رقصة الأشباح
الظلام البارد يتهاوى فوق الأشجار المتشابكة الأغصان حتى بدت كحيطان عالية تسد الرؤية اللهم إلا من بعض الالتماعات النورانية التي تنبعث من على مدى سطح البحيرة الساكنة، سكون ظلام موحش، هبات الريح بين فينة وأخرى تميد بالقوارب الراسية على طول الساحل المديد. تشق بنا العجلات المستفزة جدار المجهول الذي تستهوينا مغاويره، كلما زادت السرعة حدقت العيون إمعانًا، خوف المهاوي المتربصة بنا من وراء المنعطفات الفجائية، كنا نكز على الخط الأبيض المسطور على وجه السبيل الملتوية كثعبان هارب من حرارة شمس جلية. كل يرمي بدليل بوصلته نحو دنو المرسى. كأننا نخبط خبط عشواء، أو هو كذلك كان.
هذا الظلام الذي زادته الظلال الباذخة تسلطًا وعتوًّا، جعلنا هائمين في خضم هذا التيه، وما كدنا نسبق بعض الانفراجات الآمنة، حتى طوقتنا مظاهرة من الأضواء. ابتهجنا بصخبها الضاج، رغم انكشاف وجوهنا الشاحبة. تمهلنا في السير رويدًا، نجسّ جوانب المكان بالإمعان. شرعت الأشياء تتجلى تارة بحدوساتنا، وأخرى كيقينٍ ملموس. نرهف الاستماع فتنجاب إلينا الزقزقات والحفيف وئيدًا. ينقشع الضيم المهيمن على القلوب، وتنفغر الأفواه بالتأوهات والإعجاب الجميل.. عزف أصداء من إيقاعات صادحة، شادية. طفقت تشنف الآذان… الانشراح الساري أرخى الأقدام من عقالها تطأ الأرض الخضراء الندية. نصمت. نصمت. صار السمع عيوننا التي نبصر بها في هذا الظلام.. تشكلت تضاريس المكان أمامنا بين الأشجار السامقة.. اندفعنا صوب لمة بيضاء. نلهث من التحديق.. نتقدم. أخذنا بعض المرطبات، نبلل بها أجوافنا اليابسة رغم برودة الظلال. انجلى البياض عن مجموعة من كراسي لدنة، تصطف أمام ركح ضئيل. فوقه جوق من الموسيقيين. يتصدرهم عازف ومغنية. تعزف ويغني. ويعزف لتغني. يتناجيان صداحين بكلمات لم نستبن منها غير نغمات الكمان الحزين والبيانو وآلة الأكورديون.. سواء غنت هي أو غنى هو.. يتبادلان الرقص في خفة ورشاقة، يضمها إلى صدره ويتلاحمان في جسد واحد متهاديين كريشة طاووس في مهب نسيم عليل. لحظات استئناس أزالت الريبة بيننا وبين الكائنات المحيطة بنا..
شرعت أنقر بقدمَيّ نقرات متوازنة على البلاط، مستسيغًا نغمات الآلات. الموسيقا لغة الشعوب المشتركة. حوار من لا محاور له. صمتا من الغناء ولم تصمت الأنغام.
فجأة التفت يمنة ويسرة. ليس هناك من جمهور غيرنا نحن الغرباء. الكراسي فارغة تمامًا. تسللت إلى أدنى كرسي. جلست فوقه. لسعت مؤخرتي برودته فوقفت. زحفت أقصى اليمين وفعلت نفس الشيء إلى الجانب الآخر. لا أحد. سوانا. تيقنت أن لا أحد.. لا جمهور سوى الفراغ. سلب اللب العجب. لمن يغني هؤلاء؟ أيغنون ويعزفون للأشباح؟ اندحرت إلى أهلي ملوذًا بهم. ألفيتهم مشدوهين بنفس الهم. غير أني كنت أكثرهم احترازًا. لم أبادر أحدهم بالكلام سوى من علامات التعجب الموسومة على الشفاه كعلامات استفهام. حدقت جيدًا. حيطان الظلام المتراصة سور يلف بكل جانب. الانفراج الوحيد مياه البحيرة الساكنة هناك. عجبًا! ماذا يفعل هؤلاء؟ أهم في حصة تدريبية حقًّا؟ مرة أخرى عادا إلى نفس المنوال. غناء وتحاور ورقص. كلما انتهيا من أغنية إلا وانحنيا صوبنا شاكرين. لولا أنهما قاما بنفس العمل ونحن بعيدون عنهم لقلت بأنهم يتوجهون إلينا نحن. ولكن ما بالهما وهما وحيدان، سواء جلست فوق أحد الكراسي أو تراجعت إلى الخلف متوجسًا، يقومان بنفس الحركات. يمسحان عرقهما ويصدحان بأغنية جديدة. من كثرة الإشفاق أو إيناسًا لنفسي المتوجسة بدأت أصفق عند نهاية كل وصلة. تسحرني الموسيقا والليل البارد والمنظر الجميل. رماني الكلل بسهامه الخفية، فدنوت إلى جذع شجرة. جعلتها مستندي. كأنني أترقب وفود العاشقين الذين تهفو نفوسهم إلى مثل هذا الجو البهيج من احتفال وموسيقا ورقص. لم يحدث شيء من هذا. لم أجسر على السؤال. هؤلاء لا يمكن أن يعزفوا جزافًا هكذا؟ أيكون كل هذا تمهيدًا لحفل ما؟
يتمادى السخام في سطوته، وجيوش البرد تفري الأطراف العارية فريًا. عبرت ساعة من الزمن والحالة في غاية الانبهار والشرود. يتزايد الاستيراب إرباكًا لدواخل النفس.. لعل هناك أشباحًا تسمع وترقص بغير صدى. أيمكن هذا؟ ولم لا؟ وهل الموسيقا حكر على الأحياء؟ ولمن ترقص الأشجار والنباتات بحفيفها؟ ولماذا تصمت الأحجار والجبال؟ أليس إلا خشوعًا وترنمًا بموسيقا سرية؟ يفهمها كلٌّ على سماعه. أيمكن كل هذا؟ إذن هذا ما يفعله هؤلاء لغيرهم بدون وعد ولا ميعاد. ربما.. حينها تذكرت أشباح العالم القديمة، وما كنا نسمعه من حكايات قديمة. لعل هذه الأرض تؤمن بالأشباح أكثر من غيرها في أماكن أخرى.
شكرًا لكم على حسن إصغائكم وإليكم الوصلة الموالية. كأنهم يمحقونني غيظًا وحنقًا. قمت خطوت إلى صحبتي. جذبت كرسيًّا واندمجت بينهم مقررًا ألا ألتفت إلى الخلف مهما كان الأمر، وبدأت أصفق كما يفعل العازف والمغنية في هذا الليل البهيم.