أعمال الشاعر
ترجمة: محمد محمود مصطفى – مترجم مصري
غادر الجميع المنزل. في نحو الساعة الحادية عشرة لاحظت أني قد دخنت آخر سيجارة لدي. ولما كنت لا أود الذهاب إلى الخارج في الريح والبرد، فقد فتشت سدى في كل مكان عن علبة سجائر. لم يعد أمامي شيء سوى أن أرتدي معطفي وأنزل السلالم (أسكن في الطابق الخامس). كان الشارع جميلا، وإن كان مهجورًا، وكانت تزينه مبانٍ عالية ذات طوب رمادي، فضلا عن صفين من أشجار الكستناء العارية.
مشيت نحو ثلاثمئة متر في مواجهة الريح الجليدية والضباب المائل إلى اللون الأصفر لأجد المحل مغلقًا. اتجهت إلى مقهى مجاور حيث كنت متأكدًا أني سوف أعثر على بعض الدفء، وبعض الموسيقا، والأهم من ذلك تلك السجائر التي نزلت لأبحث عنها. مشيت مرتجفًا عبر شارعين آخرين عندما أحسست بغتة، لا لم أحس، بل إنها داهمتني: الكلمة. لقد شلتني المفاجأة غير المتوقعة للحظة كانت طويلة بما يكفي لأن تعود أدراجها إلى الليل. وعندما استعدتُ توازني أمسكت بها من تلابيب شعرها وهي تحلق. جذبتها نحوي بيأس من تلك الخيوط التي تمتد صوب اللانهاية كأنها حبال تمتد إلى مشهد سرمدي، كنقطة تبزغ، وتنأى، وتبعد، وتبعد…. كنت وحيدًا وسط الشارع وفي يدي الباردة الجريحة ريشة حمراء.
أتمدد في السرير، وأرنو لنوم عميق كنوم المومياء. أغلق عينيَّ وأحاول ألا أصغي لذلك النقر الذي لا أدري من أي ركن من أركان الغرفة يصدر. أقول لنفسي: «الصمت يعج بالضوضاء. وما تسمعه لست تسمعه في الحقيقة، بل تسمع الصمت». ويستمر النقر على نحو أعلى: إنه صوت سنابك خيل تعدو في حقل من صخور. إنها فأس ليس بمقدورها أن تسقط شجرة عملاقة، إنها آلة طباعة لا تطبع سوى بيت شعر ضخم من مقطع واحد ينبض مع نبضات قلبي. إنه قلبي الذي يرج الصخور، ويغطيها برداء من رغاوي، إنه البحر، موجة تحت سطح الماء في بحر تربطه سلسلة تكبو وتنهض، وتنهض وتكبو، وتكبو وتنهض، إنها مجارف جبارة من صمت يسقط في الصمت.
٭ ٭ ٭
أكتب على طاولة الغسق، وقلمي ينثال بشدة على صدره، كما لو كان حيًّا، يئنّ ويتذكر غابة الميلاد. يشرع المداد الأسود جناحيه العملاقين. ينفجر المصباح ويغطي كلماتي بشظايا الزجاج المكسور. شعاع ضوء حاد يجز يدي اليمنى، وأواصل الكتابة بذلك الجرح القطعي الذي ينضح بالظلال. يهبط الليل في الغرفة، ويقطع الجدار المقابل شفاهه الحجرية السميكة، وتدلف كتل هواء عاتية ما بين قلمي والورقة. يكفي مقطع واحد ليرج العالم رجًّا، لكن الليلة لا مكان لكلمة واحدة أخرى.
٭ ٭ ٭
أتقدم، بعسر بالغ، قيد أنملة كل عام. أحفر طريقًا عبر الصخور. شاخت أسناني وتكسرت أظافري لآلاف السنين حتى أصل إلى هناك، إلى الجانب الآخر، إلى الضوء والهواء الطلق. والآن عندما تنزف يداي وترتجف أسناني، وأهتز مسحوقًا بالظمأ والغبار، أتوقف برهة لأتأمل أعمالي: لقد أمضيت النصف الثاني من حياتي أكسر الحجارة وأحفر الجدران، وأحطم الأبواب، وأزيل العوائق التي وضعتها بين الضوء وبين ذاتي في النصف الأول من حياتي.
٭ ٭ ٭
كالألم الذي يواصل طريقه بين الأحشاء التي تستسلم والعظام التي تقاوم، مثل حد يحيط بالأعصاب التي تربطنا بالحياة، نعم، ولكن أيضًا كالفرح المباغت، مثل فتح باب مشرع على البحر، كالنظر إلى الهاوية، كالوصول إلى القمة، مثل نهر من ألماس يخترق الصخور، مثل شلال أزرق يسقط مع انهيار التماثيل والمعابد البيضاء، مثل طائر يحلق، وبرق يهبط، كرفّة أجنحة، ذروة الدموع، كالتهام ثمرة فاكهة في النهاية. أنت يا صرختي، يا ينبوع ريش النار، يا جرحًا واسعًا يئنّ كانفصال كوكب عن جسد نجمة، سقوط سرمدي في سماء الصدى، في سماء من مرايا تتضاعف وتدمرك، وتجعلك لا تعد ولا تحصى، تجعلك لا نهائيًّا وتجعلك مجهولًا في آنٍ.
* في إحدى المقابلات مع أوكتافيو باث (عام 1988م) يقول الكاتب عن «أعمال الشاعر» ما يلي: «يدور الموضوع حول معاناة الشاعر اليومية مع اللغة، ويدور كذلك حول الرؤى التي تهدد اللغة… إن وعي الشاعر ما هو إلا مسرح لألعاب لغوية قاسية تدفع لاستفزاز الكاتب أو لإلهامه… من يدري؟ إنها رؤى فظيعة ومخيفة… لقد حاولت هنا أن أثير فكرة الحياة الليلية، ليست الحياة اللاواعية، بل الحياة الواعية، التي تعد شاهدًا أو متآمرًا، بل أحيانًا ضحية للهوى وللزمن».