل الأزمنة
فيصل دراج – ناقد فلسطيني
لا تنفصل الرواية، من حيث هي جنس أدبي حديث، عن ظواهر الأزمنة الحديثة، سواء أكان ذلك في حقلي الاقتصاد والسياسة، أم في حقل العلوم الإنسانية. فقد صعدت في القرن الثامن عشر إلى جانب غيرها من الظواهر الصاعدة، الممثّلة بالثروات القومية والصناعية والعلمية والفلسفية؛ ما أعطى المجتمع الإنساني ملامح جديدة، وجعل من القرن الثامن عشر «عصر التاريخ»، بلغة المؤرخين.
أرادت «الحداثة الأوربية»، بلغة معينة، أو «رأسمالية الغرب المنتصرة»، بلغة أخرى، أن تروّض الجغرافيا، وأن تربط بين أقاليم الأرض المختلفة، مقصِّرة المسافات، وفاتحة الحضارات الإنسانية بعضها على بعض. وسواء صدرت «الجغرافيا الإنسانية الجديدة» عن تحديث أملته «الثورات العلمية»، التي واجهت المجهول بالمعلوم، أو عن طموح الإنسان الأوربي بأن يكون سيدًا على العالم، فقد أسست لبيئة إنسانية جديدة، مختلفة الأعراق والأديان والتقاليد. ارتبطت البيئة الجديدة بوسائل اتصالات غير مسبوقة، احتل فيها «القطار» مكانًا مميّزًا. وما حكاية القطار إلّا حكاية القوة والمعرفة، وحكايات الفضول الإنساني الذي جمع، طواعية أو غصبًا، بين شعوب لا تتكلم لغة واحدة.
لا غرابة أن يظهر القطار في روايات أوربية، اتخذت من الشعوب «المكتشفة» موضوعًا لها. فللقطار مكانة في الصفحات الأولى من رواية ريديارد كبلنغ «كيم» عن الهند حيث يتحرك «السيد الإنجليزي» متوسلًا القطار، ومتحدثًا عن وسيلة نقله باطمئنان لا ينقصه التبجح. وإذا كان كبلنغ، الذي لا يقتصد في عنصريته، رأى في القطار أداة انتقال وسيطرة، فإن مواطنه إي. إم. فورستر في روايته «ممر إلى الهند»، يأخذ بمنظور مغاير، كارهًا الاستعمار الإنجليزي، متعاطفًا مع ثقافة «أصيلة» غريبة عن الموروث الإنجليزي، دون أن ينسى القطار.
أداة سفر وإشارة ثقافية في آنٍ واحد
أخذ القطار لدى كبلنغ وفورستر، كما في روايتي الفرنسي جول فيرن (حول العالم في ثمانين يومًا وميشال ستروغوف) دلالتين: فهو موضوع مباشر من ناحية كونه أداة انتقال وسفر، وإشارة ثقافية في آنٍ واحد، عنوانها إنسان أبيض متفوق يواجه «ألوانًا» أخرى في أقاليم بعيدة من وطنه. ولعل هاجس السرعة، الذي يحايثه اللهاث، كما التنوع البشري في أداة نقلٍ تَلتهِمُ المسافات، هو الذي أقنع أغاثا كريستي، بأن تتخذ من القطار عنوانًا لروايتها البوليسية «جريمة في قطار الشرق السريع»، حيث احتمالات ارتكاب الجريمة من احتمالات طبائع المسافرين.
بيد أن القطار، في دلالتيه، لم يختصر في شخص الأوربي، بل توزّع على العالم كله. فرواية الأميركي ثيودور درايزر «الأخت كاري» تستهل بقطار ينقل فتاة ريفية إلى المدينة، تعيد صوغ أقدارها، كما لو كان القطار يبدّل المسافات والمصاير معًا. وربما دور القطار كجسم حديدي فاعل يتجسّد، أكثر وضوحًا، في رواية تولستوي الشهيرة «أنّا كارنينا»، حيث الزوجة التي وقعت في عشق لا يراهن عليه، تنتهي إلى موت تراجيدي تحت عجلات القطار. وإذا كان في القطار ما «يبدّد» المسافات، بلغة طليقة، كان مفترضًا، اعتمادًا على التبادل اللامتكافئ، أن يغدو «موضوعًا أليفًا» في البلدان التي فاتتها الثورة الصناعية، شأن العالم العربي. ولهذا احتل القطار مكانة في الرواية العربية. فللقطار دوره في رواية عبدالرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق»، حيث المثقف المغترب يلتقي، في القطار، آخرَ عاثِرَ الحظِّ يسرد له مسار حياة عامرة بالمشقة. وللقطار هنا دلالتان: يحقق لقاء بين غريبين، فيتبادلان الكلام والحكايات، وهو الإطار المعبّر عن العارض والمؤقت والصدفة «الحزينة – الطيبة»، فالغريب يجد ملاذًا في غريب آخر، يأنس إليه ويبوح له بأسراره على غير توقع.
أعطى المصري الراحل محمد البساطي القطار موضعًا في روايته «أصوات الليل»، كاشفًا عن معنى الزمن في القطار؛ يصل بين جنوب العراق والريف المصري، ويلامس أسئلة عن تواتر الأزمنة؛ ذلك أن الرواية، في صفحاتها القليلة (نحو مئة صفحة)، تسرد وقائع تمتد من «سقوط فلسطين» إلى سقوط العراق، وتسرد معها حكاية «ريفي بسيط»، منعته حياته الصعبة «تذكّر» عشق قديم. أما السوري ممدوح عدوان فأنجز، قبل رحيله، رواية تاريخية عنوانها «أعدائي»، سرد فيها سقوط العهد العثماني ومجيء الاستعمار، وقرأ «الحضارة الوافدة» في قطار بين تركيا والداخل العربي، يُقِلُّ امرأة تكرّس ذكاءها لخدمة القضية العربية.
القطار حكَّاء صامت
أخذ القطار، في الروايات السابقة، شخصية حكَّاء صامت، يروي بالإشارة والحركة، أو شخصية سارد يعبِّر عن سيولة الأزمنة. وإذا كان البساطي، المعلّم في اقتصاد الكلمة، قد أطلق لسان قطاره، وهو يكشف عن ذاكرة متعددة الطبقات، فإن جمال الغيطاني، في عمله «دنا فتدلى»، جعل من القطارات مجازًا لسيرة ذاتية متأسية، تميل إلى التصوف: «تمضي القطارات هادرة، مختالة، لكنها على القضبان وحيدة، في الخلاء منطلقة بمفردها مهما ثقلت الحمول لا تدوم الصلة إلا مقدار لقاء العجلات بالقضبان عند اكتمال السرعة» (دنا فتدلى- دفاتر التدوين. جمال الغيطاني). التبس القطار بشخصية إنسان يميل إلى الكآبة، له زهوه واختياله، ووحدته الباردة. ولعل «نزف الزمن»، الذي استغرق الغيطاني، في روايات متعددة، هو الذي جعله يرى القطار في «محطاته» المتواترة؛ إذ لكل محطة صفة وسمة، «تتلامعان»، قليلًا، قبل انطلاق القطار إلى محطة جديدة.
عبّر القطار عن غرب متفوق ينأى عن مركزه وينتشر في العالم، وعن «عالم تابِع» يريد أن يحاكي غيره ولا يصل. في مقابل ذلك فإن «المترو» صورة عن المدينة الحديثة، اللاهثة، العاملة، اللاهية، التي تضيق بالسطح العلوي المحدود وتذهب إلى عالم سفلي، هو امتداد للأول ونقيض له. والمترو، في الحالين، تجسيد لشرايين المدينة، يصل بين «قلبها» والأطراف المختلفة، ويؤمّن انتقال أهلها إلى مواقع قريبة أو بعيدة. فإذا أصابه عطل أشلَّ المدينةَ (حال أهل باريس) وأربك حياتها، كما لو كان آلة مطيعة ومستبدًّا واسع النفوذ معًا، ذلك أن حياة المدينة لا تنفصل عن «المترو»؛ ما يجعل من إضراب عماله حدثًا اجتماعيًّا في المدن الكبيرة.
ومـع أن للمتـرو سائقـه ومفتشه ورجـال أمنه، وهؤلاء العاثرين النائميـن فـوق مقاعـده -حتى منتصف الليل- والمتسولين بعزف على آلة موسيقية أو بيع «بضاعة فقيرة وغريبة»، فإن له، في ساعات الصباح والمساء، حشوده، أو تلك «الجموع»، التي تميّز المدن الحديثة، كما أشار والتر بنيامين في أكثر من مكان، التي تجمع بين أخلاط من البشر، لهم هيئاتهم ولغاتهم، والفضول الإنساني الذي يصل بين غريب وآخر، وبين «عامل أجنبي» وسيم الطلعة وامرأة عجوز نسيت عمرها، أو تذكّرته حين كانت مُقبلة على الحياة. سئل الروائي الفرنسي اليساري «روجيه فايان» عن البشر الذين تحتفي بهم كتاباته، فأجاب: «ركاب المترو في ساعات الصباح المبكّرة»، قاصدًا بذلك «العمّال» الذاهبين إلى المصانع.
كتب روجيه فايان عن فئة اجتماعية تركب «الدرجة الثانية»، وابتعد الروائي الفرنسي الكبير «سيلين» الذي اتهم بالفاشية، عن الطبقات وانصرف إلى دلالة الحركة وجمالية الأسلوب. ففي روايته «رحلة إلى آخر الليل»، التي هي من ذُرا الأدب الفرنسي في القرن العشرين، اتخذ فرديناند سيلين من المترو، أو مجاز المترو بشكل أدق، موضوعًا، قرأ به «عالمًا سفليًّا، وتأمل وجودًا إنسانيًّا واسع الاضطراب». اقترب من الفيلسوف باسكال، الذي قبض على ما هو جوهري في الوجود، وأعرض عن الظواهر النافلة: «في المترو الانفعالي، الذي أتعامل معه، لا أدع شيئًا للسطح»، يقول سيلين، محاولًا الإمساك «بأعماق» الواقع، وجاعلًا من الأعماق مبتدأ لقراءة كل شيء. ذلك أن السطح «مطروق» وقريب من الابتذال، يبتلع حركة ما فوقه ويشوّه دلالته، ويصيره إلى وجود رتيب فقير المعنى، على مبعدة من منظور سيلين الذي يحايثه انفعال حي ينجذب إلى الجوهري و«باطن الأمور». ولهذا رأى في «المترو» عتمته وغموضه وعمقه، أو «ليله الملتبس»، الغريب عن الليل والنهار العاديين. «كل ما أريده أراه في القاطرة العجيبة» ( Celine: Voyage as bout de la nuit, gallimard, «pleiade», 1981, p: 104, 102.)، يقول سيلين، بعد أن يقول: «لا إمكانية للوقوف، مهما تكن ضآلته، في أي مكان»، بل إن في لغة الروائي ضجيجًا يذكِّر «بعويل القطار». بلغة عبدالوهاب البياتي ذات مرة.
مترو مدينة تثير الأعصاب
تحيل الهاوية والأعماق والحفرة السوداء، وغيرها من مفردات سيلين، إلى «مترو» مدينة تثير الأعصاب وتقتات بالضجيج، يخترقها نظام يحدد التفاصيل ووظائفها، ويستدعي عقلانية باردة شديدة الحسبان. لا شيء من هذا في مدن عربية «تصحّرت» تسمع عن «المترو» ولا تعرف عن صناعته الكثير. ولأن الرواية العربية تعكس واقعًا تعرفه وتعيه، فهي لا تلتقي «المترو»، إلا نادرًا، حال مدينة القاهرة. فلم ينتبه إليه محفوظ، ولم يعره الغيطاني والبساطي ومحمود الورداني وغيرهم الكثير من الاهتمام. حتى لو انتبهوا إليه لكان، بالضرورة، مرورًا «عارضًا». فالمترو، الذي يترجم الدقة والنظام واحترام الزمن..، لا يأتلف مع «العشوائيات» والجموع المتداخلة؛ لأن في «العشوائي» ما يمحو غيره.
ربما يكون عمل مجدي الشافعي وعنوانه «مترو»، صورة عن استقبال «قطار الأنفاق» في الكتابة الأدبية المصرية، ومجازًا عن «هيئة القاهرة» في تعاملها مع «أداة نقل جديدة»، تخفّف من «كابوس المرور». فهذا العمل الذي طبع مرتين، كما يقول غلافه، قدّم نفسه «كرواية مصورة»، تصلح «للكبار فقط»، وذلك في طبعة جماهيرية عشوائية الملامح، تلتبس بالسخرية. تقوم «الرواية»، في صفحاتها المئة، على رسم بالأبيض والأسود قوامه «الكاريكاتير»، حيث الصور الساخرة و«كتابة عامية» متشكية، تزجر القائم وتشتكي من الزمن، يصبح «المترو» إطارًا خارجيًّا للعمل؛ إذ تختلط اللغة العامية بمحطات المترو الملاحقة: محطة المعادي، ومحطة محمد نجيب، ومحطة أنور السادات، ومحطة السيدة زينب، ومحطة جمال عبدالناصر،… وفي كل محطة شكوى تستأنف شكوى محطة سابقة،… والسؤال هو: ما الذي جعل الشافعي يدرج «المترو» في فضاء كاريكاتيري عامي اللغة؟ والسؤال الثاني: هل أراد في ركونه الساخر إلى «مترو الأعماق»، أن يعلن عن أعماق القهر الشعبي المصري، الذي يدور حول ذاته بلا أفق؟ ربما كان القهر الشعبي الذي يطغى على غيره هو ما أعطى «المترو» حضورًا ومضيًّا، محتملًا، في روايات مصرية أخرى، مثل «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، التي مرت على حياة عشوائية لا ينقصها الكاريكاتير، و«البحث عن دينا» لمحمود الورداني التي تحدثت عن ركام التداعي والإخفاق، ورواية يوسف القعيد «قسمة الغرباء» التي عالجت الوعي الطائفي الماسخ؛ تستدعي هذه الروايات، كما غيرها، مفهوم الشكل، الذي يبدو واضحًا في عالم عقلاني تبنيه الأشكال، بعيدًا من عشوائيات يكسوها السديم.
أدار جبرا إبراهيم جبرا حوارًا رحيبًا بين غرباء في روايته «السفينة»، كما لو كانت تقلّ ركابًا لا يعرف بعضهم بعضًا، وتقلّ معهم ثقافاتهم المختلفة، ووضع عبدالرحمن منيف في قطار «الأشجار واغتيال مرزوق» غريبين يتبادلان القصص، ولم يعثر المصري مجدي الشافعي في «مترو» القاهرة، إلا على بقايا الكلام وهيئات مشوّهة.
في كتابه المثير للإعجاب «كل ما هو صلب يتحوّل إلى أثير»، تكلم مارشال بيرمن عن الإنسان الحديث ملمحًا إلى الطرق الواسعة والقطارات و«المتروات العجيبة»، مؤكدًا أن حداثة الآلة التي يستعملها الإنسان لا تستقيم إلا بإنسان له وعي حديث.
القطارات كلها اسمُها رغبة
عبدالقادر الجنابي – شاعر وناقد عراقي
كم أتوق إلى الأيام التي وصلتُ فيها إلى لندن (مطلع عام 1970م) واكتشفت ما لم يكن لدينا في بغداد: الأندرغراوند (Underground) بأنفاقه العميقة تحت الأرض، وعربات قطاراته العتيقة. فأدركت فورًا كم كانت تفتقر الحداثة الشعرية العربية آنذاك إلى ما كان يمكن أنْ يجعلها حديثة: السرعة ومعمعان الخيال. محطة «هولبورن» ربما هي المحطة الأعمق في لندن… حين كنت أنزل سلالمها المؤدية إلى رصيف القطار، كنت أشعر أني أنزل في إحدى ردهات كوميديا دانتي الإلهية. ففي هذا العالم السفلي ترى سكان لندن بمظلاتهم، وجرائدهم وقبعاتهم يتزاحمون بانتظار القطار الأفعى… وإذا بأبوابه تنفتح فتجد نفسك في العربة واقفًا وسط الزحام أو جالسًا قبالة امرأة أو رجل أو مقعد فارغ.
أحبُّ كثيرًا نافذة القطار لأنّها تختلف عن كلّ نوافذ المواصلات الأخرى… لربّما بسبب ما تخلقه السرعة، أو ما يسمّى السرعة في السكون، من صور تتعاقب كشريط سينمائي… فهي ليست مجرّد زجاج، إنما مرآة نابضة يمتزج فيها عالم القطار الخارجي الفسيح بعالمك الداخلي الصغير… المناظر التي يمر بها…، بأخيلة اليقظة التي تتقوْقَع فيها… نافذة القطار «منظر ذهنيّ» بامتياز؛ تومض فيها صورةٌ دفينة؛ رغبتك المقموعة التي غالبًا ما تتراءى حلمًا… حين أتراءى في زجاج النافذة بصفتها سطحًا عاكسًا، لا أبحث عما يحدثه الشعاع الساقط عليه، ولا أريد أنْ أشعر بنرجسيتي… إنّما أبحث عمّا تحدثه سرعةُ القطار من امتزاج خيميائي بينهما… كما لو أنّ شريطَ فلم ينفلت، فتُعيد لفَّه في أعماق ذاتك… الزجاج الذي يفصل بينك وبين خارجه، هو عينُ الحاجز الذي يفصل بين وعيِك وما تحت وعيِك. اسند ظهرك إلى خلفية المقعد… وأَلْقِ بكلّ نظرك على زجاج النافذة، حيث يتدفق كم هائل من المناظر الخارجية… ابقَ مستسلمًا حتّى الانخطاف، حتّى تستيقظ ذاكرتك، يسقط شعاعها على الزجاج، فيرتدّ باتجاه عينك: وها أنت تسبح في سيلِ أناكَ البصريّ الذي تدفعه تدفّقات داخلية، لا عِلمَ لك بها من قبلُ، وإنْ هي في أعماقك تجري… وفي الوقت ذاته تحافظ على مسارك في واقع ملموس حتّى لا يفقد الانعكاس خطَّ سيره، فتجد نفسك في مدار الهلوسة! المسألة هي أنْ تعرف، حقًّا، كيف تنظر، من زاوية ما، إلى نافذة القطار حتّى تتراءى لك أعماقُك واقعًا وحقيقةً… (انظر روايتي القصيرة «المرآة والقطار» الصادرة عام 2017م عن «دار التنوير»، بيروت).
آه، كم كنت آخذ القطار ليس بهدف الوصول إلى محطة معينة، إنما لأغتني بأفكار جديدة…
***
مهما كانت محطةُ القطار بعيدةً، فإنها تبقى دائمًا أقرب من مطار! لا تاكسي ولا يحزنون… مجرد سلالم، سلالم، سلالم… وفي نهاية كل رحلة، يرتسم العالم كما هو: قطار!
***
القطار جَدّد المخيّلة الكتابية! فكلّ تطوّر حصل له، حصل للسرد في الجوهر… الصفحات هي سكك الكتّاب!
***
حين ينطلق بك القطار، يُغلِق ماضيك أبوابَه… وتُستأصَل جذورك… فلا يعود لك هُوية سوى ذكرياتك!
***
كم عمل السينمائيون على استغلال القطار كملجأ للصوص والمجرمين، ومخدعٍ للعُشّاق الفارّين. ما أجملَها نهايةَ فلم هتشكوك «شمالًا، إلى الشمال الغربي»، إذ نرى بطل الفلم «كاري غرانت» يمد يده لمساعدة بطلة الفلم «إيفا ماري سانت» المتشبثة بصخرة وهي على وشك أن تسقط في الهاوية، ثم يسحبها (وإذا بالمشهد يتغير) فنراه يرفعها إلى فراش المقصورة الخاصة بالعشاق! لقد قال هتشكوك: «إنه المشهد الأكثر وقاحة بين المشاهد التي صورتها في حياتي»!
***
القطار يعلِّمنا الصبر أكثر من أي واسطة نقل أخرى..
***
لا يمكن تنظيف نص من الشوائب إلا في قطار المترو… فقراءة قصيدة هنا لها تأثير مختلف عن قراءتها خارج المترو… فسرعة القطار وهمهمات الركّاب تُريك أين يكمن الخلل الإيقاعي… فتضطر إلى شطب أبيات وتنقل البيت الثالث، مثلًا، إلى نهاية القصيدة! لا يمكنك أنْ تكون عضوًا في ثريا الشعراء… إلا حين تكون قد أدركتَ الفرق الجوهري بين النسخة قبل أخذ القطار، والنسخة بعد خروجك منه!
***
إنّ أنفاق مترو باريس المتشعبة تشعُّبَ الأوردة في جسم الإنسان، لهي شرايين باريس. أيّ انعطاف في المترو داخل النفق هو الانعطاف عينه الذي تصادفه وأنت تمشي في شارع باريسي. قرأت لكافكا، تشخيصًا جميلًا، يقول فيه: «إن المترو يتيح للغريب أجود فرصة لكي يتصور أنه أدرك على نحو سريع ودقيق، جوهر باريس».
***
المترو يعلمك كيف تدرك أنّ الكتابة شبكة من الخطوط… وأيَّ خطٍّ من خطوط الخيال يجب أن تأخذ.
***
المترو هو «لا وعي» باريس الذي تغرف المخيّلةُ الشعريةُ من تيارِه أعمالَها!
***
في المترو يجد الروائي شخصيات روائية حقيقية: شحّاذين، لصوصًا، عاهرات، تجارَ مخدرات، بسطاء معروضين طوال الرصيف للإيجار… القرار يعود لمخيلتك: أي شيء صالح لرواية جديدة! أما الشاعر فحصته قليلة: بيت أو بيتان!
***
لا خوف في القطار إلا إذا جاء شخص لا تعرفه، وجلس إلى جانبك والعربة كلُّها فارغة…
***
القطار حياة… لذلك تبقى واعيًا بفكرة الموت طوال الرحلة. من يدري، ربما انحراف واحد عن السكة، ويُصبح اسمك مدونًا في لائحة المختفين.
***
ينام الأثرياء في مقصورات مخصصة للنوم؛ مدفأة ومجهزة بكلّ ما يوحي بالثراء والترف، وبأضواء صغيرة زاهية الألوان…، لكن في أعماقهم ثمّة خوف سحيق: ألّا يصيبهم البرد… يسدلون الستار، فيحرمون أنفسَهم من التمتع برؤية المناظر الوهمية الرائعة التي تتجلى على زجاج النافذة! أما الشحّاذون، الصعاليك، الفقراء المحشورون في عربات الدرجة الثانية، فإنهم -والنوافذ شبه مفتوحة، ولا شيء يقيهم سوى أسمالهم- ينامون إلى أن ينغزهم شعاع من الشمس فيستيقظون، ومن ثم يطلُّون برؤوسهم… هكذا كان ديدني، حين كنت آخذ القطار، ليلًا، من باريس إلى سالزبورغ في منتصف سبعينيات القرن الماضي… أتقلَّبُ في مقعدي، بين برودة الهواء ونعاس دافئ أحفز نفسي على الاستسلام له، فأنام وأحلم بكل مجامر العالم وحرارة النفس الإنسانية، لكي أستيقظ الشاب نفسه… فأطلّ برأسي، أوان ترسل الشمس أشعتها، وأنظر إلى ما يقع بصري عليه: مروج وحقول، نهر لا أعرف اسمه إلى اليوم… وجبال الألب الممتدة في البعيد… أستنشق هواء طازجًا، فأشعر بنشاط محموم… حتى يتوقّف القطار… وما أن أضع قدمي على الرصيف، حتّى يتملكني شعور بأني على أُهبة الاستعداد لمعاشقة، النهارَ كلَّه، خليلتي التي تنتظرني في محطة سالزبورغ… لو كان بوسعي أن آخذ واسطة نقل من باريس إلى سالزبورغ، أسرع من القطار، لَما كان لي أجنحة تساعدني على التحليق! القطار مِشحَذُ الخيال…
***
في القطار، يزداد شعور المسافرين بالجنس، ينام في أجسادهم محصورًا، لا منفذَ له، فيذوب في حنايا أعماقهم النفسية… فتصبح نظراتهم حادة، ثم تغفو في تخيلات، فيخيم سكون لا تسمع فيه سوى هدير العجلات وأنين الأبواب… آه، كم من علاقة حب كانت تتمّ في القطار خلال رحلة واحدة…
***
في قطار الـعُزلةِ يأكلُني ظلّي
«وَمضةً،
وَمضهْ».
بَعدها يَتقيَّؤُني
لقطةً
لقطهْ
في فَسيــحِ الْمَحطّة!
***
لم يعد اليوم القطار كما كان: رمز السفر إلى مناطق الحلم النائية… فالبخار بات زرًّا كهربائيًّا، والمحطة باتت جزءًا من عالم رقمي آخر… وكل شيء تلاشى وتغير: فلم نعد نسمع ذاك الصفير الجنائزي، يعلو وهو يقترب، الذي تميزت به قطارات الماضي، ولا ذاك الدخان الذي كانت الرغبة في السفر تستيقظ فينا بمجرد أنْ نراه…
***
في ضواحي بعض المدن، ثمة خرائب – مقابر ترتكن فيها بقايا قطارات الأزمنة القديمة؛ عجلات الحلم وسرد المغامرة الفردانية؛ قطارات بعد أن كانت شققًا مؤثَّثة تبتلع كلّ شيء… ها هي في ذاكرة ركّاب اليوم مجرد هياكلَ حديديةٍ محطَّمةٍ لا عجلة ولا باب… مشرّعة للذباب والطير، للقطط والكلاب السائبة… لا يعبأ بذِكْرها حتى الشاعر الرديء… في حين أنها كانت جزءًا من إلهام عظماء الشعراء… في حين أن «قطارات» اليوم مجرد أنابيب بلا روح أو اتجاه…
***
القطارات هي أيضًا مصيرها الموت… دموع ذكرياتها تبلل الأرصفة!
القطار في الأدب الألماني أدباء عدوه إنجازًا.. وآخرون وصفوه بـ«المارد الجبار»
حسونة المصباحي – كاتب تونسي
منذ ظهوره في بدايات القرن التاسع عشر، أثار القطار، أو «الحصان المحرّك بالبخار» إعجاب وفضول كبار الشعراء والكتاب في ألمانيا التي لم تكن قد توحدت بعد تحت راية بسمارك. وجميعهم عدّه إنجازًا هائلًا، قادرًا على أن يحقّق للبشر السعادة والرخاء، وصورة مشرقة للتقدم الصناعي والحضاري، و«ثورة تاريخيّة» فتحت بعض البلدان على بعضها، وسهّلت المبادلات التجارية على أوسع نطاق. قليل منهم فقط أظهروا نفورا منه، ورأوا فيه «ماردًا جبّارًا يهدّد حياتهم، وقيمهم، وتقاليدهم القديمة». وقد كتب أحدهم يقول: «غيّر القطار حياتنا، وغيّر الطبيعة من حولنا. كما غيّر وعينا بالزمان والمكان».
وكان الشاعر هاينريش هاينه الذي أمضى شطرًا مديدًا من حياته مرتحلًا، ومسافرًا بين البلدان، من بين الذين اهتموا بـ«الثورة» التي أحدثها القطار في حياة المجتمعات في القرن التاسع عشر. وقد كتب يقول: «أثار تدشين خطّي القطار الحديدي هزّة أحسّ بها الجميع. أحد الخطّين يصل إلى مدينة «أورليان»، والآخر إلى مدينة «روّان» (مدينتان فرنسيّتان). وبينما يحملق العامة ببلاهة المخدرين في تلك القوى الضخمة المتحركة، ينتاب المفكرين رعب موحش يشعرون به دائمًا إزاء الجبار واللامعقول. وهم لا يدركون عواقبه، إنما يلمسون عدم قدرتهم على التنبّؤ به، أو السيطرة عليه. ما نلحظه هو أن وجودنا بأكمله يندفع، بل ينزلق إلى مجرى جديد، تترقّبنا فيه وضعيّة جديدة تحمل في طيّاتها السعادة، والشقاء في الوقت نفسه، ويجذبنا المجهول بسحره المخيف، ويغرينا ويرهبنا دفعة واحدة. وأكيد أن هذه الأحاسيس هي نفسها التي انتابت آباءنا عندما اكتُشفت القارة الأميركية، أو حين أعلن عن اكتشاف البارود، أو عندما توصّل الناس بفضل الطباعة إلى كتابة صفحات من الكتب السماوية».
ويضيف هاينريش هاينه أن القطار «فصل جديد من فصول التاريخ الإنساني». وهو «يقتل المكان فلا يتبقّى سوى الزمان». ومتخيّلًا التحولات التي سيحدثها القطار، فيكتب قائلًا: «يتهيّأ لي أنّ جبال العالم وغاباته تزحف كلّها نحو باريس. وها رائحة الزيزفون النابتة في ألمانيا تتسرّب إلى أنفي. وها أمواج البحر الشمالي تطرق بابي» (كتب هاينريش هاينه هذا وهو منفي في باريس).
حذر غوته
وثمة من يشير إلى أن شاعر ألمانيا الأكبر غوته سبق له أن تحدث عن القطار. حدث ذلك عام ١٨٢٥م. ويبدو أنه كان من بين الذين أبدوا نوعًا من الحذر إزاءه. فقد كتب يقول: «قطارات وسفن بخاريّة، ووسائل اتصال أخرى، يهدف جميعها إلى تسهيل التبادل، هذا هو الشغل الشاغل للمثقفين راهنًا. كلّ واحد منهم يبالغ ويغالي، وفي النهاية يظل أسيرًا للرداءة». أما لودفيك بورنه فلم يكن على اتفاق مع غوته. فقد أظهر تحمسًا للقطار؛ لأنه «سيكسر شوكة الطغيان، وستصبح الحروب من المستحيلات». كما أنه سيكون «محرِّكًا للتطورات الاجتماعية والسياسية». وفي رباعيته «طرق حديدية»، كتب الشاعر الرومانسي فون أرنيم أول قصيدة عن القطار في الشعر الألماني، التي تقول:
يفتح السيف الطريق للبعض
للبعض الآخر يفتحه المجراف
نترك آثارًا حديديّة في
الطريق الرديئة
ونمدّ جسورًا في تلك التي
تقطعها الأنهار
الإرادة الحديديّة تشقّ دائمًا
لنفسها طريقًا.
وفي قصيدة بعنوان: «الحصان البخاري»، كتب الشاعر ألبرت فون شاميسو يقول:
يا حصاني البخاري
أنت مثال للسرعة
وراءك تترك الزمن يعدو
وتسرح الآن متَّجهًا نحو الغرب
بينما بالأمس كنت قادمًا من الشرق
سرقت سرّ الزمن
أرغمته على أن يتراجع بين الأمس والأمس
أضْغطُ عليه يومًا بعد يوم
حتى أصل ذات يوم إلى يوم آدم.
إلّا أن الشاعر نيكولاس لينار يرى أن القطار قد يفسد حياة الناس. وهذا ما نستشفه من قصيدته التالية التي تعكس تشاؤمه:
في وسط الغابة الصغيرة الخضراء
مسرعة ومندفعة
تفترس القطارات ما حولها
ضيف بشع يحلّ عليك
ستسقط الأشجار يمينًا وشمالًا
أمام اندفاعها إلى الأمام
حتى جمالك الرائع
لا يمكن أن تحميه من حدّتها.
مع ظهور السيارة ثم الطائرة في مطلع القرن العشرين، أصبح القطار وسيلة عادية، ولم يعد يثير الحيرة والفضول والحماس مثلما كانت حاله خلال القرن التاسع عشر. وبعد نهاية الحرب الكونية الثانية، برزت تيّارت فكرية وأدبية تسخر من المنجزات التي حققّها التقدم الصناعي والعلمي في جميع المجالات. بل إن هذه المنجزات كانت ضالعة بشكل واضح وجليّ في كارثة الحرب الكونية التي قتلت الملايين من البشر، وخربت مدنًا، وأحرقت مساحات واسعة من الغابات ومن الأراضي الزراعية، ودمرت أمل الشعوب في الرخاء، وفي حياة أفضل.
وفي القطارات اعتاد الناس أن يروا كل يوم جرحى ومشوهين عائدين من جبهات القتال، و«توابيت داكنة». ومرة أخرى أثبتت الحرب الكونية الثانية أن التقدم الصناعي والتكنولوجي يفضي في الحقيقة إلى مزيد من الكوارث والأوجاع. وها هو الشعب الألماني الذي ظن أنه سيستعيد أمجاده القديمة بقيادة هتلر كان مشردًا في الشوارع، «يعيش فوق القضبان الحديدية، ويسكن المحطات والأرصفة، ويحاول من خلال آلاف المناقشات أن يبرهن على حقه في الوجود» بحسب هانس فِرنر ريشتر مؤسس «مجموعة ١٩٤٧» التي لعبت دورًا مهمًّا في تطوير الأدب الألماني بعد الحرب الكونية الثانية. وفي إحدى قصصه، يصف فولفغانغ بورشرت تلك المرحلة القاتمة من التاريخ الألماني المعاصر قائلًا: «مخلوقات رثة، كائنات أشبه بأشباح، لاجئون بلا وطن وبلا مأوى، منهم من أنقذ نفسه من الموت في آخر لحظة، ومنهم تاجر السوق السوداء منعدم الضمير. هؤلاء جميعًا يجمعهم أمل واحد: العودة إلى الديار».
ويصف ماكس فريش ما شاهده في محطة القطارات في فرانكفورت بعد الحرب قائلًا: «اللاجئون مضطجعون في كلّ مكان على سلالم محطة القطار. يخيّل للمرء أنهم لن يرفعوا أنظارهم حتى لو وقعت معجزة في وسط الساحة. إنهم يعلمون علم اليقين أنه لا شيء سيحدث. فلو قيل لهم: إن هناك بلادًا ما وراء القوقاز مستعدة لإيوائهم لجمعوا صناديقهم وبقايا أمتعتهم وارتحلوا دون أن يصدقوا كلمة واحدة مما سمعوه. حياتهم ليست حقيقية، بل انتظار من دون أمل».
القطار يصل في موعده
ويحضر القطار في «القطار يصل في موعده» لهاينريش بل الذي كان من أبرز رموز «مجموعة ١٩٤٧» والحائز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٧٠م. بطل هذه الرواية القصيرة جنديّ ألماني مأذون يركب القطار في عام ١٩٤٣م ليلتحق بالجبهة الروسية. فجأة تستبدّ به فكرة أنه لن يصل أبدًا، وأن تلك الرحلة هي رحلته الأخيرة، وأن القطار سينقله إلى قرية حيث ينتظره الموت. وفي القطار يواصل حياته العادية، يأكل وينام، ويلعب الورق مع أصدقائه الجنود. وهو يتذكر فصولًا من حياته، ووجوهًا من الماضي، ويحاول أيضًا أن يصلي. ويتقدم القطار في رحلته عبر ألمانيا ثم بولندا. وعندما يلتقي فتاة بولندية يتوهم أنه سيفلت من المصير الذي ينتظره، فيهرب معها في سيارة، إلّا أن السيارة يسحقها قطار، فتكون النهاية كما توقعها!
وفي أواخر الستينيات من القرن الماضي، أسّس هانس ماغنوس إنسنسبرغر، وهو أيضًا من أبرز وجوه «مجموعة 1947» مجلة «Kursbuch» (جدول القطارات) الشهيرة. وهو يعتقد أن هذا الجدول يثبت أن العمل الأدبي بات عديم الفائدة؛ لذا يجب أن يستبدل به الأخبار والتحقيقات الصحفية والمقالات: «لا تقرأ القصائد يا بني… عليك أن تقرأ جدول القطارات فهي أكثر دقة!».
المجد للقطار
قصيدة للشاعر الفرنسي فاليري لاربو
امنحني صخبَكَ الكبير وسرعتك اللذيذة
وانزلاقك الليليّ عبر أوربا المغمورة بالضوء
آه يا قطار البذخ!
امنحني أيضًا تلك الموسيقا المُغمّة المدمدمة
في معابرك الجلديّة المذهّبة
بينما خلف الأبواب «المبرنقة» ذات المزاليج النحاسيّة الثقيلة
ينام أصحاب الملايين
أجتاز معابرك وأنا أعني
وأتبع عدوك باتجاه فيينا وبودابست
مازجًا صوتي بأصواتك المئة ألف
آه يا هارمونيكا زوغ!
أحسست لأول مرة بلذّة الحياة
في مقصورة من مقصورات قطار الشمال السريع
بين «فيربلان»، و«بسكاو»
كان القطار ينزلق عبر سهول
حيث يستند إلى جذوع أشجار ضخمة كما الهضاب،
رعاة يرتدون جلود خرفان قذرة
(كان الوقت خريفًا، وكانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحًا، وكانت المغنية الجميلة ذات العينين البنفسجيتين تغني في المقصورة المحاذية لمقصورتي)
أنت أيتها المرايا الكبيرة التي عبرك
رأيت سيبيريا وجبال سامنيوم وهي تمرّ
وأيضًا قشتالة الوعرة الخالية من الزهور
وبحر مرمرة تحت مطر دافئ.
حين أمسكت السينما الزمن في قطــار من ظـلال
يمضي القطار على سكته، وما من نية للّحاق به ولا النظر من نوافذه ولا حتى تتبعه بكاميرا، بل إحالته إلى ارتباطه الوطيد بعنصرين أساسين في السينما ألا وهما الحركة والزمن، وتثبيت اللحظة التي ظهرت فيها السينما رفقة قطار الأخوين لوميير والدرب الذي مضى فيه الفن السابع متنقلًا من محطة إلى أخرى، وما القطار –كما كل وسائط النقل- إلا انتقال في المكان محكوم بالزمن، وما السينما –حسب جيل دولوز- «إلا إعادة إنتاج وهم ثابت، عن طريق العرض؛ لأن السينما، كمنظومة، تعيد تأليف الحركة من خلال ردها إلى أية لحظة زمنية، تأتي قدرتها من التقلص أو التمدد، الإبطاء أو التسارع. ويتشكل في زمن المكان: الماضي، كما يتشكل في زمن الحركة: الحاضر؛ لأن الحركة في المكان انتقال، وحينما يحدث الانتقال في أجزاء في المكان، يحدث أيضًا تغيّر نوعي في حالة الكل»(1).
يتبدّى تاريخ السينما كما لو أنه لحظة «وصول القطار إلى المحطة» ثاني أفلام الأخوين لوميير العشرة التي عرضت في 25 ديسمبر عام 1895م، في «غراند كافيه- الصالون الهندي» في باريس، وقد أصيب حينها الجمهور بالذهول وهو يشاهد البشر يتحركون على الشاشة ويرى حركة الأمواج في مشهد «قارب يغادر الميناء» وتطاير الغبار في مشهد «هدم جدار». مع القطار امتزج الذهول بالخوف وهو يتوجه مباشرة نحو الجمهور، وأصيب من في القاعة بالهلع، ومنهم من ارتمى تحت الكراسي، وقد بدا أنه سيحول «القاعة التي نجلس فيها إلى ركام- مع أنه مجرد قطار من ظلال» كما يورد مكسيم غوركي في مقال له بعنوان «سينماتوغراف لوميير» نشره عام 1896م. وليصف تاركوفسكي لحظة «وصول القطار إلى المحطة»، بأنها «ليست اللحظة التي أعلنت ظهور تقنية جديدة، ولا اللحظة التي أسست لإعادة إنتاج الحياة. إنما كانت اللحظة التي وجد الإنسان فيها وسيلة للإمساك بالزمن وطباعته، ليصبح أساس السينما وقاعدتها»(2).
محطة مفصلية
سيواصل قطار لوميير رحلته، سيصل محطة جورج ميليه المفصلية في تاريخ السينما، ويخرج ذاك القطار عن سكة الوثائقي والتسجيلي، ويوضع في أفلام ميليه على سكة الروائي، مازجًا الفلم بالسحر، فاتحًا الباب على مصراعيه أمام المخيِّلة، مولِّدًا خدعًا بصرية تشد من أزر مخيلته العبقرية التي يبدو فيها القمر وجه إنسان تحيط به الأخاديد أو التجاعيد كما تلك التي تظهر على وجه القمر، ولتنغرز فيه كبسولة فضائية تطلق بواسطة مدفع وذلك في فلمه الشهير «رحلة إلى القمر» 1902م، وليؤسس كل ذلك في بنية مسرحية حيث اللقطة/ المشهد تجري أمام كاميرا ثابتة، والممثلون يدخلون الكادر يؤدون أدوارهم ثم ننتقل إلى مشهد/ لقطة ثانية في موقع ثانٍ، ولم يكتفِ ميليه «خيميائي السينما» -كما لقبه شارلي شابلن– بذلك بل أضاف إضافة أخرى إلى الفلم الصامت تتمثل في اللوحات المكتوبة التي لعبت دورًا مهمًّا في سرد الحكاية، وليست صدفة أن تدور أحداث فلم مارتن سكورسيزي «هوغو» 2011م في محطة قطارات باريس حيث يدير ميليه (بن كينغسلي) متجرًا صغيرًا يبيع فيه ما يصنعه من دُمى ميكانيكية، وذلك بعد تخليه عن السينما وخراب الأستديو الذي أنشأه (أول أستديو في أوربا) ومعه أفلامه عند اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ هو الذي صنع أكثر من 500 فلم قصير لم يصلنا منها إلا النذر اليسير، وليكون ميليه فنان الفلم الروائي الأول مثلما كان الأخوان لوميير أول فناني الفلم الوثائقي.
مشهد من فلم «سرقة القطار الكبرى»
يظهر القطار مجددًا لكن هذه المرة في الولايات المتحدة، وينعطف بالسينما انعطافة جديدة عبر حضور المونتاج للمرة الأولى في فلم أدوين بورتر «سرقة القطار الكبرى» 1903م، بما يدفع للقول: إن كانت أفلام ميليه تتابعية، فإن «السرد في فلم بورتر سيجري وفق الترتيب الزمني للأحداث كما لو أنه اكتشف المونتاج المتوازي في شكله الأولي، كما ستظهر في هذا الفلم للمرة الأولى اللقطة الكبيرة؛ إذ يظهر «الكاوبوي» في نهاية الفلم موجهًا مسدسه نحو الجمهور»(3) الذي يصاب كما لدى عرض «القطار يصل المحطة» بحالة هلع معتقِدًا أنه سيطلق النار عليه، وعدا ذلك فإن الفلم يحافظ على الأسلوب المسرحيي كما أفلام ميليه باستخدامه كاميرا ثابتة تصور كل ما يجري من زاوية واحدة لا تتغير، الأمر الذي سيعتمده بورتر كليًّا في فلمه التالي «كوخ العم توم» من دون لقطات كبيرة ولا مونتاج متوازٍ كما لو أنه صنع ذلك في «سرقة القطار الكبرى» عن طريق الصدفة، وسيكون على السينما أن تنظر غريفث وفلمه «مولد أمة»» 1915م لكي يحرر السينما من البنية المسرحية، ويعلنها فنًّا يمتلك أدواته التعبيرية والسردية الخاصة معلنًا السينما فنًّا مستقلًّا قائمًا بذاته.
موقع تصوير استثنائي
لن أمضي كثيرًا في سياقات نظرية الفلم وتاريخ السينما، وللقطار طالما أنه الكلمة المفتاحية لما جرى التقديم له، أن يكون مجالًا حيويًّا لأفلام لا عدَّ ولا حصر لها، اتخذت من القطار موقع تصوير استثنائي ومساحة للدراما والرومانسية والجريمة والإثارة والجاسوسية، كما في فلم ألفريد هيتشكوك «غريبان في القطار» 1950م، وفلمه الآخر «شمالًا إلى الشمال الغربي» 1959م حيث تتشابك خيوط الأحداث وتتصاعد درامية الأحداث على متن القطار، وكيف لمن شاهد هذا الفلم أن ينسى الحوار الساحر الذي يدور بين غاري غرانت وإيفا سنت في مقصورة المطعم؛ إذ تقول إيفا: «لقد أعطيت النادل خمس دولارات ليجلسك أمامي إذا أتيت. غاري: هل هذا تصريح بالحب؟ إيفا: لا أحب الحديث عن الحب ومعدتي خاوية. غاري: لكنك انتهيت من طعامك للتو. إيفا: لكنك لم تأكل».
يَرِد في كتاب المخرج الأميركي سيدني لوميت «صناعة الأفلام» مقطع مدهش يروي فيه تفصيليًّا كيفية تصويره لقطة القطار في فلمه «جريمة في قطار الشرق السريع» 1974م، ولهذا المقطع أن يرينا كم كانت الأمور شاقة وصعبة في خمسينيات القرن الماضي، وكم من الجهد والتفاني بُذِلا في إنجاح لقطة: «نحن في حظيرة كبيرة في باحة محطة القطار خارج باريس. تحت الحظيرة يقف قطار لاهث ناخر مؤلف من ست عربات. قطار كامل. قطاري أنا. ليس قطارًا دمية، بل قطار حقيقي! وقد جرى تجميعه جزئيًّا من بروكسل حيث تحتفظ شركة «واغون ليتز» بعرباتها القديمة، ومن «بونتالرليه» في جبال الألب الفرنسية حيث تحتفظ شركة «سكك الحديد الفرنسية» بقاطراتها القديمة. لقد بنينا ديكورًا لمحطة قطارات إسطنبول في لندن، ونقلناه إلى باريس، وركّبناه تحت الحظيرة بحيث أصبحت هذه محطة إسطنبول لقطار الشرق السريع. هناك ثلاث مئة كومبارس يتجمعون فوق رصيف محطة القطار وفي قاعة الانتظار. كانت اللقطة كما يلي: الكاميرا فوق جهاز «نايكي» وهو عبارة عن رافعة للكاميرا بارتفاع خمسة أمتار وتعمل بمحرك. هي في الوضع المنخفض. حين يندفع القطار نحونا، تتحرك الكاميرا إلى الأمام لتقابله وترتفع في الوقت نفسه إلى قرابة منتصف ارتفاع القطار، أي نحو المترين. يسرع القطار وهو يتجه نحونا بينما نسرع نحن باتجاه القطار. وما أن يصل منتصف المقطورة الرابعة حتى تكون لدينا لقطة مقربة «كلوز أب» لشعار Wagon – Lit. المشهد جميل جدًّا، ذهبي على خلفية زرقاء. وهذا يملأ الشاشة. ومع مرور القطار بتنا نحرك الكاميرا لتتابع الشعار المضاء حتى نكون قد استدرنا بزاوية 180 درجة ونصبح بالاتجاه المقابل. لقد ارتفعنا الآن إلى أقصى ارتفاع الرافعة أي خمسة أمتار، ونحن نصور القطار وهو يبتعد منا، فيصغر تدريجيًّا وهو يبتعد. وأخيرًا نرى الضوءين الأحمرين لآخر مقطورة بينما يختفي القطار في عتمة الليل»(4).
وإن كان القطار محوريًّا في هذا الفلم، فإن له أن يكون كذلك في نمط سينمائي كامل ألا وهو «أفلام الويسترن» وما أن تتوارد هذه الأفلام بالذهن حتى تتلامح مشاهد لا حصر لها من القطارات التي يجري السطو عليها وتحويل مسارها وغير ذلك من صراعات ومصاير ارتبطت بالقطار وما يحمله، وليتعاظم هذا الحضور في أفلام «السباغيتي ويسترن» وصولًا إلى الإنتاجات القليلة لأفلام «الويسترن» في العقدين الماضيين وفلم أندريه دومينك «اغتيال جيسي جيمس على يد الجبان روبرت فورد» 2007م يحضر كمثال لفلم استثنائي، والحدث المفصلي في أحداثه يتمثل في السطو على البريد الذي يحمله القطار.
دليل على إعجاز الحياة
لا يمكن الحديث عن القطار في السينما من دون ذكر فلم البوسني أمير كوستاريكا «الحياة معجزة» 2004م؛ حيث تكون سكة القطار دليل كوستاريكا على إعجاز الحياة، وكل أحداث هذا الفلم تجري على السكة، ولتتعدد وسائط النقل التي تمضي عليها، وقد نزعت إطارات السيارات بأنواعها المختلفة لتتناسب السكة وصولًا إلى الدراجات الهوائية والعربات التي تمضي بالدفع اليدوي، وناظر المحطة يريد لقريته أن تُمسي قرية سياحية يصلها القطار بسلاسة بينما تدور رحى حرب أهلية طاحنة، ولعل إيراد فلم كوستاريكا سيقودنا إلى فلمه الأشهر «أندر غراوند» (سعفة كان الذهبية عام 1995م) الذي سيقودنا إلى «المترو» أو «قطار الأنفاق» لكن بعيدًا من الحرب العالمية الثانية وحقبة حكم تيتو ليوغسلافيا التي يصورها كوستاريكا في ذلك الفلم البديع، ليضعنا أمام حضور المترو في السينما الذي شهد في الأفلام ما شهد من مصاير ومآلات شخصيات، وليكون مساحة فلمية خاصة تتيح للمخرج أن يضع الشخصيات على مقربة بعضها من بعض، وللمصاير أن تتصل أو تنفصل، مساحة للّقاء والفراق، يحتشد بها البشر، تمتلك إمكانية أن تكون فضاء مفتوحًا أو سجنًا.
وفي تعقب ما تقدّم عربيًّا يحضر بقوة فلمان استثنائيان في تاريخ السينما العربية، نجد فيهما أن القطار يشارك الممثلين بطولة الفلم كما في فلم كمال الشيخ «حياة أو موت» 1955م؛ إذ لا يشكّل «التراموي» وسيلة نقل لحركة بطلة الفلم فقط، فكما هو معروف فإن الفلم متأسس على حدث مغلق، يتمثل في أن الطفلة التي تريد أن تحضر الدواء لوالدها تضطر للذهاب إلى صيدلية بعيدة لتحصل عليه، وليقوم الصيدلي بتركيب سم قاتل بدلًا من الدواء، وهكذا تترامى رحلتها وهي تبدّل التراموي في محطات كثيرة، وبالتالي يحول «التراموي» الفلم إلى «فلم طريق» قبل حضور هذا المصطلح في أدبيات النقد السينمائي، إضافة إلى تقديم الفلم بواسطة «التراموي» وثيقة بصرية مدهشة للقاهرة في الخمسينيات، وجلّ الفلم مصور خارجيًّا. أما الفلم الثاني فهو فلم يوسف شاهين «باب الحديد» 1958م، ومن منا لا يذكر بائع الصحف المهووس قناوي (يوسف شاهين) وحبه لهنُّومة (هند رستم) والقطارات شاهدة على كل شيء، وهي التي تحمل جثة من قتلها قناوي وهو يحسبها هنومة.
لا بد أن زمنًا مرّ والقطارات على دأبها نشطة متحركة من مكان إلى آخر، هناك من وصل إلى وجهته وآخر لم يصل بعد، هناك من يستقلّ «المترو» ويقرأ ما كتب ها هنا، ووسيلة النقل ليست بمعدنها وتقنياتها وميكانيكيتها بل بالإنسان الذي تقلّه، وهذا هو شاغل السينما الرئيس، والبشر مجتمعون في قاطرته لكلٍّ وجهته، ولكلٍّ قصته ومصيره.
1- جيل دولوز. الصورة – الحركة أو فلسفة الصورة/ ترجمة: حسن عودة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما 1997م.
2- أندريه تاركوفسكي. النحت في الزمن/ ترجمة: أمين صالح. القاهرة: دار ميريت، 2006م.
3- قيس الزبيدي. مونوغرافيات في الثقافة السينمائية. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة – آفاق سينمائية، 2013م.
4- Lumet, Sidney. Making Movies. New York: Vintage Books, 1996.
أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة
حين تتحدث مع أي من قاطني مصر الجديدة قائلًا: «ترام مصر الجديدة …» يوقفك بانزعاج قائلًا: «مصر الجديدة ليس بها ترام، دا مترو». هكذا تجد نفسك في مأزق غريب، فمترو الأنفاق يربط في خطه الأول ما بين شبرا والجيزة، وفي خطه الثاني ما بين حلوان والمرج، ويسير تحت الأرض وفوق الأرض بين سورين عظيمين يمنعان الناس والسيارات عن مساره، ويسير بالكهرباء وليس بالوقود كالقطارات، ولا توجد به «سينجة» يشدها الشباب فيقفونه عن السير، وليس به مقابل، وليس له مزلقان كما في القطار، فكيف يمكن القول عن ذلك الذي يمشي على وجه الأرض بين الناس والسيارات، وينعطف ليمرّ بين العمارات في الشوارع دون خصوصية ولا استقلال، ودون هيبة وأسوار تحولان دون مطاردة الأطفال له، كيف يقولون عنه «مترو» وليس «ترام»؟
سوف تتذكر أن مهندسًا في السكك الحديدية المصرية تَقدَّم إلى الملك فاروق باقتراح لإقامة أول مترو أنفاق في مصر وإفريقيا والشرق الأوسط كله، لكن الملك أهمل الاقتراح فماتت الفكرة، ولم تستيقظ إلا مع مجيء جمال عبدالناصر، هذا الذي رغب في أن يكون المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد محمد علي، فاقترح على الخبراء الفرنسيين أن يضعوا تصورًا لإنشاء أول مترو في مصر، واتُّفِق مع بيت الخبرة الفرنسي «سوفريتو» عام 1970م على إنشاء خطين أحدهما يربط ما بين بولاق أبو العلا وقلعة محمد علي بطول 5 كم، والثاني يربط ما بين باب اللوق وترعة الإسماعيلية بطول 12 كم، وفي عام 1973م صدَّق أنور السادات على إنشاء مترو القاهرة، لكنه لم يبدأ العمل فيه إلا في عصر مبارك، وكان أول تشغيل له عام 1987م.
كانت القاهرة قبل أن يربط المترو بين أطرافها أشبه بصندوق مكتظ بالبشر، وكانت أحياء مثل حلوان والمعادي والمرج وغيرها أشبه بدول أخرى، لا يذهب إليها أحد، ولا يسمع بها أحد، ويتندر الناس على من يفكر في الإقامة بها، لكنها مع المترو أصبحت أقرب من وسط المدينة؛ لأن زحام المرور فوق سطح الأرض لا يمنح أحدًا حق التحرك من مكانه، والإشارات لا تفتح أضواءها إلا لتغيرها، وقد عبَّرت السينما في السبعينيات والثمانينيات عن هذا الاختناق المروري المزمن في شوارع القاهرة وكباريها من خلال أفلام مثل «أربعة في مهمة رسمية».
مدن داخلية على أبواب المحطات
لم يكن مترو القاهرة مجرد حدث أو وسيلة مواصلات جديدة، لكنه كان تغيرًا ديموغرافيًّا كبيرًا، فقد امتدت القاهرة الكبرى على ضفاف هذا الثعبان الحديدي، فنشأت مدن داخلية على أبواب محطاته، وصارت علامة «M» الحمراء رمزًا لتجمعات البشرية متباينة، حيث تجار الملابس والفاكهة والزيوت والمساويك والكتب القديمة والموبايلات وكروت الشحن والسماسرة والبهلوانات وأصحاب الثلاث ورقات، فضلًا عن عيادات الأطباء ومكاتب المهندسين وشركات الصرافة وسماسرة العقارات والشقق المفروشة وغيرها، نشأت حيوات وتغيرت طبيعة أماكن، وتوالدت أساطير وحكايات، ليس عن نشأة القاهرة ومجيء المعز بسيفه وذهبه، ولكن عن المترو والترام والقطار الفرنساوي والقشاش، وتحول الناس من آدميين يمشون على أقدامهم رافعين أنوفهم نحو السماء إلى فئران أو أرانب تهرول بمجرد دخولها من باب المحطة، تهرول في أنفاق طويلة وباردة، وسط ضجيج عالٍ وكثير، مسموع وغير مفهوم، ضجيج يبعث على التوتر والسرعة، ليتسابقوا في دخوله على شباك التذاكر، ومرورهم من بوابات ممغنطة، فرحين بوصولهم إلى الرصيف، في انتظار الثعبان الحديدي الكبير، هذا الذي لا تمر دقائق إلا بمجيئه، وحيث تكتظ المحطة بالنازلين والصاعدين، لكنها سرعان ما تصبح خالية في انتظار قادمين جدد.
لم يكن الأدب بعيدًا من حضور المترو بثقافته الجديدة على الجميع، فقد سجل العديد من الكتاب هذا الحضور في أعماله، من بينها رواية «مترو» المصورة لمجدي الشافعي، التي تدور أحداثها حول «شهاب» مهندس الإلكترونيات الحانق على النظام الاجتماعي والفساد المنتشر في مصر، الذي يقترب من الإفلاس بسبب المنافسة التي يسحق فيها أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة سواهم، ورواية ياسمين مجدي «معبر أزرق برائحة الينسون» الفائزة بجائزة دبي عام 2009م، التي تدور أحداثها في شباك بيع تذاكر في إحدى محطات المترو، وكذلك ديوان حمد عبدالعزيز «عشرين سنة على سلم المترو». وفلم «ساعة ونص» التي تدور أحداثه حول حادث قطار العياط الذي اشتعلت فيه النيران عند منطقة «العياط»، ويحكي قصصًا إنسانية عن ركابه.
في هذا التحقيق نتعرف على مشاعر وانطباعات وذكريات وأفكار وتصورات عدد من المثقفين المصريين والعرب، ممن تعرفوا على مترو القاهرة أو اتخذوا في رحلاتهم مترو دبي أو غيرها من مدن العالم، وكيف تركت هذه الوسيلة الجديدة حضورها لديهم، وكيف تَشكَّل خيالهم معها.
جاكلين سلام: نصوص في مترو تورنتو
يشكل المترو عصب التنقلات في مدينة تورنتو الكندية التي تعد واحدة من أكبر مدن العالم. شخصيًّا أستخدم المترو للذهاب إلى العمل. أحيانًا أقرأ الكتاب الذي في يدي، وأحيانًا أقرأ وجوه العابرين. أحيانًا أكتب الشخصيات والمواقف في دفتر الملاحظات. هنا بعض أحوال مترو المدينة التي يعيش فيها خليط بشري متنوع من كل الألوان والأجناس.
*
خرجتُ مرة في الصباح الباكر وكنت على موعد للذهاب للترجمة الفورية لوزراء كنديين سيتحدثون عن تجربة استقدام اللاجئين السوريين إلى كندا. لبست ثيابي الرسمية وفي منتصف الطريق إلى مكان انعقاد المؤتمر، توقف المترو لعطلٍ ما. اختنقتُ. لم أستطع الخروج من النفق. حين تدبرنا طريقًا للخروج، استقللت سيارة أجرة، كانت عشرات الرسائل الصوتية قد وصلتني من مكتب العمل يسألون عن تأخر المترجمة. حين وصلت إلى المكان، دقائق فقط أمامي كي أرتّب شعري وأشرب الماء، ثم قُدِّمتُ إلى الوزيرة والشخصيات التي ستلقي خطابًا سأقوم بترجمته مباشرة في حضور عدد كبير من القنوات التلفزيونية الكندية. أثناء إلقاء الخطابات عن دور كندا الإنساني حيال مساعدة اللاجئين وتقديم فرص العمل لهم، كنتُ أقول في نفسي: أنا سورية- كندية ومن الممكن أن أتضرر لو توقف المترو في ساعة حرجة. المترو واللغة وسيلتان للوصول إلى مكان والعبور إلى الطرف الآخر.
*
الكلاب أيضًا تستقلّ مترو تورنتو: حين تكون برفقة كلب وتستقلّ عربة في المترو، ستحظى بكل الاهتمام من الركاب. إنهم يداعبون الكلاب ويتحدثون مع مالكها بود شديد. ذات مرة كانت سيدة بجواري تحمل في حضنها كلبًا صغيرًا وسيمًا. الشاب في الكرسي المقابل، صار يداعب الكلب ويقول للسيدة: «لكلبك شخصية مميزة، أعجبني كلبك» نظرتُ إلى الكلب بعين فاحصة وفي داخلي مشاعر متناقضة. مرات كثيرة أرى امرأة تجلس في مقعد في المترو، تبكي ولا أحد يلتفت إليها.
*
في ساعات الازدحام الشديد، أركض بين الجموع كي أصل إلى المترو وكلّي أملٌ أن أجد مقعدًا. حين أصاب بالخيبة أبدأ بتصفح عناوين الكتب التي يقرؤها العابرون إلى قلب المدينة. وأسترق النظر إلى وجوه الأشخاص. بعضهم ينام وبعضهم يأكل. أقرأ الوجوه ككتاب وأدوِّن الملحوظات أحيانًا. العالم محصور في عربة أمامي، أتمنى لو أكتب المفارقات والصور.
*
ينام الشحاذون في المترو أحيانًا. يصحبون معهم أكياسًا كبيرة تفوح منها رائحة عفنة. رائحتهم أيضًا تنتشر في المقطورة. أحيانًا أغيِّر مكاني كي أبتعد من مصدر الرائحة.
*
في المناطق المكشوفة في المترو يتناهى إلى سمعي المحادثات التليفونية الخاصة. أسرار تصلك بالعربية والإنجليزية. أبتسم وأنا أستمع إلى امرأة عربية تشتكي من زوجها، أو العكس.
*
يحدث أن أنغمس في قراءة رواية وأجتاز المحطة التي سأنزل فيها، حينها ألعن الكاتب وأبدأ بتأليف كذبة مناسبة عن سبب تأخري عن العمل.
كاتبة ومترجمة سورية مقيمة في كندا.
عمر العادلي: ضجيج لا يُسمع وسرعة تُرى
القاهرة عام 1986م هي تقريبًا ثلث القاهرة عام 2017م، ليس فقط من حيث عدد السكان إنما من حيث التنامي والانتشار في المدن الجديدة المنتسبة لهذه المدينة العريقة، فهناك بعض المدن التي لا علاقة لها بالقاهرة جغرافيًّا، لكن يبدو أن أصحابها سعداء بالانتساب غير الدقيق للعاصمة المصرية.
في عام 1986م لم يكن هناك سِوى بعض أعمال حفر لما سمعنا في تلك الأيام أن اسمه مترو الأنفاق، ومترو الأنفاق الذي يجري في إنجلترا منذ عام 1899م لم يدخل إلى القاهرة إلا في عام 1987م، وكان المترو حدثًا يعدّ الأبرز وقتئذ، فمن حيث الأهمية فهو وسيلة المواصلات الأسرع على الإطلاق، ومن حيث دقة التنفيذ فقد كانت الشركة الفرنسية المشرفة على المشروع تحدد ميعاد التسليم باليوم والساعة، لدرجة وجود عداد رقمي يتناقص يومًا كل أربع وعشرين ساعة لدقة العدّ التنازلي، وفي صيف عام 1987م أصبح يجري تحت أرض القاهرة مترو أنفاق كالذي يجري في لندن وروما وباريس.
هذه المدينة، القاهرة، جدَّد فيها المترو شبابها في السنوات الأولى من عمله، فقد كانت قد وصلت حد الترهُّل والبدانة، وأصبحت المواصلات العامة في حالة يرثى لها، فيمكن أن يستغرق قطع عشرين كيلو مترًا أكثر من ساعتين، وقد كان المترو يقطع المسافة نفسها في ثلث ساعة فقط لا غير. تغير شكل الانتقال في القاهرة، وتغير معها نظرة الناس بشكل عام، فأصبح متاح لإنسان أن يعطي بسهولة موعدًا ويستطيع الالتزام به، وذلك ببساطة لأن فرق توقيت مترو عن آخر لم يكن يزيد على خمس دقائق، ويمكن القول: إن المترو كان أداة تجميل ضرورية ولازمة بسبب التكدس الذي ضرب المدينة العريقة، وجعلها تستوعب أكثر مما يكفيها من البشر بثلاثة أضعاف على أقل تقدير.
بعض المثقفين فضلوا التنقل عن طريق المترو بدلًا من التاكسي أو وسائل المواصلات العامة، فقد ربط المترو بين مراكز ثقافية في أول المدينة بأخرى على أطرافها، فلو أن هناك منتدى في المعادي مثلًا يُقدِّم محتوى ثقافيًّا؛ ويريد شخص ما أن يذهب إليه وهو يقطن في منطقة المرج أو منطقة الزيتون، هل كان يستطيع الوصول إلى هذه الضاحية البعيدة؟ الإجابة لا؛ لأنه من الصعب تخيل شخص يقطع قرابة سبعين كيلو مترًا فوق أسفلت متكدس وطريق مزدحم وإشارات تغلق أكثر مما تسمح بالمرور، وكان من الصعب أيضًا أن تزيد هذه الكثافة السكانية العالية في هذا الزمن الوجيز دون حلول، فلولا مترو الأنفاق لانفجرت القاهرة.
الآن، وفي عام 2017م تمددت خطوط المترو، وأصبحت تربط أطراف القاهرة من جميع الاتجاهات، وهذا يَسَّر على الكثيرين سرعة التنقل ودقة المواعيد، إضافة إلى شيء آخر ألا وهو التخفف من الزحام قدر المستطاع، فالقاهرة يعمل بها عمالة مؤقتة تتعدى خمسة ملايين نسمة، يزورونها كل صباح ويتركونها في مساء اليوم نفسه.
روائي مصري.
صبحي فحماوي: كلام في المترو
هل كان حيوان «الخلد» هو أو من استخدم الأنفاق تحت الأرض ليمر بسلام آمن؟ وهل سيبقى الخلد حيًّا في أنفاقه تحت الأرض إذا ما قامت حرب نووية أزالت الحياة من على الأرض؟ في المدرسة كنا نقرأ في كتاب الإنجليزي أن المدينة التي يزيد عدد سكانها على مليون مواطن، لا يحل مشكلتها المرورية سوى المترو.. لكن مدينتنا عمّان التي يزيد عدد سكانها مع الضواحي هذه الأيام على خمسة ملايين نسمة لم يصلها المترو حتى الآن. وللمعلومة فإن أول مترو أنفاق أسس في لندن عام 1863م، مقتبسًا من القاطرات البخارية، وأسس مترو الدولة العثمانية في إسطنبول عام 1871م، تلاه مترو بودابست عام 1896م، أما مترو باريس فأسس عام 1900م، ويعد مترو لندن وشنغهاي هما الأطول من حيث خطوطهما، ويعد مترو طوكيو وموسكو هما الأكثر ازدحامًا.
قبل عشر سنوات في لندن نزلت بمصعد مسافة عشر طوابق تحت الأرض ليفتح هناك باب المترو، فكان في وجهي امرأة محجبة مستغرقة في قراءة القرآن.. أدهشني المشهد. أدهشني نفق سيارات «أوراسيا» الذي دشنته تركيا مؤخرًا ليربط الشطرين الأوربي والآسيوي لإسطنبول كأول نفق بحري تركي لعبور السيارات، بعد افتتاح نفق مرمراي للمترو، الذي يمتد مسافة حوالي 15 كم، منها 3.5 كم تحت مضيق البوسفور، ويبلغ ارتفاعه 14 مترًا، وهو مؤلَّف من طابقين للذهاب والإياب، ليربط الطريق بين الضفتين الأوربية والآسيوية هناك، كما سيمكِّن 90 ألف سيارة من العبور خلاله يوميًّا ذهابًا وإيابًا بين طرفي المدينة. ويعمل هذا النفق على توفير 25 مليون ساعة على المسافرين كل سنة، كما سيخفف 85 طنًا من التلوث الناتج عن السيارات. وأما النفق الأوربي، تحت البحر للقطارات والسيارات فيربط بين بريطانيا وفرنسا بطول 50.5 كم، وهو ثاني أطول نفق بحري في العالم؛ إذ إن نفق (سيكان) الياباني للسكك الحديدية، هو أطول نفق بحري في العالم حتى عام 2010م. ويتفوق النفق الياباني للسكك الحديدية، بطوله البالغ 53.9 كم، وكان يعد الأطول في العالم. وفي سويسرا افتتح نفق «غوتهارد» للسكك الحديدية بصفته الأطول والأكثر عمقًا، ويمر تحت جبال الألب في سويسرا، بطول 57 كم، ويربط بين شمال وجنوب أوربا. لتُنقل البضائع عن طريق القطار، بدلًا من نقلها برًّا عن طريق ملايين الشاحنات في العام.
كاتب أردني.
أمجد ريان: ضجيج حبيب إلى نفسي
علاقتي بـ«المترو»، علامة توحد بيني وبين أبناء جيلي جميعًا؛ لأن هذه العلامة تتكرر بشكل أو بآخر لدى الجميع. تبدأ علاقتي بالمترو منذ الطفولة المبكرة في سن الخامسة وما بعدها، فقد كنت أعيش مع والدي في إحدى العمارات في شارع المقريزي، ويخترقه بامتداده خط مترو «مصر الجديدة» الآتي من ميدان «روكسي» متجهًا إلى ميدان «رمسيس»، وكانت الشقة فخمة وفي حي راقٍ، لا تتناسب مع المستوى الاجتماعي الحقيقي لوالدي ووالدتي، لكنها رمز لتطلعات الطبقة المتوسطة الصغيرة المرتبكة اقتصاديًّا دائمًا. وكان والدي الطالب الصعيدي تلميذ «طه حسين» في كلية الآداب لشدة فرحه بعروسه أجّر لها هذه الشقة، وكانت الشقق وقتئذ متاحة لكل من يمكنه أن يستأجر. كان والدي مدرسًا للغة العربية في مدرسة سراي القبة الثانوية للبنات، وكان راتبه الشهري أقل من ثلاثين جنيهًا، فأجَّر هذه الشقة بسبعة جنيهات، وهو مبلغ كبير جدًّا بالقياس إلى ظروفه. وزوجته (أمي) هي قريبته من بعيد تعيش في حي «السبتية» الشعبي الفقير. وكانت علاقتي بمترو مصر الجديدة وطيدة، فهو يجري ليل نهار أمام باب العمارة محدثًا هذا الضجيج الحبيب إلى النفس، ونوافذه فيها وجوه الركاب، وعيناي تتأملان هذه الرحلات التي لا تتوقف، وكأنها رمز للحياة كلها بل للوجود كله في رهجه وحركته الذاتية المطردة. وكنا نحن دائمي ركوب المترو، وبخاصة عندما نذهب لزيارة جدتي في «السبتية»، فكان المترو هو الذي ينقلني بين مشهدين أو حالتين هما الحي الأرستقراطي من جهة والحي الشعبي من جهة أخرى، بكل ما فيهما من معانٍ ورموز ودلالات موحية. ولا أنسى أيضًا يوم «الخناقة» الكبرى التي اشتعلت في بيتنا بين والديّ، فوضعت أمي على جسدها أول فستان وجدته في الدولاب، ووضعت أقدامنا أنا وأخي «أحمد» في حذائين وحملت أختي «آيات» الرضيعة وجرت بنا غاضبة، وفي المترو اقترب منا الكومساري طالبًا التذاكر، ولكن أمي أخبرته أنها لا تملك النقود، وأفهمته أنها في ظرف خاص، نظر الكومساري لحالتنا وابتعد عنا على الفور دون أن ينبس ببنت شفة، ويبدو أن هيئتنا كانت تنبئ بما كنا فيه، كما أن أخلاق البشر وقتئذ كانت تفيض بالمسامحة وبالتعاون.
وظلت علاقتي بالمترو قوية، حتى بعد أن سكنت في «وادي حوف» بحلوان، وكانت تذكرة المترو القديم بقرش ونصف، ولكن الدرجة الأولى كانت بثلاثة قروش، وكان مجرد الدخول إلى المترو ينبئ بالمستوى الاجتماعي للركاب، وإن كانت المسألة قد تغيرت الآن في المترو الجديد (under ground) الذي استوردناه من فرنسا، وبمناسبة فرنسا فأنا قد ركبت المترو الفرنسي في باريس، عندما دُعيت أنا والشاعرة «رنا التونسي» لنمثل مصر في مهرجان «لوديف» الشعري الدولي. أما الفرق بين المترو المصري والمترو الفرنسي فحدِّث ولا حرج، أبسط فرق هو أنك بمجرد دخولك المترو هناك، تجد أن معظم الناس يمسكون الكتب المفتوحة بين أياديهم، ولا تتوقف عيونهم عن القراءة، مستفيدين من الزمن الذي سيقطعونه في أثناء ركوب المترو.
شاعر مصري.
صلاح حسن: وسيلة عملية ونظيفة
مترو الأنفاق هو واحد من المشاريع المهمة التي تثبت أن قدرة الإنسان غير محدودة في استخدام الطبيعة لتسهيل حياة الإنسان، وجعله قادرًا على الاتصال بالآخرين مهما كانوا بعيدين عن بعض. نشهد اليوم في أوربا بالتحديد مشاريع عملاقة لمد الأنفاق تحت البحر، وقد نجح كثير من البلدان في ذلك، وأكبر الأمثلة هو النفق الذي يربط فرنسا ببريطانيا، والمشروع العملاق بين أكثر من سبع دول أوربية لإنجاز نفق طوله مئات الكيلومترات. إنها تجربة فريدة بالفعل أن تسافر في قطار يسير تحت الماء. بالنسبة لي وأنا أستخدم هذه القطارات بين وقت وآخر أجدها طريقة عملية ونظيفة وسهلة للوصول إلى المكان الذي تريده دون تضييع كثير من الوقت، لكن نحن العرب معتادون على المساحات المفتوحة، نخاف من هذه القطارات لأسباب سيكولوجية، وهي الخوف من الأماكن المغلقة مع أنها غير مبررة طالما أثبتت نجاحها المستمر.
شاعر عراقي.
هاني الصلوي: صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع
يعد المترو -بلا شك- من أهم وسائل المواصلات الحديثة عند العرب وغيرهم بلا فرق أو مزية، سوى أنه ليس منتشرًا لدينا كعرب بل يكاد ينحصر في دول عربية ليست غنية البتة، عدا دولة الإمارات وأعني «دبي» تحديدًا، وحداثة المترو بين الدول نسبية (دخل بعض المدن في السنوات الأخيرة)، ولعل مسألة الكلفة المادية لإنشاء شبكة مترو العائق الأساسي لإنشاء مثل هذه الشبكة في الدول العربية الفقيرة، أما الدول الغنية حيث دخلُ الفرد مرتفع فيستبدل الناس به السيارات.. وهو أمر معروف وغير محتاج لتفصيل. الأدباء العرب انبهروا كالغربيين بهذه الوسيلة الحديثة والمختلفة، بوسيط نقل متداخل كهذا، بانبهار قديم للكائن البشري بالقطـار، أي أن الاندهاش بالمترو وليد الاندهاش التاريخي بالقطـار، فليس المترو سوى قطار حديث، وكذلك التراموي بصفته وسيلة وسطى أو متوسطة الزمنية والخصائص بين القطار الكلاسيكي وقطار الأنفاق، بل إن بعض الدول بنت شبكة المترو على سكك الترام (التراموي).
على المستوى الأدبي شكَّل القطار (الجد) صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع قراءة وكتابة، تتميز هذه الصيغة بالهدوء وراحة البال والاسترخاء والتأمل، كتب كثير من الأدباء أعمالًا أدبية على القطارات في أسفارهم الطويلة أو المتوسطة من دون اشتراط تعلق موضوعات أعمال هؤلاء بالحياة على القطار، بل عهدت شركات القطارات في الغرب لمنظمي فعاليات ثقافية بتسيير الحياة اليومية على القطارات. قد توظف شركة قطار شاعرًا، يسافر في وسائله بشكل يومي ويقرأ للمسافرين، ويشبه ارتباط الأديب العربي والكاتب غيره في ممارسة الحياة على القطارات عدا في سِمة ارتباط القطارات في أوربا -في حالات ما لا يشترط تواترها- بفعليات ثقافية وفنية… كان القطار وما زال وسيلة سفر، وهو ما منحه ما مر من سمات في علاقته بالأدب أو الكتابة، أما مترو الأنفاق (الحفيد الشرعي) فهو وسيلة نقل داخلي داخل المدن مما يجعل ممارسة الانتقال عبره سواء تمت بشكل يومي دوري أو غير دوري، متسمة بالسرعة ومحاولة الإنجاز واللحاق بالمهمات أو أماكن الراحة.
إنه سياق نقل متوتر وآني، وإذا افترضنا أن هناك من يستغلّ لحظات امتطائه من الأدباء للقراءة والكتابة (وهو ما يحدث كثيرًا) سيكون المقروء خفيفًا وقليلًا يتناسب مع الوقت وطريقة استخدام هذا الوسيلة ووقتها، سيكتب كاتب ما على سبيل المثال قصة قصيرة جدًّا بدلًا من رواية أو قصة. ومضات صغيرة وليست قصائد.. من جانب آخر يوفر مترو الأنفاق أوقـاتًا منزلية ثرية لممارسة الإبداع بعيدًا من الازدحام وضياع الوقت في الطرقات، مما يعد ازدوجـًا فيما تتيحه وسيلة المترو الإشكالية. في حالة كان المترو (قطار أنفاق) لا بد أنه يمنح الذهن فرصة أخرى للتأمل والتساؤل أثناء سير القطار في الأنفاق المظلمة، وهي مجالات ذهنية وخيالية استغلها التفكير الفني الإنساني منذ الوهلة البكر، نجد ذلك في أفلام السينما تحديدًا، والبرامج التصويرية، والروايات والشعر… يشبه الاعتماد اليومي أو المنقطع على وسيلة المترو طقسًا روحيًّا قديمًا… هل نقول عنه حجـًّـا آليًّا ميكانيكيًّا؟ ربمــا.
شاعر يمني.
يسري حسان: دليلك لمعرفة الشخصية
المترو دليلك الصادق لمعرفة الشخصية المصرية.. على المحطات يتراص المواطنون، وبمجرد أن يفتح القطار أبوابه، ودون إتاحة الفرصة لهبوط الآخرين، يندفع الجميع للركوب وتحدث المشادات في المحطات التي يحدث فيها تبديل للقطارات، مثل محطتي السادات والشهداء، تلاحظ أن من يغادرون قطار الخط الثاني مثلًا ليستقلوا قطار الخط الأول أو العكس، جميعهم يهرول للحاق بالقطار، ويأخذون في وجوههم المتجهين إلى القطار الآخر، كثيرًا ما طرحني أحدهم أرضًا وهو يهرول للحاق بقطاره، وأحيانًا كنت أقوم سريعًا فيأتي غيره ليطرحني مرة أخرى، وهكذا..!
القطار في الغالب يأتي كل دقيقتين أو ثلاث، والمواطنون، في أغلبهم، ليس لديهم مواعيد أو اجتماعات لتغيير العالم، فلماذا إذًا يهرولون بهذه الطريقة؟ ظني أنها مسألة في لا وعيهم، فالفرص دائمًا ما تضيع منهم والوعود التي يتلقونها من حكامهم لا تتحقق في الغالب، لذلك فهم يهرولون لاقتناص فرصة وجود القطار؛ لأنهم لا يضمنون أن يأتي قطار آخر.
في المترو إذا كنت في محطة المرج مثلًا، التي تفصلها عن محطة حلوان ساعة على الأقل، لا تستغرب إذا سمعت هذا الحوار عبر الهاتف:
السلام عليكم
…………………
خمس دقايق وأكون قدامك
……………………
داخل على حلوان أهو ودقايق إن شاء الله وأوصل
…………………………..
محمد رسول الله
مجرد نموذج للشيزوفرينيا التي يعانيها المصريون، ويمكن أن تسمع أحدهم، على الهاتف أيضًا، يعتذر عن عدم قدرته على لقاء محدثه لأنه خارج القاهرة، لا تستغرب فهذا أمر طبيعي يدل على قوة خيال المصريين!! وداخل المترو أنت في مبنى الإذاعة والتليفزيون، اخترعوا سماعات للهاتف المحمول لكن أغلب المصريين يحبون المشاركة، فمنهم من يُسمعك القرآن الكريم، ومنهم من يسمعك أغاني المهرجانات، ومنهم من يسمعك موسيقا رومانسية حالمة، وعليك أن تستوعب كل ذلك معًا، وإياك أن تعترض على أحدهم، وبخاصة لو كان يدير هاتفه على محطة القرآن الكريم.
من قال لا أعرف فقد أفتى، لكن كل المصريين يعرفون، فإذا سألت أحدهم عن مكان تقصده حتى لو كان يسمع به لأول مرة فلا بد أن يصف لك مكانه، ولسان حاله وهو يودعك يقول: «مع السلامة يابو عمة مايلة» كما فعل أراجوز صلاح جاهين في أوبريت الليلة الكبيرة في الريفي الذي سأله عن مكان يقصده فأرشده إلى سكة اللي يروح ما يرجعش!!
والمترو أيضًا أفضل مكان للتسول، جميع المتسولات منتقبات، وكلهن يروين هذه القصة: «زوجي توفي وترك لي خمسة أبناء، واحدة منهم مصابة بالفشل الكلوي، وتغسل ثلاثة أيام في الأسبوع، واليوم موعد الغسيل الذي يتكلف أربع مئة جنيه وليس معي سوى مئة وعشرين جنيهًا.. ومن لا يصدقني يتصل بقسم الغسيل الكلوي بمستشفى الدمرداش» هو قسم مجاني بالمناسبة!! راقبتُ إحداهن في عربة واحدة من القطار الذي يضم عشر عربات، فاكتشفت أنها حصلت على أكثر من مئة جنيه، اضربْها في عشرة ولا تتعجب إنه عبط المصريين. في المترو حركة بيع وشراء رهيبة من كروت المحمول إلى مشابك الغسيل إلى الملابس الداخلية، ويا ويلك لو قلت لأحدهم: إن المترو ليس مكانًا للبيع والشراء، سيقول لك أحد الملتحين: «ربنا لا يجعلك من قاطعي الأرزاق، دعه يسترزق».
أحب المترو وركوبه، والدقائق التي أقضيها بداخله تمنحني طاقة وحيوية وتجعلني قريبًا من أمزجة الناس وتصرفاتهم واهتماماتهم.. وهم في الأول والآخر أهلي وناسي، ثم من أدراك أنني لا أكون في حلوان وأخبر محدثي على الهاتف أنني على أبواب المرج وأغلق معه قائلًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. عظيمة يا مصر!!
شاعر مصري.
إيناس العباس: كاميرا تراقب التفاصيل
المفارقة أنني لم أستعمل المترو في تونس، إنما في سيؤول وفي دبي، وإن كانت متروهات سيؤول في معظمها تمر عبر الأنفاق، فهي عالم كامل من المفاجآت المبنجة للعين والأفكار التي استعملتها لاحقًا في كتابي حكايات شهرزاد الكورية. عالم تحتي كامل من المحلات والمطاعم كشف نفسه مع لمسات حميمية، ستجد محلًّا يبيع أحدث الأفلام أو أدوات الصيد وبجانبه محل ملابس وبجانبهما محل للعناية بأظافر ووجوه الركاب وعاداتهم الصباحية التي تختلف عن المسائية، من يقرأ في الصباح الجرائد ليس نفسه من يقرأ الكتب جالسًا أو واقفًا… الصبايا الضاحكات صباحًا في مهرجان من الألوان والفساتين القصيرة والأحذية العالية بطريقة لافتة هن اللائي يشاهدن الدراما الكورية مساءً متعبات… وأنا هناك مثل كاميرا تراقب التفاصيل وتحتويها. في دبي، المترو يعبر من فوق الطرقات، يعبر المدينة في جولة شبه كاملة سياحيًّا، لو استعملتها من أول إلى آخر محطة، ومن النادر أن تلتقي طلبة به مثلًا، أو ربما كان الخط الذي استعملته لأشهر لا يمر ناحية الجامعات، لست متأكدة… ذاكرتي البصرية تحتشد بتفاصيل الممرضات والعاملات في المطار ومشرفات الطيران. أما مترو القاهرة فقد رأيته عام 2006م أو 2007م، أذكر أنني انبهرت بالبنية التحتية للمترو والعربات نفسها، أذكر أنني للحظة شعرت كأنني في فلم أميركي، حيث بدت المحطة ضخمة ومليئة بالاحتمالات والحكايات.
شاعرة وكاتبة تونسية.
عزة حسين: شبكة صيدٍ طائشة
شرق قريتنا، التي لم تعرف من الآلات سوى ماكينة الطحين، كان هدير القطار، على الشريط الحدودي الموازي للطريق لكل شيء، آسرًا. أيام كنا لا نلتفت لدرجة العربة العملاقة، ولا لفخامة المقاعد، كان هذا الكبير لا يعني سوى الرحلة. الأحلام المدونة على أغلفة الكراسات، وجدران البيت الأسمنتي، كانت تعرف أن نقطة البداية، لا بد أن تتم بمباركته.
كل الوداعات لا تكتمل سوى بمحاذاة قطار، واللقاءات أتخيلها دائمًا مصادفةً سعيدةً على مقعدين متجاورين في قطار. أما الأسى فتكفيه جملة: «كل القطارات تحملني إليك ولا وصول». كمغتربة؛ احتفظت بهذا الوصف، منذ التحقت بالمدرسة التي تبعد من قريتنا نحو 10 دقائق بالسيارة، قبل أن تمتد يد، طالما انتظرتها، لتغرسني في قلب العاصمة، كان الطريق بيتي. ففي السابعة عشرة، وأنا أودع عائلتي، حاملةً أكبر حقيبة ملابس عرفتها في تلك السن، أدركت أنني لن أعود لبيتنا تمامًا، لكن روحي لم تصمد كثيرًا في المرفأ الجديد، وظل قلبي على الدوام عالقًا في الطريق- القطار. في القطار كان كل شيء جديدًا، بلا خبرةٍ سوى بعض حكايات مغتربي العائلة، ومشاهد أفلام السينما: الفقر، والبرد، والمزاح بدرجاته، والبضائع، والبشر، والمعممون، والأفندية، والطلبة، وبائعات الجبن، والخبز، وبائعو «كل شيءٍ بجنيه»، كانوا رفاق طريق؛ لم أعد أتفاداهم أو أخشاهم. وعندما صرت مدينيةً، واحدةً من أرقام وأصفار العاصمة، كان المترو بديل القطار، شبيهه الأقرب، والرفاق تغيروا إلى حد ما، وبخاصة عندما لُذْتُ ككل البنات بعربة السيدات؛ لتفادي كل المخاطر! في البداية لم أرتح للمترو؛ لكونه يسرق مني الطريق، بمساراته المظلمة، وجدرانه التي لا تشبه بأي حال الماء والنخيل والمدن التي تتآكل، بمحاذاة القطارات التي جاءت بي إلى هنا، لكنها العادة تطغى على كل شيء في العاصمة.
خبرت في المترو إلى أي مدى تتشابه النساء، كيف يمكن أن تتحاور غريبتان بالنظر، وكيف تتوحد الحياة والأمنيات العابرة في برهة من الزمن، في مقعد صغير ونافذة، يمكن أن ترسم الأنفاس عبرها قلبًا واهنًا وحروفًا مرتبكة. طالما اعتقدت أن ركاب المترو مختلفون عن غيرهم في أي وسيلة انتقال أخرى، تلك الرحلة الخطية في الزمن والمسافة، المكرورة بنفس تفاصيلها، وبأقل احتمالات المفاجأة، تُكسِب روادَها ملامحَ خاصةً، تحكم قراراتهم، وانحيازاتهم وأفكارهم عن المغامرة، وعن مفارقة المسار، وعن هيئة الطمأنينة. المترو في مدن الزحام، ليس طريقًا ولا عربة، إنه مدينةً أخرى، وزمن موازٍ، طالما استفقت لنفسي في المحطة المنشودة، دون أن أتذكر شيئًا عن تفاصيل الرحلة، كثيرًا ما تشابهت عليّ محطات الوصول، وكثيرًا ما أضعتها عمدًا.
المترو حيث أنا هناك الآن وفي بيتي أيضًا، وحيث عشرات الاحتمالات والمصادفات والوجوه المفقودة، وسيلة مناسبة جدًّا للعواصم والمدن الكبرى، كأنه شبكة صيدٍ طافية أفلتتها يد الصياد، تمتلئ وتفرغ يوميًّا، دون أن تعرف الأسماك أو الشبكة أيهما يسحب الآخر. وبالنسبة إلي نادرًا ما كان المترو مكانًا للكتابة، لكنه احتشاد يومي لها، هو ربما كهف التأمل، برهة الصمت وسط الضجيج اليومي، ولوحة الحياة، بتجلياتها الساكنة والمهرولة. في بعض الأحيان، وربما يعود ذلك لطبيعة الشعر، كتبت بعض القصائد في المترو، لكنها كانت قصيرة نسبيًّا، وغائمة.
شاعرة مصرية.
محمد أحمد بنيس: مهاجرون يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق
لم يعد مترو الأنفاق مجرد وسيلة نقل فرضها تطور المجتمعات المعاصرة وتزايد إقبال الناس على وسائل النقل العمومية، في ظل اتساع المدن والحواضر وتمددها المرعب في عدد من بلدان العالم. أصبح المترو أحد التجليات اليومية التي تعكس غربة الأفراد داخل هذه المجتمعات التي جعلت الحداثة التقنية والاقتصادية أفقًا لتطلعاتها، غربة متعددة الأوجه أمام سلطة هذه الحداثة. تقدم المحطات والأنفاق والسلالم وشبابيك التذاكر الإلكترونية صورة لسلطة المترو في مدن كبرى تعيش تحت رحمة ازدحام يومي غير محتمل، يغذيه سيل السيارات والحافلات الذي لا يتوقف. مئات الرجال والنساء يتدفقون على الأنفاق، تسبقهم أنفاسهم المتقطعة، وسحنات وجوههم، وصراعهم مع الدقائق التي تفصل بين وصول القطارات، يشتركون في ذات الملامح التي لا روح فيها تقريبًا. محطات متناثرة على طول المدن الكبرى لتربط بين أطرافها، تنتظر الصباح الباكر لتبدأ في ابتلاع هذه الأمواج البشرية التي تتلاحق حتى منتصف الليل.
في مدريد وبرشلونة وإسطنبول وبوخارست وباريس والقاهرة ودبي وبوينوس آيرس وليما، ذاتها القطارات تركض مجهدة داخل أنفاق مظلمة تحت الأرض، وجوه شاردة تنتظر محطات بعينها تتشابه في كل شيء إلا في أسمائها. تترك تفاصيلُ المكان بصمتها على المترو، فتصبح له هوية محلية، أتذكر مثلًا صورة الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار في إحدى محطات بوينوس آيرس، كان فيها نوع من التقدير لهذا الكاتب الكبير، ربما في موقع لا يتوقعه عابر مثلي. في دُبي، يبدو المترو جزءًا من تلك «التسوية» بين التقليد والحداثة التي تضمرها مشاريع البنية التحتية الضخمة في بلدان الخليج العربي. في القاهرة، تكاد لا تحس بأن المترو يخفف قليلًا عن المدينة العملاقة من ازدحام شوارعها بالسيارات والحافلات وملايين الناس. في باريس ومدريد وبرشلونة، يجعلك المترو تتعثر بوجوه وسحنات المهاجرين من مختلف الأعراق والثقافات، عرب وأفارقة وأوربيون وآسيويون وغيرهم يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق، ينتظرون متى يفرغهم في هذه المحطة أو تلك.
من ناحية أخرى، تعكس شبكات المترو نوعًا من الوعي العمراني والحضري في بلد معين. مثل هذه المشاريع تمثل استجابة في أوانها لمشكلة النقل المتفاقمة في المدن الكبرى، بمعنى أنه في كثير من الأحيان، ومع اتساع وتمدد هذه المدن، في البلدان النامية على وجه الخصوص، يصبح إحداث شبكة للمترو شبه مستحيل بعدما تتزايد مدن الصفيح والسكن العشوائي وأحزمة الفقر، هذا فضلًا عن الكلفة المالية الكبيرة لمثل هذه المشروعات.
شاعر مغربي.
المترو .. تحولات ثقافية في المجتمع
خلال القرن الماضي كان لوسائل النقل تأثير عميق في أنماط الحياة لسكان المدن، وربما يكون هذا التأثير قبل ذلك بكثير. وأنا هنا أقصد وسائل النقل الحديثة التي جعلت من فكرة المدينة «المتروبولية» ممكنة، ولعلّي أتوقف عند المدينة الإنجليزية في نهاية القرن التاسع عشر (1898م) عندما بدأ مفهوم «الضواحي» يتشكل، حيث ظهرت الأحياء السكنية المنفصلة عن جسد المدينة التاريخي وتبلور مفهوم «المدينة الحديقة» Garden City الذي قاده المصمم الحضري الإنجليزي «هوارد» Sir Ebenezer Howard، فقد كانت تلك الفترة مفصلًا مهمًّا في عمران المدن ومجتمعها المعاصر. لقد كان الهدف هو خلق بيئات عمرانية هادئة وبعيدة من العمران التاريخي للمدينة المكتظ الذي لا يوفر الحياة المرتبطة بالطبيعة التي تتناسب مع الطبقة الاجتماعية الثرية، لكن تحقيق مثل هذا الحلم كان يتطلب نقلة تقنية لم تكن متاحة بشكل اقتصادي على مستوى المدينة رغم مرور عدة عقود على تطور القطار البخاري. لذلك لم يكن لهوارد أن يفكر في «المدن الحدائق» المنزوية وسط الطبيعة والمنفصلة عن العمران لولا تطور وسائل النقل خصوصًا القطار الكهربائي (الترام) الذي سمح بالانتقال السريع والمتعدد للسكان من أماكن العمل إلى أماكن السكن الجديدة وبتكاليف اقتصادية مقبولة.
إن ظهور الضواحي سمح للمدن بالتوسع الأفقي وأعطى الأراضي الخلاء قيمة كبرى، فمثلًا في مطلع القرن العشرين قام البلجيكي «البارون إمبان» Baron Empain ببناء حي مصر الجديدة «الهليوبولس» في صحراء العباسية بعيدًا من القاهرة التاريخية، وربط هذا الحي بوسط المدينة التقليدي، بدأت الفكرة عام 1904م وانتهى بناء المشروع عام 1908م، ويحكى أن الخديو عباس حلمي حاكم مصر في ذلك الوقت استغرب طلب «إمبان» شراء أرض وسط الصحراء، ولم يكن يعلم أن البارون كان متخصصًا في القطارات الكهربائية، وقد فوجئ بما حدث في المشروع عندما تم اكتماله حيث أسس إمبان شركة باسم «الشركة المصرية للقطارات الكهربائية»، وتحولت الأرض التي اشتراها بمبلغ زهيد إلى أرض باهظة الثمن.
هذان الحدثان، وبالتأكيد هناك العديد من الأمثلة التي زامنتهما، لم يكونا فقط حدثين غيَّرا مفهوم المدن وشكلها في مطلع القرن بل غيَّرا كذلك نمط الحياة في تلك المدن وأعطيا سكانها خيارات متعددة خارج الفكر التقليدي للعمران في ذلك الوقت. لقد ساهم هذا في إحداث نقلة نوعية في التحضر العمراني وظهور أنماط الحياة الحديثة التي لم تكن معروفة ومنتشرة في العديد من مناطق العالم في ذلك الوقت، ولكن بات واضحًا مع اكتشاف «الترام» واستخدامه لأغراض حضرية داخل المدن وبشكل قاطع انتهاء عصر «المدينة التقليدية» وبداية لعصر حضري مختلف في مكوناته المادية وطبيعته الاجتماعية والثقافية.
العلاقة بين التحول العمراني والتحول الاقتصادي والاجتماعي شبه أكيدة، وقد وضع علماء دراسات البيئة العمرانية السلوكية عدة احتمالات لهذه العلاقة بدأت من التأثير الحتمي للبيئة المادية في سلوك البشر لكن هذه القاعدة واجهت العديد من الانتقادات؛ لذلك تطوَّرَ توجهان: الأول احتمالية تأثير البيئة العمرانية في السلوك، والثاني إمكانية حدوث هذا التأثير. التوجه الأخير يؤكد أن هناك خيارات عمرانية أفضل من الأخرى يمكن أن توجه السلوك إيجابًا، فهل بناء مشاريع عملاقة مثل المترو يمكن أن يكون خيارًا سلوكيًّا وثقافيًّا إيجابيًّا؟ الحقيقة أن التعامل مع هذه التوجهات السلوكية في البيئة العمرانية لم يتطور إلا في بداية النصف الثاني من القرن العشرين وبالتحديد بعد عمليات الإعمار الواسعة في المدن الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية، فقبل ذلك توسعت المدن بشكل ملحوظ خصوصًا المدن الأميركية عندما قام «فورد» Ford بتطوير السيارات الشخصية التي أدّت إلى تشتت المدينة بكل الاتجاهات، وجعلها أكثر توحشًا وأقل حساسية للحاجات الاجتماعية في سبيل تحقيق النمو الاقتصادي.
مترو الرياض والقلق الـ«جندري»
الإشكالية في الوقت الراهن تتركز حول التعقيدات الاجتماعية التي تعيشها المدن المعاصرة خصوصًا على المستوى «الجندري»، فالقلق الذي صار يحدثه التحول السريع للمدن نتيجة تعقد شبكة النقل وتزايد الحاجة لإرضاء حاجات أفراد المجتمع أثارت الكثير من المتخصصين ودفعتهم لبحث تأثير هذه الوسائل في حياة الناس وسلوكم، ففي عام 1999م، أُجريت دراسة في فيينا حول كيفية استخدام الناس في المدينة لوسائل النقل، المثير أنه تم تعبئة الاستبانة من قبل الرجال في خمس دقائق: الذهاب إلى العمل في الصباح، والعودة للمنزل ليلًا. أما النساء فلم يستطعن التوقف عن الكتابة لتعدد احتياجاتهن لوسائل النقل التي تتقاطع مع الأطفال واحتياجات المنزل. لقد أثبتت هذه الدراسة أن علاقة الرجل بالمدينة تختلف عن علاقة المرأة، وبالتالي فإن أسلوب استخدام وسائل النقل يختلف عند كل منهما، كذلك تأثيرها في أنماط حياة كل منهما. وفي دراسة أخرى عن مدينة تورونتو التي استحدثت «نظام طلب التوقف» في الباصات حتى تتمكن النساء من النزول من الحافلات بالقرب من بيوتهن في وقت متأخر من الليل. وفي «سريناغار» في كشمير، وكذلك مدينة مكسيكو خلقت عدة أماكن للحافلات وعربات المترو للنساء فقط.
من الواضح هنا أن لوسائل النقل تأثيرًا متباينًا في أفراد المجتمع، وأن نجاح مشاريع النقل العامة يعتمد بشكل أساسي على ملاءمتها ظروف المجتمع والاحتياجات الخاصة لأفراده، خصوصًا النساء، وهو ما يقودنا إلى «مترو الرياض» وتأثيره العميق في نمط الحياة في المدينة، وكيف سيعيد صياغة ثقافة الأسرة السعودية ومن يقيم في الرياض. فهل المترو بصورته الحالية صُمّم للتفاعل مع احتياجات الأسرة وخصوصًا المرأة؟ وهل تم التفكير في هذه الاحتياجات مسبقًا؟
الإجابة عن هذه التساؤلات قد تجعلني أضع بعض الاستشرافات المستقبلية حول التأثير الثقافي المحتمل لهذا المشروع الحضري. في حديث خاص مع المدير الإقليمي للبنك الدولي في الرياض الدكتور فؤاد ملكاوي قال لي: إنه من الضروري إعادة التفكير في مترو الرياض من الناحية الاقتصادية، وبالتالي من الناحية الاجتماعية. يرى الدكتور ملكاوي أنه من المهم الحدّ من توسع المدينة أفقيًّا خارج النقاط الرئيسة للمترو، ويجب أن يكون تركيز السكان والنشاطات الاجتماعية والاقتصادية على نقط المترو حتى يحقق النجاح الاقتصادي ويكون فعالًا. بالنسبة لي كان اهتمامي هو تأثير هذا التركيز السكاني والخدماتي في الثقافة المجتمعية، وكيف سيؤدي ذلك إلى ظهور أنماط حياة جديدة ستقوم على مفاصل المترو الحضرية وحولها؟ وهل نحن أمام خارطة ذهنية جديدة لمدينة الرياض ستنمو وتتشكل في الأذهان.
بالطبع تم الأخذ في الاعتبار منذ البداية وجود عربات خاصة بالنساء وأخرى للرجال، ورغم أنني أشكك في جدوى هذه الخطوة من الناحية العملية، خصوصًا في مجتمع حديث عهد بالمترو، فإنه يبدو أن هذا الأمر يعدّ من مقتضيات الثقافة السائدة في المملكة، وبالتالي يجب أن تكون جزءًا من المشروع، وأحد مقتضيات مبرراته ثقافيًّا. لقد تحدثت إلى المهندس إبراهيم السلطان (أمين منطقة الرياض ورئيس مركز المشاريع بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض المسؤولة عن مشروع المترو) حول رأيي في تخصيص عربات للنساء في مترو الرياض، وهل سيشجع هذا أفراد الأسرة السعودية على استخدام المترو في حركتهم اليومية داخل المدينة، وأكَّد لي أنه لا يمكن الجزم بهذا الأمر إلا بعد تشغيل المترو فعلًا، لكن الدراسات التي قامت بها الهيئة أكدت على أهمية هذا الفصل.
هل ستستخدم المرأة السعودية المترو؟
لذلك فإن السؤال المهم الذي يثيره كثير من المهتمين يظل قائمًا: هل ستستخدم المرأة السعودية المترو؟ ولعل هذا السؤال نفسه هو الذي أخّر كثيرًا من مشاريع النقل العام في مدن المملكة، فهناك علامة استفهام كبيرة حول جدوى مثل هذه المشاريع، لكن في نهاية الأمر ومع تزايد الضغوط العمرانية وازدحام طرقات المدينة رضخت الرياض للأمر الواقع، وتبنت مشروعًا عملاقًا للنقل العام، ستصل تكاليفه نحو 80 مليار ريال سعودي (قرابة 21 مليار دولار أميركي)، رغم أن كثيرًا من الدراسات تؤكد أن مثل هذه المشاريع لا تحقق أرباحًا مباشرة، وفي حالة فاعلية المشروع، وإقبال السكان عليه يمكن ألّا يكون مصدر إنفاق، لكن المكاسب غير المنظورة التي سيحققها المشروع لا يمكن إحصاؤها سواء على مستوى النشاط الاقتصادي أو تقليل التوتر المروري، وبالتالي الاحتقان الاجتماعي داخل مدينة الرياض.
ورغم أن التساؤل عن مدى وجود الرغبة لدى المرأة السعودية في استخدام المترو سيظل قائمًا، على الأقل حتى مرور فترة من تشغيل المترو، إلا أن التأثير الثقافي في أفراد المجتمع السعودي الذي سيتركه المترو متوقعًا، على الأقل من حيث إحداث التحول في البنية الاقتصادية للأسرة، فمن المتوقع أن يكون هناك استغناء عن عدد لا يستهان به من السائقين الخاصين، وستمتلك المرأة جرأة أكبر على الحركة بمفردها لتصبح قادرة على اكتشاف المدينة بشكل مختلف عن السابق. لقد كتبت قبل أكثر من 10 سنوات مقالًا بعنوان «جندرية المدينة» أكّدت فيه أن الرياض بشكل خاص والمدن السعودية بشكل عام هي بيئات «ذكورية» تهمّش المرأة وتستبعدها من الفضاء العام. («المرأة والمدينة: هل هناك هوية جندرية للعمارة»، مجلة البناء، السنة الخامسة والعشرون، العدد 178، جمادى الأولى 1426هـ/ يوليو 2005م ) وخلال الفترة من كتابة المقال حتى اليوم حدثت تحولات كبيرة داخل مدينة الرياض، جسرت الهوة بين ذكورية المدينة وأنثويتها، لكنها تحوّلات ليست بالقدر الذي يسمح للمرأة بأن تضاهي الرجل في الفضاء العام.
هذا هو ما ذكرته للزميل المهندس محمد المحمود وهو طالب دكتوراه موضوعه هو الرصيف والقابلية على المشي في مدينة الرياض، وخصص دراسته لشارع التحلية (الأمير محمد بن عبدالعزيز). لقد كانت ملاحظتي له أنه منذ أن بدأت فكرة تطوير ممرات المشاة في مدينة الرياض عام 2006م حتى اليوم (وكان حديثنا في آخر أسبوع من شهر ديسمبر 2016م) تركت هذه الممرات أثرًا عميقًا في ثقافة الأسرة السعودية، وجعلت المرأة أكثر ثقة في تعاملها مع الفضاء العام، رغم أن هذه الفضاءات غير عادلة حتى الآن، وتنحاز بشكل واضح للثقافة الذكورية الحضرية التي تميز المدن السعودية. في اعتقادي أن المترو سيترك مثل هذا الأثر الإيجابي في الثقافة الحضرية للمرأة السعودية، وسيغير من عاداتها الاجتماعية، وسيدفعها بشكل أكبر لتجربة المدينة دون رهبة أو تردد.
كسر العزلة الاجتماعية
لعل المسألة المهمة هي حالة المصادفة التي عادة ما تتشكل في المدن المتوازنة اجتماعيًّا، وأقصد هنا هو حدوث اللقاءات المتوقعة بين أفراد مجتمع المدينة. لا أحد ينكر أن المصادفة في الوقت الراهن غير فاعلة، ومدينة الرياض تحث على العزلة أكثر من الانفتاح على الآخر، والفضاءات العامة فيها غير حيوية، لكن المترو سيجعل من المصادفة أمرًا يوميًّا ومعيشًا ولا مناص منه. ربما يكون «كسر العزلة» الاجتماعية أول المكاسب غير المتوقعة لهذا المشروع، ولكوني مؤمنًا بأن المدن المبدعة والخلاقة هي التي يتقاطع في فضاءاتها سكانها، ويبنون الحكاية الاجتماعية العفوية التي قد تتحول إلى مشروع اقتصادي أو عمل فني أو روائي، في تنوع غير محدود ولا يمكن حصره أو توقعه لهذه الحكايات. وبالتأكيد ستكون المرأة جزءًا من هذه المصادفات والحكايات الاجتماعية التي سيتيحها استخدام المترو اليومي.
من المتوقع كذلك أن يحدث تحول على مستوى الأحياء السكنية، وأقصد هنا أنه سيكون هناك حركة للمشاة من المساكن حتى محطات المترو، وهذا يقتضي تغييرًا مهمًّا على مستوى التفاصيل المعمارية للأحياء، لا أعلم حقيقة إن كانت أُخِذت في الاعتبار. الأمر المهم هو أن هذه الحركة ستشمل النساء والأطفال؛ ما يجعل هناك ضرورة ملحّة لأن تتطور بيئة عمرانية «صديقة للنساء» وللأسرة ككل. الدراسات تؤكد أن المرأة عادة لا تتحرك وحدها في البيئة العمرانية التي قد يكون فيها «عزلة» وغالبًا ما يصحبها أحد ما؛ إما من يعمل معها في المنزل، أو أطفالها، أو حتى أصدقائها، لذلك تطوير ممرات مشاة مفتوحة ومظللة (لحماية الأطفال) يمكن مراقبتها، مع ملاءمتها حركة ذوي الاحتياجات الخاصة ستكون عاملًا مهمًّا سيشجع المرأة وكل أفراد المجتمع على استخدام المترو.
البطالة «الأنثوية» وقيود الحركة
بالطبع المترو ليس فقط للمرأة، لكنها عامل أساسي في إحداث التحول المطلوب؛ لأن العائق الأكبر الذي يواجه الحركة والتنقل داخل مدينة الرياض ويزيد الضغط المروري فيها هو «حركة المرأة» المعطَّلة، وهذه المسألة يجب أن تؤخذ في الاعتبار؛ لأنه حتى لو شكك بعضٌ في استخدام المرأة للمترو، فإنه مع الوقت سيحدث تغيير عميق في ثقافة الأسرة السعودية في المدينة، سيجعل من تحمل الأدوار والمسؤوليات الاقتصادية داخل الأسرة متكافئة، وهذا حتمًا سيؤدي إلى أن يصبح المترو وسيلة النقل الأكثر استخدامًا من المرأة وأطفالها ومعها باقي أفراد الأسرة، وسيكون هذا متزامنًا مع تزايد فرص عمل المرأة في القطاع الخاص؛ لأنه من المتوقع أنه مع زيادة حركة المرأة، ستزيد فرصها الوظيفية، وسيقلِّل هذا من ظاهرة بطالة المرأة السعودية التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى كابوس. هذا ليس رأيًا متفائلًا، بل إنه توقع طبيعي؛ لأن البطالة «الأنثوية» ناتجة عن القيود المفروضة على حركة المرأة وتفاعلها المباشر مع المجتمع الخارجي، وبالتالي صعوبة ملاءمة الكثير من الوظائف لها.
على مستوى الذائقة المعمارية سيُحدِث المترو، الذي يمتدّ على مساحة شاسعة في مدينة الرياض، نقلةً في مفهوم العمارة لدى سكان المدينة، لعل هذه النظرة نابعة من قناعتي التامة بأن العمارة تحتاج إلى أن نعيشها ونجربها حتى نشعر بقيمتها، ولأن المترو مشروع «اجتماعي» كما أنه مشروع اقتصادي، وكون محطات المترو قام بتصميمها كبار المعماريين (مثل زها حديد في محطة مركز الملك عبدالله المالي) فإن تفاعل سكان الرياض بشكل يومي مع هذه العمارة لا بد أن يحدث داخلهم بعض الأسئلة. ورغم أن الرياض تحتوي على العديد من المباني المهمة والمميزة فإن هذه المباني غالبًا ما تكون معزولة عن الناس وحياتهم اليومية، وبالتالي فإن تأثيرها لن يكون بقدر تأثير «عمارة المترو» المتوقعة.
نحن نتحدث عن مشروع له تأثير اقتصادي مباشر وعمراني واضح للعيان، ليس فقط على مستوى الشكل، بل على مستوى استخدام الفضاء العمراني، فهو سيُحدِث تنظيمًا جديدًا يُعيد ترابط الأحياء السكنية والتجمعات التجارية والإدارية مع العصب الحركي للمترو، كما أن له تأثيرًا بصريًّا عميقًا سيشكل الصورة المتخيلة لرياض المستقبل، ليس فقط على مستوى المحطات العملاقة والمتوسطة والصغيرة للركاب، بل كذلك لجسور القطارات التي بدأت منذ الآن ترسم صورة الرياض، وتعيد تعريف أماكنها من جديد. الرياض بهذا المشروع ستصبح مدينة كونية وهي تتخطى عتبة الـ 8 ملايين نسمة، كما أنها ستقود المدن السعودية لتبنّي ثقافة اجتماعية جديدة قد تختلف كثيرًا عن الصورة النمطية المرسومة عن المجتمع السعودي.
انتبهي! لا تركبي في عربة العمال سعوديات يسردن حكايات مع المترو ويكتبن هواجسهن عنه
لا يحضر مترو الرياض في النقاشات العامة، سوى بصفته فضاء يمكن للمرأة أن تقتحمه، المرأة بكل ما تعنيه من أسئلة وقضايا دائمًا ما تثير الجدل. لا يعني مترو الرياض، في أحد وجوهه، سوى ثنائية المرأة والسائق، المرأة والعمل؛ إذ ينتظر أن يلج المجتمع السعودي إلى فضاء يشتبك بأمور عديدة، اجتماعية واقتصادية وثقافية، منها ما يخص العلاقة مع الآخر، سواء كان هذا الآخر المرأة، أم الأجنبي، أم الآخر «الجواني» الذي يعيش في داخلنا.
من ناحية، لكل منا تصوراته التي يحملها في ذاكرته عن المترو تبعًا لما تصوره لنا الأفلام الغربية وتجارب السفر بشكل خاص، فحينما يخوض أحدنا تجربته الأولى مع المترو يشعر كأن خارطة العالم وجغرافيته تداخلتا في رأسه، وكأنه يعيد تنظيمها من خلال المترو. فكيف لجامد أن يخلق كل هذه الفوضى في الذهن.
كثير من الأسئلة تحوم حول المترو، منها: كيف سيتحول هذا الشكل من شيئيته وجموده الآن، إلى مؤثر في الحياة الاجتماعية والثقافية في الرياض؟ هل نأمل في أن تتقلص تأثيرات الطابع الأسمنتي في نفوسنا وأذواقنا وعلاقاتنا وتواصلنا مع من نعرف ومن لا نعرف؟ كيف سيؤثر المترو في تقييم الوقت لدى مستخدميه؟ ما العادات التي ستتولد مع المترو؟ ما الذي سيختفي منا؟ كيف ستكون علاقاتنا وأصواتنا وطريقة كلامنا ونظراتنا ونحن ندخل المحطات ونقطع التذاكر ونختار مقاعدنا؟ هل سيصبح هناك اندماج اجتماعي أكبر؟ أو على الأقل إدراك مجتمعي للطبقات المختلفة داخله؟
هنا أكاديميات وكاتبات وأديبات يسردن لـ«الفيصل» حكاياتهن مع المترو في خارج السعودية، ويقترحن جملة من النصائح استعدادًا للاندماج في لحظة ستغير ما قبلها.
حنان بنت جابر الحارثي: ثقافة المترو
قبل الإجابة عما نتوقع ونأمل في أن يتحقق في مشروع قطار الرياض، أودّ الإفصاح عن تجربة شخصية حول استخدام المترو وثقافته الحضارية في اليابان، الشعب الذي يتلاقى مع العادات العربية الإسلامية في كثير من العادات والتقاليد، أكثر من أي شعب آخر. ففي اليابان يعد القطار رمز حضارة، ومنهج ثقافة، وقاعدة اقتصادية ذات أهمية بالغة في الحياة اليومية للمواطن والمقيم في اليابان؛ حيث تعد وسيلة المواصلات الأولى في اليابان. والدليل على أهمية المترو أن هناك نحو تسعة ملايين نسمة تستخدم المترو يوميًّا في طوكيو وحدها، وهذا لا يضم رحلات القطارات السريعة التي تربط المدن الأخرى في اليابان. وبشكل عام، فالمترو هو وسيلة المواصلات للجميع إلى المدارس، والجامعات، والأسواق، والأماكن العامة، والدوائر الحكومية، ويقتصر استخدام البدائل على فئة قليلة جدًّا، أو من يضطر إلى ذلك من سكان القرى التي لا تربطها شبكات المترو. ولا أنسى هنا أن أذكر أن هناك عربات مخصصة للنساء ومجهزة بأحدث كاميرات المتابعة، بالإضافة إلى أجهزة مراقبة للمعوَّقين لمعرفة محطة الوصول للمعوَّق حتى يجد شخصًا في انتظاره لمساعدته.
وانطلاقًا من الثقافة الإسلامية التي هي أساس لمجتمعنا؛ فأتوقع أن يبرز مترو الرياض أولًا وقبل كل شيء حسن الاستخدام، وتوظيف هذه الخدمة الراقية التوظيف الأمثل لقضاء حاجاتنا اليومية، وذلك على غرار ما يقوم به شعب ثالث أكبر اقتصاد في العالم (اليابانيون). وتجدر الإشارة إلى ضرورة تكثيف الإعلام لنشر ثقافة استخدام المترو والاستفادة منه كوسيلة سهلة، واقتصادية، وآمنة، وحضارية، مع التركيز على صور من واقع مترو اليابان.
وفِي ضوء انتقاء محطات التوقف، يمكن القول: بأن مترو الرياض سيكون له أثر إيجابي إذا ما تم الإعداد لاستخدامه في ضوء ما ذكر سلفًا. وهنا سيكون أمام المواطن السعودي والمقيم المجال للإفصاح عن ثقافة مميزة ومتناغمة مع رؤية ٢٠٣٠م، وقد تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الثقافة المنشودة، وتساعد على تطبيعها على أرض الواقع. وأؤكد أن الإعداد لبناء الثقافة المنشودة، وتفعيل الاستفادة سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية من خلال قنوات الإعلام المختلفة هي ما سيحدد معالم نجاح مترو الرياض ومدى الإقبال عليه، أخذًا في الحسبان التوعية عن وسائل السلامة والأمن، وكذلك الخصوصية التي تعد من أهم ركائز المترو.
أكاديمية سعودية
منى المالكي: الحمل والذئب المفترس
مترو الرياض حدث مهم في حياتنا لأنه تجربة جديدة في التنقل، وكل تجربة جديدة تحمل في داخلها الدهشة والانبهار وإن كان أغلبنا قد مارس في سفرياته المتعددة تجربة ركوب المترو، ولكن ما نحن أمامه الآن هو «مترو الرياض» ولذلك يستوجب الحدث تفاعلًا اجتماعيًّا مختلفًا؛ لأن البيئة ستحاول صبغه بصبغة اجتماعية، ولكن مع التحولات المجتمعية والثقافية التي نعيشها أتصور أن مترو الرياض سيكون محركًا وفاعلًا في إحداث تغيير ثقافي في مفهوم التنقل والحركة والتواصل بين البشر، فالكل أمام بعض، وستختفي إلى حد كبير تلك العزلة التي تخلقها مقاعد السيارة!
وبما أن حركة المرأة مقيدة ولا تستطيع قيادة السيارة، فسيكون المترو أكثر أمنًا وأوفر اقتصاديًّا، كما أتوقع أن المرأة هي من ستدفع تذكرة المترو وبالتالي ستعطيه زخمًا اقتصاديًّا كما يحدث الآن مع شركتي «كريم» و«أوبر».
وجود الرجل والمرأة في ذات المكان لمدة زمنية مختلفة كل يوم سيكسر حاجز الوهم بفكرة الحمل والذئب المفترس، تلك الثنائية المريعة التي روج لها خطاب وعظي بارد لا يرى في الحياة غير جسد المرأة وفتنته! والواقع اليوم سواءٌ في مجالات العمل المشتركة بين الرجال والنساء أو في الدراسة في الخارج أثبت أن هذا الرأي الجائر في علاقة المرأة بالرجل خطأ يجب تصحيحه، وأزعم أن مترو الرياض بجانب الابتعاث، وفتح مجالات جديدة لعمل المرأة، والخطاب الإعلامي والديني المتوازن الواعي سيحقق تحولًا وتغيرًا اجتماعيًّا، يؤنسن العلاقة بين المرأة والرجل مرة أخرى بعد اختطافها زمن الغفوة.
كاتبة سعودية
أمل بنت الخيَّاط التميمي: مشهد الموت يلاحقني في كل مترو
سبقتني أختي إلى دبي بأسبوع وأوصتني بركوب المترو لنزهة أولادي، وقالت: احجزي البطاقة (الذهبية: VIP) حتى تستمتعي بالجلوس، لا تركبي في عربة العمال انتبهي. وصفت أختي رحلتها الماتعة إلى «دبي مول» وكيف نقلها المترو إلى مدينة الألعاب كيدزانيا بدون عناء الزحام، ووصفت جمال المنظر المشاهد من خلف الزجاج. شعور سابق لتحقيق متعة التنزه والمشاهدة في رحلة المترو، ولكن، أوّل ما أفسد علي المتعة، طول المسافة من الفندق إلى المحطة وأنا بكعب عالٍ، وقفنا ننتظر الحافلة في محطة الحافلات، حتى تنقلنا إلى محطة المترو؛ ولأننا لم نتعود على الانتظار، استأجرنا سيارة أجرة حتى تنقلنا إلى المحطة، قطعنا التذاكر، وخضنا التجربة بفرح، نقدم الخطوات نحو المركبة، دخلنا المركبة وإذا هي مركبة عادية ولم نرَ الرفاهية التي وُصفت لنا، همست في أذن زوجي هذه درجة VIP؟ قال ارجعي يبدو أن تذاكرنا في مركبة أخرى، خرجت ابنتي مناير، وأنا في المنتصف وحال بيني وبينها الباب، وأقفل بسرعة كالبرق، وبإحكام موصد وكأنه حاجز الموت الذي يخطف ولا يعود بما خطف.
خطف ابنتي وأنا تراجعت للخلف فلم أعلم ما مصيرها، كنت لا أرى سوى مشهد يديها ممتدة نحوي، وفم يصرخ ماما ماما، لا أعلم ما مصير ابنتي هل قطع يديها؟ هل فرمها؟ هل داس عليها؟ كل مشاهد الموت رأيتها، خطف الموت ابنتي، وخطفني المترو إلى عالم مجهول، وهنا بدأت دهشة المغامرة الخطيرة التي ارتكبناها، نصعد مركبة لا نعلم طريقة التعامل معها، وتسبب هذا الجهل لي بعقدة من هذه المركبة الخطيرة. ما كنت أعلم أنه بدون سائق، ويقفل الباب في ثوانٍ، ويقص الحديد، لم أتعود التعامل مع الجمادات الباردة، تعودت أتكلم وأجد من يرد علي، ولكنني أتعامل مع آلة بدون عقل يدرك صراخ أم تبكي تقفز تدق على الحديد والزجاج بكل قواها، ولا يستجيب لعواطفها، البشر الذين كانوا فيه جمادات مثله، أصبحت أصرخ بأكثر من لغة كي يفهمني من حولي، ابنتي دهسها فرمها قتلها خطفها، قف قف، قف، stop لا أحد يتجاوب مع قفزي وبكائي وركلاتي على الحديد.
فجأة ثلاثة شبان عرب يتحدثون بلهجة مغربية، أمسكوا بيدي محاولين تهدئتي، تجاوبت مع الإحساس البشري، وهم تفاعلوا مع صراخ الأم الفاقدة لكبدها، همس أحدهم قائلًا: لا تخافي بإذن الله إنها بخير سيقف في المحطة الأخرى ونُبلغ عنها، ثم نعود لها. سمعت الأمان في همس الشاب المغربي، وجمادات المترو لم يستجيبوا لصراخي، أيقنت أن من يركب المترو جماد لا يتجاوب مع البشر، نزلت المحطة بصحبة الشباب الثلاثة، دهشت من نفسي، لم أتوقع أنني بهذه اللياقة أركض الممرات، أجري على السلالم أقفز الحواجز، ربما كنت أسرع من المترو نفسه.
وجدت نفسي مع الشباب أمام بشر من موظفي المحطة يتجاوبون معي، سجلنا بلاغًا عن فقدان طفلة في محطة فندق البستان، كنت أتوقع أنهم سيخبرونني بأنه دهسها، وفجأة تأتي البشارة بأنها بخير. حمدت الله وبكيت من الفرح. عدت مع الشباب حيث ابنتي هناك، لا أعلم حينها اضطربت عندي المشاعر هل أبكي؟ هل أحضنها؟ هل أشكر الشباب؟ وجدت نفسي أسجد لله شاكرة، وأنثر على ابنتي الماء حتى تغادرها الفجعة، وبعدها التفت إلى الشباب، وجدتهم يبكون من هول الموقف، تأملت أعينهم، تفاعلوا معي، والمترو يحطم نفسيتنا بقسوته ويدوس مشاعرنا ويسير إلى دهس مشاعر أخرى، بلا مشاعر بلا أدنى مسؤولية أنه يؤلمنا.
سألت الشباب عن سبب ركوبهم هذه الآلة القاتلة، أجابوني بصوت واحد، قادمين نبحث عن وظيفة ولولا الحاجة ما ركبناه، ومن حسن الحظ كانت حقيبتي مزودة بالنقود، أصبحت أوزع عليهم النقود وهم يتمنعون، فقال أحدهم: ساقنا الله إليكِ، وساقكِ الله إلينا، سنأخذ المال لأننا لا نملكه، ولعلنا نوفق بوظيفة من دعواتك. شكرت الشباب، واستنشقت الهواء بعمق، غابوا عن نظري، وبعدما ارتحت، استرجعت المشاهد التي خضتها معهم وأنا أركض لإنقاذ ابنتي، وجدتها لقطات كأنني في فلم مثير يعرض في هوليوود.
كم من قصة مماثلة ستكون مع افتتاح مترو الرياض، ونحن شعب يجهل ثقافة المترو، شعب يجهل التعامل مع قصف الآلة، لن يركب هذه الآلة إلا المحتاج جدًّا إليها، وستتعبه أكثر من تعبه، هل يستوعب بلد عربي مثل هذه المشاهد المثيرة؟ لاحظت في الغرب حتى الحيوانات لها أماكن مخصصة في الباصات، فهل نحن مستعدون لهذه الثقافة بدون مشكلات؟ كم من القصص ستبقى في الذاكرة وكم ستموت؟ عن نفسي لن أكرر هذه التجربة ولن أقبلها على أولادي ومن أحب، بقي مشهد الموت يلاحقني في كل مترو أراه في أي مكان أذهب إليه، شبح الموت أراه في مترو السويد، ولم أركب هذه المركبة الجامدة، وكنت أتكبد مبالغ باهظة وأنا أركب سيارة الأجرة بديلًا منه، وحينما أرى المترو أريد أن أسترجع فقط مشهد نشامة وشهامة الشبان المغاربة العرب.
أكاديمية سعودية
الهنوف الدغيشم: سنعيد ضبط ساعاتنا
هل ستتغير ملامح الرياض؟ هل ستصبح هذه المدينة أقرب للإنسان وحكاياته؟ وهل سيخبو صوت منبهات السيارات؟ ويعلو صوت حكايات العابرين في جوانب المترو وهو يعبر هذه المدينة الضخمة؟ كيف سيتحول هذا الشكل الأسمنتي من شيئيته وجموديته الآن، إلى مؤثر في الحياة الاجتماعية والثقافية في الرياض قريبًا؟
هل نأمل أن تتقلص تأثيرات الطابع الأسمنتي على نفوسنا وأذواقنا وعلاقاتنا وتواصلنا مع من نعرف ومن لا نعرف؟ هل ستغيب عن أعيننا وذواتنا هذه الأشكال الأسمنتية وكسراتها وزواياها الحادة وأرصفتها وحواجزها؟ وهل سيختفي شعورنا بشيئيتها وجمودها؟ كيف ستكون علاقاتنا وأصواتنا وطريقة كلامنا ونظراتنا ونحن ندخل المحطات ونقطع التذاكر ونختار مقاعدنا ونسأل عن أي محطةٍ نقصد؟
هذه الأسئلة تنمو في رأسي في كل مرة أشاهد المترو وهو يتشكل بشكله الأسمنتي مخترقًا مدينة الرياض، محاولًا تجميع أطرافها.
أتخيل الرياض وهي تتغير وتتشكل مرات ومرات، ربما ببطء ومقاومة في البداية، لكن الروح الشابة لأهلها ستتقبل هذه التغيرات الثقافية والاجتماعية التي سيحملها المترو معه. في البداية، ستنبت كثير من الحكايات، ستتغير بوصلة الحديث في اجتماعات العائلة والأصدقاء نحو المترو، سنسمع حكايات لطيفة، وسنسمع أيضًا حكايات غير منطقية، وستستخدم هذه الحكايات للترويج أو للتنفير منه. مع الوقت.. ستخبو هذه الحكايات، سيصبح المترو من روتين الرياض، روتينها الطبيعي الذي لا يحمل كل هذه الاندهاشات، اندهاشات البداية. سنتآلف معه، سيصبح جزءًا مألوفًا وغير مدرك من حياتنا. أتخيل أن ثمة إقبالًا من طبقات مختلفة في المجتمع لتجربة المترو، أحد أسبابها الرغبة في تجربة الجديد، أو دفع ثمن الفوضى المرورية التي صاحبت إنشاءه، وتفادي الازدحام الذي أصبح طابعًا لمدينة الرياض، أو ربما عطشًا لمصادفة حكاية مع العابرين. كما أعتقد أن المرأة ستستخدمه أكثر في محاولة لمقاومة كل معوقات المواصلات لديها. نحن الذين اعتدنا دائمًا أن تكون مواعيدنا مفتوحة، أن نقول مثلًا «الموعد بعد صلاة العشاء»، وكم هو طويل وذائب هذا الوقت! فهل سيعلمنا المترو أن التأخير نصف دقيقة يعني تفويت الرحلة وانتظار ما بعدها؟ سيعلمنا المترو أن نعيد ضبط ساعاتنا وإدراكنا للوقت. سيعلمنا أكثر من ذلك، سيعلمنا كيف ننتظم في الدخول والخروج من المترو، سنتعلم كيف نقف عند باب المترو لنمنح الآخرين فرصة الخروج أولًا. مع التجربة، سيكون هناك رتم في حركتنا، وسيتحول المكان إلى نغم بين حركة الإنسان وحركة المترو، سيحمل هذا الرتم تأثيرًا في سلوك إنسان الرياض، سيصبح أكثر صبرًا، أكثر قدرة لضبط وقته، وأكثر مرونة في التعامل مع الآخر، فسيتحول المترو من شيئيته الجمودية إلى مؤثر في النمط الاجتماعي بأكمله.
ستحتوي المحطات بقالات ومحلات تبيع معروضات ومطاعم صغيرة، سينتظر الركاب في المقاهي، سيتحدثون من أين جاؤوا وإلى أين سيذهبون، سيسألون وسيتعارفون، سيحكون عن حياتهم وأطفالهم، سيبتسمون. لن يعودوا معزولين كما في سياراتهم الخاصة. سيؤثر المترو في علاقات الإنسان، ورؤيته للآخر، سيقترب الغريب عن الرياض من أهلها، هكذا أظن، وسيحمل في ذاكرته صورة متنوعة وقريبة من تفصيلات الحياة. الأسئلة لا تتوقف عن التبرعم في رأسي، فهل يمكن للعلاقة بين الرجل والمرأة مع الوقت أن تكون أقل تحفزًا؟ نسق الحياة في الرياض جعل هذه العلاقة في حالة توجس، وفي حالة تضاد دائمة. أتخيل أنه في البداية سيزداد توجس المرأة تجاه الرجل، ومع زيادة استخدام المترو، ستجد المرأة نفسها مضطرة بداية لأن تسأل عن اتجاه ما، عن مكان ما. وحينما ترى أن الأمر أكثر بساطة مما تظن، وأنه سيأخذ منحى إنسانيًّا عابرًا، سيذوب هذا التوجس، ستبدو العلاقة أكثر وضوحًا، أقل توجسًا. سيكسر المترو ما بناه الأسمنت، سيذيب جمودية العلاقات، فكبار السن سيظهرون في رتم الحياة، سيكونون جزءًا من الصورة، سنراهم أقرب للأجيال اليافعة، سيتحركون داخل المدينة دون اعتماد على أحد ما، سيجدون كثيرًا من الشباب والشابات المستعدين دائمًا لمساعدتهم، وسيشعرون أنهم أقرب للحياة. سيعتاد الأطفال أو الناشئون على هذا النوع من الحركة، وحينما يرونه منظمًا وآمنًا، سيسهل فيما بعد تنقلهم وحدهم، هذا ما أتمناه على الأقل.
ما الذي سيختفي منا؟ هل سيصبح هناك اندماج اجتماعي أكبر؟ أو على الأقل إدراك مجتمعي للطبقات المختلفة داخله؟ كل هذا محاولة تخيل وقراءة لتأثير المترو، ربما سيخلق مفاجآت لم يكن لنا توقعها ورصدها.
كاتبة سعودية
نوير العتيبي: أنسب كتاب اجتماعي
الرياض مدينة يضج فيها كل شيء إلا صوتها، مدينة مزدحمة بآلاف الحكايات المطمورة والمنسية والحياة المتكلفة التي سرقت طبيعتها كأنها، وفي لحظة تمدد خطوط سكك جديدة على صدر هذه المدينة ستقول: القطار سيخرج مفاهيم اجتماعية عديدة، وستلبسون لونًا حياتيًّا لم تعتادوه! فتلك المدينة التي تقسم كل شيء على اثنين اختارت أن تغير المعادلة وتلغي القسمة. وتتهيأ لخوض تجربة تضاف لسابق خطواتها في التغيير غير أن وسيلة النقل الجديدة ستترك أثرًا في الجانب الاجتماعي والإنساني.. إن الحركة الدائمة للإنسان وللبحث عن ضروريات الحياة جعلته يستخدم وسائل النقل التي تسهل له عملية الانتقال وبالطبع تشكل هذه الوسائل بجانب أهميتها عبئًا بيئيًّا ومشكلات حضرية، أبرزها الاختناقات المرورية والتلوث بكافة أشكاله؛ لهذا جاءت فكرة القطار في مدينتنا أبرز الحلول التي نتطلع لبدء تشغيلها. ولخوض تجربة مماثلة للدول السابقة في ذلك. فالتوسع العمراني هو الأصل، ووجود وسائل النقل كي تمكن أفراد المجتمع الواحد من التواصل فيما بينهم بعدما تعذر عليهم التواصل بالأقدام.
سيسهم القطار إلى حد كبير في إحداث التغيير الاجتماعي بين أفراد المجتمع عمومًا؛ إذ إن المترو سيقصده كل الفئات، وسيتاح بكلفة أقل مما هو متاح، ومن هنا ستكون عملية الاتصال الاجتماعي متاحة بشكل أكبر، إذ إن الممرات الطويلة والمقاعد المرصوصة ومحطات الانتظار ستضج بحياة مختلفة وتبادل معرفي، يلتقي فيها الفرد مختلف الفئات، ولن تكون التجربة مجردة ولو على سبيل التأمل لحركة الحياة. سيصبح المترو رافدًا ثقافيًّا ليتعرف المجتمع على كل فئاته دون الحواجز المتكلفة، ولعله يعيد الطبيعة الإنسانية كما هي صورها في كافة بلدان الجوار قبل البلدان المتقدمة. ومن المؤكد أن تلك الوسيلة ستنعكس على السلوك الاجتماعي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما أنه ستستجد قوانين اجتماعية تحكم هذا الفعل الاجتماعي (فعل التنقل)، وستنبت في محطاتنا الحكايات المخيفة قبل البدء وعند التجارب الأولى لتشغيله، وستشحذ العواطف الدينية كعادتنا عند أي تغير، وبعدها ستنسى تلك الحكايات حين يكون العقل في مقدمة كل قول ليدحض الحكايا التي تعوق التقدم وتمنع الحياة. فشبكات الخطوط الجديدة ربما تعيد شيئًا مما فقدته المدينة، وربما تمنحها آلية جديدة تتعاطى مع الحياة بشكل يذيب جمودها. يقول أدونيس: «إن المترو أنسب مكان تقرأ فيه كتاب علم النفس»، وأنا أقول: إنه سيكون أمتع كتاب اجتماعي ممكن أن تقرأه.. هو مترو الرياض.
شاعرة سعودية
أسماء الزهراني: ملايين الأحلام
تستيقظ لصلاة الفجر ولا تنام بعدها؛ لأنها إن أخذت غفوة استرخاء مهما كانت قصيرة فستفوت حضور عملها في موعده بين السابعة والثامنة، الموعد الذي تفوته مهما كانت دقيقة خروجها من المنزل، لأن العبرة في جدة والرياض، المدينتين اللتين تكبران كل ساعة، ليست بالتبكير بل باستحالة اللحاق بامتداد قطار السيارات الذي يضاف له عربات كل يوم ومزيد من التفافات الطرق للتحايل على الزحام!
وحيث لا يمكن لساكني هاتين المدينتين إنجاز أكثر من مهمة في اليوم، باحتساب الوقت الذي سيمضونه في الطرقات، فكم أريق على تلك الطرقات من أفكار ومشروعات كانت ستصنع فارقًا هائلًا. في هذا اليوم بالتحديد كان الطريق سلسًا بشكل لم تعهده، فهي لم تضطر للدخول في مسيرة سيارات واقفة، بل صعدت من إحدى محطات قطار الأنفاق، الذي لا يقطع مسيره تحويلات ولا حفريات ولا إشارات. وجدت نفسها مبكرة أكثر مما ينبغي في موقع الجلسات العلمية، حتى إنها شعرت ببعض القشعريرة! كانت السكينة تعم المكان فقررت أن تغير موعد خروجها في اليوم التالي! اليوم الذي لم تشعر فيه بحاجة لتعليق عينيها بالسائقين المتهورين، وتركيزها مع السائق لتنبيهه لمفاجآت الطريق كعين ثالثة! فقررت أن تقرأ شيئًا حتى الوصول لموعدها. في ذلك المقعد الهادئ قضت أيام الرحلة الأربعة تتأمل الملايين التي يحملها القطار يوميًّا ذهابًا وإيابًا، وتحلم بمقعد يشبهه في الرياض وجدة، وتحسب كم من الخطط والطموحات ستنجو، وكم من المشروعات ستتحقق بدون أن تجهضها هذه الطرقات التي تحمل كل يوم ملايين المواطنين مع ملايين الأحلام!!
عضو مجلس الشورى السعودي
أثير عبدالله النشمي: ليس حميمًا، كما توقعت!
كان هذا أول ما تبادر إلى ذهني في أولِ مرة صعدتُ فيها على متن المترو، كُنت دائمًا ما أتخيل المترو بشكل مُختلف، أنا القادمة من بلاد لا تتعاطى مع المواصلات العامة بعمومها، ما بالكم بمترو ينطلق بسرعة ثمانين كيلو مترًا في الساعة!
دائمًا ما كُنت أتخيل رائحة المترو أو القطارات، كُنت أتصور دائمًا أن لها رائحة تُشبه بشكل ما رائحة الكُتب، هكذا صورت لي الأفلام الأمر، أُناس يتشابهون بشكل ما، يتقاطعون بطريقة ما، يستقلون كبائن القطار ومقاعد المترو، يقضون الوقت في قراءة أدبيات كلاسيكية، يلتقي بعضهم مُصادفة من يُشبهه، يكتشفون أنهم توأم روح، يقعون في الغرام، يتزوجون وتُخلد الحكاية!
لكنه لم يكُن مثلما تخيلت على الإطلاق، لم يكُن يُشبه قطار فلم before sunrise ولم يكُن من عليه يُشبهون من كانوا عليه! كان أسرع مما كان من المفترض عليه أن يكون، ممتلئ بأناس مُختلفي الملامح والهيئات، أناس لا يتشابهون فيما يرتدون ولا في الطريقة التي كانوا يجلسون أو يقفون فيها، لم تجمعهم لغة، وأكاد أجزم بأن أعينهم لم تلتقِ أبدًا طوال تلك الرحلة، الشيء الوحيد الذي اتفق ركاب المترو عليه هو انشغال معظمهم بالأجهزة الإلكترونية التي كانت في أيدي الأغلبية، باختلاف أنواع تلك الأجهزة. كُنت وحدي من يُحملِق في ملامح الجميع، كُنت أتأمل ذلك الاعتياد على الوجود في مكان كهذا، كاعتيادي على أن أستكين خلف مقعد سائقي في الرياض، لم يكُن هُناك مُتوتر سواي، أنا التي كدت أتراجع عن اللحاق بالمترو خوفًا من أن يُغلق بابه عليّ فيطحن جسدي قبل رأسي!
شعرتُ بالخجل من خوفي، وشعرتُ بالخجل حينما تخيلت أن الباب فعلًا قد أغلق علي، وشعرتُ بالخجل كثيرًا حينما تأملت تأخري في المرور بمثل هذه التجربة. كُنت سعيدة جدًّا في اليوم الذي استقل أطفالي فيه المترو لأول مرة، تأملتُ طويلًا تلك الدهشة، وجدتُ أنها كانت تشبه دهشتي بشكل لا يُصدق عند استقلالي المترو لأول مرة، كُنا على القدر نفسه من الدهشة، على رغم فارق العمر الكبير عند استقلال كل منا المترو لأول مرة! كُنت ممتنة لتلك السرعة التي خطفت أنفاس أطفالي ونفسي أيضًا، لا لمُجرد أنها أدهشتنا وأضافت لنا تجربة مُختلفة لم يكُن ليتسنى لنا المرور بها في الوطن حينذاك، ولا لأنها وفرت علي كثيرًا من المال الذي كُنت سأنفقه مقابل سيارات الأجرة أو السيارات الخاصة التي كُنت سأستقلها في حالة عدمِ وجود المترو، بل لأنها جعلت تنقلاتنا أكثر سهولة وأوفر وقتًا مما كانت عليه، سيعي تمامًا معنى هذا الأمر وقيمته من هو مسؤول عن أطفال صغار في عُمر الملل والحركة. ممتنة أنا بأن أطفالي قد عاشوا هذه التجربة مُبكرًا، ممتنة أكثر لأنهم سيمرون بها كثيرًا بإذن الله في وطنهم، حتى يفقدوا دهشتهم حيال الأمر، وحتى يعتادوه مثلما كان يبدو على من كانوا يستقلون ذلك المترو في رحلاتنا الأولى عليه.
حينما نزل أطفالي من المترو لأول مرة قال لي ولدي الأكبر بخجل: «ماما، خفت يسكر علي الباب ويكسر رأسي». ابتسمت، تذكرت نفسي في أول رحلة على مترو الدهشة!
روائية سعودية
حنان الأحمدي: التحرر من الاتكال على الآخر
تجربتي الشخصية مع خدمات النقل العام في أميركا وأوربا التي تتميز بالجودة والدقة والانضباط ترتبط في ذهني بمعانٍ عديدة، أولها التحرر من الاعتماد على الآخرين في التنقل، والتحرر من ضغوط قيادة السيارة في ساعات الذروة، والإحساس بالتمكين في مباشرة أموري وأعمالي بنفسي، وهو شعور مختلف كان يعني لي الكثير كشابة حديثة التخرج من الجامعة، لم تألف حتى هذه الدرجة البسيطة من الاستقلالية.
المجتمع السعودي اليوم يشهد حراكًا كبيرًا من الشباب والشابات الساعين للاعتماد على النفس لتحقيق أحلامهم من خلال تأسيس مشروعات خاصة، أو القيام بأعمال غير تقليدية، وبخاصة في ظل تغير الظروف الاقتصادية وشح فرص العمل؛ لذلك سيمكنهم توافر مواصلات عامة من السعي نحو تحقيق أحلامهم وطرق أبواب الرزق. وأتوقع أن يألف المجتمع وجود النساء في وسائل النقل العام بعد أن توسعت مجالات عمل المرأة لتشمل الأسواق والمجمعات التجارية والعيادات والبنوك ومؤسسات القطاع الخاص، فلم يعد وجود المرأة في الفضاء العام أمرًا غير مألوف. ومع ذلك قد تظل بعض رواسب الثقافة التقليدية تمارس شيئًا من الفضول، وربما الوصاية على النساء، وهو ما يجعل المراحل الأولى لانطلاق مترو الرياض تمثل تحديًا كبيرًا للراغبات من النساء في استخدامه. وعلى صعيد الأسرة، فإن أبرز تغيير نتطلع لتحقيقه للأسرة السعودية من خلال توافر وسائل النقل العام هو التحرر من ثقافة الاعتماد على السائق الخاص التي فُرضت على كثير من الأسر؛ بسبب استحالة قيام رب الأسرة بالجمع بين عمله ومهمة توصيل جميع أفراد أسرته لمدارسهم وأعمالهم.
ومع ذلك لا أتوقع أن نصل قريبًا إلى مرحلة نفضل فيها استخدام وسائل النقل العام على المواصلات الخاصة، كما كنت أفعل خلال دراستي العليا في الولايات المتحدة الأميركية. إذ رغم امتلاكي لرخصة قيادة السيارة كنت أفضل استخدام وسائل النقل العام في التنقل من الجامعة وإليها بسبب سهولة استخدامها ونظافتها ودقة مواعيدها، وتوافرها في كل زاوية وشارع، وربما لأنها توفر لي فسحة خاصة من الوقت للتأمل أو الاسترخاء والقراءة أو الاستماع للموسيقا. لم يكن استخدام النقل العام محصورًا على فئة أو طبقة من الناس، لأن قلة مواقف السيارات في وسط المدينة، وازدحام الطرق يجعل الذهاب للعمل بسيارة خاصة مصدرًا للضغوط. ولا تنظر الثقافة السائدة في أميركا وفي بعض الدول الأوربية بدونية لمستخدمي النقل العام؛ لأنهم يمثلون غالبًا معظم شرائح المجتمع. لذلك فإن وجود خدمات نقل عام راقية وذات جودة عالية سيغير النظرة إليها وإلى مستخدميها بشكل جذري.
ويتمتع قائدو المركبات العامة هناك بصفات الحزم والمهنية العالية، ويتمكنون من ضبط الأمن والسلوك العام بكفاءة. وفي ظني لن تنجح وسائل النقل العام في اجتذاب الأسر السعودية أو الأفراد إلا بتوافر هذا الانضباط السلوكي الذي تفرضه ثقافة المواصلات العامة سواء في المحطات أو داخل المركبات. وبلا شك نحن نستطيع تحقيق الانضباط السلوكي نفسه في مترو الرياض من خلال توفير طاقم من العاملين على درجة من المهنية والحزم لترسيخ ثقافة المواصلات العامة وفرض أنظمة صارمة لاستخدامها. من جانب آخر فإنني أتطلع بشكل خاص لتوافر خدمات النقل العام المتميزة لتساعد على تمكين العديد من فئات المجتمع غير القادرة على الاعتماد على نفسها في توفير مواصلات خاصة، للمسنين والمعوقين والفئات محدودة الدخل. وفي ظني مع تزايد نسبة المسنين في المجتمع وما نشهده من استقلال الأبناء في بيوت خاصة، يجعل المسنين أكثر قدرة على الاستفادة من المواصلات العامة في التنقل لأغراض مختلفة، لقضاء الحاجات، أو مراجعة المستشفيات، أو لارتياد الأماكن العامة بدون الحاجة للانتظار لحين يتفرغ أحد الأبناء لمساعدتهم. ومن المهم أن تراعي مواصفات واشتراطات الحافلات والقطارات الاحتياجات الخاصة لبعض فئات المجتمع، وأن توفر مساحات للكراسي المتحركة وأحزمة الأمان، وسلالم متحركة لتسهيل دخول هذه الكراسي، وأن يُعطى أصحابها الأولوية في الجلوس في المقاعد الأمامية.
ومن المشاهد التي لا أنساها من خلال تجربتي الطويلة في استخدام هذه المواصلات في الخارج، مشهد شاب مصاب بشلل كامل ولا يستطيع تحريك إلا بعض أصابع يديه، يركب الحافلة يوميًّا للذهاب للنزهة أو لقضاء بعض احتياجاته معتمدًا على نفسه بشكل تام باستخدام كرسي كهربائي بمواصفات عالية. كان هذا الشاب يحرص على تبادل الحديث مع قائد المركبة أو مع الركاب كاسرًا بذلك كثيرًا من الحواجز النفسية والافتراضات الضمنية التي تعزز عزلة ذوي الاحتياجات الخاصة، وتمنع اندماجهم في المجتمع. وهذا قد يكون من المنجزات الاجتماعية البارزة لوسائل النقل العام فيما لو تمكنت من إيجاد مساحة آمنة لذوي الاحتياجات الخاصة لممارسة حياتهم بشكل طبيعي. الخلاصة هي أن بالإمكان أن تؤثر وسائل النقل العام في ثقافة المجتمع، وأن تؤدي لمزيد من التمكين والاستقلالية لمختلف فئاته، وأن تسهم في إحداث تغيير ثقافي ملموس، ولكن ذلك يتطلب ثقة المستفيدين بمنظومة النقل العام، وتوافر درجة عالية من الدقة والجودة والاعتمادية في خدماتها.
عضو مجلس الشورى السعودي
ليلى الأحيدب: نافذة أولى للنساء
الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض عملت بذكاء وبإستراتيجيات واضحة في هذا المشروع، فقد أشركت المجتمع في مترو الرياض مذ كان حبرًا على ورق، طلبت من المواطنين عبر مسابقة أطلقتها بعنوان «وش نسميها» أن يشاركوا في تسمية آلات الحفر السبع التي ستحفر الأنفاق وستؤسس لمترو الرياض، وضعت مواصفات معينة لهذه الأسماء، وهذه المسابقة اشترك فيها المواطنون من جميع أرجاء المملكة، وتم اختيار أسماء آلات الحفر وفقًا لاقتراحات المواطنين؛ ففي نهاية الأمر المواطنون هم من سمى الآلات بأسماء تعبر عنهم، وترتبط بذاكرتهم الجمعية؛ مثل: ذربة وسنعة وظفرة ومنيفة وجزلة وصاملة وثاقبة، جميل أن تؤنسن الهيئة الآلات وتربطها بوجدان المواطن وذاكرته، ولم تكتفِ الهيئة بذلك؛ بل عمدت إلى إشراك المواطنين في كل مرحلة تنجزها من هذا المشروع، فتوجه الدعوات لأصحاب الحي القريب ليحضروا شق نفق أو الانتهاء منه بإحدى هذه الآلات التي أسموها بأنفسهم.
إشراك الناس في التسمية وفي مراحل إنجاز مترو الرياض جعل مترو الرياض جزءًا مهمًّا من حياة الناس، فهو مشروع شاركوا فيه منذ البدء، وحضروا كل مرحلة تم إنجازها بطريقة جعلتهم يعرفون خطوات بنائه خطوة خطوة،، فقد تحول لمشروعهم هم لا الهيئة، إضافة إلى الرسائل الدعائية الموجودة في الشوارع وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وهي رسائل ليست تقليدية، بل موجهة بذكاء بطريقة جديدة ومبتكرة.
هذا الاشتغال الذكي من هيئة تطوير الرياض على جعل مترو الرياض جزءًا من حياة سكان الرياض سيسهم لا شك في نجاح تشغيل المترو وإقبال الناس عليه.
مترو الرياض ملائم جدًّا لرؤية 2030م من النواحي كافة. وأعتقد جازمة أن مترو الرياض سيكون مشروعًا ناجحًا، وسيحظى بإقبال كبير من سكان العاصمة، وسيلمس الناس فائدته الاقتصادية، وبخاصة في ظل ارتفاع أسعار الوقود، فقد ملّ الناس من ازدحام الطرق وحوادث السيارات والتحويلات، وسيكون مترو الرياض نافذة أولى تغني النساء عن استخدام السائقين الذين استنفدوا ميزانيتهم. أنا مستبشرة بهذا المشروع، وأشكر هيئة تطوير مدينة الرياض على مهنيتها في العمل، فهي هيئة تعمل بحب وإخلاص وتجمِّل دائمًا وجه الرياض.
روائية سعودية
مترو الرياض.. في المتخيل الروائي السعودي
هل يمكن أن يتحول مترو الرياض إلى فضاء روائي وجزء من المتخيل السردي لدى عدد من الروائيين والكتاب السعوديين؟ هل سيعثر الكاتب السعودي في عربات القطار ومحطاته على مادة طازجة، عن شخصيات مميزة، تدفعه إلى استلهامها؟ هل ستجد الرواية والقصة ضالتهما في العلاقات التي تحدث في المترو، ليكشفا جانبًا جديدًا من المجتمع؟ وما التحديات التي يمكن أن يواجهها الكُتاب في هذا الصدد؟
تساؤلات طرحتها «الفيصل» على عدد من كتاب الرواية والقصة السعوديين.
يوسف المحيميد: قصص الحب والعلاقات بين الجنسين
كما أعرف، يرتبط مجد أمناء العواصم والمدن في العالم وشهرتهم، بإنشاء خطوط المترو في هذه المدن، لما يحمله المترو من أهمية كبرى في تاريخ المدن وتغيراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولا يقتصر الأمر عند ذلك فحسب، إنما ينعكس أيضًا على فنونها وآدابها، فمحطات المترو مكان صالح للموسيقا والغناء والفنون بأشكالها، كالفن الغرافيتي، وعربات المترو أماكن صالحة جدًّا لحكايات الناس، وقصص الحب والسرقة والقتل أيضًا، هذه الخطوط والعربات والمحطات أمكنة واردة في السرديات العالمية، فكثير من الروايات المترجمة التي نقرؤها يرد فيها اسم المترو، أو اسم محطة من محطاته؛ لأنه ببساطة جزء يومي من نسيج هذه المجتمعات، فلا يمكن لأي شخصية من الشخصيات أن تتحرك دون أن تستخدم المترو أو الحافلة، فهي وسائل النقل التي تضم الجميع، ويلتقي بها الجميع، لذلك من الطبيعي أن يحضر المترو بعرباته ومحطاته في الروايات السعودية التي توظف الرياض كمدينة لأحداثها، لكن ما أخشاه هو المبالغة في استخدام هذا العنصر، وربما أتوقع كذا رواية قادمة ستجعل المترو مكانًا كاملًا لأحداثها، وبخاصة الروايات الشبابية التي تتصيد قصص الحب والعلاقات بين الجنسين، ولا عيب في ذلك؛ لأن المهم في نظري أن تكون أعمالًا مكتملة فنيًّا، وعميقة في كل مستوياتها وطبقاتها، وألا ينخدع أحد بأن استخدام هذا العنصر الجديد في المكان يضمن الجدَّة في النص الروائي، أو وسم الرواية بعنوان «مترو الرياض» يكفي لتحقيق الشهرة المجانية والمبيعات العابرة.
الكتابة الروائية شيء آخر، أكثر عمقًا؛ التوغل في أعماق الإنسان، رصد مشاعره وانفعالاته، التقاط أبسط تفاصيله اليومية، سواء في المترو، أو الباص، أو المركبة الخاصة، أو حتى في الشارع والحديقة والجامعة وملعب كرة القدم، كل هذه الأماكن وغيرها هي أماكن لتجمع الناس وتقابلهم، بمعنى أنها أماكن لوقوع الأحداث والحكايات، وفرصة لاصطياد الأفكار، ولكن علينا أن نتمثل مقولة الجاحظ: «الأفكار ملقاة على قارعة الطريق» أي أنها متاحة للجميع، لكن كيف نلتقطها ونصهرها ونعبِّر عنها، هذا هو المحك وما يميز الروائي الحقيقي ممن هو دون ذلك.
روائي سعودي
عبدالرزاق اليوسف: قيم فنية
للكتابة في الترام قيم فنية في الدلالة الإبداعية، مثل علاقتها بالواقع، والاختصار والدقة وإثارة الفضول والاهتمام. بينما الإطار الفني والتشكيل الهندسي محكوم بعوامل رسم هذا التشكيل من نسيج وبناء الشخوص والسرد والحدث. كما أن الإمكانية التأويلية محدودة بسبب عوامل التشكيل: الشخوص هم ركاب المترو وتغيرهم، حركة الترام ووقوفه في محطات معينة، عنصر المفاجأة في الحدث: دخول ركاب جدد واختفاء آخرين. إذا كانت القيمة المكانية محصورة في العربات، فإنها زمنيًّا مقيدة في توقيت الوقوف والحركة وما تحمل من شحنات التوقع عند القارئ… ولكن مهلًا.. هذا التمهيد عن فنيات الكتابة الإبداعية للقصة ربما يحدث في القاهرة أو أنقرة بسبب البعد النفسي والاجتماعي للكاتب بين مجتمعه الكبير. وهو أن يكون الكاتب حرًّا، مستقرّ الانفعال والوجدان بما يخدم كتابة النص. أما عندما تكون الكتابة في السعودية فالأمر مختلف. إن الإطار الاجتماعي الذي يعوم فيه الكاتب ومن ضمن أركانه الحرية وانسياب الوعي بدون عقبات شرط أساسي في الإبداع.
ناقد سعودي
هناء حجازي: القطار الأشهر
القطار الأشهر بالنسبة لي في الأدب هو الذي انتحرت تحت عجلاته أنّا كارنينا. في رائعة تولستوي تلك، كان القطار حاضرًا بقوة. كلما وقفت أمام قطار في الخارج حيث القطارات جزء مهم وأساسي في مواصلات الكثير من البلدان، أشعر لوهلة بخوف غامض، رهبة أو وجفة تنتابني حين أقف أمام ذلك الجرف السحيق الذي ستملؤه بعد قليل عجلات القطار القادم. والآن أتساءل: هل السبب أنّا كارنينا؟ هل يوجد بداخلي أنّا كارنينا مختبئة في زاوية ما من عقلي؟
لذلك أتخيل كيف ستمتلئ صفحات الروايات، رواياتنا من ذكر المترو القادم، هذا الذي سيصبح جزءًا من الحياة اليومية لأهالي الرياض، كم كاتب سيكتب عن المتعبين الذين يضطرون لركوبه كل يوم، أو الشبان الذين سيلتقون على ضفافه للذهاب إلى منطقة بعيدة أو مزدحمة، والفتيات اللاتي سيستغنين عن السائق المشاكس، كم سيُسهِّل لقاءات مستحيلة، وكم سيحمل حكايات معقدة. سيل عارم من البشر يستقلونه كل يوم. ولكل واحد منهم حكاية.
قاصة وروائية سعودية
ناصر الجاسم: مكان شاعري
المترو أو القطار فضاء مغلق، وهو في حقيقته مكان شاعري في الغالب، حيث تتوالد فيه أحلام اليقظة وتنمو مشاعر الحب والألفة، وبما أن الإنسان سيستقر أو سيمكث
في هذا المكان زمنًا معينًا مع إنسان آخر، سواء ذكر أو أنثى فستتكون شبكة من المشاعر أو تبنى خيمة من العواطف؛ لأن عناصر القص والروي المهمة الثلاثة البطل والمكان والزمان متوافرة، وستُهيِّئ بوجودها مناخًا صالحًا للسرد القصصي أو الروائي، وبما أن المترو مكان لالتقاء أطياف متنوعة من البشر فستتخلق أحداث كثيرة فيه، وسيرافقها عنصر الصراع، وبالتأكيد ستبحث عن حلول ونهايات، وسيأخذ السرد في المترو طابعًا واقعيًّا أو رومانسيًّا، وهذان الطابعان لا شك أنهما من معطيات المكان نفسه.
قاص سعودي
عبير العلي: لقد فعلها الكتاب المحليون
لقد فعلها الكتاب المحليون بالفعل؛ أعني الكتابة عن أمور لم يختبروها أو يجربوها مسبقًا في حياتهم، أو لم يعيشوها في بيئتهم المحلية، وربما لم يعيشوها خارجها قط، كالكتابة عن الثلج أو الأنهار التي تخلو منها بلادنا، أو الكتابة حول أمور قديمة لم يعاصروها، أو حديثة متخيلة تصل لحدّ الفانتازيا والخيال العلمي. وهنا تكمن مقدرة الكاتب الحقيقي في أن يتقمص أي دور، أو يعيش في أي فضاء، وأن يبتكر عوالمه الخاصة التي قد تجعل من المترو على سبيل المثال مكونًا في أحداث الرواية، وتجعله يخترق الجزيرة العربية من الخليج للبحر الأحمر، ويقنعنا وهو يتحدث عنه كأن وجوده حقيقة قطعية لا تقبل الشك حتى نكاد نشعر أثناء القراءة بسرعة اختراقه للكثبان والهضاب، ونرى المقاعد والممرات والحقائب، ونقف معه في محطات مختلفة نشاهد فيها وجوهًا متعددة ونشم روائح بشرات كثيرة معنا وحولنا. أما عن احتمال أن يكون المترو في السعودية فضاء للرواية السعودية -مترو الرياض تحديدًا لأنه الأقرب في الإنجاز والاستخدام- فبالتأكيد سيكون هذا، وبخاصة أن الكاتب ينتزع تفاصيل روايته من المكونات المحيطة به إذا ما أراد أن تكون محلية وأن يشعر بها القارئ البسيط.
روائية سعودية
فاطمة آل تيسان: عربات القطار ومحطاته
في الرواية يحضر المكان بكل تفاصيله وتأثيره أيضًا على الشخصيات، وكم من عمل كان المكان هو البطل الحقيقي لكونه الحافز للأحداث والصراعات داخل العمل الروائي، الأماكن تنوعت في الرواية ولم تنحصر في مدينة أو قرية بل قد يحضر المكان كلحظة عبور غير أنها ترسم خطط حياة تعج بالناس والقصص والحكايا كما هي حال عربات القطار ومحطاته، ولعل من أعظم الروايات التي بدأت وانتهت هناك رواية أنّا كارنينا للروائي الروسي ليو تولستوي التي اكتسبت شهرة عالمية وترجمت إلى عدة لغات، وفي الرواية الأماكن هي ما تفرض نفسها حسب قوة الحدث وقدرة الكاتب على توظيفها في العمل، وإن توافرت هذه العناصر فقد يكون المترو بطلًا لعمل روائي يومًا ما، عندما يصبح وسيلة التنقل المفضلة للكاتب حيث يشاهد الواقع وسحنات البشر خالية من التحسينات. قساوة الواقع تحفر بإزميل قوي لا يرحم، وهنا ستولد أعمال روائية لا ترسم الواقع فقط بل تصور إفرازاته المستقبلية على أناس تقلبت بهم الظروف من صحراء قاحلة وجمل إلى مدينة يتضخم فيها كل شيء حتى ضجيج المترو الذي شطرها بكل قسوة إلى نصفين.
قاصة سعودية
مقبول العلوي: الرواية والمكونات المحيطة
كان المترو والقطار والسفينة مسرحًا لأعمال روائية مبهرة مثل رواية «فتاة القطار» و«مترو حلب»، وليس في الرواية فقط، فهناك مثلًا أعمال سينمائية رائعة ومؤثرة كان مجال أحداثها هو القطار والمترو ووسائل مواصلات أخرى، وسؤالك هذا يعود بي إلى حقبة الثمانينيات الميلادية عندما كنت شغوفًا بقراءة روايات أغاثا كريستي، وأذكر أن هناك رواية من أعمالها، قرأتها، ولم أنسَها منذ ذلك الحين، هذه الرواية اسمها «جريمة في قطار الشرق السريع» وبالمناسبة تعد هذه الرواية من أجمل روايات أغاثا كريستي من حيث الحبكة والصياغة الروائية المذهلة، وبالعودة إلى السؤال أودّ أن أقول: إن صياغة مثل هذه الأعمال الروائية التي تحدث في المترو أو القطار تحتاج إلى دُرْبة عالية في صياغة الأحداث؛ لأن أي عمل إبداعي يعتمد في تشكيله وصياغته على عنصرين مهمين هما: الزمان والمكان، وهما فضاءان مهمان في صياغة الرواية، ونحن بصدد الحديث عن عمل روائي يتم داخل هذه المساحة الضيقة، مما يعني أن تكون كل كلمة في موضعها، وكل حدث لا بد أن يكون مقنعًا؛ لأن المساحة محصورة داخل هذا الحيز الضيق.
روائي سعودي
جبير المليحان: مترو منيرة
نعم، ممكن جدًّا، وربما أكثر؛ فمجتمعنا لم يعد معزولًا عن العالم بعد أن تهاوت الحواجز. نحن نتأثر، ونؤثر. وإذا كانت البنية التحتية متماشية مع متطلبات العصر، فسيكون تأثيرها كبيرًا على المجتمع، وسينعكس على إبداعه.
لنتخيل (منيرة) في هذا المشهد، بعد سنوات قليلة، في مدينة ضاجّة بالحركة، والتغير كالرياض:
مترو منيرة
٭٭٭
– هيا يا أبي. لقد تأخرنا عن موعد (المترو)!
شرب الكهل بقية (بيالة) الشاي بسرعة، ووضع (شماغه) وعقاله فوق رأسه، ولبس نعليه، وحرك السيارة، وابنته منيرة تكاد تصفق بابها. أسرع في الطريق الضيق حتى وصل الشارع العام. كان مدخل (المترو) هناك. لم يجد موقفًا لسيارته. نزلت منيرة، وركضت وهي تلملم أطراف عباءتها. الأب كان ينظر إليها، وسيارته تمشي ببطء. كاد أن يصدم السيارة التي تقف أمامه. قال لنفسه:
– لم أعد أحتاج هذه السيارة الكبيرة!
منبهات سيارات أخرى تزعق خلفه، وفي كل اتجاه. مشى بسيارته وهو يحس بتوتر. بعد اختفاء ابنته في مدخل المترو. نظر في ساعته، وقال:
– باقٍ سبع ساعات ونصف لتعود منيرة.. الله يعين على الزحمة!
٭٭٭
– لا بد أن نبيع بيتنا هذا، ونشتري بيتًا قريبًا من محطات (المترو) يا أبي.
هكذا ضج الأولاد، وهم يناقشون والدهم. الأب يهز رأسه، ويمسد لحيته، ويقول لهم:
– هيا فقد أذن للصلاة.
يلتفت إليهم ويقول:
– سأفكر بالموضوع.
الولد الصغير يقول:
– بع البيت يا (بابا)، واستأجر لنا شقة.. اشترِ لي سيارة (جيب) مثل صديقي.
نذهب بها إلى البر!
٭٭٭
منيرة تلبس عباءتها، تغلق باب شقتها، وتنزل مسرعة من درج البرج، وتركض إلى السيارة، عند محطة المترو القريبة، تقف السيارة فوق الدائرة المعدنية أمام طوابق عمارة مواقف السيارات، وتضع البطاقة الممغنطة، ترتفع السيارة إلى الدور العشرين؛ حسب العقد الموقع بين مالكتها وبين شركة المواقف.
٭٭٭
منيرة تركض من موقف السيارة في عمارة المواقف الممغنطة. تخرج إلى الشارع العام حيث مدخل المترو.. أثناء مشيها السريع تعدل لبس عباءتها، ثمة رجال ينظرون شزرًا إليها. امرأتان تُحَوقِلان. شاب يبتسم. رجل أمن ينظر بحياد. تختفي منيرة في مدخل (المترو)، وطرف عباءتها يرفرف كجناح حمامة مسالمة.
٭٭٭
خطوط شباب وشابات، تتراكض إلى مدخل المترو، وخطوط أخرى تخرج وتتوزع في الاتجاهات. الكل راكض، وحقيبته الصغيرة فوق ظهره، البعض يقضمون وجباتهم وهم يمشون، ويلقون ببقايا الأكل والورق في الحاويات التي صممت كأكف مبتسمة. المكان نظيف، ورجال الأمن واقفون لحراسة القانون.
٭٭٭
طائرات فردية صغيرة، تتقاطع بانتظام في الأجواء. تنقل أصحابها إلى المهابط في أعلى أبراج البنوك والشركات، التي تلمع واجهاتها في الشوارع.
قاص وروائي سعودي