التقسيم في الأنفس
تشير كل المعطيات الراهنة على الصعيد العربيّ إلى أن الدولة القطرية تتجه نحو نوع من التقسيم المنتظَر؛ نتيجة عوامل عدّة، يلتقي فيها المحليُّ الخارجيَّ؛ إذ يأتي الأول من فهم خاطئ للدِّين، تَحوَّل مع توافر دعم ماليّ وعسكريّ من عدة أطراف فاعلة إلى وَثَنِيَّة جديدة، على حين يأتي الثاني مِن تكالُب أُمَم بعيدة، وأخرى جارة؛ منها: مَا يُمثِّل عدوًّا تقليديًّا للعرب، ومنها: ما يُعَدّ عدوًّا جديدًا، ومنها: ما يُعَدُّ شريكًا في الفضاء الإيمانيّ، لكنه يُصنَّف ضمن سلطة باغية، هي نتاج فئة باغية.
غير أن التأسيس لما يمكن أن يصبح مسوغًا للتقسيم، لا يتعلق بالجغرافيا وخيرات الأرض، إنما هو ضِيق في الأنفس على الرغم من رحابة الأرض، وهو -أيضًا- توظيف لميراث من الكراهية المسوغة وغير المسوغة، يظهر اليوم في ذلك الصراع المذهبيّ في العراق؛ إذ انطَلَتْ على العراقيين الشيعةِ إستراتيجيةُ الجار العدوّ، فتَخلَّوْا عن الوطن من أجل المذهب، ووقع العراقيون السُّنة في الخطأ نفسه حين طالبوا بالتدويل؛ حماية لهم من بطش الشيعة، هكذا فعل الأكراد حين غرقوا في وحل القومية الكردية، والاستقلال بالدولة على حساب عراقٍ مُوحَّد وكبير.
يظهر ميراث الكراهية على نحو آخر في سوريا وليبيا واليمن، لكن بتباينات واختلافات بين الدول السابقة الذكر، ويظهر بدرجة أخرى أقلّ في مصر ولبنان وتونس، وقد ظهر قبل ذلك بسنوات في الجزائر، وستتسع دائرته لِتشمل كلّ الدول العربية الأخرى، وهو على ما يبدو اختيار لأطراف سياسية، ونُخَب ثقافية ترى فيه الحلّ، كما أنه تأكيد على إعادة تشكيل خريطة العالم العربيّ منذ عام 1955م، وذلك حين طرحت المملكة العربية السعودية القضية الجزائرية في الأمم المتحدة -وكانت هي السبَّاقة على المستوى العالميّ- بعد عام من انطلاق الثورة ضد فرنسا، عندها ظهرت عبارة من الدول الأخرى، مثَّلت تصنيفًا وتوصيفًا جغرافيًّا للعرب، وهي عبارة: «عرب آسيا، وعرب إفريقيا».
لقد حفرت تلك العبارة أُخدُودًا في الذاكرة العربية لمَنْ أراد أن يذكر ويُؤصِّل لرؤية دول العالَمِ العربَ من خلال واقعهم الجغرافيّ والقوميّ، حتى إذا نظرنا إلى الأمر من منطلق أدبيَّات الفكر القوميّ أو الدرس السياسيّ؛ تكشَّف لنا أنه قبل أن تستقلّ معظم الدول العربية كُنّا نواجه خطر التقسيم.
منذ ذلك التاريخ حتى الآن؛ لم يُنظَر لنا كأُمَّة، على الرغم من قيام جامعة الدول العربية، واشتراكنا جميعًا في عِدَّة حروب ضد إسرائيل؛ حتى وصلنا إلى ما يُعرَف اليوم بالشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا.. تُرى أين اختفت العروبة على مستوى الانتماء والثقافة والحيز الجغرافيّ على مدار العقود الستة الماضية؟
الدفاع الشرس
الإجابة نجدها في الدفاع الشرس؛ كي تحافظ كل دولة عربية على مصالحها الخاصة، حتى لو أدَّى ذلك إلى إضرار الدول العربية الأخرى، والأشكال الوَحْدوية العربية الأخرى التي أُسِّست بنوايا صادقة، ولم يَبْقَ منها صامدًا في وجه العواصف إلا مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ولم تفلح في توسيع الشكل الوحدويّ، أو تحقيق مصالح عربية مشتركة في المجال الإقليميّ، بل –أحيانًا- عجزت عن مواجهة عدوها المشترك.
منذ أن قبلنا بالغرق في شيفونية وطنية؛ بسبب تربية وتعليم لم يُعمِّقَا البُعد الوطنيّ من منظور قوميّ، وبعد أن اخترْنا بوعي أن نُصنَّف ضمن فريق تَحكُمُه السياسةُ أَكْثر مما تحكمه المعرفة والثقافة، فإننا انتهينا إلى تأكيد مزيد من التقسيم؛ لذلك فإن الوضع الراهن لا يُخِيفنا إلا من ناحية اتِّساع مساحة الدم، واللعب بالخرائط؛ لأننا مُقسَّمون بالفعل، وبأْسُنا بيننا شديد، ومع ذلك فإن العودة إلى أمة فاعلة في التاريخ هو قَدَرُنا، ليس من مُنطَلَق زرع الأمل، وإن كان هذا واجبًا علينا الآن؛ لأن كل التجارب عبر تاريخنا الطويل أكَّدت عودتنا، مهما طال الزمن.
غير أن تلك العودة، ومنها الخروج من الحال الراهنة، ليست مشروعًا مؤجَّلًا، تتحمَّل الأجيال القادمة عبء تكلفته التاريخية، إنما هي فَرْضُ عين علينا جميعًا؛ لأن حماية الأُمم تأتي من تفعيل عالَم الأفكار، ولن يتحقق ذلك إلا إذا شارَكتْ فيه مؤسساتُ الدولة.. هنا وَجَبَ التذكير بدور الدولة القطرية التي أصبحت واقعًا، وبحمايتها من التقسيم، ومن انهيار الجبهة الداخلية نحمي الأمة، وهو ما يعيه صُنَّاع القرار؛ لذلك لا بد من مَدّ جسور نحوهم؛ لأن ما ستؤول إليه أُمَّتنا أكبر مما نتصوره.
مرة أخرى، لقد تَأصَّلَ التقسيم داخل الأنفُس، وتَحَوَّل إلى تعصُّب مذهبيّ، وموقف أيديولوجيّ، ومصلحة براغماتية، يُضاف إليها جغرافيا عربية مُقسَّمة، ولتفكيك كل هذا لا بد من استنهاض الهمم؛ لتجاوز المحنة الراهنة، وواضح أن النقاشات الدائرة اليوم في الساحات العربية تُمثِّل بداية لتغيير حقيقيّ، قد يحول دون السقوط، أو يُعِيد الأمةَ إلى رُشْدها بعد أن تَصِلَ إلى أقصى درجات التقسيم.