قراءة الصُّور وصور القراءة
ترجمة: ربيع ردمان – مترجم يمني
الصور البصرية واللغة اللفظية أداتان أساسيتان يعبر بهما البشر عما يخبرونه من تجارب الحياة. وما الفنون البصرية والأدب إلا طرائق لاستعمال هاتين الأداتين فنيًّا في التمثيل والتواصل. يرى بعض الدارسين أن هذين النوعين من وسائط الاتصال يختلف بعضهما عن بعض بشكلٍ كبير، فيما يرى آخرون أن أهدافهما وسبل تحقق هذه الأهداف تبدو متشابهة بطريقةٍ تبعث على الدهشة. وسوف نعمد في السطور التالية إلى توضيح جوانب من هذه الاختلافات والتشابهات.
يعتمد كل من الكلام والإدراك البصري على الصورة، لكن ذلك لا يدني بهما إلى حال التطابق بحيث يمكن القول: إن إدراك صور الكلمات يتم بالكيفية ذاتها التي يتم بها إدراك صور العالم الطبيعي التي تنعكس على السطوح الشبكية للعينين. والخبرة التي نحوزها حينما نفتح عيوننا ونُعرِّض أنفسنا سلبيًّا لحضور العالم الخارجي، تعدُّ من الخبرات الأقرب إلى مادة الرؤية الخام الطبيعية. إن انعكاس ذلك العالم الخارجي داخل النطاق الذي يغطيه حقل الإبصار يبدو كما لو أنه يُقدِّم نفسه على نحوٍ كلي وموضوعي. لكن، عمليًّا، يتم تعديل هذا الحضور الأولي للعالم الخارجي على الفور من خلال العمليات النشطة التي ندعوها بالإدراك. فالرؤية لا تقوم على التسجيل الآلي للمثيرات بل تشتمل على الاختيار والتنظيم، وهاتان الأخيرتان نشاطان معرفيان يرتبطان على نحوٍ مباشر بالمعرفة والفهم.
تُقدِّم اللغة نفسها بوصفها وسيطًا مختلفًا اختلافًا متميزًا، فهي تتكون من أصوات مجرَّدة أو أشكال ارتبطت بمعنى ما عن طريق العُرف المجرّد. «فالمعنى»، هنا، يشير بالدرجة الأولى إلى الخبرات الحسِّية التي يعتمد عليها الوعي الإنساني، ومن ثم فالكلمات في لغة ما تكتسب معناها من خلال استحضار أنواعٍ من الإدراكات الحسية التي اقترن بها التقليد الاجتماعي. وعلى الرغم من أن كلًّا من الأدب والفن البصري يعتمدان على الصور، فإن الصور التي تستدعيها الكلمات هي صور غير مباشرة. إنَّها صورٌ ذهنية تُستمد في جزئها الأكبر من التصورات المباشرة التي يتم تخزينها أثناء حياة الشخص، وتتفاوت طبيعة هذه الصور من الأكثر اكتمالًا إلى الباهتة للغاية، وقد تبدو الصور في الحالة الأخيرة صورًا من دون أية خاصية إدراكية. أما تلك الصور الأقرب إلى الانعكاس البصري فتُعرف بالصور التصويرية [وهي أحد أنماط الصورة الذهنية]، إنها صور مطابقة للأشياء التي جرت رؤيتها واختبرها عدد من الناس. وأفضل ما يمكن أن توصف به هو أنها إثارات فسيولوجية بدلًا من عدّها نتاجات نموذجية للذهن وهي ما نطلق عليها الصور الذهنية.
ومتى استُحضرت الصور الذهنية من خلال الأدب فإنها قد تغدو صورًا مجسدة تمامًا. فبعض القراء لقصة ما قد يصفون لون شعر البطلة ولباسها على الرغم من أن المؤلف لا يزوِّد القصة بمثل هذه التفاصيل. فما يخبره الآخرون لا يعدو كونه تبديلًا للخصائص التعبيرية التي تضطلع بها وتحكمها الحوامل الغامضة في الصور المجازية أو الأماكن أو الأحداث. وهؤلاء، في الواقع، هم أفضل القراء متى انحصر تصورهم في السمات التي قدّمها الكاتب بالفعل. فالكاتب البارع هو الذي يجيد توظيف قدرته في تحديد وصف ما يُعنى باختياره، ولن يكون بمقدور القراء إدراك المستوى الخاص لهذا التجريد ما لم يبقوا تصورهم في إطار ما يُقدَّم.
وبطبيعة الحال، يخوَّل الرسامون والنحاتون سلطة أكبر بشكلٍ لافت في تحديد مستوى من الواقعية التي تُتَلَقَّى فيها أعمالهم الفنية. حتى إذا قصد المشاهدون إساءة استعمال خيالهم فسوف يجدون صعوبة في التزوّد بما يساعدهم على ذلك، مثال ذلك تمثال الخشب الإفريقي المنمنم للغاية بتفصيلات هيكله وتجهيزاته النابضة بالحياة.
من هنا، يبدو أن هناك تشابهات جوهرية بين طرائق هذين النوعين من وسائط الاتصال في نقل رسائلهما. بيد أن الاختلافات بينهما تصبح ظاهرة للعيان في هذا الصدد عندما لا تقتصر المهام الفنية على مجرد وصف المواقف والأحداث المادية، بل تنداح إلى تمثيل الأفكار التي تميِّز التجربة الإنسانية. فاللغة تشير بشكلٍ مباشر إلى مفاهيم مثل «الحب» أو «الطموح»، في حين أن ما يُقدِّمه الفن البصري لا يعدو أن يكون أشكالًا وألوانًا وأحيانًا حركة. فكيف يتسنى للمرء التفكير في الصور؟ سأحاول أن أوضّح الإجابة عن هذا السؤال من خلال الإشارة إلى الطرائق المتباينة التي يتعامل بها كل من الشاعر والرَّسام مع أيّ موضوعة يود أن يعكس من خلالها فلسفة الحياة الأساسية.
دولاكروا وهاملت
استخدم الرسام أوجين دولاكروا مشاهدَ من مسرحية هاملت لوليم شكسبير في بعض رسوماته وطبعاته الحجرية. رسم دولاكروا هاملت في العديد من مشاهد المسرحية منها مقابلته مع الشَّبَح، ووداعه لأوفيليا، ومشهد قتله لبولونيوس. غير أن دولاكروا كان مفتونًا بشكلٍ خاص بمشهد لقاء هاملت وهوراشيو مع حفاري القبور. وفي ذلك المشهد يصل تألق شكسبير إلى مداه الكلي، حيث يُظْهِر هاملت وهو يُجادل بشأن الانتحار، ويُقارن مجهولية الجمجمة الهامدة بشخصيات السياسي ورجل البلاط والمحامي وربما الجمجمة تعود إلى إحدى هذه الشخصيات. كما يقارن بين ما كان عليه المهرّج يوريك الودود من إنسانية والحالة التي تبدو عليها جمجمته في المقبرة. ثم يتأمّل هاملت في العظمة البطولية للإسكندر الفاتح الذي آل في نهاية المطاف إلى التراب. وحين ننتقل من هذا التوقد الذهني الحاد لدى شكسبير إلى لوحة دولاكروا في اللوفر، قد تغوينا بشكل غير منصف المقارنة بينهما ونتذمر من أن الرسام لا يمنحنا شيئًا من هذه الأفكار القيمة، فما يُقدِّمه لنا مجرد مشهد طبيعي للأمير وصديقه وهما يقفان هناك بجانب القبر. غير أن هذه المقارنة تغدو مُغريةً خصوصًا عندما نمعن النظر في إحدى فقرات مفكرات دولاكروا (23/ 9/ 1854م) حيث يتحدث تحت عنوان: «عن الصمت والفنون الصامتة»:
«أقرُّ بنزوعي إلى الفنون الصامتة، إلى تلك الأشياء الخرساء التي قال عنها نيكولاس بوسيان (1594 – 1665م): إنها كانت حرفته. اللغة لا تُخفي شيئًا، فهي تقتفي أثرك، وتجذب انتباهك وتحرضك على النقاش. ويبدو الرسم والنحت أكثر وقارًا – إذ لا بد للمرء أن يذهب إليهما ويسعى نحوهما (…) إن عمل الرسام والنحات هو كل قطعة تتشابه مع أعمال الطبيعة. فمؤلفها ليس حاضرًا فيها، ولا يشغلك أن توافق الكاتب أو الخطيب. فالرسام والنحات يقدمان حقيقة ملموسة بطريقةٍ ما، ولكنها مع ذلك مليئة بالغموض».
فما الذي يفسّر، إذن، في هذه الواقعية الغامضة للصور؟
كيف يُبنَى رسم دولاكروا؟ أول ما يلفت انتباهنا هو مقدمة الموت بالقرب من مركز لوحته الهندسي؛ إذ يُبرز تراصُّه المعزولُ الرمزيةَ التصوريةَ للفناء بوصفه موضوعةً. يندفع حفار القبور في تحدي الموت بقسوة حيث ينبثق من الأرض ويستهل الخطَّ القُطْري [قطر اللوحة المستطيلة] بقوة مستهدفًا وجه الأمير الناعم. ويعدُّ هذا الخط القطري إحدى الانتقالات الحيوية الأكثر فاعلية التي يمكن أن يتصرف فيها الفنان في مجال الفنون البصرية. وهنا يُهاجِم كما لو كان قذيفة مدفعٍ الشموخَ العمودي لوجهي الشخصيتين: الأمير ورجل البلاط اللذين يمثِّلان الرخاء الدنيوي ويتوسطان عاليًا بين الغيوم. ويجري تكثيف المشهد المسرحي في صدام تجريدي بين سطوع السيادة وظلمة الموضوع، بين الأعلى والأدنى؛ إنها مواجهة لا تخلو من وجود تأثير، فيبدي رأسا الرجلين نوعًا من التراجع في تعامدهما. ويُقدَّم ذلك على أنه رد فعل على استخفاف الخط القُطْري المُواجِه، وتُعزِّز هذا الردَّ إيماءةُ الانسحاب التي أدتها يدا هاملت. وبوسع المرء أن يسهب في هذا التحليل بوصفه دليلًا إضافيًّا على الرمزية الذكية التي يخضعها الرسام في تركيبه للمشهد البصري. لم يسبق لأحد أن تنبَّه لأفكار شكسبير عن اللقاء عند قبر يوريك كما أبرزها الرسام بشكلٍ واضح، لكن المباشرة التي تقوم عليها استعاراته البصرية ليس لها نظير في الوسيط غير المباشر للغة اللفظية. وبطبيعة الحال، فإن حوار شكسبير لا ينهض بالمهمة التي كرست لها لوحة دولاكروا. كما لا يتعين وصف الأحداث الخارجية للمشهد كما تجري على المسرح، بل التعامل مع الأفكار التي تقدمها شخصيات المسرحية. غير أن الأفكار التصورية لا تستطيع مواكبة المقولات الأدبية فتعمد إلى تهذيبها عند تقديمها في صور. فلكل مقولة من المقولات مسرحها الذي تُبتكَر فيه، وكل مسرح يختلف اختلافًا تامًّا في عرضه للمسرحية عن المسرح الآخر. ولنأخذ وصف حفار القبور للاختلاف الأخلاقي والقانوني بين أن يعمد المرء إلى إغراق نفسه وبين أن يُغرَق:
«امنحني فرصة أوضِّح لك. هنا موضع الماء حسنًا، وهناك يقف الرجل حسنًا. إذا ذهب الرجل إلى ذلك الماء وأغرق نفسه فهو الذي ذهب إليه سواء أراد أم لم يرد. ألا ترى؟ لكن إذا كان الماء هو الذي ذهب إليه وأغرقه فلا يكون هو من أغرق نفسه. الذي لم يأثم بقتل نفسه لا يكون قد أقصر عمره».
يختلف الأداء الذهني الذي يعكسه جدل العقل عن المتانة المادية في مشهد بصري يُتَلَقَّى فعليًّا. ويستطيع ذهن المتكلم أن يستحضر مشهدين بدلًا من مشهدٍ واحد بناءً على قوة تخيّله، ومن ذلك مشهدُ الرجل الذي يُغرِق نفسَه وذلك الآخر الذي أغرقه الماء. ويمكن أن تُختزل المَشَاهد في عناصرها الأساسية، فلا شيء سوى الرجل يتحرك نحو الماء والأخير يتحرك نحو الرجل، ويمكن أن توضع في تعارض منظومي يُؤخذ منه الحكم الأخلاقي.
فالحيل البارعة، التي يمكن للفكر أن يجعل منها موضوعًا لتخيُّله في الكلام اللفظي، هي ما تُصوِّره على نحوٍ أفضل الفقرةُ الأخرى من مشهد هاملت نفسه. يقول الأمير متعجبًا من حذاقة حفار القبور: «لقد لاحظتُ يا لورد هوراشيو في هذه السنوات الثلاث أن العصر يتغير بسرعة بحيث أصبحتْ قَدَم الفلاحِ تُداني كعبَ رَجُل البلاط وترضُّ دمَامِلَه» بمعنى تفرُك القُرَح الجلدية على كعبه. فالمقارنة بين السلطتين الثقافيتين المنتميتين إلى طبقتين اجتماعيتين تُرجمتْ إلى تجاورٍ جسدي لشخصين منفردين يقف بعضهما إلى جوار بعض، وينتج المثير العقلي عن طريق الالتصاق الذي يغدو بمنزلة إصابة طبيعية لكعب رَجُل البلاط الناعمة. وهذا التحويل المجازي لحقيقة مجردة إلى صورة مجسَّدة هو المادة التي يمتح منها الفن.
إثراء الأعمال الأدبية
يمثل الجمع بين التأكيدات النظرية والصور السردية إثراءً إضافيًّا في الأعمال الأدبية ويجري ذلك من خلال الخصائص الصوتية التعبيرية للكلمات. ويميّز الإيقاعُ، بصفة خاصة، طبيعةَ الكلام والأحداث التي تُوصَف في القصة. مثال آخر، من سِفر الأمثال (7: 1 – 18)، سوف يوضِّح وجهة النظر. يتضمن هذا المقطع من الكتاب المقدس (نسخة معتمدة) نصائح يوجهها الأب لابنه، وهي تبدأ بمجموعةٍ من الأوامر. تعمل وصايا الأب على تثبيت الرسالة فيها بصورة حيوية عن طريق تكرار الوصايا مع الضرب الإيقاعي في طَرْقٍ متعدد. فالأمر الأول هو أكثر الأوامر تجريدية: «يا بُنَيّ احفظ كلماتي واذخر وصاياي معك»، في حين الأمران التاليان يثبتان الصورة: «احفظ وصاياي فتبعث فيك الحياة، وصُن شريعتي كحدقة عينك»، «اعقدْها على أصابعك، واكتبها على لوح قلبك». غير أن التعدد الكبير للاستعارات ذاتها يجعل الواحدة منها تبطل مفعول الأخرى بتشتيت الذهن ومنعه من التركيز على أي صورة منها. يعرض الأمران التاليان موضوعةَ المرأة: «قل للحكمة: أنتِ أختي؛ وادعُ الفطنة أنتِ قريبتي». يستمد مصطلحا الحكمة والفطنة الباهتان قوةَ وجودهما بطريقة إدراكية من خلال إدخال العلاقة الأسرية، لكن، من الجانب المقابل، فإن الأخت والقريبة يفقدان جزءًا من وجودهما لخدمة الكلام المجازي على نحوٍ كليّ.
غير أن الكاتب، الآن، وبلمسة فنية بارعة يصبّ صورة المرأة بقدرٍ أشد من التجسيد. وتتحول العمومية المجازية للأخت والقريبة إلى صورة ملموسة لامرأة مُغْوِيَة: «فهما [أي: الحكمة والفطنة] تحفظانك من المرأة الأجنبية، ومن الغريبة التي تتغنج بكلامها». فالواعظُ يَتَحوّل إلى راوٍ، في هيئة جار يمارس التلصُّص يروي قصة تثري الصورة الذهنية للقارئ بجميع الصفات المميزة لواقعةٍ شخصية: «بينما كنتُ أُطلُّ من نافذة بيتي نظرتُ من خلال النافذة وإذا بي أرى من بين الشباب شابًّا عديم الفهم، يعْبر الطريق ناحية المنعطف الذي يفضي إلى بيتها». يطبق الكاتب، هنا، تقنية مماثلة لتنسيق اللقطات القصيرة التي يعمل منتجو الأفلام على تسريع حركتها. ليست العناصر اللفظية مقتصدة فقط؛ بل إنها تعمل على إعاقة المسار الخطي للقصة بحشد جوانب مختلفة للواقعة نفسها. وهذه الأداة تخلق تكثيفًا مدهشًا عندما يتسارع تعتيم الليل الذي يحدث فيه الإغواء: «ومضى في الطريق إلى بيتها عند الغسق، في المساء، في الليلة الحالكة السواد والمظلمة». وعن طريق الأداة السينمائية ذاتها يلتقط الكاتبُ الاندفاعَ المحموم للمرأة التي تصطاد الرجال: «قدماها لا تستقر في بيتها، فهي تطوف في الخارج وتجوب الأسواق، تتربَّص عند كل منعطف». بعد ذلك تتكشف قصة الإغواء.
ومما يلاحظ هنا أيضًا أنه في حين أن الرسام أو النحات سوف يتحدَّد تحددًا صارمًا بكيفية واحدة للرؤية، فإن الراوي الأدبي يسند رؤيته بتضافر مختلف الأحاسيس. ففي المثال الحالي، تقوم الرؤيةُ بنقل الحدث، لكن الحاضر أيضًا ملموس ومحسوس – «لذلك أمسكتْ به وقَبَّلتْهُ» – وصوت (يتردد): «إنَّها مترفعةٌ وعنيدة». وأخيرًا، يضفي الإحساس بالرائحة نوعًا من المباشرة الساذجة للإغواء: «لقد عطَّرتُ فراشي بطيب المُرِّ والصَّبَّار والقِرفة، فتعال لنرتوي من الحب حتى يدنو الصباح».
بمقدور الفنون البصرية أن تقوم بإثراء مماثل للأدب عندما تضيف الصوت إلى الصورة. فالصورة المتنقلة في المسرح والفلم تستخدم الكلام والضوضاء والموسيقا. ومع ذلك فثمة اختلاف دال بين الاثنين. يستطيع الكاتب أن ينتقل من وسط إلى آخر كالانتقال من البصر إلى اللمس ومن الكلام إلى الشم، فهو ينتقل بين هذه الكيفيات بالسهولة ذاتها التي تجعلنا اهتمامات الحياة اليومية ننتقل بينها. ويمكنه القيام بذلك لا لأن الكلمات تفي تقنيًّا بتصوُّر رائحةٍ أو منعطف طريق أو زحف عسكري فحسب، ولكن أيضًا لأنَّ الإيحاء، بالأحاسيس المُدْرَكة حسيًّا التي يولِّدها الكلام، يعملُ على الارتقاء بها إلى مستوى من التجريد ممّا يُيسِّر ربطها بالأبعاد الحسية. وبدلًا من الخصائص الحسية المباشرة التي تُميِّز صورة شجرة من صوت ماء، فإن الصور الذهنية التي تستدعيها اللغة تُحدّد بالخصائص التعبيرية التي تشترك فيها جميع الكيفيات الحسية. وعند ذلك قد يتناسب صوت التشيلو مع دُكْنَة النبيذ الأحمر، وهو ما يحقِّق نوعًا من التماثل المباشر الذي لا بد أن تستند إليه جميع الفنون.
الإدراك في الحياة اليومية لا يشوشه التناقض الحسي في وسائط الاتصال. أما في الفنون، فلا بد لأية مقولة من أن تستند إلى الارتباطات الحسية المباشرة بين عناصرها التكوينية. ويتعذر على المرء دمج صورة ساكنة مصورة وصوت بوقٍ في نفس الوحدة المدركة حسيًّا. لذلك، فدمج وسائط الاتصال في عالم الصورة والصوت المباشر يقوم على قواعد ليست ملزمة للأدب. لقد حاولتُ أن أقترح في دراسةٍ سابقة أن دمج وسائط الاتصال في الأوبرا أو المسرح أو الفلم يجري بشكلٍ أفضل متى كان الفعل البصري والفعل الصوتي (سواء أكان موسيقا أم صوتًا) متعادلين في البنية الكلية لهما؛ ذلك لأن العمل في مجموعه ليس كتلة لا يمكن الفصل بين مكوناتها البصرية والسمعية، إنما هو مزيج من الأنماط المتوازية والمترابطة لكنها قابلة للتمييز والفصل فيما بينها. فمن الممكن الاستماع إلى الأوبرا البارعة المنفذة بطريقة ممتازة بوصفها تركيبًا موسيقيًّا متماسكًا لا يشتته الافتقار إلى الفعل البصري، على الرغم من أن الأوبرا قد تعدّ غير مكتملة لخلوها من هذا الفعل. ويصير للفعل المسرحي الموجَّه بشكلٍ حسن في الأوبرا كامليةٌ إيمائية خاصة به، حتى عندما لا يُسمع فيه أيّ صوت. ويمكن قول الشيء نفسه بخصوص الحوار المنطوق في المسرح والفلم. فهذا المزيج من الانفصال والتوازي المفيد من منظور جمالي لا يتضح بشكلٍ خاص حينما تُدمج وسائط الاتصال في حدث مُوحَّد فقط، إنما حينما تعمل بالتوازي فتُكمِّل إحداها الأخرى، كما هو الحال مع الياباني الذي يرقص ويهتف راويًا في مسرح العرائس.
لا بد أننا لاحظنا أن اللغة هي الوسيط الأكثر غنًى بين وسائط الفن من حيث إنها تفيد بشكلٍ غير مقيد من جميع الكيفيات الحسية كما لو كانت انتظامًا بآلةٍ واحدة. والأكثر من ذلك أن اللغة تستطيع أن تكثف إشاراتها إلى درجة متطرفة جدًّا بحيث تنمحي صورها في المفاهيم الفكرية. ومع ذلك، عندما يكتب أحد الشعراء –لا أتذكر اسم الشاعر: «ربما مظهري قد زيَّف الحقيقة»، فإن التجريد يُؤدي دوره بصورةٍ مجسَّدة مثلما يؤدي الممثلون المرئيون أدوارهم. لكن اللغة، في الوقت نفسه، تدفع ثمن سيادتها بأن تتقيد كليًّا بعالم عدم المباشرة، بالصور الذهنية في الأخبار. وبالمقارنة، تظفر الفنون البصرية بتقديم العالم المُدْرَك بمباشريته الحسية. والحقيقة أن مباشرة هذا الحضور تُقيِّد الرسام أو النحات بالخصائص الملموسة في الشكل واللون والحركة وتُقدِّم المفاهيم بصورةٍ غير مباشرة على أنها اشتقاقات استعارية للأحاسيس. ومن هنا، فالعقل الإنساني الذي لا يعمل إلا عبر دمج الفكر والصورة باستمرار، يفيد من مزايا اللغة والإدراك ويجعلهما يعوضانه عن قيود كل منهما إزاء الآخر.
العنوان الأصلي للمقال: The Reading of Images and Images of Reading، ونشر في كتاب رودولف آرنهايم (1904 – 2007م) الصادر عن جامعة كاليفورنيا الذي ضم مجموعة من مقالاته العلمية والنقدية المهمة: Rudolf Arnheim, To the Rescue of Art: Twenty-Six Essays, University of California Press, 1992, pp 45 – 52.