السينما في السعودية من الأحواش إلى قاعات الآيماكس المتطورة
تغير كثير من الأمور عشية افتتاح أول صالة عرض سينمائي في مركز الملك عبدالله المالي بالرياض. وبدا الجمهور المعني بالسينما وغواياتها، على موعد مع حقبة جديدة، لا تقتحم فيها السينما حياة السعوديين من جديد بعد حظر استمر عقودًا، إنما تخرج أيضًا من الأحواش التي كانت تعرض فيها إلى فضاء مختلف كليًّا. حقبة مليئة بالوعود لجمهور السينما ولصناعها أيضًا من السعوديين.
لنعد لليلة الافتتاح، ونذكر أن الشركة التي عقدت معها هيئة الإعلام المرئي والمسموع، وهي شركة AMC المشرفة على إدارة دور السينما في المملكة والعازمة على تدشين مئات الصالات السينمائية المجهزة حسب المعايير العالمية، جهزت منصتها المعنية بالأمر وفق سقف عالي «هاي كلاس» بتوفير أحدث النظم السينمائية بما تشمله من شاشات تعتمد تقنيات الصورة والصوت بنظام الآيماكس IMAX الأكثر تطورًا في العالم، الذي يتطلب نوعية خاصة من الأفلام وماكينات العرض التي توفر وضوحًا عاليًا للصورة، ناهيك عن فخامة الصالة ذات المقاعد الوثيرة والتكييف المنعش والمرافق المتكاملة، المعدة لراحة الجمهور.
بالطبع لا يغيب عن الإدراك أن المؤشرات الأولية تومئ إلى صناعة سينمائية ناهظة في المملكة، ومقبلة على مستقبل زاهر، نظرًا للتوجهات الجديدة في التحول الوطني ورؤية المملكة المستقبلية الهادفة إلى إنشاء دور العرض تباعًا حتى تصل إلى 30 صالة في 15 مدينة سعودية، وتحقيق دخل يصل إلى مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، وافتتاح من 50 إلى 100 صالة عرض في 25 مدينة حتى 2030 وتحقيق نحو خمسة مليارات بعد التعاقد مع شركة فوكس vox الأميركية.
هذه التوجهات وهذا الحراك الاستثماري السينمائي المواكب للعالم، والمتسارع في الإنجاز، قد يحيل إلى موقفين، الغالب منهما إيجابي ومرحب به، ويصب في تأسيس الصناعة وفق خطوات مدروسة، لكن جانبًا آخر محبط ويحيل إلى عزل المستثمر الوطني -متوسط رأس المال- (ربما مؤقتًا في أحسن الأحوال) عن الدخول في سوق السينما العالمية بمفهومها الواسع، فهذه التقنيات تتطلب رأس مال ضخم، وقوى إدارية ولوجستية متمكنة، بما تشمله من علاقات متشابكة مع المنظومة العالمية للسينما، التي يجهل التعامل معها المستثمر المحلي الصغير والمتوسط، ومن ثم يجد نفسه أمام سوق لا يتحكم في أدواتها ولا يعرف آلياتها، ولا سيما أنه آتٍ من خلفية إدارة واستثمار سينما الأحواش الشعبية.
وقبل كل ذلك فإن هذا المستثمر لا يمتلك عناصر الصناعة السينمائية المتكاملة، وهو الأمر الذي يقود إلى تساؤل مفاده: هل يعدّ هذا الحراك المفاجئ في الواقع السعودي حافزًا للمنتج وصانع الفلم السعودي لبذل المزيد في تجويد صناعته؟ أم أنه سيشكل عائقًا يحد من مقدرته على الإنتاج، وفق المعايير التي تتطلبها دور العرض الفارهة والجمهور الفطن.
وفي هذه الحالة فإن الجماهير السعودية العريضة لن ترضى بواقع الأفلام القصيرة التي تخصص فيها المنتج والمخرج السعودي الهاوي، وإن كانت حققت قبولًا ورواجًا في المهرجانات الدولية التي شاركت فيها، ولاقت استحسانًا بين نسبة قليلة من النخب المتخصصة، إلا أنها تظل أعمالًا للتسلية المملة عبر اليوتيوب، لا طائل منها سوى الترويج الإعلامي الذهني وليس الفعلي، فهي لم ولن تدخل ضمن نطاق تجاري مربح، وصانعوها لم يبلغوا الحد الأدنى من الاحترافية، حتى إن اعتقدوا ذلك فهم مخطئون، فالسوق له أرقامه التي لا تكذب، وهم على كل حال قدموا ما بوسعهم، فهم لم يتأهلوا أكاديميًّا (معظمهم) ليحققوا أفلامًا طويلة تجذب جمهور السينما، عدا تجارب تعد على أقل من أصابع اليد الواحدة. وهكذا، فإن الأمر هنا يختلف، فإما أفلام طويلة مصنوعة بتقنيات عالية تناسب القاعات المتطورة وترضي، في اللحظة ذاتها، ذائقة الجمهور بسقفه العالي في المشاهدة. ذلك الجمهور لن يسعد بدفع 75 ريالًا (أي ما يعادل 20 دولارًا) ثمنًا لتذكرة ليشاهد أفلامًا قصيرة وعابرة لا تحقق المتعة، إنما تمكنه من اكتشاف الركاكة الفنية، وتجبره على التساؤل: هل هذه هي الأفلام التي روج الإعلام لها ولأصحابها؟ إذًا فإما الإنتاج بما يرضي الجماهير العريضة وإما الانزواء إلى حين ميسرة!
ممولون جدد للاستثمار السينمائي
وبنظرة متفائلة، ربما، يقود ذلك إلى احتمالية ظهور منتجين ممولين من الشركات الوطنية، ومن رجال الأعمال الذين وثقوا في صانع الفلم السعودي، وربما أغرتهم فكرة الاستثمار في صناعة السينما تدفعهم إلى التمويل، وإلى التدريب والاستعانة بالخبرات الفنية والتقنية لتجويد منتجاتهم. وهنا ليس من المستبعد أن تساهم الشركات التي تعاقدت مع آي إم سي ومع فوكس لتحقيق ذلك، وفق نظرية إكمال حلقات مراحل الصناعة. ورغم ذلك أجد بعض المهتمين متفائلين أو ربما متشائمين، بأن الحراك السينمائي السعودي على مستوى الإنتاج والتمويل والاتجاه للاستثمار سوف يزدهر سواء أكان من جهات حكومية أو أهلية، ولا سيما أن بعض المؤسسات الوطنية أخذت في العمل على بناء صناعة سينمائية قائمة على أسس منهجية، مثل الدورات السينمائية التي تقيمها مؤسسة «مسك الخيرية».
من ناحية، وبنظرة بانورامية متعمقة لكل المعطيات السابقة، فإنه من الأجدى والأثرى أن تفكر هيئة الإعلام المرئي بإصدار تصاريح وفق شروط أقل صرامة للمستثمر الوطني المحدود الإمكانية (صاحب رأس المال المتوسط)، بحيث يتاح له إنشاء دور عرض من الدرجة الثانية، لتكون أقل من دور عرض إيه إم سي وفوكس، تضع شروطها الهيئة وتخضع لرقابتها بتشكيل لجنة من وزارة الإعلام، ولتسمى على سبيل المثال: اللجنة المنظمة لدور العرض من الدرجة الثانية، فتعرض الأفلام بواسطة أجهزة اللابتوب الموصلة بشاشات كبيرة، وذلك بالكيفية المعمول بها بشكل معتاد في الأندية والمهرجانات السعودية للأفلام القصيرة.
كل ذلك يدفع بالتفكير على مربط الفرس والبحث عن نصوص مجودة تحول إلى سيناريوهات تعكس الرؤى والموضوعات السعودية، لتترجم في أفلام ترضي مشاهدها المحلي أولًا، ثم تنقل الثقافة والفن والحراك الحضاري إلى العالم… نصوص في مختلف قوالب السينما: الحركة، والكوميديا، والفانتازيا، والخيال العلمي، والاستعراض، والتحريك، والواقعي… إلخ. مع الأخذ في الحسبان دائمًا حساسية القبول والرفض من ناحية المتشددين دينيًّا، حتى إن خفض صوتهم الإعلامي، وقصت أجنحتهم التفاعلية وخفتت تأثيراتهم الفكرية، رغم أن هيئة الإعلام اشترطت خضوع محتوى العروض للرقابة وفق معايير السياسة الإعلامية للمملكة، بحيث تتوافق العروض مع قيم المجتمع وثوابته، بما يتضمن تقديم محتوى رصين وهادف لا يتعارض مع الأحكام الشرعية ولا يخل بالاعتبارات الأخلاقية، إلا أنها لم تحدد شروطًا فنية للأفلام التي ستعرض على الجماهير، ولم تقترح بأي شكل من الأشكال تشكيل لجنة فنية تجيز الأعمال قبل عرضها على الجمهور.
أسئلة محرضة
لا بد من التنويه إلى أمور عدة، نعكسها هنا في صيغة أسئلة، أولها: هل سيظل الجمهور السعودي يشاهد في قاعاته الأفلام الأميركية المدهشة التي لا طائل منها سوى التسلية العابرة والانبهار بالآلة الأميركية الفذة؟ وهل ستقبل الشركات الأميركية المستثمرة في هذا القطاع (إيه إم سي وفوكس) التعاقد من شركات سينما دولية أخرى لتعرض أفلامها في السعودية؟ وهل سيكون الجمهور السعودي مواكبًا لمشاهدة الأفلام العربية التي تعرض في المهرجانات العربية وتحقق صيتًا طيبًا؟ هل نترقب دورًا تقوم به الرياض بعد تقليص مهرجان دبي السينمائي؟
وإن تابعنا الأسئلة فسنقول: هل ستفكر هذه الشركة في تنظيم مهرجان دولي يحقق الوجود لمنتجاتها ويدعم سوقها في الحيز العالمي؟ فالقائمون على المهرجانات النخبوية المحدودة والمتقطعة التي تقام في جدة والمنطقة الشرقية لا يستطيعون بإمكاناتهم المتواضعة تنظيم مهرجان دولي يساهم في إثراء السوق الذي دخلته السعودية، حتى وإن كانت السعودية هنا تمثل «دكان عرض» لا ينتج ولكنه يسوق ويستهلك.