إريك فروم ناقدًا!
لم يكن لتاريخ العلم ما يميزه سوى خاصية الانقلابات، كما لم يكن لتاريخ الفكر البشري ما ينفرد به سوى منهجه الجدلي- النقدي. إننا لا ننكر هنا أو نتجاهل التراكم الحاصل في كل الميادين المعرفية، سواء أكانت تنتمي لميدان العلم أو لميدان المعرفة بشكل عام. إلا أن ما يميز في نظرنا سيرورة التاريخ هو فكرة النقد والجدل. إن تاريخ العلم يسجل في أرشيفاته هذه الانقلابات الجدلية منذ فلكيات بطليموس إلى اليوم، متمثلة في انقلابات كل من كوبرنيك وكبلر وغاليليو وأيضًا نيوتن.
إن الحفر في تاريخ الفلسفة يمدنا بصفة الجدل والنقد هاته الملازمة لتاريخ الفكر البشري، فهو تارة تاريخ فكري انتصر مع أرسطو وديكارت وأنصار البراديغم التبسيطي لمركزية العقل بوضعه في موقع صدارة المحددات المركزية في بلوغ الحقائق؛ فما يبدو لنا في الواقع بصورة فوضوية ومتناقضة، هو مظهر زائف يجب تحليله للوصول إلى الحقيقة والبساطة التي تتسم بعدم التناقض، وهي عين الحقيقة التي يتصورها العقل. (سعيدي عبدالفتاح، نقد العقل العلمي عند إدغار موران ص: 340). إن العقل بمبادئه وقوانينه هاهنا هو المحك في إصدار الأحكام المعرفية. في حين انتصر هذا التاريخ تارة أخرى إلى الحواس بجعلها تحتل موقع الريادة في تحصيل معارفنا حول أنفسنا وحول الوجود مع كل من جون لوك وباركلي ودافيد هيوم… (إلخ). كما أنه تاريخ نقدي حاول بمنهجه الجدلي التوفيق بين المقاربات العقلانية والحسية مع الألماني إيمانويل كانط.
هذا التصنيف الذي يعكس في جوهره منهجًا جدليًّا نقديًّا في تبرير ماهية كيفيات بلوغ الحقائق، نجده مشيّدًا ضمن تاريخ المحددات الأنطولوجية للأفراد. فالمحدد الأنطولوجي للفرد أو لماهية الإنسان مع ديكارت يتجلى في ملكة العقل، بوصفه الجوهر الثابت والكفيل بتعيين هذا الوجود، في حين ينحو تحديد هذا الجوهر مع التحليل النفسي الفرويدي منحًى معاكسًا باكتشافه الجانب اللاشعوري في حياة الإنسان وجعله المحدد الرئيس لدوافع السلوكات البشرية والوجود الإنساني بشكل عام. وأخيرًا شكل التفكير في ماهية الوجود الإنساني صيغة تجاوز لدوغمائية الموقفين السابقين (العقل- اللاشعور) واستقر في مقابل ذلك على موقع التوسط بين الجانبين العقلاني واللاعقلاني في تحديد جوهر الوجود الإنساني.
الطبيعة الجدلية للفكر
في الواقع، إن الطبيعة الجدلية للفكر تفرض سطوتها على كل الميادين ويصعب حصرها ولو بصورة نسبية. فها هو تاريخ علم الاجتماع يكشف لنا في تحولاته وصيروراته عن هذه الطبيعة الجدلية التي لا تستكين للتراكم؛ فهو من جهة تاريخ المجتمع والبنية في مقابل الفرد الخاضع. بحيث يعمل الفرد على تبني سلوكات ومواقف تفرضها عليه البنيات المجتمعية السابقة عليه والخارجة عن ذاته، عبر صيرورات التربية والتنشئة الاجتماعية. ومن جهة أخرى هو تاريخ الفاعل الخلاق المبدع والإستراتيجي المؤثر، الرافض لفكرة اختزال الفرد في نقطة عبور الأفكار الجماعية. فالظاهرة الاجتماعية حسب هذا الاتجاه هي نتاج تجميع أفعال متعددة لفاعلين متعددين (أثر التجميع Effet d’agrégation)، بمعنى، أن المجتمع لا هو خارج الأفراد المشكلين له ولا هو يقولب سلوكاتهم بصيغة حتمية. ومن جهة ثالثة هو تاريخ التفاعل المستمر الذي يحيل على علاقة ذهاب وإياب قائمة بين الفرد والمجتمع في تفسير الظواهر الاجتماعية.
إريك فروم (1900 – 1980م) من موقعه كمحلل نفسي فرويدي- ماركسي لم يشأ لنفسه إلا الانخراط في هذا الجدل عبر المزج بين الطرحين الفرويدي والماركسي في تفسيرهما للسلوك الإنساني، في مرحلة أولى، ثم تجاوزهما وفق تأويل أنثروبولوجي يحتوي الطرحين معًا لفهم العالم الاجتماعي- النفسي في مرحلة ثانية. إن سيغموند فرويد (1856- 1939م) في نظر فروم لم يتجاوز الرؤية السطحية الاختزالية المبنية على أساس بيولوجي- فسيولوجي في تفسير دوافع الإنسان وحاجاته. كما أن كارل ماركس (1818 – 1883م) لم يكن بدوره موضوعيًّا بما فيه الكفاية، بتغليبه كِفَّة الجانب الاقتصادي في تفسير سلوك الفرد وسير المجتمعات عبر تاريخها، فطبيعة الإنسان في رأي فروم مزيج يضم إلى جانب الجوانب البيولوجية والنفسية والاقتصادية جوانب اجتماعية وسياسية وحضارية وأنثروبولوجية وجب اجتماعُها وتكاملها لبلوغ هذه الطبيعة ومعرفتها، واستكناه الدوافع الأساسية للسلوك البشري.
إن هذا التوفيق بين الطرحين الماركسي والفرويدي ومحاولة تجاوزهما من قبل فروم يحمل في طياته نفحة نقدية – إبيستيمولوجية أكثر منها معرفية، وهو ما يجعل الإنسان حسب النموذج الفرومي «غير مشروط فسيولوجيًّا- بيولوجيًّا كما نوه فرويد، وليس مشروطًا اقتصاديًّا كما فعل ماركس فحسب، بل إنه إنسان مشروط أنثروبولوجيا- اجتماعيًّا ونفسيًّا، وطبيعته لا تنحصر في حيز رد الفعل على المستوى السيكولوجي أو الاقتصادي بحسب التحليل الفرويدي الماركسي، بل إنها طبيعة مؤثرة في العوامل بقدر ما تتأثر هي بالمقدار ذاته» (قاسم جمعة، النظرية النقدية عند إريك فروم، منتدى المعارف، بيروت، الطبعة الأولى 2011م)؛ لذلك «فالطبيعة الإنسانية ليست محصلة كلية ثابتة وفطرية بيولوجيًّا للدوافع كما أنها ليست ظلًّا لا حياة فيه للنماذج الحضارية… إنها نتاج التطور الإنساني لكنها أيضًا لديها ميكانيزمات معينة وقوانين كامنة» (إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة مجاهد محمد مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972م). في الواقع إن الأهمية التي يكتسيها الطرح الفرومي تكمن في عدم تسليمه المطلق بالطرحين الماركسي والفرويدي معًا وفق مقاربة جدلية جديدة تستدعي بالأساس تجاوز المعنى الضيّق لوظيفة الحقول المعرفية وحدود اشتغالها، وتدعو في مقابل ذلك إلى مقاربة متعددة التخصصات يحضر فيها النفسي متعالقًا مع السوسيولوجي والأنثربولوجي والتاريخي.
مرتكز رئيس
إن اشتراط الفكر الفرومي لهذه المنهجية، القائمة على تجاوز الطروحات والتفسيرات السابقة عليه في تحصيل دوافع السلوك البشري، يجعلنا نقر بوجود بعض الجوانب النقدية والإبيستيمولوجية الثاوية خلف متن كتاباته. ففروم لا يكتفي بتقديم نصوص معرفية خالصة حول إشكال من الإشكالات الموجهة لتفكيره، بل يجعل من فحص وتمحيص العناصر المنهجية الكفيلة بتحصيل المعارف جزءًا أساسيًّا من نصوصه، بل المرتكز الرئيس الذي تنبني عليه المعرفة.
يتجلى الحس النقدي لدى إريك فروم هنا في توقفه عند النصوص الماركسية والفرويدية معرفيًّا، من خلال بسط تفسيراتها لدوافع السلوك البشري في حدود مجالات اشتغالها العلمية، كل منها على حدة، في مرحلة أولى. ثم محاولة التصدي لها عبر إبراز وكشف الحدود العلمية التي تكتنف تفسيراتها لموضوعات اشتغالها، وفق مقاربة نقدية تقوم بالأساس على مبدأ التقويض والبناء في مرحلة ثانية. تقويض وبناء لا يكتفي فقط بحدود بناء معرفة علمية جديدة بخصوص دوافع السلوك البشري، بل يتجاوز ذلك ليمس صلابة الحقول المعرفية وعجز مخزونها التأويلي، من تشييد حقل معرفي آخر يتمثل في التحليل النفسي الاجتماعي الذي من شأنه تجاوز نواقص التحليل النفسي الفرويدي والتحليل الاقتصادي الماركسي.
إنها محاولة علمية- جدلية جادة تروم ممارسة النقد داخل مجال العلم، عبر جعل المفاهيم النقدية- الإبيستيمولوجية إطارًا موجهًا للتفكير في قضايا الوجود الإنساني ودوافعه. فالمفاهيم الإبيستيمولوجية من قبيل: التبرير والحقيقة والاعتقاد نجدها ثاوية بشكل ضمني خلف المتن الفرومي، كما أنها تشكل الأساس الذي تنبني عليه رؤيته النقدية المتجاوزة للطروحات السابقة عليه، والمشيّدة لرؤية علمية جديدة تتوسل عناصر اشتغالها من تخصصات علمية مختلفة.