بواسطة ليانة بدر - كاتبة فلسطينية | سبتمبر 1, 2019 | تشكيل
كان الغياب السريع لجيلٍ من التشكيليين المؤسسين للفن الفلسطيني الحديث ملحوظًا. أولئك الذين لم تَجرِ دراسة أعمالهم أو الإحاطة بها والرجوع إليها، خصوصًا مَن عاشوا في مخيمات اللجوء، مثل إبراهيم غنام وتوفيق عبدالعال، أو من عاشوا الاحتلال في الوطن وكان الفن لهم أداة مقاومة للحفاظ على الذاكرة والشخصية الوطنية المستقلة، وهو ما عرضهم لخوض سلسلةٍ من التحديات المتواصلة في زمنٍ قاسٍ، وأخصّ بالذكر من بينهم الفنان عصام بدر.
هو فنان فلسطيني من مواليد عام 1948م في الخليل، تخرج من كلية الفنون الجميلة في بغداد- العراق، وحصل على درجة الماجستير في الخزف عام 1982م من أكاديمية تيبليسي للفنون. وقد درس في بغداد في حقبةٍ اشتهرت بالأساتذة الفنانين المميزين، مثل جواد سليم الذي كان أستاذه المباشر ورفاقه الذين اختطوا معه نهجًا مميزًا. وهم الذين قاموا بتأسيس «جماعة بغداد للفن الحديث» كنتيجةٍ حتميةٍ لما كان عليه فهم الفن ودوره في ذلك الزمن. وقد لخص الوضع الناقد سعد القصاب بالقول: «إن الجهود انصبت على خلق الشخصية الوطنية، وإدخال عناصر جديدة في الأساليب، والوعي بالأساليب الحديثة، وتطوير رؤيةٍ يكون أساسها تراث العصر الحاضر والوعي بالطابع المحلي» (خالد خضير الصالحي، لوحات فيصل لعيبي.. الوضع الأمثل وتحريفات المنظور، ملحق المدى 25- 3- 2015م).
وهو ما ظهر تأثيره في الفنان الفلسطيني عصام بدر الذي درس بينهم، ونالته تلك التأثيرات في سطوعها، أي التوجه إلى الطابع المحلي والبحث عن الرموز المرتبطة بالأرض والناس كتعبيرٍ عن مرحلة البحث عن الهوية. نلاحظ أن لوحاته وأعماله الخزفية التي تجاورت معًا في البحث عن العلامات والرموز التي شكلت مشاعر الناس وعواطفهم تحت الاحتلال، وحاولت إحياءها، مثل تشكيلات الحروف العربية. ويبدو هذا واضحًا في لوحاته، خصوصًا المركبة منها، وفي تجاور أعمال الزيت مع النحت الخزفي الذي يتيح له الصقل وإعادة التشكيل في أعماله كافة.
كان عصام بدر من المؤسسين الأوائل لرابطة الفنانين التشكيليين في الضفة والقطاع، التي قامت بدورٍ مؤثرٍ في تجميع الفنانين وتنسيق جهودهم في أثناء الانتفاضة الأولى، كما عملت على تنظيم معارض مشتركة بينهم في أماكن متعددة من الوطن، وقامت كذلك بتدريب جيلٍ من الأطفال والشبان على الأعمال الفنية، وهو ما يشير إلى وعي الفنان بأهمية العمل الجماعي وإحساسه بضرورة بلورة ثقافةٍ فنيةٍ تطول الجميع. تمرد عصام بدر على منطق العلاقات العامة والشهرة الإعلامية، حيث الفن يستعرض نفسه متوسلًا الغرابة وطرائق الإدهاش بأساليب سطحية. كان تكريس الجمال في تفاصيل الحياة اليومية رسالةً أساسيةً في أعماله، وظهر في جميع ما أنتجه من أعمال فنية منوعة بمواد عدة بين الرسم والنحت، مستعينًا بالزيت أو الخزف والزنك والجبس واللينوليوم. وهناك تعليق للفنان الراحل إبراهيم سابا على معرض رسم لعصام في «الحوار المتمدن» يرى فيه أن أعمال بدر يميزها أنها تجعلنا «نرى اليوم بحثًا عن جمالٍ جديد –وقد يكون غريبًا على جمهور المشاهدين– ما تخلقه الأداة وهي: الحجر، الخشب، الزنك، الجبس، اللينوليوم، حيث تخلق هذه الأدوات الجافة حياةً كلها شغفٌ ورِقّة» (عن الإنترنت– دون ذكر التاريخ).
الفن والاحتلال
استخدم الفنان بدر الرموز الشعبية بمحتوى حداثي. فقد عمل في زمن الاحتلال حين غابت عن المجتمع ثقافة الاستمتاع بالفن، بل صار من الصعب العيش فيه وسط الملاحقات والتفتيشات العنيفة. كانت المشاكل المركبة تكاد تُغرق المجتمع بطوفانٍ من الأزمات المعيشية والحياتية، التي قضت على الإحساس بالنبض الجمالي، ودفعت به إلى خلفية الأشياء. وكان البقاء وإيجاد العمل في ظل احتلالٍ لا يرحم هاجسَينِ لأُسر كثيرة لا تعرف كيف تُعيل أطفالها. هكذا اضطرت أعداد كبيرة من الفلسطينيين للشغل كعمالٍ في ظل الاحتلال، وصار الطموح الفني يختفي من الحياة العامة شيئًا فشيئًا بسبب ضرورات الحياة، وصعوبة تحصيل لقمة العيش.
هكذا عاد عصام بدر من بغداد محملًا بطموح أن ينشئ لوحاتٍ وأشكالًا خزفيةً يتداول ضمنها شؤون الحياة اليومية وجماليات الأرض والطبيعة. ورأى أنّ متعة الانغماس في تشكيلات الخطوط العربية توفر ما يمكن للجميع الاستمتاع به عبر الألوان الأساسية المتقشفة. كان يحاول تحقيق حلمه بإمكانية إعادة هذه الجماليات وضمها إلى المعجم المتداول، وردّها إلى الممارسة والتلامس عبر أدوات الحياة اليومية. وكان يعمل على هذا عبر إنتاج قطعٍ خزفيةٍ للحياة اليومية يمكن لكل بيتٍ استعمالها وتداولها. وهكذا لم يترفّع عن أن يقوم بعمل المزهريات، جنبًا إلى جنب مع الأوعية الصغيرة والكبيرة بشتى أشكالها، التي يمكن استخدامها كقطع زينةٍ جمالية، ولم يتوقف عن بث الجمال في كل ما يمكن أن يحوي الفاكهة أو الزهور؛ لأنه كان ابن الحياة اليومية.
لقد رأى أنّ غاية الجمال الوصول إلى الناس، وليس البقاء في المتاحف، ولهذا اختار أن يكون رجلًا من عامة الشعب، لا يطمح في امتيازات تُوصله إلى مصاف نخبة الأبراج العاجية التي تكتفي بذاتها بعيدةً من نبض الناس والشارع. كان يواصل إجراء تجاربه، ولا يتوقف عن استخدام ما ينتجه كناتجٍ قابلٍ للتعديل وإعادة التشكيل، وفيما بعد كان يعمل على استخلاص النتائج لكي يضمها إلى مواكب قِطَعه الفنية الثمينة التي ضمت كسراتٍ ومقاطعَ من الأرض والزهور والعيون والأيدي والنوافذ والطيور أحيانًا. كان يُطَوّع الخزف لكي يعيد تشكيله بفرحة طفلٍ استطاع أن يُحول المادة إلى أشكالٍ تحمل عواطفه الجارفة تجاه العالم بطرقٍ شاعرية. وأحسب أنّ خيار الخزف كان بالنسبة إليه حيويًّا لأنه كان ابن الأرض، ولم يترفع عن الناس وحاضنتهم العظيمة التي تضمهم بين جوانحها. كان يحاول أن ينقل هذا الحب والشغف بالخزف إلى الآخرين، ولهذا لم يتوانَ عن عمل ما يشبه المشغل العام في معمله لكل من يود أن يقوم بعمل قطعٍ خزفيةٍ من ابتكاره الخاص.
هشاشة الخزف
كنتُ واحدةً من الأشخاص الذين أتاحت لهم ورشته العمومية هذا التجريب، كنت أُدهش من خفة يده في الرسم على الخزف كلما قمت بنحت أشكالي المفضلة على قطعةٍ من الطين النِّيء؛ لأنني عندها فقط اكتشفت أن شغفي بالتلوين والرسم جعلني أكتشف هشاشة الخزف وتكسر قطعه بين أصابعي. فلا يمكن التعامل مع الطين الجاف مثل القلم والورقة، فيما كان هو يرشدني إلى مزيدٍ من الخفة التي لا أُفلح في تطبيقها قط. وحينها عرفتُ كيف كان يتعامل مع الخزف كأنه أثيرٌ أو هواء خارجٌ من لُبّ الأرض، في حين أظل أنا، بالرغم من المواهب اللونية التي أمتلكها حسب وصفه، مجرد ضيفةٍ على عالمٍ مُرهَفٍ شفيفٍ لا يُمكنني التعامل معه بمنطق الكتابة.
وبينما ظهر في البداية متجهًا إلى الرسم الزيتي في مرحلة الانتفاضة الأولى التي عاصرها، اتجه بعدها إلى دمج الخزف داخل اللوحة التشكيلية ذاتها، وصار يرسم بالخزف تشكيلاته المفضلة التي تصنع من كل لوحةٍ لحنًا شرقيًّا مخطوطًا بالانحناءات المشرقية والحروف العربية والقباب والخرائط التي تؤشر إلى الأرض دائمًا. كان مهتمًّا بإبراز الأرض في لوحاته وجدارياته التالية، فصوّرها طبقاتٍ طبقات، بحيث يفصل اللون ما يحدث تحت كلٍّ منها. وكان المثير أنه يستطيع استخدام البني والبيج بتذريتهما إلى عناصر صغيرة تُكوِّن ما هو أقرب إلى تراب بهيج اللون، حتى إنه كان يرصد حمائم وثمار فاكهة وتمائم وحروزًا في زوايا أعماله. كانت أعماله تشير إلى أنه يؤكد خاصيةَ جمال الأرض والطبيعة في المحيط الذي نعيشه، ولكن بأسلوبه المتقشف الخاص.
كان شكل الوطن الذي يعيشه يتجلى في التفاصيل الصغيرة التي يراها ساكن الأرض، مثل النباتات والصلصال والطيور والنوافذ، على حد تعبير شاكر فريد حسن، الذي يقول فيه:«من يشاهد لوحاته يحسّ بشوقٍ عارمٍ إلى الحياة والفرح القادم وحب الجمال والطبيعة الأخّاذة، والحنين إلى البيادر وطوابين الخبز، وبالتفاؤل وإشراقة الأمل، رغم الحزن والجرح النازف والألم والمرارة». (الحوار المتمدن– المصدر السابق).
وظهرت رموز الأرض هذه جليةً في جدارياته الملونة التي أقامها بعد عام 1997م في مدينة رام الله، وواحدة منها في بَهو جريدة «الأيام» الفلسطينية، كما توجد أُخرى في مستشفى رام الله حيث قاعة الانتظار الكبيرة، فيما لا نعرف مصير اثنتين أُخريين كانتا على جدار فندقٍ في رام الله.
وأعود إلى هذه العبارات: «ثم مَن منا لا يستعيد خزفيات الفنان الراحل عصام بدر بألوانها الشرقية الدافئة النابضة حياةً وتوهجًا؟ كان عصام بدر يوحد اللون الفيروزي في ذوبانه مع الذهبي. وكان بخطوطه القوية يستمد من نبع الحكايا وألوان الزجاج الفينيقي الذي ما زال يُصنع في الخليل حتى الآن موسوعاتٍ لونيةً شاسعة. فهل تُنسى لوحاته التشكيلية ذات الرموز والتربيعات والعصافير عن جمال الأرض في بلادنا».
(هل يصير الجدار عنوانًا لذاكرتنا –ليانة بدر– الطريق، عدد 43، مارس 2008م).
جدارية الانتفاضة
كانت الأرض موضوعه المفضل، إلا أنه تناولها بشكلٍ مختلفٍ في الانتفاضة الأولى، ذلك أنه كان من أوائل الفنانين الذين عملوا على رصد الاحتلال وتبيان وجوده البشع في حياة الفلسطينيين، وكانت قد اشتهرت له لوحة في وقت ما، وعلى نطاقٍ شعبيٍّ ترسم حصانًا متمردًا يعصي الكائن الذي يحاول أن يلجمه ويسوقه حسب هواه. ولهذا، لم يجد عصام خيرًا من التعبير عن الانتفاضة الأولى عبر الأشكال الخزفية التي جعلها تتواصل بطريقتها الخاصة في جداريته الأولى التي أُقيمت على جدار بلدية رام الله.
ويمكننا هنا أن نتوقف عند جداريته الأولى التي أقامها على جدران بلدية رام الله، واستغرق العمل عليها نحو السنة، ونُقلت حاليًّا إلى جدران قصر الثقافة، وهي من النحت الخزفي، وقد صُنعت من الفخار بطبقةٍ من طلاءٍ زجاجيٍّ باللون البرونزي، وهي عبارة عن سبعة تشكيلات لثمانية أشخاص على طريقة «الفيجرز المستقل»، وحجم كل منها بين متر ونصف المتر أو مترٍ وثلث المتر. ورُكِّب كلّ منها بحيث تتالى مع الآخر. وتعتمد التواصل بعضها مع بعض حسب الحركة الكلية أو الإطار العام للنحت الذي هو الأساس التعبيري للعمل الجداري. والأشكال هذه تمثل:
الجندي، والأم والطفلة متداخلتين وحولهما غصنا الزيتون يتقابلان، والرجل العجوز الذي مثَّل الرحيل بالعصا والزوادة، وهو من جيل النكبة، والفلاح وسنبلتا القمح متوازيتان حوله، والمواطن السجين الذي تحتجزه السلاسل، والفدائي الذي كان الرمز المشرق لتلك المرحلة. وهناك امرأتان تتبادلان الأسرار وسقاية الماء بالجرة. وقد أتى الخبر في صحيفة «الفجر» التي كانت تصدر في القدس آنذاك بتاريخ 21-1-1980م بأنه «تعتبر هذه الجدارية تحوُّلًا في الفنّ المحلي الفلسطيني».
لم يتوقف الفنان حتى ساعة رحيله المبكر عن الحلم بأن تنتشر الجداريات في كل الأمكنة العامة في فلسطين، حتى إن غرفته في قسم الإنعاش في مستشفى رام الله كانت تنفتح على جداريةٍ له صنعها هناك، قبل أن يخطر له أنه سيكون أحد ضيوف ذلك المكان يومًا. جداريةٌ أراد أن يرسم فيها خلاصة الجمال والحياة الكريمة التي كان يتمناها له ولشعبه. هو الذي عانى ويلات الاحتلال، وناله الضرب والركل والصفع من الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يَدهمون محترفه الفني «غاليري 78» حينما كان يُعلّم الرسم والألوان للأطفال الفلسطينيين في أثناء منع التجول في الانتفاضة الأولى. وظل يحلم أن يضع الناس متوالياتٍ خزفيةً من حروفٍ عربيةٍ داخل بيوتهم، ليتمتع الجميع بالملمس والتشكيل المستمد من طين الطبيعة الذي عجنه الإنسان لكي يسبغ الفرح على حياته الصعبة.
لوحاته الأخيرة المصنوعة من الخزف كانت هشة ورقيقة، ولها منطقها الخاص، وتميل إلى التجريد الذي اعتمده وانتقل إليه في المراحل الأخيرة من حياته. فقد اعتمد حينها أشكال الحروف العربية كتسلسلٍ متواصلٍ حمل إلى أعماله النحتية والتشكيلية جرأةً في استخدام المواد والألوان. كان رهان حياته محاولة تطويع المواد التي تُسهم في خلق جوٍّ تعبيريٍّ مستمَدٍّ من مناخ التراث الفلسطيني، والبحث عن إبداع الزخرفة والمنمنمات الموجودة في الثوب الفلسطيني. لكن أعماله الأخيرة تلك ظلت غير مكتملة، مثل مشروع الحياة الذي يحمله الفلسطيني ككائنٍ فردٍ يقارع عذابات الاحتلال يوميًّا على الحواجز وفي كلّ مكانٍ يتنقل فيه.
بواسطة ليانة بدر - كاتبة فلسطينية | يوليو 1, 2018 | نصوص
إلى ذكرى ستيفن هوكينغ
الجهاز الضوئي الصغير..
بدأ يصف الحروف التي استخرجتُها من الزجاجة التي طفتْ على سطح البحر قبل قليل، ولم يتوقف،
ثم بدأ في خطّ كلماتٍ لم أعرف ما الرابط بينها.
«عسل. صيف. يعسوب. دفء. بني. ليلكي. قصب. دالية. كمشة من التراب. نسمة. ورق البردي. آيس كريم بالفانيلا. عنب. بهارات. شريط موسيقي. أزرق. ناي. قميص. فرس. ثلج…».
كنتُ قبلها بدأتُ التفتيش على معنى كلمة حُبّ، التي صرت أجدها في العديد من الكتابات الغامضة التي أعثر عليها مصادفةً. وجدتُ هذه الكلمة في الرسوم والشرائط التي تمثل جزءًا من الحياة على وجه الأرض قبل عصر المياه القوية. كلُّ هذه الأسماء الغريبة التي تتالت أمامي تُصيبني بالتوتر. كم هو غريبٌ أنني لا أعرف الكثير من الكلمات التي استخدمها الناس في الزمن العتيق؛ حين كانت الأشياء مختلفةً ومُغايرةً لما نعرفه اليوم بعد زمن الطوفان العظيم.
بدأ فضولي حين وقعَت بين يديَّ رسالةٌ في قنينةٍ زجاجيةٍ تطوف داخل تيارات المياه، وكانت مليئةً بكلمات تصف الحب الذي أتمنّى أن أعرف معناه. كانت تعود إلى رجلٍ أراد أن يُوصل إلى حبيبته مشاعره الفيّاضة، وكان ذلك قبل لحظة هجوم مياه المحيطات على اليابسة.
كان من مهمات جهازي اليابانيّ الصغير، الذي لا يتجاوز حجمه إصبعين، أن يجعلني أعرف معاني الأشياء المذكورة أو ارتباط بعضها ببعض. يُمكن لهذا الجهاز أن يقوم بالبحث في جميع الأنسيكلوبيديات المختصة بمجرد الكبس على زرٍّ واحد. ويمكن له أن يعلم عن طريق التليباثي إن كنتَ قد اكتفيت، أو أنّ عليه التفتيش عن المزيد.
أُريد أن أعرف ما هو الحب، أُريد أن أَلمسه، وأن أتطلع إليه وأن أحمله معي دومًا، لو كان فعلًا هناك. أثّرت الكلمة فيّ، وأضافت إلى جهازي معنى جديدًا ينبض بالغموض والشغف. صار الدفء يسيل على رؤوس أصابعي أثناء التفتيش، وهي التي عهدتها باردةً كالثلج. كانت الرسالة التي حملتها الزجاجة الأولى قد أُرفقت بملاحظةٍ تقول: إنها تعود إلى ثلاثين رسالةً سجَّلَتها اليد ذاتها. وحتى الآن، لم أجد إلا واحدةً منها. وعلى الرغم من أنّ الاحتمالات لا نهائية في أن أجد بعضها أو لا أجد شيئًا على الإطلاق، فإنّني كنتُ من القلائل بين مجموعتي الجبلية ممن سُمح لهم بالتدرُّب على الغوص ومحاولة العيش تحت المياه. ربما لهذا وجدت القارورةَ الزجاجيةَ التي حملها الموج بعد أن شُطبت الخرائط القديمة، وانقسمت البلدان السابقة، وتغيّرت الأجواء تمامًا. فقد تحوَّلت طبيعة الأرض، وتغيّرت طبيعة سكانها، منذ أيام «تسونامي العظيم» الذي أعقب ذوبان المحيطات والبحار المتجمدة، خصوصًا القطبين الشمالي والجنوبي.
بات البشر جميعًا يتحدرون الآن من نوعين لا غير: أهل الجبل وأهل البحر.
بعد أن غرق الكثيرُ الكثيرُ من سكان الأرض لم تعد هناك أعراقٌ متنوعة، بل عِرقٌ بشريٌّ واحدٌ يتمتع أصحابُهُ بأشكالٍ مختلفةٍ وألوانٍ متعددة، واسمه «حبُّ البقاء». وسبق ذلك إعلان «الأُمم المتحدة»، التي تحولت إلى كيانٍ معنويٍّ موجودٍ على الأجهزة الذكية فقط، أنَّ أهل الأرض يعودون جميعهم إلى منشأ جينيٍّ واحد، وأنّ عليهم أن يكفوا عن تفاهات العنصرية التي أوصلت كوكبنا إلى حافة الإبادة. كان اكتشاف عام 2017م عن إنسان Brigton في منطقة شيدار Cheddar واكتشافاتٌ موثوقةٌ أُخرى في أماكن أُخرى أثبتت أنّ لكثيرين من سكان العالم الشمالي وإنجلترا الأصليين بشرةً سمراء داكنةً وعيونًا زرقاء منذ العصر الميثولوني. وعزَّز هذا الفتح العلمي ظهور فتياتٍ ذوات شعرٍ أشقر وبشرةٍ فاتحةٍ في العالم العربيّ وإفريقيا، قاومن استعمار الحكومات واضطهادها كلَّ من لا يتمتع ببشرةٍ بيضاءَ ورصيدٍ محترم، فقضين على الخيالات الجامدة التي حددت الأعراق بألوان الناس وتدرُّجات الفاتح والغامق في ألوان البشرة وحدقات العيون.
حدث الخراب الأعظم قبل أكثر من عشرين عامًا، حينما التقى حاكم أقوى دولةٍ في شمال الأرض آخَرَ في أقصى جنوبها، وكان لكليهما طبعٌ نَزِقٌ وحادُّ المزاج ومصالحُ تجاريةٌ متعارضة، وهكذا تقاتلا يومها على معنى عبارة «الحد من التسلُّح النووي»، ووصل تحدّي المجانين بينهما إلى استخدام قنابل اختبارية هيدروجينية وفراغية اعتبراها بمثابة استعراض عضلات، لكنّها زلزلت الأرض، وأبادت قسمًا كبيرًا من السكان، والأفظع أنّها هيّجت المحيطات، فاندفعت لتمحو المدن الساحلية البهيجة.
لم يعد من منجى سوى الجبال. وهكذا صار لأهل البحر أن يعيشوا على قوارب فوق الماء، وأن يتدربوا على المكوث تحت المياه ساعاتٍ طويلةً ملتزمين بتدريباتٍ قاسية، لكي تنجو الأجيال القادمة من مصيرٍ قاسٍ لَحقَ بالأوائل. أما أهل الجبال، فيتدربون طيلة الوقت على أن يكونوا قافزين؛ مثل الرجل المطاطيّ الذي ظهر للمرة الأولى بين شعبٍ صغيرٍ كان مُهدَّدًا بأخطارٍ كبيرةٍ يُدعى الفلسطينيين. كان هذا منذ أيام الجدران العالية التي أقامها المستعمرون في بلادهم لتفصل ما بين قريةٍ وقرية، ومدينةٍ وأُختها، وأُناسٍ وعوائلهم. وكان مما يدعو إلى العجب أنّ ذلك أثَّر في تطوير قدرات بعض الفلسطينيين عبر طفرةٍ وراثيةٍ أنتجت جيلًا من عابري الأسوار العالية، بعد أن جعلهم قضاء الوقت الطويل على حواجزَ إلكترونيةٍ ذات أسوارٍ مُدججةٍ بالمعادن والأشرطة المكهربة يُجيدون اختراع فنونٍ من القفز واجتياز الحقول المكهربة مما لا يُتقنها غيرهم. وقد يسّر لهم هذا السكنى على الأشجار، تمامًا مثلما فعل سكان الغابات في القارات كافة.
أما في الدولة التي اضطهدتهم، وكان تخصصها الأول بيع الأسلحة وإرشاد الدول الأُخرى إلى إقامة الجدران العازلة حول الأكواخ، فقد صار هدف وجود الكثيرين فيها الدفاع عن رأيهم وعن تفوُّقهم على أولئك الفقراء المحبوسين وراء الأسوار، وذلك بالكتابة على ما تبقَّى من الطرق الخَرِبَة والجُسور المُنهارة والبنايات الضخمة الآيلة للسقوط بسبب عنف الفيضان: «ليس لنا شريكٌ في السلام»، و«وحدنا أصحاب القرار»، و«مُوتوا بغيظكم، فنحن شعب الله المختار رغمًا عنكم».
كان هؤلاء الممسوسون يُشبهون آخَرين من سُكّان الكرة الأرضية ممن صعب عليهم الاقتناع بأنّ اكتشافات الـD.N.A أعلنت أنّ سكان الأرض يملكون المنشأ الجينيَّ ذاته، وأنّهم يتشابهون جميعًا في الحقوق، مهما تغيَّرت دياناتُهُم ومذاهبُهُم، وأنّ الألوان والأجناس المألوفة ليست إلا طلاءً خارجيًّا للبشر، يُشبه أن يصيرَ لونُ التفاحة أشدَّ حمرةً أو أكثر دكنةً وشُحوبًا، أو كاختلاف لون السمك الذي يعيش على الرمال عن قرينه بين الصخور.
لكنّ هذه الزجاجة والرسالة الغريبة داخلها أطارتا لُبّي.
فأنا بحقِّ الجحيم أُريدُ أن أفهمَ ما هو الحُب، وهذا الجهاز الضوئي الصغير لا يُقدم لي إلا شرائطَ ومعلوماتٍ لا أستطيع أن أستخلص منها شيئًا مُحدَّدًا. تحت كلمة «حب» تندرج ملايين الأغاني، ومليارات العبارات، ورقصاتٌ بعدد النجوم، وعباراتٌ غامضةٌ مثل ظواهر المجرات البعيدة التي لا يمكنني إدراك معانيها، أو حلّ رموزها دون الالتحاق بعلماء الفلك، وأنا مَن أتخصّصُ حاليًّا في علم المُحيطات حفاظًا على استمرار الحياة البشرية، ويشمل هذا قياس كثافة الأسيد الكربوني، ومدى انتقال الإشعاع عبر المياه، وقياساتٍ أُخرى خاصةً بالمحيطات لا علاقة لها بكلمات الحب.
ولأنّ معنى كلمات الرسالة المعقد وسياق تتابعها لم يكن واضحًا بالنسبة إليّ، بات عليَّ أن أُحاولَ فهم الصور التي وردت أمامي. كنتُ أُحاول أن أجد معنى كلمة حب بما يتجاوز القاموس أو الموسوعة. كانت عملية البحث لا نهائيةً فعلًا، حتى إنني عثرتُ على مخطوطٍ عربيٍّ لابن حزم الأندلسي اسمه «طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف»، وهو رسالةٌ في الحبّ، قسّمها صاحبها إلى ثلاثين بابًا، ومنها في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة فقط اثنا عشر بابًا. وقد دُهِشتُ واهتزَّت المرئيات أمامي حينما قرأتُ مفتتح كتابه بالقول:
«الحب –أعزك الله– أولُه هزل، وآخره جد».
فماذا يعني هذا فعلًا لمن كان مثلي لا يعرف، أصلًا، الفرق بين الجدّ والهزل؟!
كم يبدو الحبُّ مُعقَّدًا وغامضًا، مُرتبِطًا بالمآسي والأهوال والغضب. كم يبدو ملتبسًا حين يضع مسؤولية الكائن بيد من يُحبه. كم استمعتُ لأُغنياتٍ باللغات المفهومة كلها، وكم قرأتُ أشعارًا تُحاول وصفه، فلا تُجيد في الإحاطة به، كأنه كائنٌ خرافيٌّ مصنوعٌ من الفرح والحزن معًا، لكنّ أحدًا لا يستطيع الإمساك بتركيبه الجينيّ.
وأكثر ما أثار دهشتي أنّ المراجع تربط الحب بأنواعٍ من: الكتابة، والطعام، والرقص الذي لا يمكننا حصر أنواعها التي تعددت بلا نهائيةٍ تُعادل أيام التاريخ الإنسانيّ، بل أدهشتني أسماء بعضها أو التشبيهات التي ترد في أغانيها مثلما تقول أُغنية Sway هذه:
When Marimba rythms start to play
dance with me
Make a sway
Like a lazy ocean hugs the shore
Hold me close, sway me more
حقيقةً كان من الصعب عليَّ استيعاب أنّ المحيط الذي يبتلع الناس بسهولةٍ كان يرقد في الأُغنية كسولًا هانئًا، وهو يحضن الشاطئ أمام المُحبّين. يبدو أنّ سلوك المياه وفورانها وغضبها قد ثارت على الناس منذ تلك السنوات التي غرقت فيها قوارب المُهاجرين من إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط إلى دول الشمال. ولا بُدَّ أنّ هذا ازداد عنفًا مع حدوث تسونامي المجنون.
كنتُ عثرتُ على منظارٍ يُشبه المرقاب على الشاطئ بالقرب من المكان الذي عثرت به على الزجاجة، وأردت استخدامه لأفهم ما يجري؛ لأنّ الأجهزة الذكية التي لدينا تربط الأشياء ببعضها، وتُدخلنا في حالة تخاطُر (تليباثي) مع مَن أرسلها كي نرى بعينَيه.
بدأتُ أُعالج المادة التي وجدتُها مكتوبةً على هذا المرقاب بعد أن وجدتُ الرسالة تلك، وأخيرًا استطعتُ أن أجد العلاقة بينهما، وأن أرى حرفَين محفورَين على جسد الأُنبوب النحاسيِّ داخل شكلٍ يُمثل القلب رمزيًّا. وعندما بدأ جهازي في العمل، بدأَت الكلماتُ تتحدُ مع بعضها. وبدأت أفهم أنَّ كلَّ حرفٍ يُشيرُ إلى اسمٍ واحدٍ من هذين المُحبين المجهولين.
انتبذتُ ركنًا قصيًّا بعيدًا عن درب الناقلات التي تُشبه عربات التلفريك قديمًا، وتحررَت الآن كليًّا من دعم الحبال المعدنية خلال طيرانها. كانت تلك هي المواصلات الفضائية التي تُستخدَم لنقل العلماء بعد أن انتهى عهد السيارات القديمة. وبدأتُ متابعة مسألةٍ غريبةٍ تبدَّت لي على شاشة الجهاز. رأيتُ عناوينَ ومناظرَ وصُوَرًا لحربٍ في الشرق الأوسط، حربٍ في البلقان، حروبٍ في اليمن، حربٍ في سوريا، حُروبٍ في فلسطين، حُروبٍ في كلِّ مكان. كان هذا كله على هذه الأرض التي غزتها المياه التي أدت إلى الطوفان الكبير. لحسن الحظ، استأنف بعضنا العيش، وتغلَّبَ على الكثير من العقبات والمآسي التي خلَّفتها حروب البشر وحروب الطبيعة ضدنا.
لم تكن معي قطرات الرحيق التي انتزعتُها من صمغ شجرات الصنوبر الصينيّ، التي آخذها ليلًا كي تُجدد نشاطي؛ لذا نمتُ بعُمقٍ تلك الليلة في كوخي المُعلَّق فوق الأشجار القليلة التي تبقَّت بعد الانفجار النوويّ الأخير في منطقتنا. صحوتُ في الصباح التالي، وكانت الموسيقا الصادرة عن الجهاز الصغير الذي ثبتُّه بالأمس على كلمة «حب» تعمُّ المكان، فالسات، رقصٌ شرقيّ، فلامنكو إسباني، حفلةٌ كاملةٌ كانت تصدر عن الجهاز محملةً بكل أنواع الموسيقا في العالم القديم. كانت تنزل بتراتُبٍ مُتّصل.
كانت فكرةً سديدةً أن أربط ذاكرة الجهاز مع ذاكرة المرقاب القديم المرميّ على الشاطئ؛ لأنّ الذرات تحمل ذاكرة الأحداث التي مرَّت بها، وهكذا بدأت التليباثي بينه وبين جهازي الخاص.
كان جهازي ينقل لي ما رأته عينا صاحب المرقاب في لحظاته الأخيرة. كان متمددًا على شاطئ بُحيرةٍ وهو يتأمل الطيور البيضاء التي تُغطّي السماء خلال طيرانها، وهي مرشومةٌ فوق المحيط الأزرق. ألوانٌ بهيةٌ زاهية.. لم يخطر لي أنها موجودةٌ قبلًا بسبب تعكُّر المحيطات والبحار.
الأزرق.. اللازورديّ.. السماويّ.. الأبيض.
يا لَلمزيج الرائع!
كان الرجل مرتاحًا على العُشب ينتظر زوجته المصورة التي تعمل لمجلة تُدعَى «الجغرافيا العالمية» في مشروعٍ يهدف إلى الحفاظ على الطبيعة وكائناتها النادرة. كان هو المحرر، وكانت هي التي تلتقط صور الحيوانات التي صارت نادرةً الآن؛ لكثرة الصيد وشدة التلوث وصعوبة حصول هذه الكائنات على غذاءٍ بعد أن بدأ الجليد في الذوبان. لقد رأيا بأُم عيونهما دُبًّا يحتضر جوعًا، وفراؤه الجميلُ الأبيضُ مُغطّى بِبُقعٍ من القذارة والفحم، وذلك لأنّ ذوبان الثلوج جعله عاجزًا عن اصطياد السمك وسط المياه المُندفعة في دوّاماتٍ جنونيةٍ حوله. كلاهما كان عاشقًا للدولفينات والحيتان والفقمات وعُجول البحر وطيور البنجوين الحساسة والثعالب القطبية البيضاء والكلاب، التي تتشابه والذئاب، ونوارس الماء، سواء الرمادية أو ذات اللون البنيّ، وكلاهما كان يعاني من مشكلة دمار الطبيعة بسبب تغلُّب التلوُّث والقذارة على بقاعٍ كانت عصيةً على الوصول إليها، إلا أنها امتلأت الآن بزوارقَ صغيرةٍ وكبيرةٍ تحمل جُموعًا وحشودًا من البشر لغرض السياحة والتسلية. كان العالمُ الطبيعيُّ قد تحوَّلَ إلى منبعٍ لصناعاتٍ ضخمةٍ أُقيمت من أجل تسلية الأغنياء وإيجاد أثاثٍ فاخرٍ لهم، وأمكنةٍ جديدةٍ يُروحوّن بها عن أنفسهم المَلولة، فيما الفقراء والمُهمَّشون من سكان الأرض الأصليين محتجَزون وراء جدرانٍ وشبكات أسلاكٍ ضخمة، لكي لا ينزعج برؤيتهم هؤلاء السعداء.
كان الرجل يرقد تحت أشعة شمسٍ بلون العسل (العسل: هو إفرازٌ حلو الطعم من النحل)، وكان ينتظر زوجته كي تنتهي من تصوير الطيور، التي غطت الهضبة المعشبة المُطلّة على البحر الشمالي، فيما كان مُغمضَ العينين على حلمٍ جميلٍ حينما بدأ الانفجار المائيّ الأول.
ركض ليُفتّش عليها، وترك وراءه حقيبته المنتفخة، التي حملت الزجاجةَ الأخيرة من رسائل الحبّ التي كان قد أَعدَّ لإسقاطها في ذلك اليوم على الشاطئ الذي حطّا عليه، ومرقابه النحاسيّ الصغير. لسببٍ ما كان قد أودع المياه تسعًا وعشرين زجاجةً سابقًا، وكان هذا احتفاءً بالحُبّ الذي جمعهما في هذه المنطقة الساحرة من العالم. ولم يخطر له أبدًا.. أبدًا لم يخطر له أن يبدأ انفجارٌ كونيٌّ من نوعٍ مختلف.
تصاعدت الأمواج العملاقة، وابتلعت العالم كله. أو هذا ما بدا له. عندما حدث هذا كانت امرأته تستدير عائدةً إليه، وشَعرُها المُجعَّدُ الطويلُ يطير خلف ظهرها وهي ترفع له يديها تعجُّبًا واستغرابًا.
ثم حدث كلُّ شيء.
أو إنّ ما حدث كان يؤدي إلى لا شيء.
وأنا! ما الذي سأفعله بعد أن انقبض جلدي وشعري وجسدي بسبب هذه القصة الحزينة؟
سأُواصل التفتيش عن معاني الكلمات التي لم أفهمهما. سأفهم معنى ما لم أُفكر فيه يومًا، ولم يخطر لي أبدًا قبلها. أُريد أن أعرف معانيها جميعًا:
«عسل. صيف. يعسوب. دفء. بنيّ. ليلكيّ. قصب. دالية. كمشة من التراب. نسمة. ورق البردي. آيس كريم بالفانيلا. عنب. بهارات. شريط موسيقي. أزرق. ناي. قميص. فرس. ثلج…».
أُريد أن أفهمَ لغة الرجل الحالم، أُريد أن أصير مثله، وأن أعرف دواعي استخدام هذه الكلمات.
قد أزور فصيل الشبان والشابات الذين يُواصلون دراسةَ علم الأشجار مع العلماء المتخصصين في النبات، ليشرحوا لي بعضًا منها.
وربما أيضًا علماء الشمس، بعد أن صرنا مُهدَّدين بخسارتها وانطفائها قريبًا.
وربما علماء النفس والسلامة العقلية، لكي أتأكد إنْ كانوا وجدوا الطرق لشفاء هؤلاء البشر الذين يكتبون مديحًا لأنفسهم على الجسور الخربة وفوق المباني المهدمة؛ لأنهم يظنون أنهم أفضلُ وأحسنُ وأهمُّ من بقية البشر، ويريدون لهذا الاستئثار بالأرض والخيرات والفضاء.
أُريد أن أسأل إن كان ثمة من سيشرح لي معنى كلمة حب؟!
ولا بد من أنَّني سأفهمُ يومًا ما كان الرجل يحلم به في تلك اللحظة على ظهر تلك الهضبة المُعشبة، وآلاف الطيور تعبر السماءَ الصافيةَ فوقه، والغيوم تمشي وئيدًا مثل قطيعٍ من الأفراس التي ترعى في سماءٍ زرقاءَ تحت أشعة شمسٍ عسليةٍ وهو ينتظر امرأته.
أزرق. أبيض. لازورديّ. سمائيّ.
هذه الألوان هي درسي الأول في الأحلام..
أو ربما الحب!
لا بد!
«فصل من رواية جديدة»