سينما عمان.. من منبر للسلطة إلى معالجة القضايا الشائعة
«السينما المعادل الشعري واللوني لـ(الأزرق الكبير)» محمد الحارثي
لا يمكن أن نبدأ أي سرد عن السينما العمانية من دون أن ننطلق من حيث كتب الشاعر والكاتب العماني محمد الحارثي عن دور السينما الأولى في عمان، ففي كتابه «ورشة الماضي: أوراق في الشعر، السرد، السينما، وسير الترحل» (مؤسسة الانتشار العربي) خصص فصلا فيما يشبه السيرة الذاتية، حول علاقته الشخصية بالحضور الأول للسينما في المشهد الثقافي العماني، وكان دخول السينما في منتصف السبعينيات على حد تعبير الحارثي إثمًا لا يغتفر اجتماعيًّا ودينيًّا، إلا أن وزارة الإعلام ابتكرت آنذاك فكرة عروض السينما المتحركة في عربات متنقلة، وذلك بسبب عجز وصول الإرسال التلفزيوني إلى كل مناطق عمان، «شاهد فيها الجمهور مآثر العهد الجديد من أفلام توجيهية تختارها وزارة الإعلام» (ورشة الماضي، للحارثي) ومن هنا فإن عهد العمانيين مع السينما كان عبر استخدامها كمنبر يحقق غايات السلطة، التي كانت تواجه في ذلك الحين مشكلات عديدة منها وبلا شك حربها الضروس ضد الشيوعيين في جنوب السلطنة، ومحاولة بناء دولة جديدة قائمة على المؤسسات المدنية، في بلاد تمتاز بصراعات قبلية، وتيار ديني تمثل حكم عمان في أوقات سابقة.
وفي أوائل السبعينيات حسب الحارثي افتتحت عدة دور للعرض السينمائي في عمان وهي: سينما ريكس، وسينما النصر، وسينما بلازا، التي كانت دور عرض اقتصرت على الأفلام الآسيوية الموجهة لترفيه العمالة الآسيوية العاملة. عدا سينما النجوم التي غامر مستثمر لبناني بافتتاحها مع شركاء عمانيين حيث خصصت يوم الجمعة لعرض فلم عربي إلا أن هذه التجربة لم تستمر نظرًا لقلة توافد العمانيين والجاليات العربية لارتياد دور السينما، مقارنة بنظيراتها التي نالت نجاحًا واسعًا.
النشاط السينمائي العماني، اقتصر على مجموعة من الدراسات السينمائية التي قام بها بعض الأدباء والمهتمين بهذه الصناعة كان منهم الأديب العماني عبدالله حبيب الذي صنع مجموعة من الأفلام القصيرة خلال مدة دراسته بأميركا. وهناك مجموعة من الأسماء التي درست السينما في مصر أمثال خميس الرفاعي وهو الملحق الثقافي بسفارة السلطنة في القاهرة ومال الله الذي يعمل في التلفزيون ومنصور عبدالرسول الذي يعمل هو الآخر بالتلفزيون، لكن أيًّا منهم لم يحقق عملًا سينمائيًّا يذكر سوى مشاريع التخرج الخاصة بهم. (السينما العربية وآفاق المستقبل – جان الكسان – الفن السابع – منشورات وزارة الثقافة المؤسسة العامة للسينما – دمشق ٢٠٠٦م) ومن خلال ذلك يمكن أن نستنتج أن الفلم العماني القصير مرتبط بمناخ طلابي. والاستدلال على ذلك يمكن بالنظر تاريخيًّا في نشوء الفلم العماني وتطوره. وهكذا كان أول اشتغال سينمائي عماني طلابيًّا وهو لحاتم الطائي وعبدالله حبيب بوصفهما طالبين في الولايات المتحدة الأميركية عام ١٩٨٨م باستخدام كاميرات سينمائية احترافية. حاتم الطائي أخرج فلم «السقوط» وبعد عودته أنجز الفلم الروائي القصير «الوردة الأخيرة» عام 1989م ثم أعقبه بفلم «شجرة الحداد الخضراء» (الذي لم يكتمل)، وقام المخرج محبوب موسى بإخراج عدد من الأفلام القصيرة في أثناء متابعته لدورات سينمائية في أحد المعاهد الأميركية المتخصصة، كما أخرج الشاعر الناقد عبدالله حبيب في بداية التسعينيات عددًا من الأفلام الروائية القصيرة. منها فلمه الذي حاز جائزة دولية وهو «هذا ليس غليونًا» (اعتمدت الكاتبة على المقابلة الشخصية مع الكاتب والسينمائي العماني عبدالله خميس في كثير من أجزاء هذا المقال).
تطلعات كبيرة
ويعد فوز فلم «هذا ليس غليونًا» لعبدالله حبيب بالجائزة الفضية في مسابقة مؤسسة الثقافة والفنون، بالمجمع الثقافي، في أبو ظبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة عام ١٩٩٢م بداية أكثر من مبشرة للسينما العمانية التي كانت تحمل عبر هذا الجيل تطلعات كبيرة صقلتها المعرفة، والقرب الثقافي من تجارب مؤثرة في السينما حول العالم، ولعل المثال الأبرز على ذلك هو كون هذه التجربة، أعني «هذا ليس غليونًا» لعبدالله حبيب تدخل ضمن نطاق «التجريب» الكامل في العمل الفني، أي عدم الالتزام بالشكل التقليدي وتقديم رؤية فنية جديدة تعكس الروح الشاعرة والمتمردة لطبيعة ذلك الجيل، إلا أنه ولمشاكل عديدة واجهها ذلك الجيل توقف عن لعب دور المنتج واقتصر ما تبقى من نشاطه على تقديم الأطروحات والدراسات حول الأفلام السينمائية، من دون تجربة صناعتها من جديد. حدث بعد ذلك انقطاع كبير إلى حين ظهور كاميرات الديجيتال، وعاد الفلم العماني ليؤكد ارتباطه بعالم الطلبة والكليات. ظهرت أفلام كل من يوسف البلوشي وجاسم البطاشي وعبدالله البطاشي الذين خاضوا تجارب دراسية مرتبطة بالاشتغال الفني مثل الإخراج المسرحي. الانتعاش الجديد للفلم السينمائي جاء في الورش التي قامت دائرة الأنشطة الطلابية بوزارة التعليم العالي بإدارة الفنانة التشكيلية بدور الريامي ونائبها سلطان العزري. إذ أقاموا ورشة للأفلام، وهذا في العام الأكاديمي ٢٠١٠- ٢٠١١م في كلية العلوم التطبيقية بنزوى. شارك فيها المخرج عامر الرواس، وناصر الشكيلي من مركز القدس للإنتاج الفني، واختيرت كلية نزوى لوجود معامل حاسب آلي جاهزة للعمل. استمرت الورش ٣ أعوام وتصادف وجودها مع مهرجان الخليج السينمائي. فبدأ العمانيون يشاركون في المهرجان. وغلبت على الأفلام في هذه المرحلة مزية العمل المشترك. وفازت بعض هذه الأفلام في دورات مهرجان الخليج السينمائية الأولى، وهو ما شجع دائرة النشاطات الطلابية فقدموا الورشة لعامين آخرين. وظهرت في تلك الحقبة ولأول مرة أفلام لمخرجات عمانيات منها: «تيمنية».
ومن أبرز الثيمات التي عولجت في أفلام هذه المرحلة: القرية، والطفولة، والحنين على اعتبار أنها مواقع تصوير متاحة ويمكن معالجة مواضيع مرتبطة بها، فكثرت مثلًا الأفلام التي تناولت «قرية حمرا العبريين، المسفاة» بوصفها موقعًا تراثيًّا وثقافيًّا استغله العمانيون أحيانًا في تقديم عمل فني متماسك فنيًّا وفي أحيان أخرى كبطاقة عبور لقبول الآخر لرمز من رموز الهوية العمانية في مهرجانات عالمية، لم تعتمد المعالجة الفنية وحدها لقبول العمل السينمائي بل اعتبارات أخرى مرتبطة بالقدرة على تكريس التابوهات في مجتمعات منغلقة أو نقل التراث، وتحرير المرأة على سبيل المثال لا الحصر. واستمرت هذه الثيمات في حضورها البارز في السينما العمانية إلى اليوم، نظرًا لكون غالبية الأفلام المنتجة هي مشاريع طلابية غير مدعومة، تكفل صانعوها باستخدام أقل الموارد كلفة. هذه مقدمة لا بد منها إذا ما أردنا أن نقيم وضع السينما العمانية اليوم ولا يمكن بمكان أن نعزل صناعة الفلم عن الحالة الثقافية العمانية، التي وفي سرد تاريخي لها في كتابه «مفاتيح ضئيلة سماوات واسعة» كتب عبدالله حبيب عن المراحل العسيرة لتاريخنا الوطني التي تعذر فيها وجود فضاء عام ذي فعالية كبيرة، وصولًا إلى ارتباط العمل الثقافي في عمان بالمؤسسات الرسمية، وهو الأمر الذي قد يعني حدودًا مرسومة للتعامل مع الخطاب ومفردات المشهد الثقافي في عمان.
قضايا اجتماعية شائعة
أُطلق مهرجان مسقط السينمائي الأول عام ٢٠٠١م تحت مظلة فرقة فناني مجان المسرحية (ورقة بحثية: مدخل إلى التحولات السينمائية في سلطنة عمان ودور الجمعية العمانية للسينما في نشأة الحراك السينمائي – محمد الكندي)، ولعل في هذه الإشارة تأكيدًا مستمرًّا على كون السينما العمانية إلى مدة قريبة، لم تعامل كصناعة مستقلة بعيدًا من مساهمة فنانين من المسرح ورواد الفن التشكيلي والأدباء والشعراء، وفي عام ٢٠٠٦م أُشهِرت الجمعية العمانية للسينما. وهذه الجمعية بالنسبة للكاتبة لا تتجاوز بقية جمعيات المجتمع المدني التي لم تدفع الحالة السينمائية إلى موقع آخر مقارنة بتلك التي دُعمت من قبل الحكومة العمانية وديوان البلاط السلطاني مثل جمعية هواة العود وجمعية التصوير الضوئي، كل هذه الظروف تحدد مقاس التطلعات للإنتاج السينمائي العماني. إن المتابع عن قرب للإنتاج السينمائي يجد أن الشاغل الأكبر من ناحية المضمون هي القضايا الاجتماعية التي يعيشها المجتمع العماني بشكل مباشر، مثل حوادث السير، وإدمان المخدرات، والفقر، والانتقال من القرية إلى المدينة، وغيرها من القضايا الاجتماعية الشائعة، عدا تجارب فردية قليلة نسبيًّا مقارنة بمن يقدمون هذا النوع من الأعمال، قدمت المخرجة العمانية الشابة مزنة المسافر تجربة فلم قصير حول موضوع النقاب، والخيارات الشخصية التي تفرض على المرآة من منطلقات دينية وأخرى اجتماعية. وقدم أنور الشريقي عملًا حول ختان الصبية والمثلية الجنسية في إحدى مناطق السلطنة مما تعد تجارب لافتة مع تجارب أخرى لم يسعني الإشارة إليها. ولا يدعو هذا للقلق لأن مختلف الفنون حول العالم مرت بهذه المرحلة التاريخية، التي ذهب بعض النقاد لإطلاق صفة الحتمية عليها، إلا أن الخروج من دائرة الالتزام بالقضايا العامة إلى دائرة الاهتمام بالحياة الشخصية، يتطلب منظومة كاملة تدفع لاحترام الفردانية، وتؤسس لها؛ إذ يتصرف فيها الفنان بحرية التفكير والتجريب. إن طبيعة الشخصية التي تكرس لها الأنظمة العربية كل أدواتها، قلما تكون غير مستلبة، وذات خيال حر. وهذا ليس ببعيد من ذهنية المشتغلين في السينما في عمان من وجهة نظري. لقد ساهمت التقنية وبشكل كبير في تقديم كل الأدوات الممكنة لجودة بصرية عالية إلا أن الرهان يبقى على السيناريو والكتابة المختلفة، التي تستطيع تقديم رؤية مغايرة للعالم وللظروف التي نعيش فيها داخل عمان.