ملاحظات حول حركة المجتمع المدني في بلدان المغرب العربي.. تونس مثالًا
يعرف هذه الأيام مصطلح المجتمع المدني رواجًا في الخطاب السياسي وأهمية تجاوزت في رأي الدارسين للعلوم السياسية تلك التي حظي بها بداية التسعينيات من القرن المنقضي. فقد كان هذا المصطلح من المصطلحات التي رافقت التحولات الكبرى التي عاشها العالم بداية من سقوط جدار برلين سنة 1989م وتداعي المنظومة الشيوعية في بلدان أوربا الشرقية ثم انهيارها تحت وقع الحراك الاحتجاجي الجماهيري العارم المنادي بزوال الأنظمة الشيوعية الكليانية totalitarians من بلدان أوربا الشرقية.
لم تكن تقود هذا الحراك أحزاب وتنظيمات ولا شخصيات سياسية معروفة لدى الناس وإنما عناصر وفواعل مدنية نظمت نفسها في إطار نقابات، مثل ما كان الأمر مع نقابة تضامن في بولونيا، أو منتديات وروابط وجمعيات وكنائس كما كان الحال في تشيكيا وبلغاريا والمجر وغيرها من بلدان أوربا الشرقية. غير أن هذا الزخم الذي لقيه مفهوم المجتمع المدني وتواتره في الخطاب السياسي بداية التسعينيات من القرن المنقضي لم يستمر طويلًا إذ سرعان ما عادت الأحزاب والتشكيلات السياسية المنظمة التي تكونت حديثًا وخاضت تجارب انتخابية حرة وديمقراطية لاحتلال واجهة المشهد السياسي، وتراجع المجتمع المدني في الديمقراطيات الناشئة في أوربا الشرقية إلى دور ثانوي غير مؤثر في الصعيد السياسي.
أما الديمقراطيات العريقة فقد ظل المجتمع المدني يضطلع عمومًا بأدوار مكمّلة ومساعدة للدولة على الصعيد الاجتماعي مثل العمل الخيري كرعاية المسنين أو مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة أو الحض على التضامن ومساعدة الفقراء وضعاف الحال، غير أن كثيرًا من المتابعين للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في فرنسا لاحظوا كيف أن الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون قد فاز بالرئاسة وحققت القوائم المساندة له المنضوية تحت ما سمي بـــــ«تجمع الجمهورية تسير» نتائج جيدة في الانتخابات البرلمانية بحصولها على الأغلبية، في حين أنها لم تكن تضم وجوهًا سياسية معروفة لدى الرأي العام، ولم تكن تحظى بدعم يذكر من الأحزاب التقليدية الفاعلة، بل إنها هزمت مرشحيها. وقد كان ماكرون مدعومًا أساسًا من وجوه وقوى من المجتمع المدني غير السياسي، وضمت قائمة مستشاريه وأنصاره ونواب كتلته في البرلمان شخصيات لم تكن لها تجربة تذكر في حقل الممارسة السياسية.
حركية آخذة في التنامي
أما في بلدان المغرب العربي فقد أصبح الحديث عن المجتمع المدني ودوره متواترًا جدًّا منذ عام 2011م وتحديدًا بعد انهيار النظام السياسي في تونس، الذي كان يحكم البلاد منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1956م، وسقوط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا في السنة نفسها وقيام تحركات إثر ذلك في المملكة المغربية وفي جمهورية الجزائر مطالبة بتغيير النظام السياسي في اتجاه ضمان مزيد من الحرية ورفع القيود على حركة المجتمع المدني. وبدرجات متفاوتة من بلد إلى آخر من بلدان المغرب العربي، وفق ما تسمح به الأوضاع السياسية والتقاليد الاجتماعية لكل منها، لا تزال حركية المجتمع المدني آخذة في التنامي وتمثل في الكثير من الأحيان، حلًّا لانسداد أفق العمل السياسي وتآكل مصداقية الطبقة السياسية في بعض البلدان مثل ما هو الأمر في المغرب حيث شاهدنا سنة 2017م تحركات شعبية في بلدة الحسيمة، أهم حواضر منطقة الريف الكبرى للمغرب الأقصى، إثر خطأ أمني تسبب في وفاة بائع سمك متجول، تقودها جمعيات وتنظيمات من المجتمع المدني مطالبة بالعدالة والإنصاف ووضع حدّ للتجاوزات الأمنية في حقوق المواطنين، ورفع الضيم عن الحاضرة ووقف التهميش السياسي والاجتماعي لجهة الريف، وهي مطالب رفعت من المجتمع المدني ضد الطبقة السياسية والأغلبية السياسية الحاكمة، التي فازت في الانتخابات السابقة.
كما وفر من جهة أخرى انتشار استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وارتفاع نسبة الربط على الإنترنت وعلى وجه الخصوص في الحواضر المدنية ونموّ نسب التمدرس والتعليم وأتاح إمكانيات كبيرة لاستخدام الشبكة العنكبوتية، للتنسيق بين فعاليات المجتمع المدني لتنظيم حملات أو عمليات مشتركة لتحقيق نفع اجتماعي ما. وقد تجلى ذاك مؤخرًا في المملكة المغربية من خلال نجاح حملة المقاطعة لمنتجات وبضائع بعض الشركات الكبرى الفاعلة في السوق المغربية بسبب رفعها الأسعار أو ممارساتها الاحتكارية. فشركة دانون الفرنسية مثلًا، وهي أكبر منتج للألبان في المغرب، قد أعلنت مؤخرًا عن تراجع حجم معاملاتها في المغرب بنحو 40% وعزت ذلك إلى أثر حملة المقاطعة الجائرة التي شنت ضد منتجاتها.
أما في تونس فقد بدت قوة وفاعلية المجتمع المدني واضحة وقت سقوط نظام الرئيس السابق بن علي وأثناء الحراك الاجتماعي والسياسي الذي تلا ذلك. فالقوى الفاعلة في الحياة العامة في المدة الممتدة من 2008 إلى يناير 2011م تاريخ مغادرة الرئيس بن علي وانهيار نظامه السياسي، لم تكن أحزابًا سياسية لأن نظام الدولة – الحزب الذي كان سائدًا في تونس لم يكن ليسمح بوجود أحزاب تعمل على نحو حرّ ومستقل إذ لم تكن الأحزاب التي يسمح لها بالنشاط إلا تلك الموالية لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الماسك بالسلطة وللرئيس بن علي نفسه، ولم تكن في نيتها لا تحدي سلطة الرئيس في انتخابات حرة ونزيهة ولا منافسة حزب التجمع على الحكم، وكانت تكتفي فقط بالحصول على بعض الامتيازات في إطار سياسة الزبونية والعصا والجزرة التي كان ينتهجها الرئيس السابق تجاه المعارضة. أما الأحزاب المعارضة فعليًّا للنظام فقد كانت معطلة ومهمشة بفعل التضييق الكبير على عملها والمنع المتواصل لأنشطتها إذ لم تكن تستطيع لتجتمع بيسر بالناس أو لتشارك في إدارة الشأن العام أو حتى لتبدي رأيًا في ذلك.
أما منظمات المجتمع المدني التي كان يسمح لها بالعمل القانوني والعلني في عهد الرئيس السابق فقد كانت مرتبطة عضويًّا بالحزب الحاكم وتخدم سياساته، في حين بقيت ثلاث منظمات نقابية كبرى وهي الاتحاد العام التونسي للشغل، الممثلة للشغالين، ومنظمة اتحاد الصناعة والتجارة، ممثلة الأعراف وأرباب الحرف، واتحاد الفلاحين، ممثل الفلاحين، تحت رقابة متواصلة من السلطة السياسية وحرصت دومًا على ألا تصل إلى مواقع القيادة فيها عبر المؤتمرات الدورية التي تعقدها عناصر تصطفيها السلطة السياسية ذاتها وتقبل بها وتغدق عليها العطايا والامتيازات.
وكذلك كان الأمر لمنظمات مهنية أخرى وازنة في المجتمع مثل الهيئة الوطنية للمحامين أو جمعية القضاة أو جمعية الصحافيين أو الهيئة الوطنية للمهندسين أو عمادة الأطباء وغيرها من المنظمات المهنية، فقد حرص النظام السياسي في العهد السابق على ألا يتولى قيادتها إلا من كان مواليًا له وفي حال تمكن من اعتلاء سدة القيادة فيها عبر الاقتراع في مؤتمر من لم يكن يرضى عليه النظام السياسي لا تتوانى السلطة عندها على حبك الدسائس له وتنظيم انقلابات داخل المنظمة التي يقودها وتنظيم مؤتمرات جديدة لفرز قيادة طيّعة تقبل الاشتغال ضمن الشروط التي حددتها السلطة، مثلما حدث لهيئة جمعية القضاة التونسيين سنة 2005م، لتشبثها بمبدأ استقلال القضاء ورفضها خضوع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية، أو هيئة جمعية الصحافيين التونسيين سنة 2009م لدفاعها على حرية الرأي والتعبير ودعوتها إلى رفع القيود على العمل الصحفي والإعلامي.
قانون جديد في تونس
لهذه الأسباب كانت التحركات من مظاهرات واعتصامات بالساحات العامة التي شهدها العديد من مدن البلاد التونسية على نحو متقطع منذ عام 2008م في الحوض المنجمي ثم على نحو متسارع ومسترسل ما بين آخر ديسمبر 2010م ويناير 2011م، خارج كل إطار تنظيمي ومؤسساتي قانوني وشرعي. وبعد سقوط النظام أمكن للجمعيات التي كانت تنشط سرًّا وعلى نحو غير قانوني أن تخرج إلى العلن وتسوي وضعها بفعل تغيير القانون المنظم للجمعيات الذي سن في عهد الرئيس السابق وإصدار مرسوم جديد إثر سقوط نظام بن علي، مكن من إزالة كل القيود على تكوين الجمعيات المدنية التي كانت إدارة وزارة الداخلية تمنع بمقتضاها المواطنين من تكوين جمعيات واتحادات من أجل النفع العام.
وفضلًا عن تمكينه منظمات وجمعيات كانت تتحرك خارج إطار القانون من الحصول على الشرعية القانونية مكن القانون الجديد في ديسمبر 2011م المنظم لعمل الجمعيات، من ظهور جمعيات ومنظمات جديدة وسمح أيضًا مناخ الحرية الذي أشاعه الوضع الجديد بالبلاد لمنظمات غير حكومية أجنبية من العمل والنشاط بحرية في تونس، كان بعضها ممنوعًا من النشاط مثل منظمة الشفافية العالمية أو هيومن رايت ووتش أو يعاني تضييقًا على نشاطه مثل منظمة العفو الدولية، من العمل بأريحية أكبر كما فتح الباب أيضًا أمام هيئات دولية مثل الأمم المتحدة، عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أو منظمات تابعة للأمم المتحدة تعمل على تمكين المرأة ومؤسسات خيرية داعمة لنشاط المجتمع المدني مثل الألمانية هانزسايدل وكونراد إدينهاور وفريدريش نومان وروزا لوكسمبور أو مثل الأميركية هريتاج أو الصندوق الوطني للديمقراطية، من تقديم الدعم المالي لنشاط منظمات المجتمع المدني وهو ما عزز استقلالية هذه المنظمات تجاه مؤسستي الحكومة ورئاسة الجمهورية وتجاه أحزاب الأغلبية البرلمانية ودعّم فاعليتها.
لقد كانت مدة صياغة الدستور في تونس مرحلة عصيبة من تاريخ البلاد التونسية لعوامل عديدة يمكن إجمالها في صعوبة الرهان، إذ يتعلق الأمر بثاني مجلس تأسيسي في تاريخ البلاد بعد أن كان الأول سنة 1958م، سيصوغ دستورًا سينحت معالم البلاد ويرتب المؤسسات لأجيال متتالية وفي المقاومة الشرسة التي أبداها أنصار النظام القديم لكل تغيير يضرّ بامتيازاتهم ومصالحهم، وعدم الاستقرار الأمني والعمليات الإرهابية وضعف الدولة واهتزاز هيبتها ونقص الخبرة وضعف الكفاءة والأداء لدى الطبقة السياسية التي تولت دفة الحكم إثر الانتخابات الديمقراطية الأولى للمجلس التأسيسي التونسي في أكتوبر 2011م. وقد أدت كل هذه العوامل إلى إطالة المدة الانتقالية التي يفترض أن تنتهي بصياغة الدستور الجديد. لكن رغم ذلك تمكن المجلس التأسيسي من إنهاء صياغة الدستور والمصادقة عليه في يناير 2014م وإنهاء المدة الانتقالية بتنظيم الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية الأولى وفق الدستور الجديد. إن أهم ما يجلب الانتباه في الدستور التونسي الجديد حول موضوع المجتمع المدني هو ذلك التنصيص على أهمية دوره في ترسيخ الديمقراطية التشاركية والحوكمة المفتوحة؛ إذ ورد في الفصل 139 من دستور تونس الجديد في باب السلطة المحلية ما يلي: «تعتمد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية، ومبادئ الحوكمة المفتوحة، لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة الترابية ومتابعة تنفيذها طبقا لما يضبطه القانون».
وإذا كانت التجربة الديمقراطية الفتية في تونس تعاني ضعف أداء الطبقة السياسية ونقص الخبرة لديها وضعف رسوخ الثقافة المدنية والديمقراطية لديها وعدم قدرتها على إقناع الناس بوجاهة رؤيتها وصدق نواياها، فقد أكد المجتمع المدني في تونس في مناسبات عدة قدرته على تدارك هذا الضعف وأن يكون قوة مبادرة واقتراح على الصعيد السياسي جنبت البلاد الانزلاق نحو الفوضى والعنف أهمها في نظرنا مناسبتان. كانت الأولى أواخر سنة 2013م حين تصاعدت المطالب بحلّ المجلس التأسيسي وحلّ الحكومة الانتقالية للائتلاف الثلاثي، المتكون من حزب حركة النهضة الإسلامية ومن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل من أجل العمل والحريات، بدعوى فشلها في كتابة الدستور وفي حكم البلاد.
إذ قامت حينها أربع منظمات وازنة داخل المجتمع المدني وهي اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد العام التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان برعاية حوار وطني بين الحكومة الانتقالية آنذاك وجبهة أحزاب المعارضة، أفضت إلى وفاق شامل حول خارطة طريق صُودِق بمقتضاها على الدستور من طرف المجلس التأسيسي وتشكيل حكومة كفاءات ترأسها المهندس مهدي جمعة لمواصلة إدارة المرحلة الانتقالية وتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية وفق الدستور الجديد، وهو ما مكن من إنهاء الأزمة والانتقال إلى الوضع الدائم. وتعد تجربة الرباعي الراعي للحوار الوطني المتكون من منظمات المجتمع المدني تجربة رائدة في تحقيق السلم والديمقراطية ولاقت استحسانًا في البلاد وخارجها، وليس أدل على ذلك من حصول هذا الرباعي الراعي للحوار على جائزة نوبل للسلام لسنة 2015م. وتعد هذه التجربة اليوم مثالًا يحاول الأشقاء الليبيون الاستلهام منه لتنظيم حوار وطني تشارك فيه القوى المدنية والأهلية بكثافة، لإنهاء الأزمة في بلدهم ووضع دستور يضع أسس استقرار البلاد ويحقق السلم والأمان والديمقراطية والعدل لكل المواطنين.
أما المناسبة الثانية التي أظهر فيها المجتمع المدني في تونس قدرته على أن يكون بديلًا عن الأحزاب السياسية، فقد كانت في الانتخابات البلدية الأخيرة في مايو 2018م، حيث فازت القوائم المستقلة التي تضمنت مرشحين من المجتمع المدني بالعدد الأكبر من الأصوات 32٫2% في حين لم يحصل حزب النهضة صاحب الأغلبية في البرلمان إلا على 28.6% من الأصوات ولم يحصل حزب رئيس الجمهورية، أي حزب النداء من أجل تونس، إلا على 20.8% من الأصوات. ويبرهن كل ذلك أنه حينما تضعف ثقة المواطنين في الأحزاب السياسية يتجهون إلى منح الثقة إلى قوى وعناصر من المجتمع المدني. وبطبيعة الحال يتوقف مدى نجاح هذه التجربة حينما يتحول المجتمع المدني من سلطة مضادة ورقابية إلى دور يتعهد فيه بمهام حكمية وتدبرية وينتقل إلى مواقع القرار على الصعيد المحليّ، وبخاصة بعد الصلاحيات والاختصاصات المهمة التي عُهدت للبلديات في القانون الجديد للجماعات المحلية، التي صودق عليها في شهر إبريل 2018م على قدرة القيادات المدنية الجديدة على تحقيق ما وعدت به وتوفير الخدمات الضرورية للمواطنين.
وجماع القول أن في تجربة المجتمع المدني في تونس والحركية التي تعرفها فاعليات المجتمعات المدنية في بلدان المغرب والجزائر وليبيا وموريتانيا، تطورات إيجابية ومهمة من شأنها أن ترشّد العمل السياسي وتوجهه صوب خدمة الصالح العام إذا توافرت في رأينا شروط أربعة. وهي أولًا، وجود دولة قانون تحترم استقلالية المجتمع المدني وتؤمن بدوره وتتعاون مع منظماته فيما يخدم المصلحة المشتركة التي بعثت تلك المنظمات لتحقيقها وتفرض عليها أيضًا احترام معايير الشفافية والإفصاح عن مصادر التمويل وقبول المحاسبة من المحاكم والهيئات الرقابية المختصة في هذا المجال.
ثانيًا، ألّا يسعى المجتمع المدني للحلول محل الأحزاب السياسية أو أن يعمل على تهميش دورها، فبناء ديمقراطية مستقرة ودولة قوية عادلة ومحايدة لا تنحاز لطرف اجتماعي أو سياسي ضد آخر يقتضي دورًا فاعلًا للأحزاب السياسية ذات البرامج الوطنية الواضحة التي تضع مصلحة الدولة واستمرارها عبر الأجيال غايتها الأولى؛ لذلك لا ينبغي أن يكون الوضع الحالي حيث أصبح في تونس المجتمع المدني بديلًا عن الأحزاب إلا ظرفيًّا، في نظرنا، ولا ينبغي العمل على إدامته. ثالثًا، ينبغي لفاعليات المجتمع المدني وبخاصة النقابات التي تمثل مصالح حرف ومهن ألّا تتقوقع في دائرة المصلحة الخاصة بالقطاع الذي تمثله وتذود عنه. فقد رأينا في تونس نقابات مهنية مثل نقابة المحامين أو الأطباء أو الصيادلة تدافع عن مصالح منظوريها حتى فيما يتنافى مثلًا والعدالة الجبائية وترفض الرقابة على الدخول لتوظيف الضرائب المناسبة. أما النقابة الأولى في البلاد وهي الاتحاد العام التونسي للشغل فقد خرجت، في رأينا، عن دورها التقليدي والنقابي ويصرّ قادتها على مواصلة القيام بدور سياسي مطالبين بحقهم في عزل الحكومة وفي تعيين وزراء من دون تفويض شعبي عبر الانتخاب وهذا لعمري انحراف خطير وضرب لمبادئ الديمقراطية ولمعنى المجتمع المدني.
أما الشرط الأخير فيتمثل في تعهّد المجتمع المدني بدور فاعل في إشاعة ثقافة مدنيّة تكرّس القيم التي وردت في الدستور وترسخ الفضائل المدنية من حسّ عدالة واستعداد للتكافل واحترام للقانون ومشاركة في إدارة الشأن العام وتفاني في خدمة الصالح العام وتثري ذلك الرأسمال الرمزي الذي أسماه روبرت بوتنام في كتاب كيف تنجح الديمقراطية (القاهرة 2006م) بالرأسمال الاجتماعي، فحيث يرتفع منسوب هذا الرأسمال في مجتمع ما تقوى فاعلية المجتمع المدني ويجد الحكام أنفسهم تحت رقابة متواصلة منه وحيث ينخفض تتراخى رقابة المحكومين على الحكام ويتراجع دور المجتمع المدني وتنحرف السلطة نحو الاستبداد.