موت الحكاية الشعبية في المسرح محمد العثيم.. المسرحي والمثقف والصديق حين يرحل
يحدث الغياب الفج بصورة مفاجئة دائمًا كما أنك لا تعرفه ولم تتوقعه، يترك أثرًا من الدهشة والارتباك خارج النسق اليومي للتفكير المعتاد، فلا تعرف ماذا تقول ولا من أين تبدأ الفجيعة، فهذه الخسارة التي تتعثر بها الآن في كلامك لها تأثير موجع بعيد المدى وأنت تتخيل أنك لن ترى صاحبك بعد الآن، تلك الخسارة هي ما تؤلمني أكثر وأنا أستحضر خبر وفاة صديقي المفجع الأستاذ محمد العثيم.
فلن يغيب النص المسرحي الجاد واللغة الشاعرية فقط، بل الرفيق في الهم المسرحي، والمثقف العميق النبيل الذي لا يعوض، أيضًا يغيب العثيم في وقت نحتاج إليه بقوة كما لم يكن من قبل حيث تتطلع الحركة المسرحية المحلية إلى آفاق التحديث والتغيير المأمول في رؤية المملكة 2030.
لذلك سوف يبقى مشهدنا المسرحي الجديد ناقصًا دائمًا قيادة روحية فذة، وهو الذي قال ذات نص:
أنت تقودني وأنا أدلك
هكذا قال الأعمى للصبي في مسرحية «تراجيع» وهو ممسك بعصاه يقوده في متاهة الصحراء هاربين من الثأر، وكان محمد العثيم يخاطب الجميع بهذه الجملة الجدلية التي لا تنسى لكن الأعمى تعب.. وأوشك على الهلاك من الجوع والعطش وعندما خاف الصبي أن يموت صار يحكي ويقص عليه:
لقد زوجوني هذه الليلة، زوجتي جميلة، هي بنت خالي سعيد الذي يبيع التمر على أطراف الصحراء، يربح دائمًا ولا يخسر.
عندما أديت كل الواجبات الضرورية التي قالت لي أمي أن أؤديها، مسحت العرق عن جبيني وقالت: سأنجب لك ولدًا بجمالك.
لم أنسَ هذا الحوار طوال حياتي وغيره من حوارات مسرح محمد العثيم حيث كان يكتب حواراته بحس شعبي رهيف وعميق جدًّا لا يمكن أن تنساه، حفظته عن ظهر قلب، وعندما كنت أردده أمامه عندما التقيه، يبتسم مندهشًا وفخورًا بما كتب، لكنه قد نساه.
وكل من يكتب بشغف في التراث والبحر والصحراء سوف ينسى كثيرًا ليتذكر دائمًا الجديد من مخزونه الهائل فيه؛ لأنه يعيشه دائمًا في حالة طقس شعبي ملازم له في حله وترحاله، ومجرد أن يبدأ الحكي في المسرح أو في الشعر سوف تبدأ الحكاية من جديد كما لم تسمعها من قبل ولا تمل من سماعها. لم يكن محمد العثيم مسرحيًّا فقط بل راويًا وشاعرًا شعبيًّا متميزًا أيضًا، ذلك ما طبع معظم حواراته المسرحية بذلك الحس الشعري الجميل، فكتب حوارات مسرحية أقرب إلى الشعر منها إلى الحوار العادي، وكتب نصوصًا مسرحية شعرية بالكامل مثل مسرحية «قبة رشيد» وكان يأمل أن تنفذ من جهة مهتمة بالأوبريت الغنائي الشعبي، وكتب الكثير من القصائد الشعرية في نصوصه الأخرى. في عام 1412هـ اختير نص مسرحية «تراجيع» لتنفذ في الجمعية بالدمام، وهي حكاية اغتراب رمزية عن الصحراء والثأر ومدى تغلغل العادات والتقاليد البالية فينا، وقبلها شاهدت مسرحية «البطيخ الأزرق» من تأليف محمد العثيم وإخرج المخرج التونسي عبدالغني بن طارة تشارك في الدورة الثالثة لمهرجان الفرق الأهلية المسرحية لدول الخليج العربي في الدوحة وهي باللغة العربية الفصحى لكنها أيضًا تدور في مكان وفضاء شعبييْنِ.
ومن خلال مسرحية «تراجيع» بدأت علاقتي بالعثيم ولم تنقطع إلا مؤخرًا بسبب مرضه الذي فرض عليه عزلته في سنواته الأخيرة وملازمة المنزل، شاركت ممثلًا في مسرحية «تراجيع» التي أخرجها بامتياز الأستاذ جمال قاسم ومعي عدد من أبرز نجوم المسرح في المنطقة الشرقية، ومن خلال هذه المسرحية شاركنا في عدة مناسبات دولية وإقليمية ومحلية. أعطتني هذه المشاركات فرصة مزاملة محمد العثيم في كثير من الأماكن والتعرف إليه من قرب، اختلفت كثيرًا معه واتفقت كثيرًا أيضًا لكنني لم أفقد اعتزازي به ومحبتي له وهو كذلك لي.
فلم أرَ مثلًا حتى الآن أحدًا يروي أو يقص الحكايات الشعبية بمتعة وتشويق مثلما رأيت أبا بدر يفعلها بلغته الشعبية الجميلة، كما أن لا أحد كتب في السيرة الشعبية مسرحًا يضاهي جمال نصوص محمد العثيم وقوتها حتى الآن، وإذا أضفنا قصائده الشعرية بالعامية التي تغنى ببعضها عدد من المطربين يمكن القول بوضوح: إن الحس الشعبي عند محمد العثيم هو العمود الفقري في تجربته الفنية والأدبية سواء في مسرحياته أو في حكاياته وشعره، ومن خلالها استطاع أن يكون متفردًا عن جيله في تجربته حيث كتب أكثر من 40 مسرحية باللهجة العامية والفصحى من أبرزها: قبة رشيد – تراجيع – البطيخ الأزرق – الهيار – السنين العجاف، ومثل بعضها في الوطن العربي، ونصوص شعرية لا تحصى، لكنها للأسف لم تطبع في كتاب على حد علمي بعكس نصوصه المسرحية التي طبعت أكثر من مرة وكان آخرها مجموعته الكاملة التي جمعها وطبعها نادي الطائف الأدبي 2017م.
توفي محمد العثيم ولم ينل حقه من الاهتمام الأدبي والفني، ولم يُنفَّذ إلا جزء يسير من نصوصه رغم أهميتها وجماليات التعرض للتراث فيها وعلى الأخص التراث النجدي، كان يطمح مثلًا في تنفيذ أوبريت فني غنائي طويل من خلال مسرحية: قبة رشيد، التي كتبها لهذا الغرض، كما حاول محمد العثيم في حياته ومن خلال شغفه بالمسرح تأسيس ورشة للدراما في مقر الجمعية بالرياض، واستمر مدة مع عدد من طلابه فيها، وعندما اختلف مع إدارة الجمعية رحل بورشته وطلابه إلى النادي الأدبي بالرياض.. ثم في عام 1431هـ زاملت محمد العثيم مرة أخرى في الرياض بوصفه عضوًا في مجلس إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالرياض، وكنت مديرًا عامًّا للجمعية، فوجدته كما كان دائمًا مهمومًا بالمسرح على الدوام، صاحب رأي صريح وجريء فيه، ثم قلَّت كتاباته وحضوره جلسات مجلس الإدارة، وابتعد كثيرًا من الحياة الفنية والمسرح بسبب المرض الذي نجا منه بأعجوبة قبل عدة سنوات ثم عاد إليه، حتى إنه كان يقول: «أنا الآن ميت حي بينكم».
رحمك الله يا أبا بدر.. سوف تبقى بيننا رمزًا للمسرح الوطني العميق والجاد دائمًا.