يفغيني يفتوشينكو: مراقبو الكتب في موسكو أفضل قرائي
في منتصف رواية نُشرت في الاتحاد السوفييتي عام 1981م، تتبادل اثنتان من الشخصيات الحديث عن الشعر الروسي، وبعد أن تُذكر مجموعة من الأسماء، تطرح إحداهما السؤال: «وماذا عن يفتوشينكو؟» فتجيبها الأخرى: «كانت تلك مرحلة أخرى مضت وانتهت». الجملة التي سيتضح منها لاحقًا أن هذه الرواية «التوت البري» كَتبها يفغيني يفتوشينكو نفسه، الذي رحل في الأول من إبريل الماضي.
مثل هذه الإلماحة تعطينا فكرة مبسطة عن سخرية الشاعر من هوس الشهرة، وإسقاطه لقيمة التبجيل عن نفسه، وقدرته على أن يضحك على نفسه ببساطة. لكنها في الوقت نفسه تنبّهنا بقوة إلى أن الشعر الروسي كان في فترة ما مرادفًا لاسم يفغيني يفتوشينكو. في بلدٍ تحكمه الأسطورة الماركسية التي تخلو ظاهريًّا من التعصب، وفي وقتٍ كان فيه الكُتَّاب يناهضون الساسة في روسيا، وُلد الشاعر والروائي يفغيني يفتوشينكو في سيبيريا عام 1932م، الفتى الذي اختار أن يحمل اسم أمه المغنية بعد طلاقها من أبيه.
قضى يفغيني طفولته مع أمه في موسكو، وحين اقتربت القوات الألمانية من حدود المدينة أواخر عام 1941م، أُخلِيت المدينة من سكانها، وانتقل بعد ذلك إلى زيما حيث بقي فيها حتى عام 1944م. كان والده، المتخصص في علم الأرض، يأخذه في رحلات لمناطق برية في كازخستان وجبال ألتاي، وطوال الطريق كان الوالد يقرأ الشعر على مسامع ولده، فكبر الطفل شغوفًا بالشعر والأدب.
ناهض يفغيني حكم ستالين، وكان يُلقي قصائده في المسيرات العامة، وتستقبلها الحشود بصمت وإعجاب، ثم بتصفيق حماسي أكبر؛ ما أدى إلى منعه من إلقاء قصائده في أوكرانيا حتى أواخر عام 1980م. وقد بلغ من شهرته الأدبية آنذاك أن قرأ شعره في ساحات ملعب رياضي لجمهور يفوق 200 ألف متفرج في عام 1991م عقب محاولة انقلاب فاشلة في روسيا. بعد عام 1950م، بدأ يفغيني كتابة القصص والمقالات الصحفية، وأخذت مساحة النثر تتسع في كتاباته، وإضافة إلى رواية «التوت البري» نشر يفغيني رواية أخرى عنوانها: «لا تمت قبل موتك» (1993م)، وفي وقت لاحق أصبح يعرّف بنفسه كشاعر وكاتب ومخرج؛ إذ شارك في إخراج أفلام سينمائية، ومثَّل بعض الأدوار أيضًا. حين انهارت الشيوعية في الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات الميلادية وبدأت التغييرات الديمقراطية في البلاد، سطع نجم يفغيني في النظام الإصلاحي ليصبح أحد أعضاء البرلمان وسكرتيرًا لاتحاد الكتَّاب السوفييتيين. كانت قصائده تُنشر في أهم المجلات الثقافية، وحاز معها على الكثير من الجوائز، كما عُيِّن سفيرًا للنوايا الحسنة. حين سُئل ذات مرة عن الشريحة الأكبر من قرائه، أجاب ساخرًا بأنهم «مراقبو الكُتب في موسكو، إنهم أفضل قرائي، وهم الأكثر خبرة في القبض على المعاني والفروق الدقيقة»، فبالنسبة ليفغيني «لا يسمي الشعر شعرًا سياسيًّا، بل شعر الحقوق الإنسانية».
في عيد ميلاده الستين، اختتم يفغيني الحفلة بقراءة أبيات من إحدى قصائده المفضلة «جيل الستينيات» ويقول فيها: «كنا الموضة في زمنٍ ما، كنا محط السوء بالنسبة للبعض، لكننا منحناك شرف أن تكون حرًّا، يا حاسدي المهان، فلتهمسوا بما شئتم، قولوا: إننا لا نعرف الإبداع، قولوا: إننا مستهلكون في النفاق، لا يهمني أبدًا. سنظل الأساطير، نظل محط جدل، نظل نحن الخالدون».
قصيدتان
فاتحة
كثيرٌ جدًّا أنا.
مستنزفٌ، مُرهق،
مُعطَّلٌ أنا.
لي ألفُ حلمٍ أنا
تخذلني الجهات.
ولا أليقُ، لا أليق..
بأي شيءٍ هُنا.
أنا العصيُّ الغريب،
أنا الخجولُ الوقِح،
أنا البغيضُ الطيِّب.
أحبُّ كلَّ هذا،
أحبُّ كيف يكتمل الشيء بشيءٍ آخر،
أحبُّ كيف يندمجُ كلّ شيءٍ بداخلي:
من الشرقِ إلى الغرب،
من الحسدِ إلى الرضا.
لا بدَّ أنكم تتساءلون الآن:
ما الغايةُ المُجملة في كل هذا؟
ثمَّة جدوى باهرة في كل هذا الشيء!
لا منجى لكم مني!
أنا الركامُ العالي
ككومة قشّ على ظهرِ شاحنة.
في الأصواتِ أطير،
وفي غصونِ الشجر،
يُصادقني الضوء والتغريد،
وفراشاتٌ ترتعشُ في عيني.
ونبتة من شقوق الطريق.
ألقي السلامَ على كل الجهات،
على الشغف، على الشغف المبتهج بنصره.
حدودُ العالم كلها في طريقي.
يُربكني ألّا أجد عاصمة الأرجنتين في نيويورك.
أريدُ أن أتنزَّه عبر شوارع لندن،
وأن أتحدَّث إلى الجميع،
حتى لو كان ذلك بإنجليزية مكسورة.
أريد أن أتمشَّى في باريس أول الفجر،
وأتنقل من حافلة لحافلة كطفل.
أريد للفن أن يكون متنوعًا،
كما هي نفسي.
وماذا لو كان الفنُّ شقائي؟
ماذا لو كان الفنُّ مضطهدي من كل الجهات؟
أنا محاصرٌ أصلًا.
رأيتُ نفسي في كل شيء.
أشعر بالانتماء ليسينين،
لويتمان،
أشعر بالانتماء لموسورسكي وهو يحتضن المسرح،
لغوغان ورسوماته البكر.
أريدُ أن أغرس زلاجاتي في الشتاء،
وخربشاتي على الورق،
وأن أقضي لياليَ طو الًا مع الأرق.
أريدُ أن أقول لعدوٍّ في وجهه: لا،
أن أمشي مع امرأة على ضفة نهر،
أن ألتهم الكتب،
أن أحمل خشب المدفأة،
أن أحمل الصنوبر،
أن أبحث عن شيءٍ لا أعرف.
وفي حرارة أغسطس أريد أن أتلذذ بشرائح
البطيخ القرمزية الباردة.
أريدُ أن أغني، أريد أن أثمل،
أن أرمي الموت ورائي.
بذراعين مفرودتين
أريد أن أتمدّد على العشب.
ولو حدث، في هذا العالم الوحشيّ، موتي
فسأموت من فرط الفرح الذي عشته.
لن أقبل بالنصف
لا، لن أقبل بالنصف، لن أقبل أنصاف الأشياء.
أعطني السماء كاملة، أعطني الأرض بما فيها.
البحار والأنهار والجبال والانهيارات الثلجية.
كلها ملكي، لن أقبل بأقل من ذلك.
لا يا حياة، لن تخيفيني بالنصف.
أعطيني الكلَّ أو لا شيء، كَتِفِي أهلٌ للحمل.
لن أقبل نصف سعادة،
لن أقبل نصف الأحزان.
وسادة واحدة يمكنني أن أشاركها،
وسادة يفترشها خدٌّ ناعم،
كنجمة بائسة، كنجمة هاوية،
كخاتمٍ يومض في إصبعٍ من يدك.