تقسيم المُقسَّم
بمراجعة خارطة العالم العربيّ ومعها الإسلاميّ، فإن الفروقات السبعة واضحة، بل هي أكثر وضوحًا ولدينا أمثلة من التاريخ الأغبر، فأين الشام في الماضي وقد انقسمت إلى سوريا ولبنان وفلسطين، وهناك خُطَط للمزيد من هذا التقسيم في أذهان واضعي السياسات الافتراضية التي يسعى أصحابها جاهدين لفرضها واقعيةً. فاليمن قبل أكثر من عقديْنِ كان يمنيْنِ، والسودان صار سودانيْنِ أمام العيان، وشبه القارة الهندية صار هندًا وباكستانَ وبنغلاديشَ.
وعندما ننظر إلى تحت أقدامنا اليوم من أشواك تقسيم المُقسَّم وتشتيت المُشتَّت، نلاحظ من خلال الإحداثيات السياسية التي ظهرت في أثناء اندلاع «الربيع» المحروق منذ اليوم الأول، أن هناك مَن يسعى لاستغلال هذه الفوضى الخلاقة «الرايسية» التي من أهدافها المستقبلية خَلْق تسع دول أخرى في المنطقة من رحم الدول التي لم تَقُمْ لها قائمة منذ اندلاع حريق «الربيع العربيّ» ولا يزال «الحبل على الجرار».
المساحات الجغرافية والأعداد البشرية الهائلة ليستا في الحسبان السياسيّ دائمًا عندما تُدار الأحداث في غير صالحنا، فأيرلندا أصغر دولة في الاتحاد الأوربيّ، هي التي أوقفت مشروع دستور الاتحاد الأوربيّ، ونالت أكبر قدر من المساعدات المالية في الأزمة المالية الخانقة قبل أقلّ من عقد، وهذا المثال يجب أن نرى له أثرًا في الفعل ورد الفعل العربيّ على الأحداث كافة التي تُسطّر بالبيانات الرسمية والإدانات الفارغة، ونحن ما زلنا نمارس مشي السلحفاة في القضايا السياسية الشائكة.
سيناريو مستقبليّ
العراق وسوريا ودول أخرى وارِد ذِكرها في خارطة التقسيم الحالية؛ بوصفها أحد السيناريوهات المستقبلية، وقد لا تقع في العاجل، فتقسيم السودان أخذ من الوقت قرابة ربع قرن، وقد وقع، ولم يعترض عليه أحد، بل جرى الاعتراف به فورًا من سودان الشمال قبل أي دولة أخرى؛ لإظهار حسن النوايا بعد حرب أهلية أَكَلتْ من يابس السودان وأخضره إلى الآن. ما يحدث فعليًّا في العراق وسوريا، من اختلاط قوى الصراع المحلية والإقليمية والدولية، وعدم وجود حلّ فوريّ للأزمة التي خرجت عن طوق كلّ القوانين والشرائع والأعراف الدولية، في مطحنة لم يسمع بها في سالف التاريخ أو في الحروب المعاصرة.
فهذه البيئة السياسية الخانقة لأيّ حلّ سلميّ مِن الطَّبَعيّ أن تُولِّد روائحَ للانقسام إنْ لم يكن بالرِّضا فبفرض واقع مرير؛ للهرب مما هو أَمَرُّ، فبعض مما تَضرَّر كثيرًا من وقع المذابح والانفجارات اليومية يقبل بقشة التقسيم وإن كان مُرًّا أو علقمًا. فيكفي إذا حالف الحظّ الأكراد في دولة مستقلّة بين سوريا والعراق وتركيا أن يعاد رسم الخارطة العربية والإسلامية من جديد؛ لاحتضان هذا الوليد المختلط من جسد ثلاث دول. هذا هو التقسيم الأقرب حتى هذه اللحظة، وبوادر قَبُوله واضحة في وجود إقليم كرديّ شبه مستقرّ مقارَنة بما يَحدُث في سوريا وعراق الوطن الذي لم يُشْفَ من داء الحرب الأهلية المستمرَّة منذ حِين حتى مشروع تقسيم قد لا يَحُدُّه حِين.
دور الميليشيات قاتل
دور التنظيمات والميليشيات قاتل للأوطان المستقرة، وهي الواقع البديل الذي له القَوْل الفَصْل في كثيرٍ من القضايا التي كانت بيد الدول الوطنية في عُقْر دارها. الأخطر من كل ذلك عندما يعطل حزب، مثل «حزب الله» في لبنان، دَوْر دولة وأعمالها التي أصابها الشلل باسم الديمقراطية التي تطلب العمار والبناء لأسس الحضارة في هذه المنطقة المعروفة بالانفتاح على العالم إلا أنها، وبأمر من الميليشيات، صارت عاجزةً عن ممارسة أيّ دَوْر سياسيّ وسياديّ يُعِيد المياه إلى مجاريها السابقة في العطاء والنماء. وقِسْ على ذلك ما تقوم به تنظيمات وميليشيات سَمَّتْ نفسَها باسم الله وأنصار الحق، والإسلام براء من كل ذلك؛ لهدم أركان الاستقرار والأمن والأمان في الأوطان التي هي أحوج إلى ذلك من غيرها من دول العالم المتقدم. فعندما يُختَزل الوطن في حزب أو ميليشيا مهما كان حجمه أو وزنه السياسيّ وفقًا لكل دولة على حدة، فإن النصاب هنا يتحول إلى نصاب سياسيّ، وتتحوَّل العدالة إلى شيء شبيه بالظلمات الثلاث، القريبة من مُثلَّث برمودا المرعب سياسيًّا، ويختفي فيه الحقُّ ومِن ورائِه كلُّ المعاني السامية للحياة من دون أن يعود إلى مكانه الصحيح. فكيف إذا صارت هذه التنظيمات والميليشيات جزءًا لصيقًا بالكيان السياسيّ للدولة الوطنية؛ فانظر ماذا نرى؟!