أوليفيه روا: طرد ما هو ديني من المجال العام يسمح للإرهابيين أن يَبْدوا كالمدافعين الوحيدين عن إسلام مقهور
ترجمة: محمد أحمد عثمان – روائي و مترجم يمني
أوليفيه روا سياسي فرنسي، متخصص في الإسلام. وهو يدير البرنامج الأوسطي في المعهد الجامعي الأوربي بفلورنسا في إيطاليا. ألف عددًا من الكتب، من بينها «جينولوجيا الإسلاموية»، أما كتابه الجديد فهو «الجهاد والموت». ويقول أوليفيه روا: إن طرد ما هو ديني من المجال العام يؤثر على الإرهابيين، لكنه يسمح لهم بأن يَبْدوا كما لو كانوا المدافعين الوحيدين عن إسلام مغبون. بمناسبة ظهور كتابه «الجهاد والموت» يعود أوليفيه روا إلى موضوع القصور في تماسك المقترحات السياسية الحالية المتعلقة بالمعركة ضد العنف الجهادي. فهو يحذر كذلك من مغبة هستيريا النقاشات حول الإسلام، التي تديرها سياسة علمانية مبالغ في علمانيتها، وهو ما يسهم في تأجيج الظاهرة الراديكالية. هنا حوار معه حول كتابه الجديد والإسلام، أُجري معه لصالح موقع أتلانتيكو.
● أتلانتيكو: في كتابك المعنون بـ«الجهاد والموت» تحدثت عن العنف الجهادي وعملية «أسلمة الراديكالية» كيف تُقيِّم إجابة فرنسا الحالية وتلك الإجابات التي تبدو أنها تتشكل في سياق الانتخابات الرئاسية؛ ماذا بخصوص مقترحاتك؟
■ أوليفيه روا: لا توجد حتى اللحظة أية إجابة متماسكة. هنالك مبادرات من أجل تنفيذ جلسات «للشفاء من الراديكالية». كما لو أن الراديكالية كانت مجرد مرض وليست خيارًا واعيًا. قد يجدي هذا لأقل من خمسة عشر عامًا. وعلى نحو خاص فهو يطمئن العائلات (آباء المتحولين خصوصًا) مع أنني لا أصدق ذلك عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الذين اختاروا عمدًا الراديكالية في صورتها الإسلامية. من جهة أخرى هنالك خطاب أيديولوجي أكثر منه براغماتي بخصوص الإسلام الذي يتشكل على هيئة سياسة مبالغ في علمانيتها ويسهم في الراديكالية. ينطلق هذا الخطاب من فكرة أن السلفية هي المدخل إلى الإرهاب وهو ما يعد من الناحية الإحصائية خطأ، ليستمر من ثم من خلال فكرة أخرى: إن كل علاقة دينية داخل الفضاء العام هي الدليل على إستراتيجية لأسلمة المجتمع، وهكذا فإنهم يجعلون من النقاب ومن البوركيني ومن الهلال بوادر على الانتقال إلى العنف. وهو ما يعد عبثًا بما أن الأشخاص المقصودين ليسوا هؤلاء على الإطلاق. إن ربات البيوت اللواتي يرتدين النقاب أو العائلات التي تطلب قوائم بديلة للحم الخنزير في المقاصف (الذين هم فضلًا عن ذلك أبعد من أن يكونوا مسلمين: يهودًا، بوذيين، ويوجد بينهم نباتيون أيضًا) كل هؤلاء ليسوا حواضن لتجنيد الجهاديين. إن هذا الطرد لما هو ديني من المجال العام لا يؤثر في الإرهابيين (الذين يعيشون ويُجَنَّدون على هامش الفضاء العام) لكن يسمح لهم بالظهور كما لو كانوا المدافعين الوحيدين عن إسلام مقهور. في حين أن الإستراتيجية الجيدة هي على العكس من «إشباع» الحقل الديني بحيث يسقط زعم داعش في تمثيل الإسلام داخل الخواء. خصوصًا أن الحاملين لمطلب التسامح إزاء الرموز الدينية ليسوا هم من الناحية السوسيولوجية السلفيين إنما على العكس طبقات وسطى هي في حالة حراك اجتماعي. أخيرًا فإن استبعاد ما هو ديني من المجال العام يؤثر في كافة الأديان ويسهم في خلق خواء روحي لا تستطيع العلمانية أن تشغله بما أنها تبدو ليست كمثل نظام من القيم، لكن كمثل كل من القواعد المنظمة من دون بعد روحي. ولا شيء يجدي في معارضة «الهوية» المسيحية. بما أن هذه الهوية علاوة على ذلك وكما يذكر البابا ليست حاملة لروحانية (وإلا كيف نفسر واقع أنها تستوعب جيدًا العلمانية كما نراها لدى مارين لو بين).
● إن دراسة بروفيلات الجهاديين يقودنا إلى أن نستخلص من بين صفات أخرى صفتين غالبتين عليهم: هيمنة الجيل الثاني ونسبة عالية من المتحولين. كيف يمكن أن نوضح أن الجيل الثاني هو أكثر تأثرًا بالراديكالية من الجيل الثالث، في حين أن الجيل الأخير قد بلغ من الآن فصاعدًا سن الرشد؟
■ لأنه مع الجيل الثاني (ومع المتحولين) تبلغ ظاهرة ضياع الهوية حدها الأقصى: لا يفهم الجيل الثاني الإسلام من خلال آبائه وذلك لأن الإسلام متجسد داخل ثقافة هي من الآن فصاعدًا غريبة عنه. والحال كذلك فإنهم يقومون بإعادة بناء إسلام معياري بصورة خالصة من دون علاقة مع أية ثقافة. وضياع الهوية هذا هو بالنسبة لي مصدر العنف بشقيه الرمزي والواقعي، وذلك كما شرحته في كتابي «الجهل المقدس». بالطبع لم يتحول كل أعضاء الجيل الثاني إلى العنف. إذ صار بعضهم وثنيًّا وبعضهم الآخر يطالب بنمط غامض من الثقافة الإسلامية وآخرون يشيدون إسلامًا فرنسيًّا، وهنالك من يمضي باتجاه سلفية وَرِعة من دون أن ننسى المتحولين إلى المسيحية.
● لقد أشرت كذلك إلى وصول «الجيل الثالث» إلى بلجيكا. هل تتوقع أن يتخذ الجيل الثالث بدوره مسافة عن إسلام أجداده ويتحول إلى الراديكالية؟
■ إن نموذج الإسلام بالنسبة للجيل الثالث ليس إسلام أجداده بل إسلام آبائه. إنهم وقد تلقوا تنشئة فرنسية وصنعوا خياراتهم انطلاقًا من خيار آبائهم (كامتداد أو كتعارض وفقًا للظاهرة المعروفة بصراع الأجيال) ويكمن الرهان هنا في النظر إلى ما يجدونه في السوق بمصطلحات التقدمة الدينية. ولا يكمن الخطر هنا في الإرهاب لكن في الظاهرة السلفية التي تدعوهم إلى استخلاص النتائج من الفشل المحتمل في عملية الاندماج (لا يريد السلفيون الاندماج شأنهم في ذلك شأن السلطات الدينية الأجنبية المغربية أو التركية) ذلك ما يفسر أنه عوضًا عن منحهم إسلام أجدادهم انطلاقًا من أئمة فولكلوريين، جُلِبوا من بلدهم الأصلي يتوجب عليهم مرافقة التحول في الحساسية الدينية ( التي ليس من الضروري أن ترتبط بمتن ثيولوجي محدد) باتجاه إسلام جرى تهدئته. ليس قمع الرمز الديني هو ما يساعد، إنما يتوجب أن يتاح المجال لظهور أمكنة تأمل ثيولوجي، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في فرنسا إلا داخل إطار خاص أو داخل الإطار البابوي للألزاس.
● لقد أوضحت أن خرائط الإرهابيين وخرائط الأحياء المتوقعة أن تكون حواضن للإرهابيين لا تتطابق، وإنه ما من صلة بين أعمال الشغب المختلفة والثورات السياسية من جهة، والإرهاب من جهة أخرى. إذن لا يعد الإرهاب المرحلة القصوى في عملية الاندماج الفاشلة. والحال كذلك فإن المعركة ضد القالب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للإرهاب وهو أمر يطرح بانتظام هو مسار خاطئ؟
■ يوجد على نحو جلي تقاطع بين الإرهاب وضواحي المدينة. بحسبة بسيطة فإن 65% من الراديكاليين ينحدرون من الجيل الثاني. لكن عندما نرى أن أرياف الألب البحرية (…) تمد الحركة الجهادية بأعداد كبيرة من المتطوعين من السن سانت دونيز ومن مارسيليا. عندما نرى أن النورماندي وبروتان هي أماكن متقدمة لهداية الشباب الكاثوليكي إلى الإسلام الراديكالي حينئذ نقول لأنفسنا: إنه يتوجب علينا أن نعيد مساءلة الرابطة الميكانيكية بين الراديكالية والوضع السوسيو-اقتصادي. ليس بوسعنا أن نفعل ذلك إلا إذا أَسْلَمنا من الخارج مشاغبي الضواحي والمواجهات مع البوليس. حينئذ نرى جيدًا أن هذه التحركات الثورية لا تملك أية مرجعية دينية. وهي لا تفيد إلا أن شبابًا من أصول إسلامية وليس أمامهم سوى خيارين إما مطلب العدالة أو إستراتيجية عصابات التجار في سبيل تأمين النطاق الجغرافي لنشاطهم التجاري، وكما رأينا في مارسيليا لا تملك هذه العصابات أي شيء من الإسلام. إنها تستأنف التقليد القديم للمافيا الإثنية (التعاون ظاهرة متكررة حتى لو كانت موسومة بالجثث) باختصار هنالك مبررات قوية للنضال من أجل التحسين الاقتصادي والاجتماعي للضواحي، لكن ليس بالضرورة من منظور الكفاح ضد الإرهاب.
● فندتَ أيضًا فكرة المعركة السياسية وفكرة الإرهابيين الذين يستأنفون معركة آبائهم أو يُجنَّدون لمبررات معاصرة (فلسطين). والحال كذلك كيف تفهم مبررات العنف الجهادي؟
■ الإرهابيون من أصل مغاربي لا يتحدثون عن معركة الجزائر لكن عن «الحروب الصليبية». الجهاديون يتبعون داعش الذي يرى أن أسوأ خصم هو حزب الله، وهي الحركة الأكثر تأثيرًا ضد إسرائيل. أخيرًا بقتالهم ضد كل الشيعة فهم يسهمون في تشظي العالم الإسلامي. إنهم يحيون في إطار تصورات سياسية متخيلة لا تمت بصلة للخارطة الجيوبوليتيكية للشرق الأوسط. إنه متخيل الخليفة الذي ينخرط في السيطرة على العالم. وبكل تأكيد فإن هذه اليوتوبيا لا تملك أي حظ من التحقق. إننا نرى فجأة كيف ينزلق داعش تدريجيًّا نحو رؤية تنبؤية تكون فيها الحرب الحالية مجرد علامة على نهاية الأزمنة، أكثر من كونها وسيلة لخلق مجتمع إسلامي. وهو ما يتوازى مع الرؤية الزهدية للشباب. وإني لأُذَكِّر بأنهم جميعًا ماتوا في أفعال عنف قصدية في حين لا يقدم موتهم أية فائدة. إن ما يكمن في قلب خيارهم الشخصي هو مشروع الموت وليس الأمل بغد مشرق. إن داعش يفتنهم بخطابه النبوئي وبسيطرته على جماليات العنف الوحشية التي تصنع منهم أبطالًا سلبيين. إنهم في النعيم وليسوا في نكران الذات العسكري.
● إذا كانت المعرفة الدينية لدى الراديكاليين محدودة فإن الرجوع إلى الإسلام هو شيء مركزي. أي نوع من الإسلام الذي يغذي عنف الجهاديين يعود الجهاديون إليه؟ كيف يمكن منافحته؟
■ إنه إسلام أكثر جهادية من السلفية. إنهم لا يحترمون القواعد اليومية للهلال والصلوات من دون الحديث عن الحج الذي لا يؤدونه؛ فهم يفكرون في أنه بإمكانهم أن يشتروا بموتهم كل خطاياهم. مكانة النساء ليست سلفية: إنهن يرتدين النقاب بالطبع لكنهن يقبضن على المسدس باليد. ويسافرن بمفردهن وغالبًا ما يتصرفن بوحي من لدن أنفسهن. يوجد هنالك نوعان من الرهانات إذن: فأولًا هنالك في السوق خيارات دينية أخرى ذات مصداقية. باختصار بدلًا من طرد ما هو ديني لكي يجنوا أقصى منفعة ممكنة من الراديكاليين بوسعهم أن يتيحوا المجال لظهور (من دون تنظيمه من أعلى) إسلام روحاني ومتكيف تحت أشكال هي فضلًا عن ذلك متنوعة بالضرورة، هنالك مطلب بهذا الخصوص ينبغي الاستماع إليه. لكن لكي نمضي إلى مدى أبعد، نرى أن هذا الزهد الشبابي يذهب إلى ما وراء الشباب المسلم. تفصح عن ذلك النقاشات والمتلازمة الكلومبينية: في الولايات المتحدة منذ عام 1999 م هنالك إحصائية تقول بأن هنالك 50 حالة من بين الذين يرجعون إلى مدرستهم لكي يقتلوا زملاءهم القدامى، وبطريقة في ممارسة العنف تُذَكِّر (بالأحرى تسهم) بطرائق إرهابي داعش. هنالك (ذلك ما أفكر فيه) أزمة في «الروحانية» بفعل إقصاء ما هو ديني، تقود كذلك إلى اختفاء كل روحانية. ليست لدينا روحانية علمانية على غرار نموذج حركة البنائين في القرن التاسع عشر. وإنه ليس الدفاع عن علمانية قمعية أو منظمة الشرهون لتناول «نقانق- نبيذ أحمر» التي سترشد الروح داخل المجال العام.