أذن فان غوخ
ترجمة: عبدالله ناصر – قاص ومترجم سعودي
كنّا، كالعادة، على حافة الإفلاس. كان أبي الذي يمتلك بقالةً صغيرة، مَدِينًا بقدرٍ ضخمٍ من المال لأحد الموردين، ولم تكن ثمة وسيلة لسداد ذلك الدين.
ولكنّ أبي وإن كان في عوزٍ إلى المال، فإنه حتمًا لم يكن يفتقر إلى ملكة الخيال. كان ذكيًّا، مثقفًا، ذا مزاجٍ مرح. لم يكمل دراسته، فالقدَر قيّده إلى دكانٍ بسيط حيث يصدّ هجمات الحياة بين السجق والنقانق. أحبَّهُ زبائنه لأنه، إلى جانب أمورٍ أخرى، كان يبيعهم بالدين ولا يلزمهم بالدفع. لكن، بالنسبة للموردين، فالأمر مختلف. كان هؤلاء السادة صارمين في تحصيل أموالهم. وقد ذاع، خصوصًا في تلك الأيام، صيت الرجل الذي أقرض أبي المال كدائنٍ وحشي.
كان أي شخصٍ آخر، سيشعر باليأس، ويفكر في الهرب أو يقدم على الانتحار، لكن ليس أبي. لقد كان واثقًا، وهو المتفائل دومًا، أنه سيعثر على حل. يقول: «لا بد أن تكون لهذا الرجل نقطة ضعف، ومن خلالها سننال منه». وبعد إجراء التحقيقات هنا وهناك، استنتج أبي أمرًا مهمًّا. كان للدائن الذي يبدو رجلًا صلفًا وفظًّا في الظاهر، شغف سرّيّ بفان غوخ. كان منزله يعج بنسخٍ طبق الأصل من أعمال ذلك الرسام العظيم. وكان قد شاهد، ما لا يقل عن ست مرات، فلمًا عن حياة الفنان التراجيدية، لعب فيه كيرك دوغلاس دور البطولة.
استعار أبي سيرة فان غوخ من المكتبة، وقضى نهاية الأسبوع منهمكًا في الكتاب. ثم في وقتٍ متأخر من مساء الأحد، فُتِح باب غرفة النوم، وخرج أبي منتصرًا:
«لقد وجدتها»
انتحى بي جانبًا، كنت موضع سرّه وثقته في سنّ الثانية عشرة، ثم همس وعيناه تلتمعان:
»أذن فان غوخ، الأذن ستنقذنا».
«خُدع أبي». ما الذي تتهامسان حوله أنتما الاثنان؟ «سألتْ أمي التي لا تتحمل كثيرًا ما كانت تدعوه»
«لا شيء، لا شيء» ردَّ أبي. ثم أخفض صوته وقال لي: «سأوضح لك فيما بعد».
وهذا ما فعله، والقصة كالتالي: قطع فان غوخ أذنه في لحظة جنون وأرسلها إلى محبوبته. هذه الواقعة جعلت والدي يدبر مكيدة: أن يقصد الدائن فيخبره بأن جده الأكبر كان يعشق المرأة التي أحبها فان غوخ، وبأنه ورث عنه الأذن المحنطة للرسام. كان أبي سيقايض الدائن برفاتها مقابل أن يُسقِط ديونه وأن يمنحه المزيد من المال.
«ما رأيك؟»
كانت أمي على حق، فهو يعيش في عالمٍ آخر، في عالمٍ فانتازي. على أية حال، لم تكن المشكلة الرئيسة في سخافة الفكرة، ففي النهاية كنّا في مأزقٍ مريع حتى بدا أن أي شيء يستحق المحاولة، كانت هناك مشكلة أخرى.
«ولكن ماذا عن الأذن؟»
«الأذن؟» نظر إليّ مذهولًا كأن الأمر لم يخطر في باله. «نعم، أذن فان غوخ، من أين ستجلبها؟»
«آه، لا بأس، يمكننا أن نجلب واحدةً من المشرحة، صديقي يعمل حارسًا هناك، وسيفعل أي شيءٍ من أجلي».
في اليوم التالي غادر أبي في الصباح الباكر، وعاد متهللًا في الظهيرة إلى المنزل، حاملًا طردًا، ثم راح ينزع الغلاف بحذر. كانت قارورة من الفورمالديهيد، وبداخلها قطعةٌ داكنة شكلها غامض. « أذن فان غوخ»، أعلن مبتهجًا.
ومن سيقول إنها ليست أذنه؟ على أية حال، فقد وضع ملصقًا على القارورة تحسبًا: « أذن فان غوخ».
وفي المساء قصدنا معًا منزل الدائن. دخل أبي وانتظرته في الخارج. خرج بعد خمس دقائق، مضطربًا وفي منتهى الغضب. لم يكتفِ الرجل فقط برفض العرض بل انتزع من أبي القارورة وقذفها من النافذة.
«وقح!»
كان لا بد أن أتفق معه، على الرغم من أن تلك النهاية كانت حتمية على نحوٍ مؤكد. رحنا نمشي في الشارع الهادئ بينما يدمدم أبي طوال الوقت: وقح، وقح. توقف فجأةً في الطريق وحدق إليّ بثبات وقال:
«هل كانت اليمنى أم اليسرى؟»
«ماذا؟» سألت دون أن أفهم.
«الأذن التي قطعها فان غوخ. هل كانت اليمنى أم اليسرى؟»
«وما يدريني؟» قلت، وقد كنت منزعجًا من الأمر برمته. «أنت من قرأ الكتاب، وأنت من يجب أن يعرف».
«ولكنني لا أعرف». أجاب مكتئبًا. أقرّ بأنني لا أعرف.
وقفنا صامتين لبعض الوقت. ساورني فيما بعد شك لغوج، ذلك الشك الذي لم أجرؤ على التلفظ به لأنني أعرف بأن الجواب قد يضع حدًّا لطفولتي. على أية حال:
«وتلك التي في القارورة! هل كانت أذنًا يمنى أم يسرى؟»
حدق نحوي مصعوقًا.
«أتعرف؟ لا فكرة لدي». غمغم بصوتٍ واهنٍ ومبحوح.
ثم تابعنا المشي، متجهين إلى البيت. إذا تفحصتم أذنًا بحذر -أي أذن، سواء كانت لفان غوخ أو لغيره- سترون أنها مصممة على شكل متاهة. تهت في هذه المتاهة، ولن أخرج قط منها مرةً أخرى.