صورة الثقافة في مرآة المجتمع تغريدة قادرة على أن تفعل ما لم تقدر الكتب على فعله
لم يحظ مفهوم الثقافة بتقدير لائق عند شرائح اجتماعية واسعة، وقد ينظر إلى المثقف ككائن مختلف، منعزل في أبراج عاجية. فلا يحظى بما يستحقه من اهتمام. وقد يدفع ذلك الأمر إلى الاستخفاف به أحيانًا. ترى ما الأسباب وراء هذه الصورة من عدم التقدير الثقافي، التي ستنعكس في شكل أو آخر على المشتغلين بالثقافة أنفسهم؟ فهل عدم تقدير المشتغلين بالثقافة هو نتيجة لعدم تقدير الثقافة نفسها؟ أم هل لنخبوية الثقافة دور في ذلك؟ وما علاقة أداء المؤسسات الثقافية وذهنية القائمين عليها بتلك التصورات؟ أم أن الحضور الثقافي في الوسائط الإعلامية الجديدة، أثر في صورة المثقف والثقافة بشكل عام؟ «الفيصل» طرحت هذه الأسئلة على عدد من الكتاب والكاتبات.
عزيزة المانع: الثقافة مجتمع يقتلها ومجتمع يحييها
هذه الأسئلة، تحمل فكرتين وليس واحدة، الأولى منهما تبدو صحيحة، أما الأخرى فلا أجدني أتفق معها. الفكرة الأولى تتضمن القول بتهميش الثقافة وعدم تلقيها ما تستحق من الاحترام والتقدير، سواء من الجهات المسؤولة عنها أو من المجتمع عامة، وهذا صحيح، فواقع الحال يشهد بذلك، ومتى قارنا بين الثقافة والرياضة (كرة القدم على وجه التحديد) فيما يتلقاه كل منهما من اهتمام واعتناء، نجد أن الثقافة تقبع في القاع، في حين كرة القدم تحلق على أجنحة من الذهب. لا مجال للمقارنة بين ما يصرف على نوادي كرة القدم وما يمنح للاعبين والمدربين والحكام من أجور ومكافآت تشجيعية وإبراز في الإعلام وانشغال بأخبار الكرة على امتداد العام، وبين ما تتلقاه الثقافة وأهلها.
أما الفكرة الثانية التي تربط هزال الثقافة وخمود حركتها بغياب تقدير المجتمع لها، فمشكوك في صحتها، بدليل أن فرق كرة القدم لدينا، رغم كل ما تجده من تشجيع ورعاية تبلغ حد (التدليل)، لم تستطع أن تجعل من نفسها فِرَقًا ذات جودة عالية تنافس بنجاح غيرها من الفِرَق العالمية المعروفة.
أي أن عوامل الجودة تنبثق في الدرجة الأولى من داخل الذات، من الموهبة الفطرية ومما تزخر به النفس من سمات الجد والصبر والإصرار على بلوغ الأفضل، من تتوافر لديه تلك السمات مع الموهبة، يمكنه تخطي الصعوبات وشق الطريق بنجاح. هذا لا يعني أن الاهتمام بالثقافة وتشجيعها ورعاية المشتغلين بها لا أثر له في تنميتها وتطويرها، إنما المراد أنه وحده لا يكفي.
أما لماذا لا يحظى مفهوم الثقافة بتقدير المجتمع؟ فقد يكون ذلك لانخفاض الوعي بأهمية الثقافة لدى شريحة واسعة من أفراد المجتمع من جانب، ومن جانب آخر، وتدني مستوى الجودة في كثير مما ينتج من ثقافة، وغالبًا النتاج الثقافي الضعيف لا يجذب إليه أحدًا ومن ثم لا ينال الاهتمام. إن الحديث عن مكانة الثقافة وتقديرها في المجتمع، كالحديث عن جدلية (البيضة أم الدجاجة؟) فمستوى جودة الثقافة المتدني يجعلها لا تحظى بتقدير المجتمع، وعدم تقدير المجتمع للثقافة يؤدي إلى تدني مستوى جودتها. إننا متى سلمنا بأن تقدير المجتمع للثقافة يرتبط بعاملين جوهريين: ارتفاع وعي الناس بأهميتها، وارتفاع مستوى جودة المنتج الثقافي نفسه. أدركنا ضرورة معالجة الأسباب التي تعوق نمو الوعي بأهمية الثقافة، وأهمية إصلاح البيئة الثقافية بما يجعلها خصبة صالحة لنمو ثقافي مزدهر، ويأتي في مقدمة ذلك معالجة ثلاث مسائل كبرى:
أولها تدني كفاءة التعليم في جميع المراحل، فالتعليم في البلاد العربية، وليس لدينا فقط، بصرف النظر عن المناهج التي يتبناها أو محتوى الكتب المدرسية التي يعتمدها، ما زال يرتكز بشكل كبير في أسلوبه على التلقين، وهذا الأسلوب التعليمي، من أبرز عيوبه أنه يحرم الطالب من استعمال قدراته الذاتية في التفكير والتعبير فيضعف نموها، وتأتي المخرجات التعليمية بسبب ذلك في صورة ببغاوات تردد ما لُقن لها ودُربت عليه، فلا تفكير مستقل، ولا قدرات إبداعية حرة. وحين يكون هذا هو الأسلوب العام في التعليم، فإنه لا غرابة إن هيمن على الثقافة العربية شحٌّ في أعداد المفكرين والأدباء والفنانين والمخترعين والباحثين! أما ثاني تلك المسائل، فضيق المساحة المتاحة للتعبير. ومن المعروف أن مسألة تقييد التعبير أو إطلاقه، هي من المسائل الجدلية التي يستحيل أن تتفق حولها الآراء، فهناك من يؤيد إطلاق التعبير، وترك الناس يبدون من الآراء والأفكار ما يشاؤون بلا رقابة من أي شكل. وهناك من يرى غير ذلك، بحجة أن إطلاق حرية التعبير قد يسيء إلى الدين أو الأخلاق، كما قد يكون فيه تهديد لأمن المجتمع وإثارة الفتن داخله. أما أسوأ ما في تقييد التعبير، كونه لا يتوقف عند حدود معينة، فالقيود عادة لا تنحصر فيما يتعلق بالشأن السياسي أو الديني فحسب، وإنما تمتد غالبًا لتشمل جميع الموضوعات بما في ذلك الموضوعات الفكرية والاجتماعية، وبخاصة أن تقييد التعبير لا يكون دائمًا مفروضًا بقوة النظام، أحيانًا يكون للعرف الاجتماعي والرأي العام سلطة تضاهي سلطة النظام في إلجام الأفواه وقمع الألسن، هناك تعصب مسيطر على أفكار كثير من الناس يجعلهم يضيقون بكل ما هو جديد أو غريب مختلف، ولو أن الأمر انحصر في الضيق فقط لربما هان، لكن الضيق غالبًا يتحول إلى مشاعر عداء وكراهية وحرب شرسة ضد كل نتاج ثقافي يقع خارج القفص الذهني المعتاد.
ومن نافلة القول، إن مؤسسات الفكر والفن والأدب والبحث العلمي والإنساني والإبداع الموسيقي والمسرحي وغيرها من أشكال المؤسسات الثقافية، لا يمكن لها أن تزدهر متى كانت مقيدة الحركة تتعثر في العقبات المنثورة في طريقها، كما أن وجود تلك العقبات يصيب المثقف بالإحباط الذي ينعكس أثره على قوى التفكير والإبداع عنده، فيعتريها الفتور والعزوف عن الإتيان بجديد أو شيء مختلف، فلا غرابة إنِ انصرف المبدعون والمفكرون بعيدًا من ساحة الثقافة، وتركوها تنطوي على ذاتها تجترّ القديم والمقبول مما هو مألوف.
ثالث تلك المسائل، يتمثل في الضعف العام في الإعلام بجميع أشكاله. فلغة الإعلام العربي ضعيفة، وبرامجه تغرق في التفاهة والسطحية، وغالبًا تجده يحصر نفسه في موضوعات النفاق، والتحريض على الكراهية، وتعزيز الخلافات الأيديولوجية والسياسية. إن إعلامًا كهذا يتلبسه في داخله الانشطار والصراع والتذبذب، لا يتوقع له أن يكون قادرًا على النهوض بالثقافة. فالثقافة التي يطرحها الإعلام يغلب عليها التناقض والتفكك والزيف، وما زالت تتخبط في تناول مفاهيم التشطير والثنائية، وما فتئت تعمل على التصنيف والتفييء. وحين تكون هذه هي حال الثقافة التي يطرحها الإعلام، فإنه من المتوقع أن يظهر بين أبناء الجيل شباب من المثقفين السطحيين أو (التائهين) الذين «لا يملكون تصورًا واضحًا لما يريدون»، كما وصفتهم الدكتورة لمياء باعشن في مقالها الموجه لوزير الثقافة والإعلام في جريدة المدينة (الخميس 25/ 5/ 2017م).
إن الاهتمام بهذه القضايا الثقافية الجوهرية، لا بد أن يأتي في المقدمة لمن أراد إنعاش الثقافة والارتقاء بها، وبخاصة أن النهوض بالثقافة ودعم تنميتها ليس أمرًا اختياريًّا، وليس شيئًا ثانويًّا، إنما هو يأتي ضمن أولويات كل مجتمع يطمح أن تكون له الصدارة.
أكاديمية وكاتبة سعودية.
سعيد السريحي: مجتمع جديد وثقافة أخرى
لا يمكن لنا أن نعالج الأسباب التي تساءل عنها المحور حول تراجع مفهوم الثقافة وعدم حظوته بتقدير عند شرائح واسعة من المجتمع، بل الاستخفاف به كذلك فضلًا عن معالجة أثر ذلك في المثقفين أنفسهم من دون أن نراجع مفهوم الثقافة نفسها وما طرأ عليها من تغيير وضعها على عتبة أخرى من الفهم يتوجب علينا الوقوف عليها قبل الحديث عن موقف المجتمع منها ومدى استخفافه به أو تثمينه لدورها. ذلك أن المحور المطروح هنا وما استند عليه من مسلمات وما طرحه من تساؤل إنما ينطلق من المفهوم التاريخي للثقافة الذي ظلت محتفظة به ومحافظة عليه قبل أن يلج عصرنا الحديث ثورة التقنية، وما أتاحته من وسائل التواصل وما مكنت به شرائح واسعة من المجتمع من الانتقال من تلقي الثقافة والانفعال بها إلى المشاركة في الفعل الثقافي وممارسة الفعل به، وإذا كانت الثقافة بذلك قد خسرت دورًا تاريخيًّا لها فإنها قد اكتسبت أثرًا وتأثيرًا لم يكن لها من قبل.
لم تعد الثقافة هي ثقافة النخبة، ولم تعد أسئلتها هي تلك الأسئلة الكبرى المتعلقة بالقضايا المصيرية والقيم العليا المتصلة بالحقيقة والجمال، ولم يعد المثقفون هم تلك النخبة التي يسكن كثير من أفرادها في أبراجهم العاجية فإذا ما استشعروا مسؤوليتهم تجاه المجتمع هبطوا إليه «من المكان الأرفع» هبوط الناصحين والمبشرين والمعلمين يأخذون بأيدي الناس لما يرون فيه خيرهم وصلاحهم.
لم تعد الثقافة كذلك ولم يعد المثقفون كذلك بعد أن مكنت التقنية ووسائل التواصل المختلفة جميعها الناس جميعهم من المشاركة في تبادل الأخبار والنصائح والتوجيهات وفضح كل ما يمكن أن يستهدف سلامة المجتمع وأمنه واستقراره، والمشاركة في صياغة الوعي بما يُتداوَل من تغريدات ومقاطع سواء كانت مجتزأة من أخبار مصورة أو أعمال فنية أو خطب عابرة، كأنما هناك عودة إلى مفهوم الثقافة في المجتمعات البدائية، أو البدوية، حين كانت المجالس معتركًا ثقافيًّا يتبادل فيه أفراد تلك المجتمعات الأخبار والنصائح والخبرات، وذلك قبل أن تمتاز منهم فئة وتستحوذ على هذا الدور ثم تمضي به إيغالًا في المعرفة وتحليقًا بالقيم العليا بعيدًا من معترك الحياة اليومية للمجتمع.
لقد غُيِّر مفهوم الثقافة، فلم تعد أكثر عمقًا واستشرافًا للمستقبل وتكريسًا للقيم العليا، غير أنها أصبحت أكثر قربًا من المجتمع وأعمق تأثيرًا في مجرى حياته اليومية، وتغير مفهوم المثقفين، فلم يعودوا هم أولئك المعلمون العالمون العارفون الموجهون، أصبحوا أفرادًا من داخل المجتمع لا يكاد يعرف أحد أسماءهم، بل ربما لا أسماء لهم غير أن ما يقولونه أو يتحدثون عنه أو يحذرون منه أو يوجهون له لا يلبث أن يطير في الآفاق كما كان يطير المثل والقول المأثور والحكمة السائرة.
لم يُدِرِ المجتمع، إذًا، ظهره للثقافة، إنما أدار ظهرَه للثقافة كما استقر فهمها لدينا نحن معشر المثقفين، ثقافة النخبة في استعلائهم أو ثقافتهم حين يتواضعون كذلك محتفظين بدورهم الذي يستمدون منه نخبويتهم تلك، وإذا لم يكن لهم بُدّ من أن يستشعروا الإحباط فليستشعروه حين يجدون أن تغريدة واحدة قادرة على أن تفعل ما لم تكن كتبهم مجتمعة قادرة على فعله، وليس لهم بعد ذلك من دور إلا أن تكتب النخبة للنخبة وأفراد المجتمع الجديد عنهم في ثقافتهم الجديدة فكهون.
ناقد سعودي.
فوزية البكر: هموم تاريخية لأمة تحاول خلق مشروعها الحضاري
يبدو لي الجواب مثقلًا بالهموم التاريخية لأمة تحاول اليوم خلق مشروع حضاري، ينقلها للمستقبل متى تمكنت من اختصار عشرات السنين الضائعة. تاريخ القراءة والمعرفة المتأخر نسبيًّا في جزيرتنا مقارنة ببقية البلدان العربية ربما يفسر بعض خيوط المشهد، فالثقافة والمثقف المهموم بتاريخ أمته لن يكون متاحًا إلا بنشر التعليم الذي تحقق لنا فقط في العشرين سنة الأخيرة فانتشرت المدارس وانتشر الكتاب، وظهر مع ذلك بدايات لبعض المثقفين الذين كانوا نتاج خطط تنموية طموحة لبلادنا بدأناها في السبعينيات، لكن ما إن بدأ القارب يبحر إلى الشمال بحثًا عن المستقبل حتى هاجمنا طوفان الصحوة في بداية الثمانينيات «كأمواج مرتدة لثورة الخميني في إيران ولفشل المشروع القومي في العالم العربي»، لتفرض هذه الصحوة رموزًا ولغة مختلفة عن لغة المثقفين ولتجعل التقدير الرسمي والشعبي يحاط بمن يتلبس رموزهم جسديًّا أو لفظيًّا؛ لذا لم يعد فقط المثقف غير مقدر بل بات مرفوضًا وبات عليه التلبس بصور ذائبة أو صامتة حتى يمكن له البقاء.
رجالات الصحوة تمكنوا كما نعرف جميعًا من التسلل للأجهزة كافة، وهم من كان يصنع القرار فيها. وكانت أحد مهماتهم العتيدة هو حجب صوت المثقفين تمامًا عن الجمهور المخدر، بل تسطيح صورة المثقف في المخيلة الشعبية بوصفه قد ينطق عن الهوى وقد يخالف طقوس التفكير السائدة لدى الفكر الأصولي، وهذا يفسر الكثير من المواقف العامة تجاه المثقف الذي لم يتمكن (في معظم الحالات) من النجاة حتى على المستوى الشخصي؛ إذ قابل الكثير من المثقفين هذا الفكر الجاحد بعقل غير ناضج وبمحاولات للنفاذ الفردي الذي زاد من تشويه صورة المثقف في المخيلة العامة.
ما الذي يحدث اليوم؟ الكثير والكثير مما سيمكن المتلقين أنفسهم من اختيار ما يريدون الإنصات له، فمع تنوع مصادر الثقافة المتاحة من كتابة وتاريخ وفنون تشكيلية ومعارض ومتاحف… إلخ، ومع الوعي العام بخطورة الفكر الأصولي على أمن الأمة وبالمشروع الإسلاموي الخطير سيكون هناك فرص متاحة لصوت المثقف الطليعي لأن يصل إلى الناس من خلال قنوات عدة تسمح بطروحات متنوعة، يمكن من خلالها إيصال الأصوات المتعددة التي فقدها المثقفون في الثلاثين سنة الماضية. المستقبل ينادينا جميعًا مواطنون ومثقفون أن نَجْدِفَ لبناء المستقبل وعلينا أن نفعل.
كاتبة سعودية