الطفل الضال
ذلك اليوم، كان مهرجان الربيع على قدم وساق. خرجت من خلال الممـرات الضيقـة للحارات والأزقـة كتلـة بشريـة… منهم من يتقدم سيرًا على الأقدام ومنهم من يركب متن جواده ومن تحمله عربات الثور والبامبو. حينها، انطلق طفل صغير، طلقَ المُحيَّا ومفعمًا بالنشاط والتهلل، من خلال ساقي والـده وقد جذبته الدُّمَى التي عُرضت في المحلات القائمة على جانبي الطريق. تباطأ فناداه والداه «هيا يا بني… هيا». لبى نداءهما فأسرع خطاه إلى والديه، أطاعت له قدماه إلا أن عينيه لم تبرحا على الدمى التي تبتعد منه… وعندما وصل إلى حيث ينتظره والداه، لم يستطع كبح جماح رغبته العارمـة في قلبه، على الرغم من أنه عرف مفاد نظرات الرفض الباردة القديمة في تحديق والديه، تضرع إليهما سائلًا:
«أبغي تلك الدميـة»
فنظر إليه والده نظرة صارمـة كعادته مثل حاكم مستبد، وأما الوالـدة فكان قد خف دمها لسبب طلاقـة ذلك اليوم البهيج، فقالت وهي تناول أصابعها ليمسكها: «انتبه أمامك، يا بني».
وعلى جانبي الطريق حقل مترامي الأطراف. نباتات خردل مزدهـرة مصفرة اللون كأنها مثل ذهب سائل، تمتد أميالًا من الأراضي السهلـة. سرب من اليعاسيب تطنُّ بأجنحتها الأرجوانيـة الصارخـة وهن يعترضن سبيل نحلـة سوداء كانت تطير منفردة أو فراشـة تبحث عن رحيق الزهـور. تبعها الطفل بعينيه على الهواء بغية أن يتوقف أحدها عن طيرانه ويقبضه وما كاد يمد يده حتى حرك جناحيـه وحلق، وسرعان ما يأتيـه نداء أمه اللافت «هلم يا بني… هلم إلى الطريق».
سعى إلى والديه مبتهجًا، وسار معهما جنبًا إلى جنب إلا أنـه، بعد قليل، تركهما ليتخلف وقد جذبته الحشرات والديدان في الطريق التي خرجت من مخابئها لتتمتع بضوء الشمس.
«تعال يا بني.. تعال»، ناداه والداه وهما يتفيآن تحت ظل أيكـة هناك جالسين على حافة بئر. فر إليهما. تساقط فيض من الزهـور على الطفل عندما قدم الأيكـة، نسي بدوره والديه وبدأ يجمع بيديه البتلات الوابلـة كالمطر، لكنـه ذُعِرَ فجأة؛ لأنه سمع هديل الحمام يقترب منـه، فرَّ هاربًا نحو والديه يهتف «الحمامـة، الحمامـة» والبتلات تتساقط من يديه اللتين عزبتا عن البال.
تعال بني… تعال…
نادى الوالدان الطفل الـذي ابتعد منهما ليحوم حول شجرة الأثأب بطفرات فرحة مهووسـة، ضماه إليهما، ثم دخلوا طريقًا ضيقًا متعرجًا يؤدى إلى السوق عابرين حقل الخردل. وعند وصولـه إلى وسط القريـة استطاع الطفل أن يرى طرقات أخرى عـدة تكتظ بالناس القاصدين دوامـة السوق. ملكـه ذهول تام وقد أصبح مفتونًا بضوضاء السوق الـذي سيدخل إليـه…
نادى بائع من أحـد مداخل السوق على حلوياته.. «غلاب جامن.. راسا غلا… بورفي… جيليبي»، وقد تجمَّع الناس حول منضدته التي وضعت عليها حلويات ملونـةً بطريقـة هندسيـة فنيـة مزركشةً بأوراق فضيـة وذهبيـة. حدق الطفل فيها بعين متسعـة وقد سال لعابـه على رؤيـة «بورفي»، الحلوى المفضلـة عنده.
تمتم بصوت منخفض «أريد بورفي». كان يدرك تمامًا أن طلبـه لا يتلقى أذنًا مصغية ويتهمه والـداه بالشراهـة. لذا، تقدم من دون أن ينتظر أيـة إجابة!!
نادى بائع زهرة آخـر على باقاتـه الزهـرية…
«باقـة بونسيانا… باقـة بونسيانا»
بدا الطفل كأنه لا يستطيع مقاومـة جذبها إياه، اتجه إلى حيث السلـة التي تكومت فيها الباقات وتمتم «أريـد تلك الباقـة». كان يعرف أن والـديه لن يشتريا له تلك الباقـة ويقولا: إنها تافهـة. تحرك من غير أن ينتظر إجابـة. كان هناك رجل يقف ممسكًا عصًا طويلـة تتدلى منها بالونات زاهيـات الألوان وبمجرد مشاهدة ألوان قوس قزح البهية تحمس بشكل لا يوصف واستحوذته رغبة غامرة في امتلاكها. كان مدركًا أن والديـه لن يبتاعا له تلك البالونات الجميلـة لأنهما يقولان: إنـه ليس صغيرًا حتى يلعب بمثل هذه الألعاب. تنقل للأمام فإذا به ساحر الأفعى يصفر بمزماره للكوبرا التي تلتفُّ في سلـة، رفعت رأسـها في انحناءة رشيقـة كأن عنقـها لأوزة. انسابت الموسيقا إلى أذنيـها كأنها خرير شلال لطيف.
أراد الطفل أن يذهب إليـه إلا أنه تابع سيره علمًا أن والديـه سيمنعانه من سماع مثل هـذه الأصوات الموسيقيـة الخشنـة.
كانت هناك دوارة في قمـة الحركة وهي تحمل نساءً ورجالًا وأطفالًا وهم يتصايحون بضحكات عاليـة. راقبـهم الطفل باهتمام بالغ وعندما لم يتمالك نفسه قال بلهجـة جريئـة: «أبتي… أريـد أن أركب الدوارة.. يا أماه»، لم يسمع جوابًا، التفت ليبحث عن والـديه، لم يكونا هناك. جال بنظره يمينًا ويسارًا لكنه لم يجد لهما أثـرًا…
سرعان ما ارتفع من حنجرته الجافـة بكاء مدوي وجرى من مكان وقوفـه من دون هـدف وجسـده يرتج، وقد امتلكـه فزع شديد.. يعدو في شتى الأطراف مذعورًا… أبتاه… أماه…
وهـو يبكـي أحرّ البكاء… انهمرت دموع ساخنـة على خـديه وقد امتقع وجهه رعبًا…
أبتاه… أماه…
انحلت عمامتـه الصفراء واتسخت ملابسـه، بعد أن فـرَّ إلى الأمام والوراء بعض الكرات وقف مهزومًا، تحول بكاؤُه العالي إلى نحيبٍ ونشيج… وعلى مبعـدة قريبـة، استطاع أن يرى بعينيـه الغائمتين رجالًا ونساءً يتجاذبون أطراف الحديث جالسيـن على العشب الأخضر…
حاول أن يُرسِل من خلال ثيابهم الصَّفراء الغامقـة نظرة مدققـة لعله يجد علامـة لوجود أبيـه وأمـه بين أولئك الناس الذين بدوا أنهم يضحكون ويتكلمون لمجرد أن يضحكوا ويتحدثوا…
فر هو مرة ثانيـة، وهـذه المرة إلى مزار يتوافـد إليـه أناس لا حصر لهم، مع الوقت يزداد هذا الاحتشاد والتزاحم حتى صار لا يوجد شبـر من هـذا المكان بغير إنسان. لكنـه عدا بين أرجلهم ونحيبـه المنخفض «أماه… أبتاه…»، يعلو ويعلو، تكاثفت الحشود قرب واجهـة المزار، عمالقة الرجال يتكاتفون ويتدافعون وهـذا الطفل المسكيـن جاهـد لكي يشق طريقه من خلال تلك الأقدام الثقيلـة القاسيـة التي تجرُّه إلى الخلف تارة، وإلى الأمام تارة أخرى… أوشكت على أن تدوسه لولا صراخـه العالي الصوت «أبتاه… أماه…».
شخص من هـذا الحشد الهائج سمع بكاءه وبعد أن انحنى بصعوبة بالغـة رفعـه بذراعيـه وسألـه بعد أن أخـذه بعيدًا من الناس.
كيف وصلتَ هنا يا بني؟ ابنُ مَن؟
اشتد بكاؤه أكثر من قبل…
أريـد أمي.. أمي… أريد أبي…»
حاول الرجل تسليـته وذهب باتجاه «الدوارة»… وعندما اقتربا منها سأله بحنان: «هل تحب الركوب عليها»؟… توالت نشيجات حزينـة من دون توقف، من حنجرة الصبي الصغيرة…
يبكي: «أريد أمي… أريد أبي…» ثم الرجل قصد إلى حيث لا يزال الساحر يصفر بالمزمار ليداعب الكوبرا المترنحة…
توسل الرجل في رجاء: «انتبه الموسيقا الجميلـة يا بني.. لكن الطفل أغلق أذنيـه بأصابعه وصرخ صراخًا شديدًا «أريد أمي… أريد أبي..» أخذه إلى البالونات لعل الألوان الزاهيـة تجتذبه وتنزل السكينـة في قلبـه: «هل أشترى لك البالون ذا لون قوس قزح»؟ سأله. أدار الطفل عينيه عن البالونات المعلقة في الهواء وردَّد نحيبه: «أريد أمي… أريد أبي…»، الرجل ظل يحاول تهدئة روع الطفل وإدخال السرور إلى قلبـه؛ حملـه إلى مدخل السوق حيث يجلس بائع الزهور: «انظر.. انظر بني… هل بإمكانك أن تشم تلك الأزهار الجميلـة؟ هل تريد باقـة لك لتضعها في عنقك؟ أدار الطفل أنفـه عن السلـة وهو يتشنج: «أريد أمي.. أريد أبي…».
وظنًّا منـه أن قطعة من الحلوى سوف تسكن بكاءه المرير الـذي لا يقبل العزاء؛ أخـذه الرجل نحو محل الحلويات وسأله: «قل لي، بني.. ماذا تريد من هـذه… أدار الطفل وجهه عن الحلويات واستمر في بكائه: «أريد أمي… أريد أبي…».