بواسطة علي حرب - مفكر لبناني | مارس 3, 2019 | مقالات
علي حرب
أنا أشتغل في ميدان المعرفة، منذ نصف قرن. ومع ذلك لا أدعي أنني أعرف نفسي حق المعرفة. تعتريني حالات أشعر فيها بأن نفسي تعاندني، وفي حالات أخرى أشد وطأة، أشعر بأن رغباتي أصبحت أقوى مني، وبأنني أكاد أفقد السيطرة على نفسي.
في هذه المقالة أسلِّط الضوء على جانب من جوانب شخصيتي بالحفر في طبقات وعيي ودهاليز ذاكرتي؛ للوصول إلى تلك الأحداث والمشاهد أو النصوص والكلمات التي أسهمت في تكويني على ما أنا عليه، وبغير وعي مني ولا عِلْم.
أتوقف عند ثابت من ثوابت شخصيتي لازَمَني وما زال؛ هو الخوف. وعندما أعود إلى نشأتي الأولى، أجد كما قلت ذات مرة في حفل تكريمي، أنني كنت ذلك الطفل الذي يخشى أباه وربه ومعلمه. وهي السلطات الثلاث التي تتعهد تربية الولد وتنشئته، بزرع الخوف في نفسه، عبر استخدام العنف بمختلف أشكاله اللفظية والجسدية.
المعلم الأول
أبدأ بسلطة المعلم. وما أرويه هنا، نقلًا عن الأهل، لأنني أتحدث عن واقعة لا أتذكّرها، أنني كنت أهرب من مدرستي الأولى؛ لأن المعلم كان يعامل تلامذته بعنف شديد. ومع أنني لم أتعرض لأذاه، فقد خشيت منه على نفسي، وصرت أخرج من المنزل، ولا أذهب إلى المدرسة، بل أختبئ في بيت مهجور. ولما علم والدي بالأمر، وكان يؤمن بأن الولد لا يتعلم في جوّ من الخوف، نقلني من المدرسة الرسمية، وكانت ذات معلم واحد، إلى الكُتّاب، ريثما يُنقل المعلم، بعد أن ضجّ الأهالي من سوء تصرفه. وفي الكُتّاب تعلمت شيئًا من القراءة والحساب، وختمت القرآن الذي هو أساس التعليم في المجتمعات الإسلامية. وهكذا كانت تجربتي الأولى مع المدرسة مَشُوبة بالخوف الذي زرعه المعلم السيِّئ والفاشل في كياني.
الربّ الغائب
السلطة الثانية هي سلطة الرب، وكان يمثّلها بالطبع الأب ورجال الدين الذين يتوعدون ويهددون باسم الله الرحمن الرحيم. وهذه السلطة تفعل فعلها عبر الكلام. وقد قيل: في البدء كانت الكلمة. ولا شكّ أنه كان لكلام القرآن وقعه في النفس وأثره في نسج خيال الصغار، كما يتجسد ذلك في ترداد الآيات التي تتحدث عن القصاص والعقاب في اليوم الآخر، حيث الله الذي خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش، لا عمل له سوى أن يترصد عبيده ويراقبهم من عليائه، لمحاكمتهم وفرزهم يوم الدينونة بين جنة ونار. صحيح أن القرآن يَعِدُ المؤمنَ والمطيعَ بجنة الفردوس، ولكنه ذو مخيال جهنمي شأنه في ذلك شأن ما سبقه من الكتُب الدينية التوحيدية. والطفل إنما يتأثر بحديث العقاب والنار أكثر مما يتأثر بحديث الحور العين وأنهار اللبن والعسل. وكثيرًا ما ينسى هذا الجانب من جوانب الثقافة الدينية، القائم على التخويف والتهديد، كما تعبّر عنه مفردات العقاب الإلهي، بالحرق والكي وقطع الأطراف. وما تفعله المنظمات الجهادية، التي تصدم الكثيرين من المتدينين، ليس سوى ترجمة لهذه الثقافة العدوانية قبل اليوم الموعود.
الأب المحافظ
كان والدي رجلًا له سلطته القوية على أسرته. تجلى ذلك في طاعته والامتثال لأوامره ونواهيه. ولأنه كان مهابًا، لم يستخدم العنف الجسدي، معي أو مع إخوتي، إلا في الحالات القصوى. ومما ضاعف من سلطته، أنه كان محافظًا شديد المحافظة، في ما يخص الأمور الدينية من عقائد وفرائض. وقد تعدّى تشدُّدُه الأُسرةَ والعائلةَ الكبيرة إلى المجتمع. فكان يتصرف كداعية يهتم بوعظ الناس وإرشادهم. وظل على هذه الحال حتى آخر العمر، يدافع عن أحقية الإسلام، ويتحدث عن فضائل الشريعة تحت سقفه الرمزي: الله، القرآن، الحق، الصدق، العدل. مع أنه لم يكن قادرًا دومًا على الوفاء بما يدعو إليه، كما هو شأن كل مثالي، مآل أمره أن يخرج على مبادئه وثوابته.
وأذكر أنني عندما كنت أدرّس في إحدى القرى البعيدة من قريتنا، جاء ذات يوم لزيارتي، ولمّا حضر وقت الصلاة ذهب إلى الجامع، فوجده مهملًا ولم يجد فيه من يرفع الأذان، فغضب وأخذ يتهم أهل تلك القرية بالتقصير في أداء واجباتهم الدينية، مما جعلني أجابهه لنهيه عن التدخل في ما لا يعنيه؛ إذ هو ليس حسيبًا ولا رقيبًا على الناس. حتى عندما أصبحت كاتبًا له آراؤه وفلسفته، لم ييأس من نصحي ودعوتي للعودة إلى نعمة الإيمان الذي نشأت عليه. وكان جوابي، دومًا، يستحيل عليّ العودة، بعد الخروج إلى فضاء العقل، حيث ذقت طعم الحرية. مثل هذا الكلام كان يستفزّه، ولكنه لم يكن يستسلم، بل يحاول استنباط الحجج للرد عليّ، بترداده آراء من يقول بأن الإسلام دين العقل، وأن القرآن مصدر النور والهداية.
* * *
وهكذا حاول والدي قولبتي، وفقًا للنموذج الذي كان يرى أنه الأفضل لتنشئة الولد. ولذا كان لا يكفّ عن مراقبتي فيتدخّل إذا وجد تهاونًا أو تقصيرًا في أداء الفرائض الدينية. وكان إلى ذلك صارمًا، لا يسمح لي باللعب مع أترابي في الحي، خشية أن يلهيني ذلك عن دروسي، أو يؤدي إلى انحرافي باختلاطي مع ذوي المعشر السيئ.
مثل هذه النشأة طبعت شخصيتي وقيدتني بسلاسلها الفقهية والخلقية. صحيح أنني انتقلت، وأنا في الثانية عشرة من عمري، إلى مدينة صيدا، لأتابع تعليمي المنهجي، ولكن كان لسلطة والدي ظلّها في غيابه، ولم أقوَ على التحرّر منها، إلا بعد أن أتيت إلى بيروت لأقيم فيها. وكان لاختياري الفلسفة، مجالًا للتخصص، أثره القوي في أن أشق عصا الطاعة وأتحلل من التزامي الديني. ليس هذا وحسب. بل كان من مفاعيل الخروج والتفلسف الارتدادُ على العقائد الدينية بالنقد، على نحو متطرف، كما كان شأن الأكثرين من أبناء جيلي، ممن تبنوا فلسفات حديثة أو انخرطوا في أيديولوجيات يسارية تقدمية. ولعلّ هذا التطرف كان ردّة فعل على التصلب الديني. بذلك صنَعَنا آباؤنا على شاكلتهم من حيث لا ندري.
ولا أبالغ إذ أقول اليوم بأن هذه النشأة جعلت مني شخصًا مثاليًّا يفتقر إلى المرونة ولا يحسن المصانعة، بقدر ما يتسم بالخوف والخجل. ومع أنني تحررت من أكثر السلطات الرمزية مهابةً وبأسًا، فإنني لم أتحرر من الخوف الذي لازمني حتى بعد أن تقدّم بي العمر: خوفي من الجمع، توتري وارتباكي، عندما أريد أن أتحدث في مناسبة اجتماعية، أو في ندوة فكرية، وبخاصة عندما أريد الإطلالة عبر الشاشة.
ولا أنسى هنا سببًا آخر قد زاد من منسوب الخوف عندي، يعود إلى سلطة الميليشيات. فقد حُجِزت عام 1978م، من جانب عناصر حزبية مسلحة، في أحد الأقبية، لالتباس في الأمر. وبقيت ساعات حتى أتى من عرفني وعرّف بي في اللحظة الأخيرة، أي قبل الإقدام على تصفيتي، وكما علمت بعد الإفراج عني.
ومن طرائف ما أرويه عن ضعفي أن أحد أصدقائي، وكان موظفًا كبيرًا، قد التقى ذات يوم جماعةً من أهل قريتي، فقال لهم: لا يغرّنكم المركز، فأنا أضعف خلق الله في هذه المدينة (بيروت)، ثم استدرك قائلًا: نعم هناك من هو أضعف مني، ممن أقوى عليه. إنه علي حرب. قد يعجب المرء وصفي لنفسي، بالخوف والخجل والضعف، فيما أنا أمارس جرأتي الزائدة في كتاباتي النقدية التي تستفز أو تصدم الكثيرين من القُراء. فهل أعوض بالكتابة، عما افتقدته في حياتي العملية؟ وهل جرأتي في معاركي الفكرية هي الوجه الآخر لجبني في معترك الحياة؟
* * *
أعود إلى حكايتي مع والدي لأقول بأن علاقتي به لم تكن كلها خلافية سلبية. صحيح أنه حاول أن يصنع مني شخصًا على شاكلته. ولكنه صنع مني أيضًا شيئًا آخر، بإصراره، مع معاكسة الظروف، على متابعة تعليمي، فيما معظم أبناء جيلي كانوا يتعلمون الشيء اليسير، ثم ينصرفون إلى تعلم المهن والصنائع، أو يهاجرون إلى بلاد الاغتراب. ولهذا عندما صدر كتابي الأول «التأويل والحقيقة» (1985م)، وكنت قد تأخرت في الكتابة والتأليف، كما كان يأخذ عليّ، أهديته نسخة منه كتبتُ عليها: «إلى والدي الذي انتظر طويلًا. هذا بعض من زرعه قد أينع وحان قطافه». فقد أرضاه ذلك وسرّه، بالرغم من معارضته لي في المسألة الدينية. وكان يقول متباهيًا بأن الكاتب هو شخص مميّز، لكونه يترك أثرًا بين الناس.
الدوافع والنماذج
أختم بالسؤال: هل أدعي، بعد كل هذا السرد لوقائع متوارية أو منسية من سيرتي أنني فككت عقدتي وعرفت نفسي؟ ولكن مَنْ مِنا يدّعي بأنه يعرف نفسه حق المعرفة في هذا العالم، المضطرب غاية الاضطراب، وفي زمن هو زمن التسارع والتسابق والتكالب على الثروات والسلطات والملذات؟ إنه زمن يكاد فيه المرء يفقد سيادته على نفسه والسيطرة على زمامه، بعد أن أصبحت رغباته وأطماعه ونزواته أقوى منه. وإلا كيف نفسر هذا السقوط المدوي، تحت وقع فضائح مالية أو خلُقية، لسياسيين وشخصيات ذوي شهرة عالمية كفرنسوا فيون المرشَّح لرئاسة فرنسا عام 2017م، أو دومينيك ستروس كان مدير البنك الدولي السابق، أو كارلوس غصن مدير شركتي رينو ونيسان للسيارات؟
أتوقف عند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فهو بعد فوزه بانتخابات الرئاسة، تصرف خلال حفل تنصيبه كملك أو كإمبراطور، فيما هو سياسي ومثقف حداثي، ديمقراطي، ليبرالي؟! وهكذا ثمة صور وأطياف تطفو على سطح وَعْيِنا آتية من أقاصي الذاكرة أو من أزمنة أخرى تشكل طيَّة من طيّات فِكْرنا. وأعتقد أن علوم النفس لم تكشف كل ما يمكن كشفه، بدليل أن ازدهار التحليل النفسي بنظرياته وطرائقه لم يُفضِ إلى التقليل من الاضطرابات النفسية والأمراض العقلية.
ولهذا فإن معرفة النفس تتجاوز التحليل النفسي للدوافع إلى التحليل الوجودي للنماذج، للكشف عن الهوامات والصور التي زرعتها في العقول الثقافة والإنسانية على اختلاف الديانات والفلسفات والأيديولوجيات: النرجسية، والقداسة، والعَظَمَة، والعصمة، والبطولة، والنجومية، وسواها من المفردات التي صنعتنا، لكي نُفاجأ ونُصدم بشرور أعمالنا وكوارث مشاريعنا، بعد كل هذه المساعي والنضالات من أجل تحرير البشر.
لعل ما نحتاج إليه هو قلب الآية: أن نتحرر من إنسانيتنا بالذات، كما يجسدها ورم الأنا وداء التألُّه، الذي يجعل الواحد يفكر ويتصرف بوصفه الأحق والأفضل أو الأعلى والأولى أو الأجدر والأكفأ… فيما الحديث المأثور يقول: يا ربّ لا تَكِلْنِي إلى نفسي طرفةَ عين.
بواسطة علي حرب - مفكر لبناني | يناير 1, 2019 | مقالات
علي حرب – مفكر لبناني
أنا من الذين رحّبوا بالثورة الرقمية ونظّروا لها. وقد ذهبت في قراءتي لها بأنها فتح كوني لا سابق له؛ إذ هي أخذت تغير وجه الحياة على سطح هذا الكوكب، وعلى نحو تتغير معه علاقاتنا بمفردات وجودنا: بالمكان والزمان، بالواقع والحقيقة، بالقيمة والثروة، بالمعرفة والقدرة.
وها هي، بعد عقود على انطلاقتها، تكاد تنقلنا إلى عصر جديد، لتغير طبيعة الإنسان نفسه، بما أصبح يمتلك من القدرات المعرفية والتقنية، الهائلة والخارقة، وكما يتنبأ أو يحلم الذين يتحدثون عن العبور إلى طور جديد نتجاوز فيه الإنسان نفسه إلى «ما بعد الإنسان»، أي إلى كائن قد يحتاج إلى اسم جديد وتصنيف جديد. وهذا لعب بخارطة الخلق لم يكن يتخيّله أحد.
ومع ذلك، فأنا أعترف بأنني لم أستفد من إنجازات العصر الرقمي. فما زلت أنتمي إلى العصر الورقي. ولما طُلب من ابني أن يتحدث عني، لبضع دقائق، خلال حوار أجرته معي إحدى القنوات الفضائية، سألني عمّا يجدر به ذكره، فكان جوابي له: بوسعك أن تقول لا تصدقوا والدي، عندما يتحدث عن العولمة وفتوحاتها أو عن المعلومة وانفجاراتها. إنه أُمِّيٌّ في هذا الخصوص؛ إذ ما زال يستخدم القلم لكتابة نصوصه وأعماله، ولم يدخل بعد، على صعيد المعايشة، إلى عصر المعلومة والشبكة والفأرة.
وبالفعل، لم أحاول التدرّب على التقنيات الجديدة. لم أسعَ إلى اقتناء حاسوب، كما فعل الأكثرون من الكتّاب والمؤلفين، الذين جذبتهم الآلات الذكية، وهي آلات لا تحتاج من الواحد إلا إلى استخدام إبهامه لتحريك الشاشة بالنقر أو اللمس، حتى ينبسط كتاب العالم أمامه، بأحداثه ومستجداته، بمشاهده ومعطياته، وبما يفوق ما كان يتخيّله من فكروا ببساط الريح أو حلموا بفتح الأبواب الموصدة وفكّ الشيفرات الملغزة.
من كان يتخيّل أن نصل إلى عصر يكفي فيه أن يحمل الواحد معه جهازًا بحجم الكف، يمكِّنه من أن يتصل بمن يشاء ساعة يشاء وفي أي مكان يشاء. وهذه الآلة العجيبة، التي تغنيه عن مكتبة بكاملها، تتيح له أن يطلع لحظة بلحظة على ما يدور في العالم الواسع من الأحداث والمفاجآت، أو أن يحصل على معلومات مفيدة حول مختلف المواضيع والمفاهيم أو الأمكنة والتواريخ، كما تتيح له أن يقرأ ما يكتب فورًا من التعليقات والتغريدات، الطريفة أو السخيفة، حول قادة العالم وشخصياته واللاعبين على مسرحه.
غير أني اضطررت، في النهاية، إلى اقتناء نماذج من الهواتف الذكية (IPhone) واللوحات الذكية (IPad)؛ كي لا أبقى نشازًا بين الناس، وكي أردّ على الدعوات والرسائل التي تردني من الخارج، على بريدي الإلكتروني، وهي مهمة كان يتكفّل بها ابني. ومع ذلك، فأنا لا أفيد من هذه الأجهزة، ذات الوظائف المتعددة والإمكانات المفتوحة، إلا القليل، كأن أبحث عن معنى مفردة، أو أستعلم عن ولادة كاتب، أو أكتب ردًّا على رسالة من عدة أسطر لا أكثر. ومع أني تعلمت كيف أحصل على الصور، سواء لي أو لغيري، فإني لم أستمتع باستخدام هذه الإمكانية كما يفعل الآخرون.
وهكذا لم أحسن استقبال الآلات الذكية، لم يتقبلها عقلي ولا تكيّف معها جسدي. فأنا لا أستسيغ قراءة الرواية مثلًا وأنا مسمّر أمام الشاشة، بل أستمتع بقراءتها وأنا مستلقٍ على الكنبة. لقد أصبحت عصيًّا على تغيير عادتي، أنا الذي أستمتع بقراءة الكتاب الذي أحمله وأقلّب صفحاته، أو بالكتابة على الورق الأبيض الناصع، وبالقلم السيّال، وليس بأي قلم. وإني أعجب من الصغار الذين يعملون على تلك الأجهزة المعقّدة بمهارة فائقة.
هل تحوّلتُ أنا وأمثالي، وهم قليلون، إلى ديناصورات ورقية أمام طغيان العالم الرقمي؟
هذا سؤال أطرحه على نفسي، أثناء مشاركتي في الندوات الفكرية، حيث أجد معظم المنتدين يحملون معهم لوحاتهم الذكية، لكي يقرؤوا عليها مداخلاتهم التي كتبوها أصلًا عليها، فيما أنا أحمل معي أوراقي، التي طبعتها في المراكز المخصصة لذلك، لكي أضعها على الطاولة وأقرأ. إنه التعارض بين الورقة والشاشة، بين الطاولة واللوحة.
وإني أتساءل أحيانًا عن سبب هذه الممانعة عندي: ما الذي يجعلني أستعصي على التعامل بإيجابية مع الحواسيب والشبكات ومواقع التواصل الاجتماعي؟ هل هو تخلّف عن الركب الحضاري؟ ولكني داعية تقدم. ولذا أراني في مجال عملي أواكب المستجدات من الأفكار، وأسعى جاهدًا إلى تجديد عدّتي الفكرية.
هل هو إذن مقاومة الفكرة للآلة؟ قد يكون لهذا السبب وجاهته. فأنا أفكر أحيانًا وأنا أتمشّى في الشارع في المسائل العالقة التي لم تجد حلًّا لها، وأنا جالس وراء طاولتي. ولكني أشعر بأنني أفقد بداهتي، وبأن قدرتي على التفكير تتراجع أمام الآلات. ولذا لم أنجح، مرة، في إجراء حوار على الهاتف أو أمام آلة التسجيل.
هذا مع أني لست ممّن يأخذون بمقولات العقل المحض والفكر المجرد. فنحن آلات فكرية. ولذا لا يجد أهل العلوم الإدراكية أفضل من الحاسوب، نموذجًا للقياس والمقارنة، لفهم عمل الذهن والدماغ. ولكننا آلات استثنائية تملك إمكانية التفكير بحرية، بالارتداد على ذاتها وعلى أفكارها؛ لكسر ما هو آلي وحتمي ونسقي، والأحرى القول: إنها تملك إمكانية تفكيك الحتميات والأنساق المستهلكة، لبناء أخرى مكانها شغالة وفعالة.
* * *
أيًّا يكن الأمر، فالعصر الرقمي يطرح علينا أسئلته: هل سيلغي ما قبله؟ هل سيختفي الكتاب الورقي من سوق التداول؟ هل تطغى الآلات وتفلت من سيطرتنا؟
لا يجدر بنا التسرُّع في هذا الخصوص. فلكل اختراع حقّه وقسطه من الحقيقة. ونحن نعلم أن بيل غيتس، أحد صنّاع العالم الرقمي، قد ألّف كتابًا ليشرح فوائد ثورة الاتصالات التي تتيح نقل المعلومات والرموز بسرعة البرق والفكر. ولو توقفنا عند بلد كفرنسا نجد أن الصحف والمجلات لم تتراجع، بل هي إلى مزيد من التطور والازدهار. صحيح أن الأكثرين يكتبون على الشاشة الرقمية، ولكن القراءة هي في أكثرها ورقية. ما زال الكتاب الورقي يتصدر عالم المعرفة. هذه إمكانية ما زالت قائمة في معظم البلدان. نحن في مرحلة وُسطى تستخدم فيها ثورة الاتصال لتسهيل أعمال النشر الورقي.
أعرف أن الأجيال الجديدة تنخرط أكثر فأكثر في العالم الرقمي الفائق، والسيّال، والمتسارع، ببرامجه ولوغاريتماته وروبوتاته، التي تقتحم أقاليم الوجود وحقول الإنتاج، من التعليم إلى الصحة، ومن الاقتصاد إلى السياسة، ومن الأمن إلى الثقافة… فهل سيتغلّب الذكاء الاصطناعي على الدماغ؟ وهل تحلّ الروبوتات محل الإنسان في سائر أعماله وأنشطته؟ هل سيصبح لكل فرد مستشاره الرقمي الذي يرجع إليه، إذا أشكل عليه أمر أو واجهته صعوبة؟ هل سيارات المستقبل التي سوف تعمل ذاتيًّا، ولا تحتاج إلى سائق، هي التي ستقودنا بدلًا من أن نقودها نحن؟
ما أراه في هذا الخصوص أن طغيان العالم الرقمي الاصطناعي الآلي، على العالم الطبيعي، الحسّي والعقلي، إنما يعني هيمنة البُعد الواحد عند الإنسان الذي هو كائن متعدّد الأبعاد، وهو الأمر الذي سوف يترجم استلابًا وفقرًا وخواءً وجوديًّا. بذلك تتحوّل المنافع إلى مساوئ. وعندها ستنهض أشكال جديدة من المقاومة بِتْنا نشهدها، في كثير من القطاعات والبلدان، ضد طغيان الشاشة والآلة والبرمجة على الحياة، بنبضها وعصبها، بطفراتها ومفاجآتها.
هل ثمة خشية من سيطرة الإنسان الآلي على صانعه؟
لا يجدر بنا أن نتغاضى عن الفارق الكياني، الأنطولوجي، بين الإنسان الحيّ والآلة الصماء. فهو يمتلك ما لا تملكه الآلة ولا تقدر عليه: القدرة على ابتكار اللغات والرموز والتصورات والبرامج، سواء فيما يخصّ علاقته بذاته أو بالطبيعة والآلة. أما الآلة فإنها لا ترغب ولا تحس، لا تفكر ولا تتخيّل. إنها مجرد امتداد للإنسان تزيد من قدراته وتُحسِّن أداءه.
صحيح أن الآلة تعمل عملها، وتنفذ ما أعدّ لها من البرامج، في غاية الإتقان والإحكام، وأحسن من الإنسان، غير أنها لا تملك الإمكانية على أن تعقل وتدبّر أو تقدّر وتحكم. وهنا وجه الخطورة لدى الإنسان الآلي إذا تعاظمت قدراته. ولا يقل خطورة عن ذلك الفلتان الذي نشهده في مجال الكتابة على الصحائف الفيسبوكية ومواقع التواصل الاجتماعي. كان عدد الكتاب في عصر طه حسين محصورًا. وفي عصر محمود درويش أصبح عددهم بالمئات أو أكثر. أما اليوم فقد أصبح بوسع أي واحد أن يكتب ويغرد ما شاء له عن أي موضوع أو شخص آخر، وليست كلها كتابات من النوع المتقن والجيد والمفيد. فالكثير مما يكتب خالٍ من العقل والمعيار أو الذوق والفائدة.
بواسطة علي حرب - مفكر لبناني | نوفمبر 1, 2018 | فكر, مقالات
كانت أمنيتي، بعد أن تقدم بي العُمر، أن تكون النهاية مفاجئة وصاعقة، فأرحل عن هذه الدنيا دون أن يقعدني العجز، أو أُبتلى بعلّة تسبب لي الإعاقة الدائمة، فلا أعيش عبئًا على نفسي أو عالةً على مجتمعي. ولكن المرء لا يتحكم بجسده. يمكن له السيطرة على فكره، ولكن بقدر، كما يمكن له السيطرة على إرادته، وبقدرٍ أقل. أما الجسد فله قوانينه وطفراته التي تفاجئك، بالرغم من التزامك بالقواعد الصحية وابتعادك من حياة الصخب والعنف. هذا ما جرى لي. لقد فاجأني السرطان في «البروستاتا» تلك الغدة الذكورية التي أصبحت مادة للحديث أو للكتابة؛ إذ ما أكثر ما يصاب بها الرجال. وما أحاوله هنا هو أن أروي قصتي مع المرض، وهي في وجهها الآخر حكايتي مع الطب.
اللفظة المخيفة: في الماضي كانت لفظة «سرطان»، بمدلولها الطبي، تثير الفزع في ذهن السامع؛ لأنها كانت تعني المشقة والعذاب والموت المحتم. ولذا كانت القاعدة يومئذٍ إخفاء الحقيقة عن المصاب، كي لا يتدهور وضعه ويتفاقم مرضه. أما اليوم فقد صارت لفظة «سرطان» عادية حتى لا أقول «مبتذلة»، بعد أن انتشر الداء وتحول إلى واحدٍ من أمراض العصر، وخصوصًا بعد أن أصبح مادةً مغرية للحديث المتكاثر، من جانب الأطباء أو الهيئات الصحية، إما لشرح أعراضه والإشارة إلى أسبابه، أو لحثّ الناس على إجراء الفحوصات الدورية، بحجة أن الكشف المبكر للمرض يسهّل علاجه ومقاومته. وأنا لا أتخيل الآن حالي قبل 40 عامًا، لو اكتشفت أني مصاب بالداء الخبيث. يومها أصبت ببحةٍ في الصوت من جراء التدريس. الأمر الذي جعلني أركض من طبيبٍ إلى آخر، لخشيتي أن تكون الإصابة خطيرة.
أما اليوم، فإني بعد اطّلاعي على نتائج الفحوص التي تُشير إلى وجود الورم، لم أُصب بالذعر. لقد تأثرت بعض الشيء. فبكيت وليس بالضرورة بسبب المرض، الذي أتى كحدث بلغت معه الأمور حدها الأقصى. فالمرءُ يحتاج أحيانًا إلى البكاء عندما يشعر بأن الأشياء تجتمع ضده أو يُسقط في يده في مواجهة مشكلات العيش وهموم الشيخوخة، أو يبكي أسفًا عما ضاع أو هُدر من فرصٍ وإمكانات، لو أُحسن استغلالها لسارت حياته مسارًا آخر أكثر أمانًا واطمئنانًا. نعم لقد انهمرت دموعي عندما وقعت عيني على عبارة «ورم محرز». ولما هدأت قلت في نفسي: عليّ ألّا أستسلم لليأس؛ لأن أمامي مهمة هي أن أكتب مقدمة كتابي (ما بعد الحقيقة)، لعلّ المرض لا يمهلني. وهكذا كان، فخرجت من المنزل إلى حيث أكتب في المقهى، وكأن شيئًا لم يحدث.
ولما قابلت الطبيب المعالج بعد أيام، وأكد لي وجود الورم، سألته كم سنة يمهلني المرض إذا تركت الأمور على غاربها من دون علاج؟ بالطبع كان رأي الطبيب حاسمًا: لا مهرب من العلاج، لأن المرض قد يتفشى، حتى لو كان هذا مجرد احتمال، فالطبيب يشتغل على الاحتمال الأسوأ. وهكذا رضخت لقرار الطبيب بضغطٍ من ابني وشقيقي، مع اقتناعي بأن ترك العلاج قد يكون هو الأسلم. ولا أعرف ما الذي دفعني إلى مثل هذا الخيار: هل لأني شارفت على نهاية عقدي الثامن؟ هل لأنني سئمت تكاليف الحياة وأعباءها؟ أم هو الخوف من مشقة العلاج وأكلافه؟ وأنا الذي رافقت زوجتي الراحلة فاتنة، بعد إصابتها بسرطان الثدي الذي أودى بها، بعد عشر سنوات كانت في جزءٍ منها مسيرة من المعاناة والآلام.
التكوثر السرطاني
لا أريد تبسيط الأمور. فالسرطان بالرغم من كل هذا الاهتمام به والحديث عنه، هو في النهاية مرض مستعصٍ وفتّاك. فبالرغم من التقدم الكبير الذي حققه الطب في معالجته لبعض أصناف هذا الداء، فإنه لم يتوصل، حتى الآن، إلى الإحاطة بالأسباب الحقيقية والآليات الخفية التي تقود الخلية السليمة، لكي تصبح خلية شاذة تتكاثر وتنتشر بصورة مرضية قاتلة. إنه التكوثر المدمِّر. ولهذا فنحن لا نعرف حق المعرفة ما هو العلاج الفعال. وما يفعله الطب له طابعه التجريبي، حتى لا أقول هو من قبيل التخمين. قد نقول، مثلًا، بـأن التدخين هو أحد أسباب السرطان، ولكنّ اللبنانيين الذين عاشوا في الأرياف، في جيل والدي أو جدي، كانوا يدخنون، وأكثرهم مات ميتة طبيعية بعد أن بلغوا من العمر عتيًّا. صحيح أن الطب نجح في إنقاذ حياة الكثيرين، ولكن السرطان ما زال يحصد المزيد من ضحاياه. وأنا أعرف أن معظم من أصيب بالداء من معارفي قد قضوا بالمرض. ولأنه مرض جِينيّ، بنيويّ، متعلق باختلال الخلية، لا باختلال عضو أو عطب شريان، كما في أمراض القلب، مثلًا، فإنه من الصعب الوصول إلى فك اللغز الذي يجعل الجسم يدمّر نفسه، قبل أوان الشيخوخة، من دون الوصول إلى مسح شامل للخلية التي هي عالَم مركَّب من ملايين العناصر والمكونات التي تقوم بينها علاقات تشابك وتنسيق وتبادل للمعلومات، فيما يخص نشاط كل خلية وعلاقتها بسواها.
التعدد والشخصنة: والسرطان شأنه شأن أي آفة أو طفرة، هو ظاهرة معقدة يحتاج درسها إلى فكر مركب يشتغل أصحابه بمنطق التعدد. وهذا ما يحصل الآن، حيث يشهد طب السرطان طفرة في إستراتيجيات المقاربة وتقنيات المعالجة، الكيميائية والشعاعية، الجراحية والمناعية، التخلقية والنفسية. هذا ما تبيّنه مجله «الانتصار للعلم» (Pour La Science) الفرنسية في عددها الذي خصصته للسرطان، مايو/ يونيو 2018م. نحن إزاء تغيير في النظرة إلى المرض وإلى المريض نفسه، مفاده أن السرطان تعدُّدي، لا أُحادي. حتى في العضو الواحد هناك تعدّد وتنوّع، ما دامت خاصيّة السرطان، أعني خطورته، هي التكوثر والانتشار. من هنا أخذ الطب ينحو منحى الشخصنة، في عملية التشخيص، بحيث يُعامل كل مريض بوصفه حالة خاصة؛ لأن لكل فرد تاريخه وبيئته وفرادته وصدف وجوده، وهو ما يجعله يحتاج إلى معالجة تخصه وحده من دون سواه. هذا المنحى الجديد يتجاوز الاتجاه الذي ساد في الطب منذ أن أصبح علمًا اختباريًّا مع كلود برنار، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبحسب الطب الاختباري يُعامل المريض بوصفه منظومة عضوية تتحكم فيها قوانين الفيزياء والكيمياء، وهذا يتعارض مع النظرة التي تنظر إلى الكائن البشري بوصفه كلًّا تتفاعل فيه مختلف الأبعاد والجوانب.
صحيح أن الإنسان هو كائن طبيعي، ولكن علاقته بجسمه وطبيعته هي علاقة ثقافية، بمعنى أنها تتعلق بنمط التفكير ومنظومة القيم، كما تتعلق بمشاريع المرء وأمانيه وأحلامه. وإذا كانت القيود الميكانيكية التي تتعرض لها الخليّة قد تسبب السرطان، كما يقدّر بعض العلماء، فإن الضغوط النفسية والجروح الرمزية والصدمات الوجودية، التي يتعرض لها المرء، قد يصرفها الجسم انفجارًا في شريان القلب أو جلطة في الدماغ أو خللًا سرطانيًّا في موضع من مواضع الجسم. وأنا لا أستبعد العوامل النفسية في ما عَرَضَ لي. ومع أني أبدو في الظاهر هادئًا ومسالمًا، فإني أشتعل غضبًا في ردود فعلي على المواقف والأحداث التي تُسيء لي أو لا تعجبني، وأخزن عنفًا يعتمل في داخلي ولا أُحسن صرفه، في حياتي العملية، إلى سلوك عقلاني، إيجابي وبنّاء.
مخرطة المستشفيات
إذا كان السرطان هو من الأمراض المستعصية، فإن علاجه هو الأكثر صعوبةً ومشقةً وكلفةً. وأنا منذ اكتشافي، عبر فحص الدم، أن الوضع ليس على ما يُرام، كان عليّ الدخول في طاحونة الطب ومخرطة المستشفيات من أجل تشخيص الداء، بإجراء سلسلة من الفحوص، أولها الحصول على صورة للغدة للتأكد من وجود المرض، وثانيها انتزاع خزعات من المنطقة المصابة وزرعها في المختبر لمعرفة طبيعة المرض ودرجته، وثالثها أخذ صورة شاملة للجسم لمعرفة حجم المرض ووضعيته. وكان أن قضيت عدة أسابيع أتردد بين عيادة الطبيب وبين المراكز أو المختبرات الطبية، تبين بعدها أن المرض ليس متقدمًا ولكنه لم يعُد في بدايته، بل في مرحلة وسطى ويمكن السيطرة عليه، والأهم أنه ما زال محصورًا ولم ينتشر.
السموم والنظائر
عندها انتهت مرحلة التشخيص وبدأت مرحلة العلاج، وكان رأي الطبيب المعالج استبعاد العملية الجراحية لاستئصال الغدّة، فالأفضل لي، اعتماد معالجة من شقَّيْن: المداواة الكيميائية عبر حَقْن الجسم تحت الجلد بمادّة، هي سامّة ولكنها غير قاتلة، من شأنها أن تعمل على تفتيت الخلايا المصابة، ثم المداواة بالأشعة التي تعمل على حرق هذه الخلايا. وقد احتاج ذلك إلى إجراء 37 جلسة لا تستغرق الواحدة منها أكثر من ربع ساعة، يستسلم فيها الواحد لآلة ضخمة، ذات أجنحة تدور حول جسم المريض، تُسلّط الأشعة الخارقة للجسم والعظم والدم على مكمن العلة.
ومع أن هذه المعالجة لا تسبب آلامًا، فإنها استغرقت نحو شهرين قضيتهما كمن ينفذ حكمًا بالأشغال الشاقة. ربما لأنني لست صبورًا، أو لأنني لم أكن أتصور أن تقودني الأقدار إلى مثل هذه العاقبة. وقد خطر لي، في أثناء المعاجلة بالأشعة، أن أقول للطبيب المشرف على هذه المهمة: أليس هذا نوعًا من الكيّ؟ بالطبع هو كي ناعم وفائق الحداثة لا تشعر معه بالألم ولكنه فائق الكلفة. فكان جواب الطبيب: بإمكانك أن تبسّط الأمور وتقول ذلك. في النهاية كانت نتائج المعالجة الكيميائية والشعاعية إيجابية، إذ هبط مؤشر المرض إلى حدوده الدنيا. وبالطبع كان عليّ أن أشكر الطبيب المعالج وأثني على مهارته وجهوده وعنايته، قائلًا: آمل أن نكون قد هزمنا المرض، أو على الأقل نيّمناه لمدة معينة. فكان جوابه أنه يستبعد احتمال تفريخ المرض، وأن عليّ أن أبقى تحت المراقبة، بإجراء فحوص دورية.
هل أنا شُفيت من مرضي؟ لا أعتقد، لأن الجسم يتغير بعد المُداواة، إذ لكل علاج مفاعيله السلبية. هذا ما أشعر به، بعد عشرة أشهر من بداية العلاج. لم أعد كما كنت عليه، بل هناك تراجع أو خلل في غير نشاط أو جهاز مرتبط بالبروستاتا. بالطبع، إن الأطباء يقولون لك: إن هذه حالة مؤقتة سوف تزول بعدها كل المفاعيل السلبية. أما أنا فأتساءل: هل كان من حُسْن حظي أنني أخّرت العلاج لمدة أربع سنوات، عشت خلالها بصورة سوية إلى حد ما، وبحسب ما يطيقه عمري؟ يومها رفض جسمي الاستسلام لآلة الرنين المغناطيسي، لأخذ صورة للبروستاتا، إذ ما إن صرتُ في جوفها، حتى ضاقت أنفاسي وأُخرجتُ منها.
مفارقات الطب
أخلص من ذلك إلى أن للطب إشكاليته ومفارقاته، فهو شأنه بذلك شأن أي نشاط أو حقل أو قطاع، إنما له إيجابياته كما له سلبياته وتداعياته، ومن غير وجه:
أولًا- إن الطب هو فعل مواساة يتجلى في معاملة المرضى بالرفق واللين، فأين نحن اليوم من ذلك في عصر الآلات الضخمة التي أسميها «بولدوزر الطب»، كآلة الرنين ونظائرها التي تعامل المريض بوصفه مجرد جسم مجرَّد من الإحساس. فهل ستنقذنا التقنيات المجهرية، في المستقبل القريب، من هذه الآلات الجهنمية التي اخترعناها لتشخيص المرض ومعالجته ولكن على حساب المرضى؟
وأنا أذكر أن المرأة التي دخلت قبلي في نفق آلة الرنين، كانت تصرخ وتصب اللعنة على زوجها المُقعد الذي سبَّبت خدمتُها الطويلة له آلامًا في الظهر، قادتها إلى خوض هذه التجربة المريرة، التي هي أشبه بجلد الذات. وفي هذا شاهد على أن خدمة المريض قد تولد مريضًا آخر، وأن إطالة أمد الحياة يتم على حساب الحياة نفسها.
ثانيًا- هل تطور الطب أدى إلى تراجع الأمراض؟ ما حصل ويحصل هو العكس. هناك أمراض جديدة نشأت أو ظهرت، كمرض الإيدز. فضلًا عن أن الأمراض القديمة قد ازدادت انتشارًا، بسبب التطور الحضاري والتلوث البيئي وتعقيد أنماط الحياة، كما بسبب الضغوط النفسية والتوترات العصبية. وفي بلد كلبنان كانت نسبة الإصابة بالسرطان قبل عقود متدنية، فيما هي اليوم عالية، وهذه هي الحال في معظم البلدان. وفي هذا شاهد على أن تقدم الطب لا يكاد يغطي تزايد الأمراض وانتشارها.
ثالثًا- من حسنات الطب أنه يطيل العمر، كما تشهد المعدلات والنسب. ولكن لكل شيء ثمنه. فالعمر الطويل يفضي إلى تشكيل شريحة من المتقاعدين يمكن أن يعيش الواحد منهم، عقدين أو ثلاثة، بلا عمل، على الأدوية والعقاقير، عاجزًا أو معوقًا أو مُقعدًا يحتاج إلى من يرعاه ويخدمه ويرافقه. وهذا عبء ثقيل تتحمّله الأجيال الشابة والقوى العاملة، كما هي الحال في بعض المجتمعات الغنية والمتقدمة كبريطانيا واليابان والسويد.
الصحة هي الاستثناء
رابعًا- ثمة وجه آخر سلبي، لتقدّم الطب، يجعل الناس تحت رحمة المؤسسات الطبية بمراكزها ومستشفياتها ومختبراتها وأجهزتها. هذا ما يحدث اليوم، مع هذا التطور الهائل في وسائل العلاج وأدواته، وعلى وقع التحذير المتواصل للعموم من الناس بضرورة إجراء فحوص استباقية، كي لا يداهمهم المرض.
وهكذا أصبح لكل عضو في الجسم مختصُّوه وأدواته وفحوصه وتحاليله وصوره وتخطيطاته، وهو الأمر الذي يجعل الواحد، وبخاصة إذا طعن في السن واجتمعت عليه العلل، أن ينتقل من طبيب إلى آخر، ومن مستشفى إلى آخر، ومن فحصٍ إلى آخر، وربما من تشخيص إلى آخر، وذلك بحسب الطبيب. وفي أحيانٍ كثيرة تلجأ المؤسسات الطبية، كي تبقى شغالة، بعمالها وأدواتها ومختبراتها، إلى خلق المرضى، باستدراجهم إلى إجراء فحوص ليست كلها ضرورية. هذا ما يجعلني أقول: أصبحت الآية معكوسة، بمعنى أن الصحة باتت هي الاستثناء والمرض هو القاعدة. وتلك هي المفارقة. فالصناعة الطبية تزدهر بتحويل الناس إلى مرضى.
خامسًا- بإمكان الطب أن يعالج مريضًا بالقلب فيزرع له بطاريةً، أو يستبدل شريانًا بآخر، كما بإمكانه أن يعالج مريضًا غشيَ بصره فيركّب له عدسةً اصطناعية. وهذا إنجاز كبير: إصلاح ما اختل أو تقوية ما ضعف أو تحسين ما هو عادي أو طبيعي.
ولكن الطب أصبح قادرًا، اليوم، على أن يُبقي الشخص حيًّا لمدة طويلة، ربما تدوم سنوات، بعد أن يدخل في حالة الغيبوبة (الكوما) التي لا أمل بالخروج منها وبخاصة إذا كان قد بلغ مرحلة الشيخوخة. ومَنْ هذه حالته يتغذّى ويتنفّس عبر الأنابيب الاصطناعية، هكذا فاقدًا الوعي والحس والحركة واللذة، بحيث يعيش حياته بأقل من حياة حيوان، بل بأقل من حياة نبتة. فالحيوان يحس ويتحرك ويلعب ويلتذ، ولما يستنفد طاقته يموت إذا لم يقتله حيوان آخر أو الحيوان الأعلى: الإنسان. كذلك فالنبتة تزهر وتثمر ثم تذوي وتموت. والموت هو حق وحقيقة، بما هو نهاية طبيعية. ولكن الإنسان، بسبب أنانيته، يحاول إطالة أمد الحياة، بعد أن يفقد ما من أجله تستحق الحياة أن تعاش: الحضور والقدرة والقيمة والوزن والفاعلية.
هذا ما يقودني إلى السؤال الفلسفي حول نمط الحياة. هناك من يؤثر أن يحيا حياته طويلة، وبأي ثمنٍ ولو عاجزًا أو مشلولًا. وفي المقابل هناك من يؤثر الحياة سويّةً، لائقةً، ولو قصيرة. وأنا أوثر نوعية الحياة على طولها.
هل أنا أفكر على طريقة أهل إسبرطة بالخلاص من الضعفاء والمرضى والمُقعدين؟ جوابي أنه: لا مرجع عن إنجازات الطب. ولكن ما للتطور من تداعيات يحملنا على إعادة النظر في مفهومنا للحياة، بحيث يتدرّب الواحد على قبول النهاية الطبيعية، إذا حان أوانها، حتى لا يعيش عبئًا على نفسه أو على سواه، عندما يعجز الجسد ويستنفد طاقته. من هنا أهمية التشريع للموت الرحيم، سواء بقرار من المريض نفسه أم من ذويه. والأهم ألّا نعمل على تدمير الطبيعة، بنباتها وحيوانها، تلويثًا وتبديدًا وتصحيرًا أو استئصالًا وقتلًا، لكي نتكاثر ونعيش حياة طويلة أو مرفّهة. وهذا يحتاج إلى شجاعة فائقة نكسر معها نرجسيتنا، لصوغ مفاهيم جديدة وقيم مختلفة لحياتنا ولعلاقتنا ببقية الكائنات. فنحن لسنا غاية الخلق، ولا أشرف المخلوقات. إن بعض الحيوانات وجدت قبلنا وقد تبقى بعدنا. فهل نعتبر ونتعقل قبل فوات الأوان؟
بواسطة علي حرب - مفكر لبناني | سبتمبر 2, 2018 | قضايا
أين المشكلة؟
مشكلة الإسلاميين، على اختلاف اختصاصاتهم ومذاهبهم، هي واحدة، سواء أكانوا فقهاء أم مفسرين، فلاسفة أم لاهوتيين، دعاة أم مثقفين. وملخص هذه المشكلة أنهم يتمسكون بنص مقدس أو أصلٍ ثابت يعتبرونه الأساس الوحيد لمشروعية الأقوال والأعمال، ولذا لا يملكون الجرأة على إخضاعه للمساءلة والمراجعة. هذه المشكلة تتجسد في مظاهر مختلفة وآليات متعددة: طرح عناوين لا يستطيعون الوفاء بها لأنها لا تمتّ إلى عالمهم الفكري، الدفاع عن قضايا يجهلون أصولها ولا يعرفون ما تبنى عليه أو تؤول إليه، التمسك بشعارات قديمة لا يحسنون سوى انتهاكها والخروج عليها، التناقض الفاضح بين الأقوال والأفعال، بين المبادئ والمقاصد، إلباس الإسلام لبوسًا ليس له، وفي الحالة القصوى يتحوّل ذلك إلى السطو على الأفكار الفلسفية والعلمية، الحديثة والمعاصرة، لنسبتها زورًا وكذبًا إلى الإسلام والقرآن.
الفيلسوف والفقيه
والمثالات كثيرة: هذه حال الفيلسوف الذي يقدم نفسه كفقيه للأمة، مكلَّف بأن يُجدّد لها أمر دينها، فيما خطابه فلسفي ومعارفه هي في أغلبها نتاج للجامعات الغربية. وهذه أيضًا حال الفيلسوف الذي يطالب بإسلام عصري تنويري تعدّدي تقدّمي تحرّري، يحترم حرية الضمير ويساوي المرأة بالرجل، أي بما يناقض تعاليم الإسلام كمعتقد اصطفائي وفكر أحادي وعقل مغلق يشتغل أصحابه بنفي الآخر ووصمه بتُهم الكفر والضلالة، وبالتعامل مع المرأة ككائن من الدرجة الثانية من حيث كرامته وحقوقه وحريته.
ولا أنسى المتفلسف الذي يدعو إلى الاهتمام بالحياة وعدم الغرق في النظريات المجردة، فيما هو يدعو من جهة أخرى إلى ربط الحياة بالحقيقة المطلقة، أي بما يتعدّى التجريد النظري نحو عالم الغَيْب بتهويماته الخلاصية وأوهامه الماورائية. وبالانتقال إلى جبهة الدين، فالأمثلة هي أيضًا عديدة وفاضحة.
هذه هي حال الداعية الذي يقول للغربيين بأن الإسلام يقبل تعدد الثقافات والديانات، فيما المسلمون لا يقبلون بعضهم بعضًا.
ولا أنسى الفقيه الذي يدعو إلى السفور بقوله: يكفي المرأة المسلمة أن تستر العورتين والإبطين، بحيث يمكنها أن تظهر بلباس البحر. وهذا يخالف منطوق الأحكام الشرعية التي لا تجيز للرجل نفسه أن يظهر أمام الملأ بلباس البحر. ناهيك بالمنظّر الذي يقول لك: لم يطبّق شيء من تعاليم الإسلام، وهو ما يعني أنها غير قابلة للتطبيق. أو المفسر الذي يقول: لا أحد يطبّق شرع الله بالمطلق، وهو ما يعني أن الخطاب الإلهي هو نسبي لا مطلق، ناهيك عن المفسر الذي يطالب بتحقيق إضافات على الشرع الإسلامي، فيما هو يفكر بعقلية المفسر أو الشارح؛ لأنه يبحث عن مسوغ شرعي للإضافات، في الآيات أو الأحاديث أو في اجتهاد العلماء.
منظومة مستهلكة
نحن إزاء نماذج تشهد على أن ما يصنع خطابات الإسلاميين ومواقفهم هو الجهل والخداع أو الزيف والنفاق. هذا هو المأزق الذي ينقاد إليه المدافعون عن الثقافة الإسلامية، أو الداعون إلى إقامة دولة الخلافة لتطبيق الشريعة تحت شعار: الإسلام هو الحل والبديل. إنهم يدافعون عن منظومة ثقافية قد استهلكت وآلت إلى انحطاطها منذ زمن، ولم يعد بالإمكان اعتمادها كصيغة للعمل الحضاري، أو كأساس لمشاريع النهوض والتقدم، أو لبناء علاقات تحكمها قواعد المداولة والشراكة. من هنا فإن محاولات استعادتها من جانب الإسلاميين أفضت أولًا إلى الإطاحة بالمكتسبات الحضارية التي حققتها المجتمعات العربية بعد دخولها في العالم الحديث، وانتهت ثانيًا هذه النهايات الكارثية، كما تتجسد في الحروب الأهلية بين المسلمين، وفي إدخال العرب والعالم في عصر الإرهاب. هذه حصيلة المشروع الإسلامي والصحوة الإسلامية والنهضة الإسلامية: عودة الاستعمار عودته المدمرة والبربرية، وعودة الدين عودته المرعبة والمظلمة.
التجديد والتطوير
وإنه لمن الخداع للنفس والغير، أن ندعي تجديد قراءة القرآن، لأن التجديد إذا لم يكن مجرد «شرح»، أو قياسًا للفرع على الأصل أو للحاضر على الماضي، إنما يعني فتح ملف الدين بوضع الأصول والفروع على مشرحة النقد التنويري، بما يعنيه التنوير في مستواه التحرري من الجرأة على كسر الوصاية على العقل بقول ما يمنع قوله أو الجدل فيه؛ وبما يعنيه على المستوى المعرفي من القدرة على تفكيك الممتنع، بالدخول على المناطق المستبعدة من التفكير، وعلى النحو الذي يتيح تجديد أطر النظر وقواعد العمل، أو بتطوير مفهوم العقل أو تجديد صيغ العقلنة.
بهذا تتعدّى المسألة الخلافَ على منهجية التفسير، بحيث يجري العمل، لا على تحييد الأصول من عمل النقد، بل على إعادة النظر بمفردات الخطاب الديني… وذلك بوضعها على مشرحة الدرس والتحليل، لتعرية مسبقاتها وهتك بداهاتها أو فضح طياتها ومحجوباتها. الأمر الذي يتطلب استخدام أو ابتكار عدة جديدة، من الرؤى والمفاهيم أو النماذج والقيم تترك أثرها التحويلي في عقل المسلم، بقدر ما تحرّره من عبادة الكتب والأشخاص.
قراءات نضالية
غير أن ما نشهده من تفاسير وقراءات مُتداوَلة، لم يأتِ بالجديد من الأفكار الخارقة والمعارف القيمة، بل هو لا يرقى إلى ما أنجزه القدامى. فقد أعمل هؤلاء عقولهم في النص، تفسيرًا وتأويلًا، أو تشكيكًا وتفكيكًا، وكانت الحصيلة أن طوّروا العلوم والمعارف القديمة، وافتتحوا فروعًا معرفية جديدة، كالتفسير وأصوله أو الفقه وأصوله، فضلًا عن علم الكلام ومدارسه. أما المعاصرون فلم ينجحوا في تقديم قراءات خلّاقة تحوّل العلاقة بالتراث الهائل إلى عملة ثقافية راهنة تصلح لبناء حياة معاصرة. بل هم، وانطلاقًا من إيمانهم الأعمى بأن النص القرآني ينطوي على العلم بكل شيء، لم يتركوا نظرية علمية مبتكرة، إلا وقالوا بأن القرآن قد سبق العلماء للنص عليها أو الإشارة إليها. وهكذا فما هو متداول هو قراءات أيديولوجية، دفاعية، تعيد إنتاج المشكلة، فيما هي تدعي إيجاد حل لها.
المقدس مآله الانتهاك
والعلّة في ذلك أن أصحابها يقرؤون كتبهم وأصولهم بمنطق تقليدي هو منطق المماهاة والثبات، فيما نحن نتجاوز هذا المنطق نحو منطقٍ تحويلي علائقي تنكسر معه مقولة المطابقة على غير مستوى: الأول هو أنه لا تطابُقَ بين المقروء والقارئ. فكلّ قراءة للنص تختلف عنه. والفارق بين واحدة وأخرى هو أن هناك قراءات هشّة، سطحية، اختزالية، مقابل قراءات خصبة، تحويلية تجدّد معرفتنا بالنصّ وبالمعرفة. وهكذا لا قراءة تقبض على معنى النص، بل كل قراءة فعّالة تشكل هي نفسها واقعةً تخلق حقيقتها، لكي تندرج في سجل الحقيقة وتُضاف إلى رصيد المعرفة. الثاني هو أنه لا فكرة تبقى على ما هي عليه بانتقالها من مستوى إلى آخر، كالانتقال من صعيد النظر إلى مستوى العمل، بل يُعاد إنتاجها أو ابتكارها إمّا بصورةٍ إيجابية وبنّاءة، أو يجري إفقارها ومسخها، أو تُتَرجَم بضدّها كما تُتَرْجَم الأفكار التي تُعامَل كيقينيات أو معسكرات. الثالث والأهم أنّ المطلقات والمقدّسات والمتعاليات لا يمكن أن تترجَم إلا على سبيل الخَرْق والانتهاك أو التبديل والتغيير، على أرض الواقع البشري بما هو طارئ ومُفاجئ أو متعدد ومتغير أو متناهٍ ومحدود. ولذا لا جدوى من التعامل مع النصوص الدينية بوصفها المرجع الأوحد والمقدس للمشروعية. الأجدى أن تُعامل كتراث حي، بحيث تُقرأ قراءة نقدية تنويرية، بالمعنى الإيجابي والبنّاء، بوصفها مساحة للإمكان يجري العمل عليها، في ضوء التحولات الهائلة والتحديات الكبيرة التي يشهدها العالم، لابتكار حلول أو إيجاد مخارج للأزمات الحضارية والمآزق الوجودية التي تواجهها المجتمعات المعاصرة.
المواطنة والهوية
في ضوء هذه المقاربة، فإن المشكلة هي نقيض ما يحسبه الإسلاميون. إنها ليست في كون الثقافة الإسلامية، التي يعدّونها المرجع والحصن، هي الآن في خطر، بل في كون هذه الثقافة، التي يتعاطى معها أهلها بصورة فقيرة، عقيمة، عدوانية، هي مصدر الخطر على المجتمعات العربية، بعقائدها الاصطفائية وثنائياتها التكفيرية، بنماذجها البائدة ودعواتها المستحيلة. من هنا لا مخرج من المأزق، من دون الخروج من الفلك الديني. وذلك يقتضي أمرين: الأول هو إطلاق حرية الاعتقاد وكسر وصاية رجال الدين على العقول والأجساد. والثاني هو نزع الصفة الدينية عن المجتمعات والدول العربية، للاكتفاء عند تعريف الهوية بالصفات والعناصر التي تتعلق بالبلد والوطن أو اللغة والانتماء للمجموعة العربية. وهذا المطلب يكتسب أهميته اليوم، على المستوى العربي، كون الإسلام ليس هو المستهدف، بل أكثر من بلد عربي، من جانب اللاعبين على مسرحه، من روسٍ وأميركيين وإيرانيين، تفوقوا على إسرائيل في أعمال التهجير والقتل والتدمير.
وإذا كان العالم قد خرج من الحداثة إلى ما بعدها، ومن العلمنة إلى ما بعدها، ويكاد يخرج الآن من الحقيقة إلى ما بعدها. فذلك لا يعطي مصداقية للمشروع الديني. بالعكس ثمة أفق ينفتح أمام المجتمعات العربية لكي تنصرف إلى تدبر شؤونها وبناء حياتها، بابتكار ما تحتاج إليه من الصيغ والعناوين أو النماذج والمفاهيم أو القيم والأساليب التي تمكنها من صنع حقيقتها وممارسة حضورها على المسرح العالمي، عبر المشاركة الخلاقة والبناء في صناعة الحضارة القائمة.
صناعة مشتركة
لنحسن القراءة كي نجد المخرج، بحيث نفكر بصورة مختلفة. لم تعد تجدي محاولات البحث عن شرعية للدعوات والمشاريع أو للأقوال والأعمال، في هذا النص أو ذاك، كما يُفكر صاحب العقل الأصولي الذي تستعبده أسماؤه وأصوله وثوابته. إن المشروعية العُليا، التي يريد أصحابها إدارة دولة أو تنمية بلدٍ أو النهوض بمجتمع، لا تقرّ اليوم بالرجوع إلى الكتب المقدّسة أو إلى مبدأ الواحد الذي لا شريك له. إنها ليست مقدسة ولا واحدة، بل متعددة المصادر. ولها آليات إقرارها وإنتاجها أو تعزيزها وتفعيلها، ومن غير وجه:
كسر نرجسيتنا الثقافية بالانفتاح على ما تنتجه أو تبتكره المجتمعات الغربية وسواها، من الأفكار والمعارف أو الصيغ والنماذج، للإفادة منها واستثمارها في أعمال النهوض والبناء. هذا هو التحدي. ليس السطو عليها، بل العمل على تجديدها في ضوء التحديات والتحوّلات. بهذا المعنى فالمشروعية لا تستمد مما قرره وأفتى به الماضون، بل مما نصنعه وننجزه في مجالٍ من المجالات، كي لا نعيش عالة على الماضين أو على المعاصرين.
اعتماد الديمقراطية كنظام لتداول السلطة عبر الاقتراع العام. غير أن الديمقراطية لم تعد مجرّد ديمقراطية موسمية، معطلة، تجري كل أربع سنوات. إنما هي ديمقراطية، حية، يومية، مركبة، تتطور بفتح مفهومها على ممكناته. من هنا الكلام اليوم على أكثر من شكل ديموقراطي، قطاعي، أو ميداني، أو ميديائي…
إدارة الشؤون والأعمال بمبدأ الاعتراف وقواعد الحوار والتسوية أو التنسيق والتعاون أو المداولة والشراكة. ولا سيما أننا ننتقل من المجتمع النخبوي إلى المجتمع التداولي، الذي هو شبكة تأثيراته المتبادلة وصيرورة تحولاته المتواصلة. وفي المجتمع التداولي كل فرد يملك قدرًا من الخبرة والمعرفة، وكل مواطن هو فاعل ومشارك، بقدر ما هو منتج ومبتكر. وكل فكرة مبتكرة تحتاج إلى التحويل الخلاق لكي تتحول إلى إجراء تنموي أو تطور مجتمعي أو سلوك ثقافي، بحيث أن من يطلقها أو يتبناها أو يستثمرها، يقوم بتطويرها ويعمل على إنتاج نسخته الخاصة منها.
بهذا المعنى فالفكرة المثمرة والبنّاءة، ليست هي التي تصح في أذهان العلماء والفلاسفة، بل هي التي عندما توضع على محك التجارب تسهم في تغيير الواقع بقدر ما تتغير هي نفسها. إنها إمكاناتها على الفهم والتشخيص، بقدر ما هي طاقتها على الفعل والتأثير في المجريات.
من هنا لم تعد المشكلة تتعلق اليوم بغياب الأفكار الكبيرة التي ينتجها العلماء والفلاسفة، كما كان الحال في عصر الروايات الكبرى والنظريات الشمولية والأيديولوجيات الخلاصية التي آلت إلى الغرق في الطوباويات الفردوسية أو إلى إنتاج أنظمة شمولية وأحزاب فاشية.
الأجدى أن نتحدث عن أفكار حية، خلاقة، فعّالة هي صناعة مشتركة يساهم فيها كل الفاعلين الاجتماعيين، كلٌّ بحسب موقعه واختصاصه. بذلك تأتي قرارات السلطة السياسية، بوصفها حصيلة كل النشاطات والحراكات أو المداولات والاقتراحات التي يشهدها المجتمع بمختلف فئاته وحقوله وقواه.
وإذا كان للمؤسسات الدينية دور تضطلع به، فهو أن تكف عن التصرف كمعسكر عقائدي يمارس أهله الإرهاب الفكري وإقصاء الآخر، بحيث يتم التركيز على القيم الجامعة لبني البشر، كالتعقل والتواصل والتعارف والتكافل، ويجري الاهتمام بحماية البيئة مما يتهددها من أخطار التلويث والتبديد والتصحير. مثل هذا الاهتمام هو أولى من العقائد والشرائع. فهذا أحوج ما يحتاج إليه الآن العرب والعالم. من غير ذلك نهرب من مواجهة المشكلة، لكي نعود القهقرى إلى الوراء، فنضيع الفرص، لكي نشوّه الماضي وندمّر الحاضر أو نلغّم المستقبل.