الكاميرا.. خادم مخلص للطبيعة أربك الفنون الجميلة
من كتاب (المناظر) لابن الهيثم إلى الكاميرا البدائية للإيرلندي روبرت بويل في عام 1660م مسيرة طويلة، امتدت بعد ذلك حتى كانت أولى الصور الفوتوغرافية للفرنسي جوزيف نيبس. وتستمر المسيرة بعد أن تلوّنت الصورة، وأصبح الفنان يبدع في استخدام هذه الآلة العجيبة، التي أصبح يزاحم بها كل صنوف الفنون التشكيلية.
يوماً بعد يوم، وبهمّة المصورين الضوئيين المبدعين والمغامرين الباحثين عن الجديد المتميز والمعبّر، الموهوبين المسكونين بهاجس الكشف، وتصيّد المشهد الجميل من الحياة اليومية: في الشارع، والحيّ، والسوق، والمرافئ، والطبيعة، والبيت، ووسائل السفر، ومكان العمل، وغيرها، تم تجميد هذا المشهد اللافت والمعبّر والمستوفي عناصر العمل الفني ومقوماته كافةً في لقطة ضوئية أقلّ ما يُقال عنها: إنها (لوحة ضوئية) يمكن مدرستها بسهولة، فنقول: لوحة ضوئية تسجيلية، أو انطباعية، أو سوريالية، أو تكعيبية، أو تعبيرية، أو غيرها. فالفن -كما يبدو- لم يعُدْ وقفاً على العمل الفني البصري التقليدي؛ كالرسمة، واللوحة، والمنحوتة، والمحفورة المطبوعة، والملصق، والنصب التذكاري، والزخرفة، والتحفة الفنية، بل تعداه إلى مظاهر جديدة؛ إذ أصبح موجوداً في كلّ شيء: نراه يطلّ من هذه الصورة أو تلك، أو من هذه العناصر، أو تلك التشكيلات التي جاءت بمحض المصادفة إلى أرض الواقع، أو تلك التي قام الفنان نفسه بترتيبها في محترفه؛ توطئةً لتجميدها في لقطة معبّرة.
على هذا الأساس، تتأكّد المقولة التي تشير إلى حقيقة وجود الفن في كل شيء: في ذلك اللسان من الأسمنت والفولاذ الممدود إلى السماء، الذي ندعوه (ناطحات السحاب)، في نار المدفأة، وقميص الزنبقة الأبيض. موجود فينا وحولنا؛ لأنه منّا؛ من قلوبنا ينبع، وفي زوايا أركان حياتنا اليومية يقبع منتظراً من يكتشفه، حتى في العادي جداً من الأشياء. المهم هو وجود العين الموهوبة، النفّاذة، الصيّادة، القادرة على اكتشاف المكامن التي يختبئ فيها الفن، واستنهاضه، وتحويله إلى شيء ملموس بهذه اللغة التعبيرية أو تلك!!. لكن الفن -أيّ فن- يستند إلى دعامات، أهمها: الإدراك، والاختيار، والتجربة التي على الفن أن يخلّدها في صورة من صوره؛ إذ يبقى الفن مادةً بلا شكل، وحركةً من دون اتجاه، ما لم يحوّلها عقل الفنان وإدراكه وفهمه إلى نظام مُستظرف جميل ومرغوب يُدعى (الفن).
مسيرة راسخة
على الرغم من حالة الإقصاء والمحاصرة والتقليل من شأن الصورة الضوئية الفنية تابعت نضالها للانضمام إلى أسرة الفنون الجميلة، لكن مسألة الانضمام هذه لم تُحسم بعدُ؛ بسبب وجود عدد لا بأس به من مزاولي الفنون الإبداعية التقليدية، الذين ما زالوا يرفضون إلحاقها بجمهوريتهم؛ بحجة أنها آلية وخالية من الإبداع، مُشيحين نظرهم عن الإنجازات الهائلة التي حققتها في الحياة المعاصرة، ولاسيما دورها المحوري والمهم في وسائل الاتصال البصرية الحديثة، التي حوّلت العالم إلى قرية كونية صغيرة على الرغم من ترامي أطرافه، واتساع المسافات بين أقاليمه وقاراته. وثورة الاتصالات البصرية هذه أساسها وقوامها الصورة الضوئية، وقرينة وجودها (الكاميرا)، التي يرى بعض الباحثين أن مولودها (التصوير الضوئي) اكتسب وضعاً نهائياً يضعه في حقل الفنون الجميلة، لكن ثمة فروقات كثيرة بين (الصورة الضوئية الفنية) والإنتاج المتسارع للصور الإعلامية اليومية التي تبثّها أكثر من وسيلة إعلام؛ إذ إن الأولى تتميّز بكونها تحمل بعض سمات العمل الإبداعي الحديث، والثانية تذهب إلى مقاربات سياسية واجتماعية تُدخلها إلى عالم التوثيق. بمعنى أن التصوير الضوئي المعاصر أصبح أحد الفضاءات المفضّلة التي يمكن تحقيق قيم جمالية حقيقية فيها، وهذا ما يسعى إليه اليوم عدد كبير من الفنانين الضوئيين باجتهاد لافت لابد أن يتوّج بنتائج تعزّز من مسيرة هذا الفن الذي أصبح يُحيط بنا من كل جانب، بل أصبحت له مدارس ومعاهد وأكاديميات تُعنى بتدريس تقاناته وأساليبه، وتعمل على مدرسة إنجازاته الفنية المتميزة أسوةً بالرسمة، أو اللوحة، أو المنحوتة، أو المحفورة المطبوعة، أو النوتة الموسيقية، أو القصيدة؛ لأن الصورة الضوئية الفنية لم تكتفِ بدخول متاحف عرض الفنون التشكيلية وصالاته، وفرض وجودها في مجالاتها التخصصية، وأبحاثها النظرية، وإنما أخذت مدارسها واتجاهاتها واشتغلت عليها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتوافرة وتَرِدُ بشكل يومي إلى صالات العرض، والمجلات، والكتب، والتلفاز، والإنترنت، ووسائل الإعلام والإعلان المختلفة، حتى إلى المتاحف. وبعض هذه الصور يُنفّذ مباشرةً على أرض الواقع لحظة تجلّي الحالة بشكلها الطبيعي، وعناصرها الواقعية، وبعضها يُركّب في (الاستوديو) أو المحترف، ثم يقوم الفنان الضوئي بتجميدها في لقطة أو لقطات، وبعضها الثالث يُنجز بتقنية (الفوتومونتاج)؛ أي: إدخال صورة على أخرى. وبعد دراسة مستفيضة لناتج هذا التوليف والتأليف البصري شكلاً ومضموناً، وتكويناً ودلالةً، وعناصر وإيحاءً، مازال الأفق -كما يبدو- رحباً ومفتوحاً على المزيد من الكشوفات المتتالية المدهشة أمام الصورة الضوئية.
آراء ومواقف*
اختلفت الآراء، وتعدّدت المواقف، تجاه الصورة الضوئية؛ فهي لدى بارتيه تختلف عن الرسم؛ لأنها عمل تسجيلي خالٍ من أيّ إشارة، وهي خادم مخلص للطبيعة؛ لأنها تسجّل المشهد بشكل ميكانيكي، بينما الرسم هو إشارة ورمز غير طبيعي يُلمح إلى وجود الأشياء، والرسام يستطيع التدخل في تركيب المشهد، فيحمّله معاني إضافيةً. ويرى أحد الفنانين التشكيليين أن التصوير الضوئي اليوم أصبح قادراً على إعطاء صورة صادقة عن الواقع، وإلا فإن مبدأ الصورة الشخصية بالتعريف بالأشخاص وإعلانات الصور الانتخابية وصور ممثلات السينما غير صحيح. لهذا يمكن القول: إن الصورة هي إشارة طبيعية، وليست إشارةً تعسفيةً خالصةً؛ لأنها تستخرج معناها من الشيء المشخص.
لقد حاولت الصورة الضوئية الحصول على صورة طبق الأصل، وتطور تكنولوجيا فنّ الحفر والطباعة على مدى 170 عاماً إنما سعى إلى الحصول على رصد الواقع بدقة، وإعادة تشخيصه من دون تحريف. إذاً، فنّ الكليشة والتصوير الضوئي يقومان على تكرار إشارات الصورة نفسها.
أما غوتيه، فيرى أنه في هذا الوقت، الذي يُعجب فيه التصوير الضوئي العامة؛ لدقته الآلية في النسخ، يجيب الإعلان في الفن عن اتجاه حرّ وجامح. لقد أصبح من الضروري التحرك ضد الآلة العمياء؛ لهذا قام مجموعة من الحفارين بالماء الثقيل بجميع مواهبهم، بعد أن أزعجتهم رؤية الجدران مغطاةً بصور ضوئية عادية خالية من أيّ روح، بتأسيس جمعية الحفر بالماء الثقيل من أجل محاربة التصوير الضوئي والحفر المنتظم والآلي الخالي من الإلهام، الذي يشوّه فكرة الفنان.
ويأسف بودلر لانحدار الذوق العام عند الناس الذين أحبوا كثيراً التصوير الضوئي، هذه الطريقة التي تبهر أعين الجمهور الذي لا يفهم الشيء الكثير عن الفن، هذا الجمهور الذي يحب الآلة التي تعطي صورة طبق الأصل عن الواقع. لقد استعاض الجمهور عن اللوحات الأصلية بصورة طبق الأصل عنها، وأصبحت الصورة الضوئية المتحف الجديد للناس، وملجأً للفنانين المخفقين الكسالى الذين لا يملكون أيّ موهبة، والذين يتكاسلون عن إتمام عملهم. ويؤكد بودلر أن على التصوير الضوئي أن يقوم بوظيفته الحقيقية، وهي خدمة العلوم والفنون؛ أي أن يخدم الطباعة والنسخ اللذين لا يتطلبان أيّ إبداع، بل عليهما مرافقة النصوص الأدبية. ويذهب شاميغلوري إلى القول: إن مكنة التصوير الضوئي من دون روح، وإن عمل المصوّر الضوئي هو عمل ميكانيكي بحت. وهذا ما دفعه إلى التحذير من خلط الصناعة مع الفن. ويؤكد ضرورة أن تبقى الصناعة في مكانها، وألا تُقبل في معهد أبولو المخصّص فقط لخدمة الفن الإغريقي والروماني.
ولأن التصوير الضوئي يتلخّص في مجموعة عمليات تتطلب من دون شكّ بعض المهارة اليدوية، لكن الصور الناتجة منها لا يمكن عدّها بأيّ شكل من الأشكال عملاً فنياً؛ لأن الفن هو من ثمار الفكر والدراسات الفنية.
في الجهة الأخرى
في المقابل، رفض دولاكروا وزيغل مثل هذه الآراء السلبية في التصوير الضوئي الذي يمكن بفضله اكتشاف أسرار الطبيعة. في البداية، رفض دولاكروا عدّه فناً؛ لأنه لا يعكس فكر الإنسان، وكان ضد التكنولوجيا الصناعية، والتصوير الضوئي بوصفه تقنيةً ميكانيكيةً ليس فيها روح، وغير قادرة على نقل الإحساس والعاطفة الإنسانية، لكنه عدل عن رأيه هذا فيما بعد؛ إذ ذكر أنه رسم لوحته الشهيرة (المرأة الجزائرية) نقلاً عن صورة ضوئية عام 1850م، وأشار في إحدى مقالاته إلى أن التصوير الضوئي أكثر من نسخ، بل هو مرآة الشيء. إن التفاصيل التي لا نجدها في الرسم العادي، وكانت مهملةً، تظهر بفضل مكنة التصوير، وبفضلها يصل الفنان إلى المعرفة الكاملة ببناء الشيء. إن الظلّ والنور يحتفظان بالصورة الضوئية بكامل حقيقتهما؛ أي: بدرجة قساوتهما أو عذوبتهما. كما يجب ألا ننسى أن التصوير الضوئي يعدّ مترجماً يساعدنا على الغوص بعمق في أسرار الطبيعة.
لغة إبداعية متطلعة
هذا السجال المفتوح حول أهمية الصورة الضوئية، وطبيعتها، وقربها أو بعدها من الفن الحقيقي، ولغة التعبير الراقية، الذي رافق ولادتها وما زال قائماً حتى الآن، سيبقى مستمراً في الأيام المقبلة، مثله في ذلك مثل عملية تحديد طبيعة الفن التي كان الجدل -وما زال- قائماً حولها، وفي ذلك تكمن حيوية الفن وغناه وإبداعه الذي لا يمكن أن يركن في أفق محدد، بل هو دائم التطلع إلى آفاق جديدة، يجددها ويتجدد فيها.
قد لا تصل الصورة الضوئية إلى مصافّ اللغات الإبداعية الراقية؛ كالرسم، والشعر، والموسيقا، أو تُقبل عضواً أصيلاً في جمهورية الإبداع، لكنها ستبقى مسكونةً بهذا الهاجس ما دامت تقودها مواهب خبرت جيداً قدراتها، وتمكنت من أسرارها، وقادرة على الاستفادة من التطور المذهل والدائم لوسائل إنتاجها وتعميمها، وتوظيف ذلك لمصلحة الارتقاء بقيمها الفنية والتعبيرية.
* عز الدين شموط، تعريف بفنّ الحفر والطباعة، دمشق، 1992م، ص143-148.