عابر سبيل
جُبلتُ على السفر، لا يمكن لي أن أتذكر كم مرة انتقلت فيها من بلد إلى آخر، عدد جوازات السفر التي استهلكتها، دقاتُ الأختام وتصريحات الموانئ، أرى طريقي بوضوح لكني لا أعرف إلى أين يقودني، مع ذلك لا أطيق الترحال، أمقته وأرغب عنه لكنها الأقدار، وهي التي أعادتني أخيرًا إلى هذه الجزيرة.
ما إن سألني: «معذرة، هل مرت الحافلة 30؟» بلغة إنجليزية سليمة حتى أتاني الحدس وسألته بابتسامة مرتبكة: «هل تتكلم العربية؟» لاح فرح مباغت على وجهه وابتسم: «نعم!» «لا، لم أرها…» أكملتُ بالعربية وابتسامتي تتسع، وأنا أحس باستغراب من وقع اللغة في المكان. «تفضل…» أومأت مفسحة مكانًا بجانبي على مقعد الانتظار.
في بلاد الغربة، تتضخم مخاوفنا على الهوية، أنا التي تحلم بثلاث لغات حينما تسافر إلى بلد غير عربي، تتحول لغتها الأصلية إلى خيمة وأستحيل مسنّة تعجن بداخلها ثلاث كيلات… جلس شاكرًا وقسماته تشي بتوتر. أطلت الشمس من بين الغيوم فأحسست بتخفف من قلقي، «من أين أنت؟» بادرته بودّ. «سوريا…» أجاب دون ابتسامة وهو ينظر إليّ بتفحص. «وأنتِ؟»
«فلسطين».
ابتسم قليلًا وتمتم ببضع كلمات مجاملة قبل أن يقول بلهجة مقتضبة: «هل تعلمين، سأخبرك صدقًا… لم نكن نفهمكم من قبل. لكننا بعد هذه التجربة فهمنا ما خضتموه». بوغتُّ بصراحته: «نعم، أنا كثيرة الأسى لما يحدث» قلت مواسية. «هل ما زالت عائلتك هناك؟»
«وحيدًا جئت منذ عامين في سفينة، أو صندوق خشبي يسمونه مركبًا، عَلت الريح فغُصنا كالرصاص في مياه غامرة، النجاة بالنسبة للذين تلمسوا الشاطئ لم تكن أكثر من كسرة خبز ورداء يخفف رجفة البرد». نظرنا إلى البحر الذي بدا كطفل وديع، يحتضن الطريق الطويل بمحاذاة شاطئه.
أربكني توتره، غضبه الجليّ الذي يبدو طافيًا تحت قسماته. «أعمل في مطعم» قال بصوت خفيض. صغير السن، لكن شيئًا ما فيه لا يتسق مع قصته، يرتدي قميصًا وبنطالًا أنيقين ويخفي عينيه وراء نظارة شمس سوداء غالية الثمن. يبدو عليه «العزّ» في زمن فقد عزّته. «أنتظر أوراقي…» أكمل بضجر. انتقل الحديث إلى البلد وإجراءاته، نفث غاضبًا يشكو المماطلة والبيروقراطية التي دون نهاية، «لكني عالق لا أستطيع الحراك قبل الحصول على الإقامة. لا يوجد شيء في هذا البلد، ليس متطورًا!» مر طيف في ذهني عن صعوبة الحياة في البلدان المتطورة التي يعنيها، ببردها القارس جوًّا وبشرًّا، لكني آثرت الصمت مقابل غضبه. «كانت حياتنا هادئة…» أكمل كمن يحدث نفسه. «لم نعرف المشاكل يومًا. لا أدري ما الذي حدث. أسكن في شقة قريبة، مع آخرين» قال كالمستاء وهو ينظر إليّ.
خمنت عمره، أوائل العشرينيات لا أكثر. بالكاد خرج إلى الحياة ليجد نفسه وحيدًا مشردًا. تخفف من حرجه الأوّلي وتركزت النظارة السوداء على وجهي وهو يمطرني بوابل من الأسئلة. لم أستطع رؤية عينيه. ضممت سترتي حول كتفيّ رغم دفء الطقس. ليته يزيل النظارة.
أحسست بالذنب وأنا أروي له ظرفي الطوعي في القدوم والبحث عن عمل، والسعي لبداية جديدة. بدت حرية تنقّلي وسفري نعمة كبيرة يحلم بها، كلانا أدرك ذلك وأنا أتلعثم: «تربّيت هنا…» رفع حاجبيه: «حقًّا؟» وهو يقيسني باستغراب متزايد.
«هل لديك أصدقاء؟» سألته فجأة. «نعم، سوريون…» قال وهو يهز كتفيه. «لم أستطع تعلم لغة البلد إلى الآن، إنها صعبة. هل تتكلمينها؟»
«أفهمها…» توارت الشمس ثانية وبدا البحر كئيبًا والغيوم تتلبد في الأفق. ازداد شعور الثقل في صدري. أحسست أنه يودّ أن تصل الحافلة كي يمضي في طريقه، رغم ودّه المهذب. علت ضحكات طفل صغير على الشاطئ المقابل وهو يلهو بطائرة ورقية بصحبة جده.
اهتممت بألا أظهر أي شفقة. سألته إن كان يعلم بموعد وصول حافلتي، بخفة استخرج هاتفه المحمول ودخل إلى الموقع الإلكتروني لرؤية جدول المواعيد. داهمني شعور متناقض وهو يشرح لي كيفية اقتناء تذكرة شهرية، وأنا أرى مدى الغربة واللوعة اللذين يجاهد في إخفائهما. فجأة اقتربت حافلته ووقف منتفضًا، مدّ يده إليّ بارتباك وهو يقول: «وداعًا…» قلت فجأة: «لم أعرف اسمك؟» «ماجد» قال والركاب يهرولون من حوله للصعود، وأضاف مسرعًا: «لم أحصل على رقمك؟» أعطيته إياه على عجلة وهو يصعد إلى الحافلة. كان ذلك منذ أسبوعين، قبل أن يختفي ماجد إلى الأبد.